28 مايو 2008

الرابع: هذه كلماتٌ كثيرة!


(يرتبط هذا السبب – كالثالث – بمسابقة الرواية القومية الأمريكية NaNoWriMo)
تسعى مسابقة رواية في شهر القومية الأمريكية إلى رواية من خمسين كيلو كلمات، لكنهم يعترفون أن الخمسين كيلو كلمات روايةٌ قصيرة أكثر منها رواية – حيث أنها تكون مائة وخمسة وسبعين صفحة). بينما تزن رواية أكثر نمطية على تسعين كيلو كلمات تقريباً. ويتجاوز ستيفن كنغ عادة مائتي كيلو.
هذه كلماتٌ كثيرة! كم سيستغرقك كتابة خمسين إلى تسعين كيلو كلمات، حتى لو لم تكن مهتماً بالنوعية؟
تحتاج مسابقة الرواية القومية إلى متوسط كلماتٍ قدره 1666.666في اليوم. وعلى الأرجح، لم تكتب هذا العدد من الكلمات منذ أنهيت امتحان اللغة الإنكليزية في المدرسة الثانوية. واقعياً، ستحتاج من ساعتين إلى ثلاث يومياً لتكتب هذا القدر، أي تسعين ساعة في الشهر، ما يعادل أسبوعي عمل.
إذا كنت تمتلك هذا القدر من الوقت، فأنت تحتاج إلى هواية أفضل. فحتى لو حققت ذلك، ستكون قد أهلكت نفسك لتنتج مسودة أولية لنصف رواية! مرحى!

شون لندسي، 1 نوفمبر 2006
Reason #4: That's A Lot Of Words

تعليق: أكثر من اللازم!
يعود هذا السبب – أيضاً – إلى البحث في تعريف الرواية. هل الرواية نصٌ مكتوبٌ يُعرف بعدد الكلمات؟
ألفٌ وستمائة وستٌ وستون كلمةً في اليوم لإنجاز روايةٍ من خمسين ألف كلمةٍ في شهر، والحصيلة ليست غير هُراء ممتد على خمسين كيلو كلماتٍ!
كثيرٌ من الروائيين الكبار يجدون أنفسهم في حالة توتر مستمرة عندما يتعلق الأمر باللغة، ففيها الكثير من الأحمال الثقيلة التي ينبغي التحرر منها. غابرييل غارسيا ماركيز يكره الأحوال ويحاول تجنبها ما استطاع لأنها صناعيةٌ برأيه. يشتكي غيره من حروف الجر، وآخرون من أدوات الربط والمفاعيل المطلقة. ويضع شكسبير الأمر ببساطة حين يقول أنه سيغير العالم بثلاثة آلاف كلمةٍ فقط!
البلاغة في الإيجاز، لكن التلامذة المعتادين على حشو أوراق التعبير - أو الإنشاء - في امتحان اللغة العربية بأي شيء ليزيدوا عدد الأوراق فيقتنع المصحح بقدراتهم ويهبهم العلامات، يصبحون كُتاباً فاشلين يميتون أوراقاً بريئة بكيلومتراتٍ من هراء خيرٌ منه كلام المجانين الذي يشتكي منه روائيون كجورج أورويل!

19 مايو 2008

كلمات مراجعة الكتب السبع المميتة

بوب هاريس
Seven Deadly Words of Book Reviewing - Paper Cuts - Books - New York Times Blog

ككل التخصصات، لمراجعة الكتب معجم خاص. ولكسلهم، أو تسرعهم، أو جهدهم الضال ليظهروا بمظهرٍ (أدبي)، يستخدم المراجعون كلماتٍ مستهلكة وقابلة للتنبؤ بها بشكلٍ مزعج. كلٌ من هذه الكلمات السبع المذكورة جيدة بحد ذاتها، لكنها تتجمع في المراجعات النقدية للكتب باستمرار مستهلك، جاعلة التحذيرات المستمرة منها عديمة الفائدة. يكتب فوليت: "أفضل النقاد أولئك الذين يستخدمون أبسط الكلمات، ويجعلون ذوقهم عقلانياً بوصف الأفعال لا بتقرير أو تمثيل الانفعالات."

