20 ديسمبر 2013

12 مليون

يوم اللغة العربية كان قبل يومين، واحتفل به الكثيرون على المواقع الاجتماعية المُختلفة. قد تكون لليوم فائدة، وقد يُحاجج البعض بفائدته، فيحسنون الحجة، غير أنني أعتقد أنّه عديم الفائدة، مثل عيد الحب. وكذلك، يبدو أنّه يتنقل كل سنة، فقبل ثلاث سنوات، احتفلوا به في أوائل مارس أو نحو ذلك. كما أنني أتذكر أننا حين كُنا في الجامعة قد جمعنا قبل ذلك في مناسبة للاحتفاء بلغات العالم عن طريق الاستماع لخطب كل من شاء الخطابة من هواة اللغات. بطبيعة الحال، كان ذلك مُريعاً. لكن اليوم لم يكن رديئاً، فقد كان ثمة فعالية تلت ذلك - إذا لم تخني الذاكرة - قدم فيها الكثير من الأساتذة أوراقاً بحثية بلغاتٍ عديدة، بعضها يتحدث عن الترجمة، وبعضها عن النحو المُقارن، غير أن ورقتي المفضلة التي لا زلت أتذكرها حتى اليوم كانت عن اللغات الكريولية، وعن إمكانية نشأة لغاتٍ جديدة، أو تغيير القواعد اللغوية الموجودة الآن.
بطبيعة الحال، مثل هذا الكلام هرطقةٌ في آذان أساتذة النحو الكلاسيكي، يجب معاقبة من يتحدّث بمثله. اللغات الكريولية لغات شائعة في هاييتي وأجزاء من إفريقيا، وهي خليط بين لغة المستعمر، وبعض اللغات الأصلية للمتحدثين بها. اللغات الكريولية نشأت، ليس فقط للحديث مع المستعمر، بل لإيجاد لغة مؤتلفة بين العبيد المحمولين من أجزاء مختلفة من إفريقيا، بلغاتهم المختلفة وعاداتهم وانتماءاتهم القبلية وأديانهم. لذلك، فإن اللغات الكريولية في موضع احتقارٍ تاريخي: إنها "تشوه" لغة المستعمر "النبيلة"، كما أنها "لغو عبيد". هذا الاحتقار المبني على أساسٍ عنصري أعاد استنساخ نفسه عبر التاريخ في صور قلقٍ لغوي: اللغات الكريولية لا "نحو" لها - بالمفهوم الكلاسيكي للنحو، من الصعب ضبط الكتابة الكريولية، كيف يمكن عمل قواعد للكريولية؟ اللغات الكريولية لا أدب لها، وهلم جرا...
مع ذلك، نظرية الأستاذ الطوباوية - التي بناها على عدة مراجع لم احتفظ بأسمائها لأنّه كان يتكلم بسرعة الضوء حين سرد قائمة المراجع، التي تسبب الملل للجمهور عادة، كما أن الأساتذة يرفضون مشاركة أوراقهم البحثية مع الرعاع/الطلبة - تروق لي، الفكرة القائلة بأن الحواجز اللغوية التي نعرفها اليوم ستذوب، وأن النحو الذي نعرفه سينتهي، وستكون هناك لغاتٌ جديدة، لغاتٌ تموت، ولغاتٌ تتكون، وكريوليات تنتشر انتشاراً واسعاً. بطبيعة الحال، اللغات تموت كل يوم - من دون أن ندرك ذلك، واللغات التي نعرفها اليوم مرت بعمليات تكوين طويلة. ثمة عمليات واسعة تحدث في كل لغةٍ اليوم من إضافة الكلمات، إخراج الكلمات من الاستخدام، توسيع المعاني، تبديل المعاني، إلخ.... هذه العمليات لا يُحِس بها الفرد في حياته اليومية، كما يحدث أنّه لا يُحس بدوران الأرض حول الشمس، أو حتى بدورانها حول نفسها، وكما أنّه لا يُحس بدورات توالد الحشرات التي تولد وتموت في يوم، وكما أنّه لا يحس بالأجناس الحيوية التي تنقرض كل يوم على سطح الأرض. كل هذا يحدث. 
المزعج في نظرية الأستاذ أنها تمس بالمقدسات اللغوية. اللغات "العُظمى": الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والصينية والروسية (لغات الأمم المتحدة الأصلية) واللغة التي أُلحِقَت بها نتيجة لجهود مجموعاتٍ نشطة في السبعينيات، العربية. وفقاً لنبؤات الأستاذ، فإن هذه اللغات العظيمة ستتفتت إلى كريولات، وستنشأ منها لغاتٌ أخرى، بل وسيختفي بعضها كُلية.
بالنسبة للأستاذ - ولي - هذا خبرٌ جيد. اللغة ليست صنماً يُعبد، وليست مقصودة في ذاتها، بل وسيلة تواصل وإفهام. وتحول اللغات وتبدلها يعني المزيد من الطرق للتواصل والتفاهم، ويُشير أيضاً إلى تبدل البُنى الثقافية والاقتصادية والاجتماعية للعالم، مما يفتح الاحتمالات لإيجاد عالمٍ أكثر تسامحاً وانفتاحاً وقبولاً للآخر وابتعاداً عن الظلم المؤسساتي.

