20 ديسمبر 2015

أسطورة الأدب الرفيع

يرى علي الوردي في كتابه: أسطورة الأدب الرفيع (1957، ط2 1994) أن ما اصطُلِحَ على كونه أدب العربية الرفيع من نثرٍ وشعرٍ قديمين بعيدٌ عن أن يكون أدبًا رفيعًا، ويحسُن بالعرب إهماله - أو غربلته - إن هُم أرادوا مواكبة الأزمنة الحديثة. وكما ينبغي مراجعة الأدب العربي، ينبغي كذلك مراجعة اللغة العربية نحوًا وإملاءً، إذ أنها بحالتها الراهنة - أو بحالتها في منتصف القرن العشرين - لا تصلح لأن تكون وسيلة إفهام. 
تبدو دعوة الوردي مألوفة، ولا تكاد تمر فترة من الزمن حتى تظهر دعوة مشابهة تقول إن العربية عاجزة عن استيعاب العلوم الحديثة مما يوجب إهمال ترجمة العلوم إليها والاستعاضة عن الترجمة بتعلّم العلوم بالإنكليزية - أو الفرنسية أو الألمانية، حسب اللغة الأجنبية التي يُجيدها الداعي. أو تظهر دعوة لنبذ العربية والاستعاضة عنها بلغة ميتة كالديموطيقية أو الفينيقية، أو استبدالها باللغات العامية المتفرعة منها في الأصل. وغير ذلك من الدعوات التي يذهب أصحابها مذاهب تشتط في عدائها للعربية لأسبابٍ خرافية، فيما الباعث على هذه الدعوات في الأصل - أو جزء منه - ناتج عن العداء الثقافي - أو الاستلاب الثقافي - أكثر مما هو ناتج عن خصائص أصيلة في اللغة العربية تجعل منها كيانًا متحجرًا ينبغي التخلص منه.
دعوة الوردي ليست من هذا النوع، ومع ذلك، فقد قيل عنه إنّه يُريد استبدال الفصحى بالعامية، واتُهِم بالجهل والتغريب. وفي المقالات الخمس التي يُفتتح بها الكتاب، وكتبها عبد الرزاق محيي الدين، اتهاماتٌ - صريحة ومبطنة - للوردي تُجمل مآخذ مهاجميه عليه، واتهاماتهم له. في مقالات محيي الدين - أيضًا - ردود على دعوات الوردي المناهضة للأدب القديم والنحو. وكان الوردي قد أثار بعضًا من مسائل الكتاب في الصحافة، ثم ارتأى توضيح موقفه في هذا الكتاب بعد الزوبعة التي ثارت ضده، فشرح مآخذه على أدب العربية القديم في اثنتين وثلاثين مقالة تلت مقالات محيي الدين الخمس.
ويمكن إجمال دعوى الوردي على العربية وآدابها في هذه النقاط: أنها لغة إعرابية، والإعراب يفتح مجالًا لأن تتحول اللغة إلى وسيلة إبهام لا إفهام، وأنها تمتلئ بالحشو الذي لا يخدم المعنى إذ أن جُلَ اهتمامها ينصب على اللفظ على حساب المعنى، ويتصل هذا بمآخذه على الشعر العربي مدحًا وهجاء، فالمدح يُكال بغير استحقاق للممدوح، والهجاء ليس إلّا رص شتائم لا يتحرى الهاجي أن تكون حقيقية، ولا تذم المهجو بصفات كالظلم والمسارعة إلى الأذى، إذ أن العرب يعتبرون هذه الصفات - على ما فيها من مجافاة لخلق الإسلام - صفاتٍ حسنة. أمّا أهم مآخذ الوردي على العربية فكونها قد استُخدمت لفترة طويلة من تاريخها بوصفها وسيلة للهيمنة الطبقية - رغم أنّه لا يستخدم هذا المصطلح تحديدًا.