هنا، القائمة:
موجع:
أحياناً، تقرأ ما يؤثر فيك أو يحركك. هذا لا يعني موجع. الموجع شيء يؤثر فيك بشكل مؤلم. عندما تموت أم بامبي، سيفكر راشد بأن هذا موجع، بينما سيعتقد طفل – على الأرجح – أنه مريع.

مسيطر:
أشياء كثيرة في الحياة، وفي الكتب، مسيطرة. لكن المشكلة تكمن في أن مراجعات الكتب تُثبت أن معظم الكتب كذلك! قد يكون الكتاب مشوقاً، لكن هذا لا يجعله بالضرورة مسيطراً. الاستخدام المفرط لهذه الكلمة أضعفها رغم أنها تتضمن قوة قاهرة.
غالباً ما يجمع المراجعون الكلمتين الأوليتين، كبندقية تشيخوف، فإذا كانت هُناك "موجع" في المُراجعة، فإن "مُسيطر" ستلحقها على الأرجح. وفي معظم الأحوال، فإنهم يتخلون عن التشويق ويضعون الكلمتين مباشرة مع بعضهما البعض كما في: "هذه الرواية الموجعة والمسيطرة....."

آسر:
لا تعني هذه الكلمة مجرد مثير للاهتمام أو مذهل، رغم أنها تستخدم غالباً مكان إحدى هاتين الكلمتين. وعندما تستخدم بهذه الطريقة، ينمحي إيحاؤها الغامض بالمحظور.

يحاذر:
لا تُستخدم هذه الكلمة غالباً في الحياة اليومية. وتظهر غالباً في الكتابة عندما يبالغ الكاتب باستخدام مرادفٍ مبهرج لكلمات: يتجنب، يرفض، ينأى بنفسه.

يصوغ:
بعزمٍ لا يكل، يستخدم المراجعون هذه الكلمة عندما يخشون – بدون داعٍ – استخدام الكلمة القديمة يكتب. حتى أنهم يحاولون تحويل كلمة قلم إلى فعلٍ كما في: "يقلم ملحمة"!!

يلهم:
أشياء قليلة في العالم مُلهَمَة، فالأشياء غالباً: مكتوبة، مُعتقدة، أو مُقالة. "الحرب جحيم،" أُلهِم. هناك كثيرٌ من الاجترار في المسألة.
امتداد الوهم – كتابة "يصوغ" بدلاً عن "يكتب"، و"يلهم" بدلاً عن "يقول أو يفكر" – علامة فارقة على الكتابة الركيكة.

غنائي:
يستخدم المراجعون هذه الصفة عندما يريدون القول بأن شيئاً ما مكتوبٌ بشكل حسن، لكن استخدام الكلمة بهذه الطريقة يفقد حسها في التعبير عن العواطف بطريقة تخيلية عذبة. وفر كلمة غنائي للمرة المقبلة التي تنشر فيها مراجعة عن ووردزوورث.

من الممكن حتى أن (يُساء) استخدام الكلمات السبع جميعها في جملة واحدة: "رواية ماريو بوزو الآسرة تحاذر الغنائية حيث يصوغ الكاتب بدلاً عن ذلك حكاية موجعة عن حياة عائلة ويُلهَم بالأفعال الآسرة للعصابة."

طبعاً، ليست هذه الكلمات السبع الوحيدة التي استهلكها مراجعو الكتب، فعلى أية حالٍ، أنا لم أذكر حتى كلمة يرسم. ربما يشاء القراء إضافة الكلمات التي يعتقدون أن مراجعي الكتب أساؤوا استخدامها مراراً وتكراراً.

13 مايو 2008

الثالث: أنت تعتقد أن أياً كان يُمكنه أن يكون كاتباً

(يرتبط هذا السبب والذي يليه بالمسابقة القومية الأمريكية: رواية في شهر NaNoWriMo، التي يعارضها لندسي بشدة)
يجعلك وضع خمسين ألف كلمة بشكلٍ شبه عشوائي في ثلاثين يوماً (كاتباً) بالمعنى ذاته الذي يجعلك به تغيير مائة لمبة كهربائياً.
هذا وهم مسابقة NaNoWriMo الأساسي، فكرة أنك ستصبح (كاتباً) إذا جربت تحديهم الاعتباطي. حتى أنهم يتباهون بذلك في قائمة الأسئلة المتكررة الخاصة بهم. الأمر يتعلق بارتداء الفكرة (المرومسة) عن الكاتب.
مهما حدث لارتداء ربطات العنق، وعدم غسل شعرك، وحمل دفتر ملاحظات مليء بقصائد الهايكو المبعثرة، واحتضان ذات كوب القهوة كل اليوم؟ ينبغي الآن أن أكتب شيئاً؟