أعظم لغات العالم
لسببٍ ما، يظن البعض أن اعتراف الأمم المتحدة باللغة العربية واحدة من لغاتها الرسمية يجعلها لُغة عُظمى في العالم. يتحدث البعض الآخر عن العدد الكبير للمتحدثين بالعربية في العالم، مما يجعل العربية لغةً عُظمى بقوة التكاثر. العربية ليست لغة عُظمى، ومفهوم اللغة العُظمى مفهوم فاسدٌ في أساسه، يرتبط بوجود قوة احتلالٍ أجنبي، ففي عهد الرومان، كانت اللاتينية اللغة العُظمى في العالم، وفي أقصى امتداد الدولة الأموية كانت العربية اللغة العُظمى.
غير أنّه، لا توجد لغة عُظمى في ذاتها. حين فقدت الكنيسة الرومانية سطوتها، تضعضعت اللاتينية، مقابل صعود اللغات الأوروبية المختلفة. اليوم، بالكاد تتواجد اللاتينية في الفاتيكان، وفي بعض القُداسات الكاثوليكية، وداخل أسوار جامعات الصفوة بوصفها رُكناً من أركان الكلاسيكيات. مصير العربية أفضل قليلاً، فلا تزال لغة الشعوب العربية، وإن كانت في موضع ضعفٍ شديد، بعضه بتأثير الاستعمار، وبعضه بتأثير قلة كفاءة منقطعة النظير من المشتغلين بها.
هاتان لُغتان زال مجدهما. في الواقع، يُناقش في الدوائر الأمريكية فكرة أن العربية، العربية الفُصحى الحديثة - التي أكتب بها هذه التدوينة - ليست إلا لُغة دينية محلها الجوامع والمدارس الدينية، ورُبما بعض الكلاسيكيات العربية. بطبيعة الحال، يرفض المرء هذا للوهلة الأولى، لكن ما يُناقش في أمريكا اليوم عادة ما يُصبح الواقع في العالم العربي بعد بضع سنوات.
لا يوجد مقياسٌ مُعين تُقاس به عظمة اللغة. عدد المتحدثين بها؟ أعظم لُغات العالم - إذ ذاك - الصينية. عدد حروفها؟ اليابانية. عدد كلماتها؟ هذه مسألة فيها نظر. 
الغالب في قياس اللغات قياس مدى تأثيرها، وليس عظمتها في ذاتها - لأنّه لا توجد لغة عظيمة في ذاتها - والتأثير الأكبر الآن للإنكليزية. العلوم كُلها تُدرس بالإنكليزية، ومُتقدمة بهذه اللغة عن غيرها. السياسة الدولية تسودها الإنكليزية. حتى في الفنون والآداب تكاد الإنكليزية تُطيح بغريمتها التقليدية، الفرنسية. لدى الإنكليزية قابلية شديدة لامتصاص التعبيرات والكلمات من اللغات الأخرى، كما أن اشتقاق الكلمات الجديدة فيها سهل.
غير أن اشتقاق الكلمات في الإنكليزية ليس أسهل منه في الألمانية. تكوين الكلمات أسهل في الألمانية، وقواعد اللغة الألمانية أقل تعقيداً من قواعد اللغة الإنكليزية عموماً. مع ذلك، لم تستطع الألمانية أن تحظى بالتأثير الشديد الذي للإنكليزية، لأن التأثير ليس قائماً فقط على قواعد اللغة، أو دقتها، أو جودتها، أو سهولتها. اللغة العربية لغة شديدة التعقيد، ومع ذلك أمكن للمشتغلين بها أن يكونوا من غير العرب في الزمان الذي كانت فيه لغة شديدة التأثير. اللاتينية، كذلك، كانت لغة مُعقدة وتعليمها مُرهِق، ومع ذلك كانت لغة أوروبا كُلها في زمانٍ ما.