المسألة النحوية
نالت هذه المسألة نصيبًا كبيرًا من النقاش، حيث أن الدعوة لإلغاء النحو العربي برُمته صادمة، فيما الدعوة لتبسيطه شبه متفق عليها. يعرض الوردي عدة نظريات بخصوص نشأة النحو العربي، ويستقر على أن نشأته قد جاءت استجابة لمشكلة اجتماعية نشأت عن التمييز ضد الموالي بناء على أسس لغوية، وما نتج عن ذلك من "عُقد نفسية". ثم يعرض إلى اشتغال الموالي بالنحو، وصعوبة النحو العربي. نظرية تصعيب النحو العربي بسبب حقدٍ - واعٍ أو غير واعٍ - من الموالي على العرب نظريةٌ معروفة، يُمكِن أن تُعد تنويعًا طريفًا على نظريات المؤامرة، وليس لها سندٌ تاريخي قوي. الوردي نفسه يأتي بنقيض هذه النظرية حين يتحدث - في مقالاتٍ لاحقة - عن المدرستين الكوفية والبصرية وأثرهما على قواعد النحو العربي. ومُقتضى الحال أنّ النحو كان لا بُد ناشئًا في مرحلةٍ ما من مراحل تطور الحضارة الإسلامية، لتسهيل تعليم اللغة ونشرها، خصوصًا مع الانتقال إلى مُدنٍ جديدة مع انتشار رقعة الحضارة الإسلامية. بالإضافة إلى ذلك، ثمة حاجة إلى صيغة قياسية (للنحو) الذي يتكلم عليه الناس، ويُكتب وفقًا له الأدب. ثمة نحو تلقائي ينشأ من الكيفية التي يتعارف الناس على الحديث بها، ومن ثم يُقعَّد النحو، ويُحوَلُ إلى صيغٍ قياسية. ثمة نحوٌ تلقائي في كُل لغة يتحدث بها الناس، حتى العامية، وإلّا لما كانت ثمة ألسنة مُميزة لكل جماعة من الناس. و"نحو" الكلام ما يتعلمه أي وافدٌ على أي لغة، حتى لو لم يكُن ضليعًا في علم النحو.
يُناقش الوردي الخلافات بين المدرستين الكوفية والبصرية، وأسباب اختلاف المدرستين، ثم التوفيق بينهما، ونتائج هذا على النحو العربي. نظرية الوردي جديرة بالاعتبار، حيث أنّه يرى أن التوفيق بين مدرستين مختلفتين قد أدى إلى بلبلة علم النحو، وتشعُب قواعده وتناقضها فيما بينها البين. مشكلة تشعب النحو وتناقض قواعده أحيانًا مشكلة قديمة، وقد حاول ابن هشام حلها قبل قرون في كتابه: مُغني اللبيب عن كُتب الأعاريب، وفيه يُفسر لا الوظيفة اللغوية البحتة للكلام، ولكن وظيفته الدلالية - إن صح التعبير، فقد يتغير الإعراب بتغير الوظيفة الدلالية للكلمات، خصوصًا الأدوات الثابتة مثل: ما، إذا، لو، قط، قد... مجهود ابن هشام نال التقدير في زمانه، وما زال يلقى التقدير في هذه الأيام. وثمة جهود تُبنى على عمله، لكنها جهود فردية - مثلما كان جهد ابن هشام في زمانه - وكثيرٌ منها لا يحظى بالانتشار.
مسألة الإعراب ليست حكرًا على العربية، وليست - في حد ذاتها - سببًا للإبهام - إلّا إذا قصد الكاتب ذلك. بل إن الإعراب يُقصد به الإفهام ويُفيده في حالاتٍ كثيرة. إذ أن الإعراب معناه الإبانة. أمّا اقتراح استبدال الإعراب بتغييراتٍ في كيفية بناء الجملة، فمسألة فردية تعود إلى اختيار كُل كاتبٍ وإلى مقاصد نصه.

الهيمنة الطبقية
أهم طروحات الكتاب تأكيده المستمر على أن اللغة العربية قد استُخدمت وسيلة للهيمنة الطبقية منذ الجاهلية، فقد كان أشراف العرب وأغنياؤهم يُرسلون أولادهم إلى البادية لتفصح ألسنتهم، وتستقيم لغتهم من غير لحنٍ، فيما لم يكن ذلك في إمكان الضعفاء والفقراء، خصوصًا في الحواضر مثل مكة، فاختلطت لغتهم بلغة الموالي والعبيد وضعفت. ويذكر الوردي قصصًا عن التفاوت اللغوي الذي كان قائمًا في الجاهلية. ثم يقول إن الطبقية اللغوية قد عادت مع الدولة الأموية، فالأمويون قد اهتموا بالشعر اهتمامًا شديدًا، وقد شجعوا الناس على الاشتغال به وروايته وتداوله، وأحيوا به النعرّات. وكانت لهم القدرة على إرسال أولادهم إلى البادية كما كانت لهم في الجاهلية، فكان بإمكانهم مفاضلة الناس بناء على اللغة.
ويذكر الكتاب - أسطورة الأدب الرفيع - قصة تُروى عن عبد الملك بن مروان في هذا السياق، حيث يُقال إن شيخًا قد دخل عليه وهو يلعب الشطرنج مع غلامه، فوضع عبد الملك بن مروان الرقعة جانبًا وغطاها احترامًا له، ثم ما إن تكلّم الرجل حتى لحن في كلامه، فأمر عبد الملك غلامه بأن يرفع الغطاء عن الشطرنج، إذ لا حُرمة للاحن. بالطبع، يذكر الكتاب أن ولد عبد الملك، الوليد، كان لحّانًا. لكن الكتاب لا يذكر أن الوليد كان محميًا بطبقته الاجتماعية، ومنصبه بوصفه وليًا للعهد ثم خليفة، فلم ينله سوى مضايقاتٍ بسيطة - جُلها من بني عمومته المكافئين له في الحسب والمنافسين له على السلطان - حول لحنه، فيما عنى اللحن والعي وعيوب الكلام مآسي لمن لم يحظوا بامتيازاتٍ مشابهة.
لم يذكر الكتاب هذه النقطة، غير أن قراءة الكُتب التراثية، خصوصًا الكُتب عن الأدب، مثل البيان والتبيين، تُظهر مجتمعًا طبقيًا أشدُ أدواتِه قمعًا اللغة، ولا يستثني هذا المجتمع من قمعه من يُعانون من عيوبٍ في النطق والكلام. ويذكر الجاحظ أمثلة على تحاشي البعض ظهور عيوب نطقهم باختيار كلماتٍ لا تظهر فيها الحروف التي لا يستطيعون نُطقها، إذ أن عيوب النطق والخطأ في مخارج الحروف كان مما يُذهب هيبة الرجل ويُنقص قدره بين الناس. كذلك كان العجز عن الرد في المجالس، والافتقار إلى البلاغة وسرعة البديهة. وكم من قصة يذكرها الجاحظ تبعث على الأسى، إذ تُظهر كيف يفقد أناسٌ مراكزهم بسبب ردٍ غير موفق، أو عي في الكلام، فتضيع مكانتهم بين الناس، ويصير بعضهم مشردًا يهيم على وجهه، وتُروى هذه القصص للتفكه!
الملاحظة الغائبة حول النحو العربي، في هذا السياق، أنّه كان نوعًا من نشر التعليم، وتمكين الفئات التي لا حظ لها في امتياز البادية من توفير تعليم لغوي لأبنائها، كما أنّه قد مكّن الموالي من تعلّم العربية بشكلٍ جيد. انتشار النحو وفّر لأبناء التجار وكبار أصحاب المهن حظًا من التعليم، رُبما لم يكن قادرًا على كسر القيود الاجتماعية وتوفير فُرصٍ كثيرة للترقي الطبقي، إلّا أنّه كان يكفل لعددٍ كبير من الناس أمان الخروج من طبقة "الدهماء" و"الهمج"، ووسيلة لتجنب الاتهام بالحمق.