شون لندسي، 1 نوفمبر 2006
Reason #3: You Think Anyone Can Be a Writer


تعليق: وتعتقد أن الأدب يُقاس بالمسطرة
كانت المسطرة تصلح لقياس طول المخطوطات قديماً، أما الآن، فتوفر برامج معالجة الكلمات – عدا البدائية منها – مساطر حديثة تعدُ الكلمات، وتقيس أطوال الصفحات إن لزم الأمر، لتوفر للمُقايس كُل وسائل ضبط القياس المطلوب للكتابة.
سمعنا – وقرأنا – في محاضرات النقد والرواية كُل أنواع المقولات الاعتباطية عن الرواية. هُناك من قال أن الرواية قطعة سردية طولها خمسون ألف كلمةٍ لا تقل عنها كلمة، وهُناك من حصرها بين خمسين وثمانين ألف كلمة. وهُناك من خفف التشدد فقال أنها عملٌ سردي لا يقل عن ثمانين صفحة، يحكي واقعة فنية منبثقة عن واقعة خارجية لها دلالة.............
والنتيجة؟
خمسون، ثمانون، مائة ألف كلمة!
هل تقاس الرواية بعداد الكلمات؟!
كُل روائي حقيقي – وروائية – أحنقه هذا التعريف حتى أوشك على خنق أصحابه، ومع ذلك، لا تزال كثيرٌ من القواميس وغالبية كتب النقد محتفظة به بكل سرورٍ ليكون التعريف الوحيد الباقي منذ ما يزيد عن قرنٍ وكأن الفساد لم يداخله أبداً.
في فيلم جمعية الشعراء الموتى، يطلب الأستاذ كبلنغ من طلابه قراءة مقدمة كتابهم عن الأدب. تتحدث المقدمة عن كيفية (قياس) عظمة القصيدة بمعادلة رياضية. يطبقها الأستاذ، ثم يطلب من تلاميذه تمزيق الصفحة لأن المكتوب هُراء. لا أحد يقيس عظمة القصيدة بمعادلة، ولا يعد الصفحات التي تُنشئ رواية!
لأن الكُتاب فئةٌ نادرة ندرة الماس، يشيع هذا التعريف، وينسكب المقايسون من كُل الشقوق ليقيسوا ما لا يُقاس!

12 مايو 2008

ثُمَ لا يُسمع بعدها أبداً

كان ينبغي أن تموت بعدئذٍ.
كان ينبغي أن يكون وقتٌ لنبأ كهذا.
غداً، وغداً، وغداً،
ينسل بخطواته البائسة من يومٍ ليوم
حتى آخر مقطع في سجل الزمن،
وكُل أمسٍ مضى أضاء طريق الحمقى
إلى الموت المغبر.
انطفئي، أيتها الشمعة الهزيلة، انطفئي!
الحياة ليست غير ظلٍ عابرٍ، ممثلٍ بائسٍ
يختال ويُبددُ ساعته على المسرح،
ثم لا يُسمع بعدها أبداً.
حكايةٌ يرويها أحمق،
ملؤها الصخب والعنف،
ولا معنى لها.