هيا بنا (نخرط)*!
الحقيقة، كُنت قد قررت ألا أعلق على يوم اللغة العربية، مع ذلك، وجدتُ أنّه ينبغي التعليق بعد أن وصل (الخرط) في يومِ اللغة العربية حدوداً خُرافية. فغير النازيين الذين يتحدثون عن "تحكُم" اللغة العربية بقارئها، حيث تُجبره على الوقف حين تقف (فيما اللغة الإنكليزية تترك قارئها يُطارد ذيله ككلبٍ مخبول)، وعلى التفكير بشيء مُحدد فحسب. لا توجد لغة في العالم تمنع قارئها من التفكير في أي شيء يُريد التفكير فيه، كما أنّه لا يوجد جملة في العالم تستدعي المعنى نفسه عند كُل من يقرأها، وإلا لما نشأ علم المعاني، ولما كان ثمة حاجة للتفسير، بما في ذلك تفاسير القرآن الكريم. بطبيعة الحال، هذه الإدعاءات موهومة إلى درجة تجعل من الصعب النظر إليها بجدية. 
النازيون ليسوا بخطورة كارثة هذا الرسم البياني الذي يتداوله الكثيرون. (هم خطرون، لكن انتشارهم محدود). بالتأكيد، مجهود صانع الرسم البياني مشكور، لكن المُستمع - القارئ، في هذه الحالة - عاقل. لا أعرف ما إذا كان عدد الكلمات الروسية مائة وثلاثين ألف كلمةٍ فحسب، إذ أنها تبدو قديمة، ولديها أدبٌ عريق، إلا أنني لستُ خبيرة في اللغة الروسية، ولا في الفرنسية.
غير أنني أعرف أنّه ليس في العربية اثنا عشر مليون كلمة. هذا الرقم مُبالغٌ فيه إلى درجة المهزلة. (ولو أنّه ليس أكبر رقمٍ، فهناك من يرى أنّه في العربية سبعة عشر مليون كلمة. من يزيد؟ من يزيد؟ عشرون مليون؟ واحد وعشرون مليون؟ خمسة وعشرون مليون؟ المزايد على اليمين. خمسة وعشرون مليون؟ من يزيد؟ من يزيد؟ أقولها مرة. أقولها الثانية. أقولها الثالثة. خمسة وعشرون مليون كلمة. مُبارك للسيد الذي يجلس على اليمين، ويختار أن يُزين رأسه بوعاء طبخٍ فخاري عربي أصيل موروثٍ عن الأجداد). 
البينة على من ادعى، ومن يظن أن اللغة العربية فيها اثنا عشر مليون كلمة، فإن عليه أن يسردها كلمة كلمة. وعندي استعدادٌ لأن أعد الكلمات وراءه. لماذا لا يُخصص أحدهم موقعاً على شبكة الإنترنت يسرد فيه كلماتِ اللغة العربية كاملة بما أننا في مزاجٍ احتفالي باللغة العربية؟ لماذا لا يسرد أحدهم هذه الكلمات كلها؟ بما أنهم عدوها، كلمة كلمة، ووجدوا أن عددها هو - بالضبط - اثنا عشر مليون وثلاثمائة وألفان وتسعمائة واثنتا عشرة كلمة. (ومن عجائب العربية أنها تبدأ باثني عشر وتنتهي باثني عشر ولو كان بدل التسعة سبعة، لتوسطها اثنا عشر أيضاً). لماذا لا تُكتب هذه الكلمات كلها؟ ونستفيد جميعاً. كتابة اثنا عشر مليون كلمة ونيف، مجرد كتابتها، سيرفع نسبة تواجد اللغة العربية على الإنترنت بشكلٍ مُعتبر. ولغة فيها اثنا عشر مليون كلمة تستحق ذلك.
بطبيعة الحال، هناك من يقول إنّه لا يُمكِن أن يزيد عدد الكلمات في العالم عن مليوني كلمة، وبعضهم يقولون إنّه لا يُمكِن أن يكون في أي لغةٍ في العالم أكثر من مليوني كلمة مهما كان. هناك من يرى الرقم أقل بكثير.
المعلومة المثيرة للاهتمام أن الرسم البياني الذي لدينا يقول إن في الإنكليزية ستمائة ألف كلمة، فيما موقع قواميس أكسفورد يقول إن في الإنكليزية مائة وواحداً وسبعين ألف كلمة متداولة، وخمسة وأربعين ألف كلمة خرجت من الاستخدام، أي أن المجموع الكُلي ليس إلا ثُلث الرقم الذي مُنِح لها في هذا الرسم البياني.
وفي النهاية، ما دُمتَ متحمساً بهذا الشكل للغة العربية، لِمَ لا تقوم بعملٍ مفيد لها، ليس الحديث مثل غوبلز، أو إلقاء الأرقام جُزافاً: لِمَ لا تكتب في ويكيبيديا العربية؟ أو تصنع موقعاً تجمع فيه كل كلمات اللغة العربية ومعانيها لفائدة العموم؟ أو تصنع قاموس مترادفاتٍ؟ أو قاموس قوافي؟ أو تكتب كتاباً في تبسيط قواعد النحو؟ أو تصنع فيديو يُعلِم الناس قواعد العربية بسهولة؟ أو تترجم مصطلحات علم النفس الحديث؟ أو مصطلحات الفيزياء الفضائية؟ أو توفر الكتب العربية الكلاسيكية على شبكة الإنترنت في هيئة نصوصٍ رقمية حُرة؟ أو تصنع قارئ كتب عربية إلكترونية؟ أو صانع كتب عربية إلكترونية؟ ولم لا تصنع ملحقات عربية لبرامج مثل كِندل وآي.بوكس وغيرها؟ ولِمَ .........


* الخرط: المُبالغة الشديدة في العديد من لهجات اليمن، واسم الفاعل منها خراط.