مسألة الأدب
لَعِب الأدب القديم، الشعر خصوصًا، دورًا في ترسيخ هيمنة طبقاتٍ بعينها، وتوطيد نظم اجتماعية مُعينة.  ويلوم الكتاب - أسطورة الأدب الرفيع - الشعر العربي بوصفه سببًا من أسباب تجمد اللغة العربية. يذم الكتاب الشعر كله: مدحًا وهجاء وغزلًا: فالمديح يُكال بغير حسابٍ للمدوح، والشعراء يمدحون الظالمين دومًا فيعينونهم على ظلمهم، والهجاء ليس إلّا شتائم مرصوصة لا تفيد أي معنى يتجاوز السب البذيء المباشر الذي يُفترض أن يُعاقِب عليه القانون، أمّا الغزل، فيرى الكتاب أن شيوع ضمير المُذكر في الغزل دليلٌ على مشكلةٍ اجتماعية عميقة نشأت عن تهميش دور المرأة في المجتمع. كذلك، لَعِب الاشتغال بالشعر دور المخدر للأمة، فالناس قد انشغلت برواية الشعر وحفظه، والمفاضلة بين الشعراء، ونقائض جرير والفرزدق وما شابهها، فلم تنتبه إلى أحوالها كما ينبغي.
قول الكتاب في المديح والهجاء لا يحتاج إلى بيانٍ وتفصيل، إذ أنّه واضح، غير أنّه ثمة مُلاحظة ينبغي ذكرها لتأكيد الدور اللا عقلاني الذي لعبه الشعر في السيطرة والتحكم الاجتماعي، حيث أنّ الشعر كان يرفع قبائل ويحُطها. (يُذكر ذلك - غالبًا - في معرض التفاخر للتدليل على أهمية الشعر العربي). ولجرير قصتان مشهورتان، رفع في إحداهما قبيلة وحط أخرى، حيث أنّه مدح بني أنف الناقة بقوله:
قومٌ هُم الأنفُ والأذناب غيرهم، ومن يُسوي بأنف الناقةِ الذنبا
فشمخ بنو أنفِ الناقةِ بأنفسهم، بعد أن كانوا حيًا مغمورًا من أحياء العرب.
وحط من نمير بقوله:
فغُضَ الطرفَ إنّك من نميرٍ، فلا كعبًا بلغت ولا كِلابًا
 الأمر الذي جعل المنتسبين إلى نمير - وقد كانوا متفاخرين بنسبتهم إليها - يهربون من النسبة إليها، إذ انحطّت مكانتها بين العرب.
ليس ثمة منطقٌ معقول يُبرر أن يتسبب بيتٌ من الشعر أو بيتان - من دون قيمة فنية  - في رفعِ قبيلة أو حطها، وإنمّا الناس بأعمالهم. غير أنّ هذا مثالٌ واضح على الاعتباطية التي كانت ترفع أقوامًا وتحُط أقوامًا من دون سببٍ يُذكر، والطريقة التي يُستخدم فيها الشعر بوصفه وسيلة للتحكّم الاجتماعي والهيمنة.
وفي عهد أبي العباس السفاح، قيل إنّه قد أمّن سليمان بن هشام بن عبد الملك، وأجلسه في مجلسه، فدخل عليه سديف بن ميمون، وأنشدّه:
لا يغُرَنّك ما ترى من رجالٍ، إن تحت الضلوع داء دويًا
فضع السيف وارفع السوط حتى، لا ترى فوق ظهرها أمويًا
فقال سليمان: "مالي ومالك أيها الشيخ؟ قتلتني قتلّك الله!" وتختلف الروايات في طريقة مقتل سليمان، لكن النتيجة أنّه قُتل ببيتين من الشعر!
وتُروى القصة بطريقة أخرى، فتقول إن العباس قد أمّن جماعة من بني أمية وأجلسهم في مجلسه، فدخل عليه سديف بن ميمون - نفسه - وأنشد قصيدة متوسطة الطول فيها أبياتٌ قاتلة:
لا تقيلن عبد شمس عثارًا، واقطعن كُل رقلة وأواسي
ذلها أظهر التودد منها، وبها منكم كحز المواسي
فأمّر العباس بمن في المجلس، فقُتِلوا.
إنّ دورَ الشِعر - في ضوء أمثال هذه القصص -  بشعٌ مُخيف، يُحرِض على الأذى، ويبعث النعرّات، ويقود الناس إلى مقاتلِهِم. ولا يُمكِن أن يُنتظَرَ مِن الشِعر - إذ ذاك - أن يُساند الفقراء والمحتاجين، وأن يُخاطِب الطبقات المسحوقة أو يتحدث باسمها، أو حتى أن يتحدّث عن حياة الناس بما فيها من أتراحٍ وأفراح، إذ أن الشاعر حين يخرج عن ذاته، فإنّه يُعبِر عن الطبقة المُهيمنة.