08 مايو 2008

حيرة فاوستوس النهائية

Sic probo…
يرن صوت فاوستوس في قاعات الجامعة الباردة، "هكذا أثبت..."
هكذا أثبت في العقائد، وهكذا أثبت في الطب، وهكذا أثبت في القانون، وبهذا المنطق أثبت ما سبق. يتحمس الطُلاب الذين ستطوي الحياة معظمهم، بينما سيصل قلةٌ منهم إلى مقعده، وربما لن يكون أحد مثله. الإثباتات موجودة، ومنطقه سليمٌ لا يداخله فساد. ثقته التي تصل حد العجرفة معديةٌ. إنه هو. جون فاوستوس، العالم الذي وصل إلى حيث يُريدُ كُل زملائه. عالم اللاهوت ذي الحجة التي لا تبطل، الطبيب الذي أنقذ مُدناً من الأوبئة وعُلقت وصفاته الطبية على مداخلها احتراماً، رجل القانون الذي يعرف كُل دهاليزه. أغاية المنطق أن يُجادل جيداً، فحسب؟
لا أحد يستطيع دحض ما يقوله، لكنه وصل إلى الحافة الأخرى. لم يعد يؤمن بما يقوله. يعيش في عزلةٌ قاتلة لأنه غير قادرٍ على إقامة صلةٍ عقليةٍ وروحيةٍ مع من حوله، لذا تناوشته شكوك عزلته التي تزيدها عجرفته استعصاء على الاختراق، رغم أنه – في أعماقه – رجلٌ طيبٌ، مخلصٌ، ينطوي على شيء من سذاجة. وصل إلى القمة، وهناك أرداه الشك، وأجهز عليه الطموح.
طموحه لا ينتمي إلى عالم البشر، فقد تجاوز لوسيفر الذي رماه طموحه عن وجه السماوات. يُريدُ أن يكون إلهاً يحيي ويميت ويسخر الريح. رغباتٌ شعريةٌ لروحٍ قلقةٍ متطلعة إلى الخفي. ماذا هناك في الناحية الأخرى؟ ماذا لو جرب الثمرة المحرمة، ثمرة السحر. روحه روح شاعرٍ، وستقوده إلى الحدود القصوى.
يحاور فاوستوس نفسه أكثر مما يحاور من حوله، ويدعو أصدقاءه من ليسوا كذلك. يواصل حواره الداخلي فلا يعي إشارات مفستوفيليس له، ويتحدى التحذير الأخير الذي يُكتب على ذراعه. استهلك اللاهوت حياته كلها، وما أعطاه غير حيرةٍ قاتلة: The reward of sin is death، وإذا ادعينا أننا بلا خطيئة، فإننا نخدع أنفسنا، ولا حقيقة فينا. فاستبدله بالعلمِ المُحرم عله يجد بعض حقيقة. هو خاطئ، وسيظل. بماذا ستضره الخطيئة القصوى إذا كان قد قُدر له أن يكون كذلك؟ ستجعله يقضي في الجحيم مُدة أطول من محكوميته الأصلية؟
لينقذ نفسه من التخبط في الحيرة، ألقى بنفسه تماماً في اتفاقيته مع الشيطان، وأوفى بكافة عهوده. فاوستوس لا يخاتل ولا يخون. سيفي بكافة التزاماته، وبالمقابل يتوقع من مفستوفيليس أن يفي بالتزامه. سيصبح رفيقه الدائم لأربعة وعشرين عاماً قادمة، ولأول مرة في حياته سيكون له صديقٌ يستطيع إطلاعه على دواخله. منذ البداية عامل فاوستوس مفستوفيليس كصديقٍ له. لم ينتبه إلى تحذيراته المبطنة، وإلى تصريحاته بأنه خادم لوسيفر فقط. ودون أن يُدرك، صار رهينة لوسيفر ومفستوفيليس الذين خرقا العقد، ولم يُكسباه غير الوهم والظلال. رغم أنه تعرض للغش، إلا أنه لم يُطالب بفسخ العقد، وبقي محافظاً على جانبه فيه. لا بدافع الخوف فقط، بل لشجاعته وشعوره بمسؤوليته عن العقد الذي وقعه. الإله عادلٌ، ويعرف أن فاوستوس قد وقع روحه للوسيفر. الإخلال بالاتفاق يُنافي العدل، وعقله يُقيم العدل، غير أن روحه تطلب الرحمة.
في حيرته النهائية، ظل يتخبط بين الظلال والأوهام مُدركاً أنه لم يعُد هو نفسه. العدل يُنافي الرحمة كما يراه، والخير والشر صنوان طالما أنهما مُقدران من ربٍ واحد. في النهاية، لم يعد أمله إلا أن يكون لعذابه في النار نهاية ولو استمر لعشرة آلاف سنة. المُهم ألا يخلد فيها، فالخلود فيها منافٍ للعدل، لأن خطيئته كانت عقداً استمر أربعةً وعشرين عاماً فقط. يعي انتهاء الزمن، لكنه - تحت وطأة نفاده – يفقد اتزانه، وتقتله الحيرة. فالعدل الصارم ليس خيراً مُطلقاً، ولا الرحمة كذلك. وحين يكاد يعزم على طلب الرحمة، لا تخرج منه غير الحسرة..
"آه! مفستوفيليس!"

05 مايو 2008

زمن الحديث عن زمن الرواية

نعم، ليس هذا زمن الرواية، بل زمن (الحديث) عن زمن الرواية.
مُنذ عشر سنواتٍ أو يزيد وأنا أقرأ في الصحف الأدبية – وغير الأدبية – تصريحاتٍ شبه رسمية عن زمن الرواية، ويُرفق التصريح المُهيب عادة بتصريحٍ كئيب عن موت الشعر، دون أدنى إشارةٍ إلى أسباب موته. ولأن هذه التصريحات قاطعة، باترة، صارمة، فقد كُنت أخافها وأنا صغيرة، وأعتبرها كتصريحات المسؤولين السياسيين والعسكريين عن الحروب والمجاعات، كلمات تعني أن ما وراءها أسوأ.
اللغط الدائر حول زمن الرواية وموت الشعر يترافق مع تصريحاتٍ أخرى لا تقل إرهاباً عن السابقين، كموت الأدب – قطع رأس الفتنة –، ونهاية التاريخ. ولا بُد من أن يُذكر صدام الحضارات من حينٍ لآخر، مع أشياء مثل موت المؤلف، ينبغي أن تُفهم مجازياً.
في هذا المجاز تتخذ المشكلة سكنها. موت المؤلف – مثلاً – كناية – حسب رولان بارت – عن انتهاء علاقته بالنص بانتهاء كتابته. الرواية كون من ورق، ولا شأن للقارئ بصانعها الذي أدى مهمته ورحل. نهاية التاريخ قد تعني انتفاء الحاجة إليه في الزمن المُعاصر، وصدام الحضارات يشير إلى الاختلافات الثقافية التي تفرق نسل آدم وحواء فرقةً لا رجعة فيها – وتعبير "لا رجعة فيها" مبالغة من أنبياء صدام الحضارات الجدد –. هنا ينتهي المجاز القابل للتفسير بشكلٍ عقلاني، ويبدأ كلام المجانين – مشكلة المجاز أن المبالغة فيه تقود المتكلم إلى الهذيان بكلامٍ لا يفهمه أحد، حتى هو نفسه، كالإفراط في استخدام البناء للمجهول – كيف يموت الأدب؟ هل يعني ذلك نهاية الحاجة إليه كما جاءت نهاية التاريخ؟ وكيف يموت الأدب مع كُل هذه الفوضى عن زمن الرواية؟
وبافتراض أن الأدب حيٌ يُرزق – وهذا مجاز مجانين آخر – لكن جزءاً منه فقط هو الذي مات، الشعر، كيف يموت الشعر؟ ولماذا؟
واحدةٌ من أقدم وأكثر مشاكل الفكر العربي استفحالاً الاستهلاك المفرط للمصطلحات والتعبيرات التي (يظهر) عليها (الذكاء) دون حكمة. وترديد الكلام لذاته دون فهمٍ حقيقي لمعناه – أو حتى اهتمامٍ به –. الزعم بأن الشعر قد مات يقتضي إثبات الكيفية، والسبب. ولا أحد – حسب علمي المتواضع – قد بين حقاً لِمَ مات الشعر – رغم محاولات مجموعة من الناشرين المتذمرين، والشعراء البائسين الذين ينسون أنهم يبيعون كُتباً لأمةٍ لا تقرأ –.
عندما ثبتت الرواية نفسها كشكلٍ أدبي مُعترفٍ به، هلل مناصروها تهليل الجوعى عند وليمةٍ، وأعلنوا في كُل محفل أن روايتهم ستمحو كل الأشكال الأدبية السابقة لها باعتبار الرواية إسفنجة قادرة على الامتصاص إلى ما لا نهاية، وقادرة على حمل الحكاية، بينما لا يستطيع الشعر حملها لذا سيتراجع أمامها. وهذا ادعاء لا سند له، ففي قصائده التي لم تُنظم لتكون جزءاً من ملحمة شعرية – كقصائد الإدا التي تحمل حكايات آلهة سكندنافيا، وقصيدة "بيوولف"، وغيرها – أو جزءاً من مسرحية شعرية – كما في مسرحيات شكسبير ومارلو، ومحاولات شوقي لإنشاء مسرحٍ شعري عربي. مشكلة شوقي أن مسرحه الشعري عمودي، بينما في زمن شكسبير ومارلو، كتب المسرحيون شعر تفعيلة. – يستطيع الشعر أن يحمل الحكاية كما في قصيدة تنيسون "سيدة شالوت"، أو قصيدة ميلن "كريسماس الملك جون"، وحتى في الشعر العربي كما في قصيدة هيثم "غبار السباع".
تتفوق الرواية على الدراما في منظورها للشخصية، فالرواية تستطيع تقديم الشخصية من الداخل والخارج بكفاءةٍ تفوق تلك التي في مُستطاع الدراما، وتعدد ضمائر السرد فيها يُتيح للروائي حُريةً أكبر في كشف شخصيته للقارئ بالصورة الأمثل. ويزيد من امتيازها التزام المسرح بوحدات أرسطو الثلاث – وحدة المكان، الزمان، الحدث – بينما تمتلك الرواية كامل الحُرية في تشظية الزمان والمكان إلى ما لا نهاية – نظرياً –، وفي تقسيم الحدث أو عرضه من وجهات نظرٍ مختلفة، وبضمائر سرد مختلفة. كما أن الرواية – دون حياء – تستعير الحوار من الدراما لتقتبس أقوال شخصياتها كما هي. غير أن الواقع يؤكد أن المسرح لم ينتظر الرواية لتُحلق بعيداً حاملةً كُل ما يخصه، فأعاد – كالشعر – اختراع نفسه، ولم يعد محكوماً بالوحدات الأرسطية، أو بحواجز الخشبة، وأضاف إلى تراث شخصياته المزيد دون توقف، وتعددت أساليبه ومدارسه وحركاته دون أن يفقد هيئته الأساسية، ودون أن يستطيع أحدٌ أن يقول – بضمير مرتاح – أن مسرحيات اليوم لا شأن لها بالمسرحيات الإغريقية التي أُديت في أثينا قبل الميلاد. بينما تكاد الرواية تكون ابنة عاقة للتقاليد الأدبية السردية التي سبقتها، كالقصة والخُرافة والرومانس.