في هذا الجو المُسمم، تظهر شخصيات مثل أبي الطيب المُتنبي، الذي اراد الوصول بشعره إلى طموحاته، فاصطدم بأن الشاعر ما هو إلّا بوق. لقد تحدّدت وظيفة الشاعر قبل قرون، والمُتنبي لم يتحداها، فشعره لم يخرج في أغراضه عمّن سبقوه، واستخدم شعره فيما استخدموه فيه، إلّا أنّه كان أكثر طموحًا من غيره، ومن هنا جاء خروج المتنبي من حلب إلى مصر، ومن ثم هروبه من مصر. قصيدته الشهيرة "عيدٌ بأية حالٍ عُدت يا عيد" لا تخلو من جمالٍ، غير أنها مليئة بالعبارات العُنصرية التي تُعبر - بلا مورابة - عن وجهة النظر السائدة لدى الطبقات المُهيمنة، التي تشربتها الطبقات التابعة: فاللون الأسود لونٌ مكروه ولو كان لون الشخص نفسه، لأن التابع قد تعلّم من المتبوع أن اللون الأسود مكروه.
المُتنبي لم يعتزل بشعره مجالس الكُبراء، ولم يُخالِط بشعره الناس. لقد أراد التوصل بشعره إلى الخروج من طبقته الاجتماعية، لكنّه اصطدم بنظامٍ مُحكم قد ساهم في تشييده شُعراء من قبله. ومثله في ذلك مثل أبي حيان التوحيدي - الذي يمدحه كتاب أسطورة الأدب الرفيع. أبو حيّان التوحيدي (صاحب أخبار)، وهذه مهنة معروفة في العصور القديمة، حيث أن أصحاب الأخبار هُم من الأدباء الذين يجمعون الحكايات والحِكَم وأشعار العرب وأخبارهم، وينسجون منها محادثات تؤانس المستمعين في المجالس وتمتعهم، ويضيفون إليها ويحذفون منها، ويخرجون منها بأفكارهم الخاصة حول الدُنيا وما فيها.
أصحاب الأخبار، في آخر الأمر، يلعبون دورًا مشابهًا لدور الشًعراء، فهُم حُلية اجتماعية للمجالس العُليا. وأبو حيان قد وجد نفسه في موقفٍ مُشابه لموقف المتنبي، حيث أنّه وجد قد وجد نفسه منبوذًا من مجالس الوزراء - وكان ذلك عصر الوزيرين: الصاحب بن عباد وابن العميد - وكان يكره مُخالطة العامة. انتقم أبو حيّان التوحيدي من الوزيرين بتأليف كتابٍ يُسمى مثالِب الوزيرين، ملأه بنقائص الوزيرين وأهل مجالسهما، وفيه من كشف السوءات والشتائم والرقاعة الكثير. يُعطي مثالِب الوزيرين فكرة عن الجو المسموم الذي كان يعيش فيه الأدباء والشعراء في زمنٍ من الأزمنة، ويجعل المرء يتساءل: لماذا أراد أبو حيّان أن يكون جزءًا من هذا المجتمع المريض؟ إذ أنّ أبا حيّان يقول بوضوح إنّه قد ألّف الكتاب لينتقم من الوزيرين بعدما حرماه من الهبات والعطايا وأجرياها على غيره. أي أنّ أبا حيّان لو كان قد حاز على الرضا، لسكت عمّا فضحه في كتابه. وفي استخدامه الأدب للتشهير بالناس امتهانٌ للأدب قل مثيله! ثم أحرّق أبو حيان كُتبه انتقامًا من الناس الذين رأى أنهم لا يستحقون قراءة ما كتبه. مأساة أبي حيّان تُقدم عادة على أنها مأساة المُثقف الذي عاداه الناس عن جهل، وأُغلِقت دونه الأبواب لجهلٍ بمقامه. ما حدث للتوحيدي مأساة، لكنّه مأساة ناجمة عن امتهان الأدب في خدمة طبقة بعينها، وليس للناس ذنب فيما حل به، لأن أبا حيانٍ لم يكن مدافعًا عن العوام. لقد كانت تلك خلافاتٍ مُترفة بعيدة عن حياة الناس المليئة بالحرمان وقلة الأمان.
في أسطورة الأدب الرفيع، يقول الوردي إن أبا نواس وجرير والفرزدق لو عاشوا في أيامنا هذه لأصدروا المجلات البذيئة الخالية من القيمة. معنى كلام الوردي إنّ النظر إلى الأدب القديم يأتي - غالبًا - عن طريق عدساتٍ وردية تُجمل كُل شيء، حتى القبيح والفاحش والرديء والخبيث واللا منطقي، وتتغاضى عن الدور الذي لعبه الأدب ضد الناس العاديين، الشعوب، بشكلٍ عام. لقد حاول الأدب العربي القديم تكريس قيمٍ اجتماعية وفكرية مُعينة، وهذه القيم الاجتماعية والفكرية ضارة في زماننا هذا إذا أُخِذت على علاتها.
ليس معنى هذا إهمال الأدب القديم برُمته، وإسقاطه من الحساب. ولا التمترس وراء مواقف معممة من قبيل مُقاطعة الأدب العربي كله لأنّه أدب شحاذين، وإنمّا التوسط: فهم الأدب القديم لما كان عليه، من دون تقديس، ومن دون تحويله إلى أدبٍ رفيع لمُجرد أنّه أدبٌ قديم، أو لمجرد أن كاتبه هو جرير أو المتنبي أو الملك الضلّيل.