تمتص الروايةُ داخلها كُل الأشكال الفنية الأُخرى دون أن تفقد هيئتها الروائية، وفي هذا امتيازٌ هائل تكاد تنفرد به وحدها، لكنها لا تُلغي أي شكلٍ آخر، ولا تحدُ من آفاقه، فما الذي يحمل النقاد وأشباههم على إعلانه زمن الرواية بامتياز؟ ويجعل بعض عتاتهم يضيفون أنه زمن موت الشعر والأشكال الأدبية الأخرى – بالتوازي –؟
وبافتراض أنه زمن الرواية فعلاً، فهل حقق المنجز النقدي العربي شيئاً استثنائياً في نقد الرواية يؤيد هذا الاعتقاد؟!.. النقد في تراجع مستمرٍ، والتجديد فيه متوقف إلى أجلٍ لا يعلمه إلا الله، فكيف يُمكن أن تكونُ هُناك نهضة روائية بوجود روايات دون متونٍ نقدية؟!..
الحُجة الوحيدة شبه المُقنعة التي يستطيع أن يسوقها دُعاة زمن الرواية هي أرقام مبيعات الروايات التي تتفوق دائماً على مبيعات الشعر والمسرحيات وغيرها من الأشكال الأدبية. لكن، هل ما يبيع حقاً روايات؟
باستثناء أسماء مثل نجيب محفوظ وغارسيا ماركيز وأليندي ممن يبيعون كثيراً دون أن يؤثر ذلك على قيمة رواياتهم الفنية، فإن الرائج في سوق النشر بيع خيالاتٍ طويلة يسمونها رواياتٍ مجازاً، بينما لا تتجاوز في الحقيقة كونها قصصاً Fiction تفتقد إلى العُمق الذي يُفترض أن تحتويه الرواية، وإلى المعاني والمباني التي تُكون جوهرها وماهيتها. ما يكتبه دان براون يبيع بشكلٍ خيالي، لكن، هل ما يكتبه رواية Novel أو Fiction مُعاد مراراً وتكراراً؟ الأمرُ لا يحتاج إلى تأمل، فبراون مفضوح لأنه يجتر ما يكتبه وفق خطةٍ محفوظة تفتقد العُمق الإنساني بشكلٍ مخزٍ. (ومع ذلك، هُناك من يعتبر شيفرة دافنشي كتاباً حوى كُل حكمة العالم، وأعرف منهم جبلاً كثيراً). يوجد كتابٌ آخرون يصعب فضحهم مثل باولو كويلهو الذي يُعامل بقداسة شديدة في العالم العربي، مع أن أنغيلا شرويدر، المحررة الأدبية النمساوية صُعقت عندما قُلت لها أنني من قُراء كويلهو. كويلهو بالنسبة لنقاد الأدب الأوروبيين – الذين يتذمر منهم بشدة في روايته الزهير – Charlatan أو دجال يدعي أنه يستطيع تحويل الرصاص إلى تبر. هُناك قدرٌ من الإنجاز في روايته، الخيميائي، لكن بقية رواياته تدور في نفس الفلك، وتعزف على ذات الوتر. تجربته الروحية مع الجماعة الغريبة التي ينتمي إليها عدا استثناءات – أراها – تظهر في الشيطان والآنسة بريم وفيرونيكا تُقرر أن تموت، التين يعتبرهما مع على ضفة نهر بييدرا جلستُ وبكيت ثلاثية يُسميها: في اليوم السابع. الروايتان السابقتان متأثرتان بالفكر الديني، خصوصاً الشيطان والآنسة بريم، لكنهما لا تتحدثان عن الطوائف العجيبة التي يحشرها كويلهو كُل مرة. وفي الشيطان والآنسة بريم حضورٌ للواقعية السحرية يُذكر بلاتينية كويلهو. هُناك أيضاً إحدى عشرة دقيقة، لكنه يملأ الرواية بأبحاثٍ واستنتاجات وينسى أن الرواية في بُنيتها الأساسية حكاية، وليست استعراضاً لمعارف الروائي وقدراته البحثية. وعليه، فحتى استثناءاته تُعاني من خللٍ خطير، فالمرء لا يستطيع أن ينسى باولو كويلهو بعد الصفحة الأولى لأنه يقفز بين الصفحات ويقول لك كُل وقت: "أنا هُنا!" – أعرف، بالمناسبة، المقابل العربي لكويلهو لكنني سأحتفظ بالاسم حتى يأذن الله. –
بسقوط حُجة المبيعات، ينبغي العودة إلى الأصول. إلى النقاد الذين ينبغي أن يكفوا عن وظيفة مندوب مبيعات المصطلحات الجديدة في العالم العربي الذي يُروج سلعاً قد لا يفهم حتى فائدتها، وكُل ما يهمه (عمولته) التي يقبضها عن مبيعاته، ليعودوا إلى وظيفتهم الأصلية، مفكرين يصوغون – بالملاحظة والتحليل – القواعد النظرية المُجردة للبُنى والمعاني الأدبية ثُم يُنشئون عليها تطبيقاتهم العملية، ومراقبين دقيقين لتطور التجربة الأدبية، ومؤرخين لها. عندها فقط، سيكون للحديث عن زمن الرواية معنى فعلي، وقد يسقط هذا المجاز سقوطاً مدوياً بعد أن يُدرك النُقاد أنه محض فقاعة.

01 مايو 2008

ينبغي أن يموت قيصر

ينبغي أن يكون موته.
لا أعرف سبباً خاصاً لأكرهه، غير
أنه الخير العام. سيتوج.
كيف سيغير هذا طبيعته، هُنا السؤال.
سطوع النهار يُخرج الأفاعي التي
تُجبر الماشي على الحذر. نتوجه؟
وعندها، أشهد، سنضع فيه السم
الذي سيضر به.
تُمتهن العظمة حين تُفرق الندم عن السلطة،
ولأقول الحقيقة عن قيصر،
لم أعرف أن عاطفته حكمته أكثر من عقله.
لكن هذا عرفٌ شائع،
لأن الوضاعة سلم الطموح المبتدئ،
حيث يولي الصاعد وجهه.
وحين يصل إلى الحد الأقصى،
يولي سُلمه ظهره، ينظر في السحاب
ساخراً من درجات القاعدة التي
ارتقى عليها. وذلك، قد يفعله قيصر.
إلا إذا منعناه. هذا النزاع لا يُلون،
لأنه، وهو ما يكونه، متضخماً
سيصل إلى الحدود القصوى.

لذا، أراه بيضة ثعبان،
ستكبر– إذا فقست – شريرة، كنوعه.
وسأقتله في قشرته.