هناك 5 تعليقات:

  1. أكاد لاأُصدق!
    تدوينة جديد!
    كنت قداتخذت القرار في التواصل معكِ لعلكِ تعودين للكتابة في هذه المدونة التي أرى فيها مصدراً للثقافة..
    أنا سعيدة لأني لم أضطر لإرسال ذلك الإيميل لك :)
    لم اقرأ التدوينة بعد..
    لكن لي عودة في التعليقات بلا شك حال الإنتهاء من قرائتها
    دمتي بخير وأتمنى أن لاتُطيلي الغياب..

    ردحذف
    الردود
    1. أشكرك جزيل الشُكر يا ولاء لكلامك الطيب، ولحُسنِ ظنكِ في المدونة. آملُ أن تكون العودةُ خيرًا، وأن تبقى المدونة عند حُسن ظنك. وأرجو أن تكون هذه التدوينة مفيدة، وأن أقرأ تعليقك عليها.
      دمتِ بخيرٍ وسلامة.

      حذف
  2. شكرا لمن اخترع نلقيمات RSS لتخبرنا بجديد المواقع المفضلة لدينا، أهلا بعودتك هند :)

    ردحذف
    الردود
    1. أهلًا بك يا محمد. شكرًا له. وشكرًا لك لترحيبك الجميل.

      حذف