21 مايو 2010

يا خواجة!

قبل أسابيع، عرضت قناة الجزيرة الفضائية برنامجاً وثائقياً من إعداد وإخراج هويدا طه عنوانه "عقدة الخواجة"، يبحث في مظاهر "عقدة الخواجة" العربية، خصوصاً في مصر - مع أن الرسوم الكارتونية المصاحبة كانت تُظهِر شخصية خليجية. استضاف هذا البرنامج مجموعة من المثقفين العرب، وقابل مجموعة من الشباب المختلفين في الشوارع. بُنية البرنامج الفيلمية جيدة، لكن مادته تائهة، أو هكذا شعرت. فالبرنامج يرصد مظاهر مما يُسميه (الثقافة الغربية)، ومقابلها مشاهدٌ تُصَوِرُ (الثقافة العربية). لكن معظم ما يُصوره على أنه "عقدة خواجة" لا علاقة له إطلاقاً بِها، فالتجمعات الشبابية والموسيقى الغربية ليست إلا من مظاهر التأثر الشبابية المعتادة المُرشحة لأن تكون كلاسيكيات بعد عشرين عاماً من الآن - مايكل جاكسون كان قمة (الهيافة) في الثمانينيات والتسعينيات، واليوم صار من الكلاسيكيات، مثله مثل البوني إم وحركات التحرر والهيبيز. والجينز والملابس الغربية ليست من مظاهر "عقدة الخواجة" لأنها ملابس عالمية، ولأن (المنظرين) للمسألة كانوا جميعاً من لابسي البنطلونات (الغربية) - ما يجعلهم مُصابين بعقدة الخواجة وفق تصنيف البرنامج.
من بين المتحدثين، ركز البرنامج على اثنين: المفكر جلال أمين، والكاتبة ميسون صقر الذين شنّا هجوماً كبيراً على كُل ما وصفاه بتمثل الخواجة في ثقافتنا، مع أنهما يرتديان الملابس الغربية، ويستخدمان المناهج الغربية. هُناك حالة من عدم الاتساق بين المظهر والمخبر سببها محاولة البحث عن عقدة الخواجة في المكان الذي لا تُوجد فيه. وفرض تصورٍ مشوهٍ عنها، وفي النهاية، يتساءل المرء: ما (العربي) حقاً؟
في القرن التاسع عشر، طُرح السؤال في ألمانيا: ما الألماني حقاً؟ وأدى ذلك إلى صعود النزعة الشوفينية القومية "ألمانيا فوق الجميع" و"الوطن الأب"، والرايخين الثاني والثالث، والحربين العالميتين الأولى والثانية. وأعقب ذلك وقوع ألمانيا في دائرة الذنب الألماني الذي يستهلك ألمانيا مُنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتقسيمها، ونفور أوروبا منها، والفجوة الهائلة في تاريخ ألمانيا التي تعجز - حتى الآن - عن التصالح مع ماضيها النازي. وطرح سؤال "ما العربي" اليوم قد يؤدي بالعرب إلى مصير مشابه، لكنه خيارٌ أفضل من التيه الذي يتخبط فيه الجميع وهم يُلقون بالاتهامات في كُل جهة: "الشباب مُصابٌ بعقدة الخواجة"، "المثقفون مصابون بعقدة الخواجة"، "الحكومات مُصابة بعقدة الخواجة". وأدلتهم على ذلك واهية، ويطعن فيها أن الاتهام بالإصابة بالعقدة يُمكن أن يوجه لهم هم.
لذلك، يغدو السؤال الفكري "ما العربي؟" ضرورياً لوضع الأمور في سياقها، فنحن إذا عرفنا ما هو عربي، وما ليس عربياً، استطعنا بذلك أن نعرف من المصاب بعقدة الخواجة، ولماذا أُصيب بها، وكيف يُمكنه أن يُشفى بإذن الله - بوصفها مرضاً.
في القرن الثامن عشر كان الشرق موضة في أوروبا، واستمر الشرق في الذهن الأوروبي مصدراً للنفائس حتى أوائل القرن العشرين. كانت السيدات يتباهين بملابسهن الشرقية، والأعمال الفنية تعرض ثياباً عربية، أو مقتنياتٍ ترتبط بالشرق - مما يدل على أن التأثير الثقافي ينتقل في الاتجاهين. وإذا كُنا قد استوردنا الهامبورغر والكوكا كولا من الغرب - الولايات المتحدة تحديداً - فإننا قد صدرنا إليهم الفلافل والتبولة بالمقابل.
الملابس والأغاني ليست مُشكلة حقيقية بقدر المشكلة التي تُمثلها عُقدة الخواجة الخفية الضاربة في جذور الفكر العربي المُعاصر. يُقرُ جلال أمين بأنه - مثل كل المثقفين - مُصابٌ بعقدة خواجة، وعقدة الخواجة تتجلى في الاعتقاد بأن الغرب أفضل من العالم العربي في كُل شيء. لكنني أرى عقدة الخواجة التي يُعاني منها جلال أمين فرضه سياق تطور المجتمعات الغربية على المجتمعات العربية، إذ يرى أمين أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق نهضة حقيقية في العالم العربي ثورةٌ صناعية على غرارِ تلك التي قامت في إنكلترا في نهاية القرن الثامن عشر. مستحيل أن يعود الزمن ثلاثة قرونٍ إلى الوراء، ومستحيل أن تتحقق الشروط التي أدت إلى نشوء الثورة الصناعية في إنكلترا هُنا في العالم العربي. كما أن المناخ الفكري قد تغير عمّا كان سائداً في تلك الفترة، وإهمال النظر في التاريخ يجعلنا نغض الطرف عن المستنقع الذي جعلت الثورة الصناعية بريطانيا تغرق فيه حيث النساء والأطفال والشيوخ يعملون من دون توقف أعمالاً قاتلة ينالون عليها ما لا يسد رمقهم، حيثُ الجهل والمرض والفقر والفاقة وتخلخل النظام الاجتماعي، حيث الثراء الفاحش لفئةٍ بسيطة من الصناعيين فرضت قيمها وأخلاقياتها على المجتمع الذي يموت بقية أفراده جوعاً. إنكلترا الصناعية أنتجت الفكر الماركسي الذي كان واحداً من التيارات المسيطرة في القرن العشرين، فلماذا نعيد اختراع العجلة؟ ومن أين لنا بمركبة زمن تُلغي الدولة العثمانية، والفترة الاستعمارية، واحتلال فلسطين، وسقوط الدولة العثمانية، والحربين العالميتين، وانهيار المنظومة الاشتراكية، وصعود الرأسمالية وتوحشها، والاقتصاد الرمادي الذي يحكم العالم اليوم؟
الدولة الوحيدة التي لم تتأثر بالركود الاقتصادي حتى الآن الصين، لكن استمرارها في التصنيع الرخيص الذي يُغرق الأسواق العالمية يمنع هذه الأسواق من استعادة قدرتها المالية، مما يعني نقص السيولة لدى المستهلكين، وكساد البضائع الصينية الذي يجعل انهيار الاقتصاد الصيني أمراً محتوماً في السنواتِ القادمة لأن عرضه يزيد عن الطلب، ويُغرق كل الأسواق حارماً إياها من فرصة النمو مجدداً. في الجهة المقابلة، لا يُمكن وقف عجلة التصنيع الصينية لأنها عصب الحياة الصينية اليوم، والنتيجة كارثة محققةٌ يسير إليها الجميع من دون أن يكونوا قادرين على تفاديها. التصنيع الزائد كما في نموذج الصين وتايوان لم يؤدِ إلى نهضةٍ حقيقيةٍ، بل إلى زيادة في المباني الخراسانية القبيحة، وزيادة في استهلاك السيارات والكماليات، وكلها أشياء سيقضي عليها طوفان انهيار الصين القادم.
العالم العربي عالمٌ زراعي في المقامِ الأول، لكن الأراضي الزراعية تتعرض للبوار فيما يُقرر المثقفون أنه على العالم العربي الاتجاه إلى التصنيع. البارحة فحسب كُنتُ أشاهد برنامجاً مصرياً تحدث عن بوار خمسين ألف فدانٍ من الأراضي الزراعية في الدقهلية والشرقية نتيجة لسوء توزيع المياه، وهدر الموارد المائية. هُناك آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية المهدرة في العالم العربي، ومثلها مساحات الرعي، والصناعات القديمة كصناعة اللؤلؤ والزجاج. لقد استبدلت وسائل المعيشة الريفية بوسائل ابتكرها أبناء المُدِن، والنتيجة اليوم أن انتاج المواد الخام يتراجع لصالح التصنيع الرديء للمنتجات سريعة الزوال كالمنتجات الصينية، وما لدورة الاقتصادِ هذه من نتائج على المجتمعات المحلية والبيئة في العالم.
هُناك أيضاً المصارفُ غير المنظورة التي تبتلع السيولة المالية للمستهلك العربي: دقائق الاتصالات التي لا يُمكن تحويلها إلى سلعةٍ مادية لها طولٌ وعرضٌ وارتفاع ووزن، ألعاب الفيديو التي باتت تبيع للاعبين سيوفاً وعملاتٍ وأحجاراً لا وجودَ مادي لها بأموالٍ حقيقية، وديون بطاقاتِ الائتمانِ التي بدأت تجتاح العالم العربي اليوم. كُل هذه مظاهر لاقتصادِ الوهم الذي يقوم على بيع (فكرةٍ) للناس: فكرة التواصل، فكرة التميز، فكرة وجود سيف، فكرة الثراء. هذه الفكرة لا توجد إلا في رؤوس المستهلكين، ولا يُمكن الاستفادة منها بأي حالٍ من الأحوال.
هُناك عُقدة خواجة فعلاً، لكنها ليست في سراويل البنات، أو أغاني مايكل جاكسون وإيمينيم، بل في رؤوس الأساتذة الذين حولوا الثقافة إلى رطانة، وتنازلوا عن مهمة تثقيف الشعبِ بأكمله تاركين إياه عدواً للثقافة غير قادرٍ على حماية نفسه من استهلاك الوهم، وفي الاستعمارِ الذي لا يزالَ يحكمنا اليوم. حتى أن الإجابة على سؤالٍ ما العربي؟ تبدو مستحيلة في المدى المنظور.

19 مايو 2010

طريقك مسدود!

مشهد من كريولانسكريولانس (ريف فاينز) يُقبل يد أمه فولومينا (فانيسا رِدغريف) ويظهر في الصورة السناتور منينيوس (برايان كوكس)

سبب فيلما ريف فاينز الجديدان: صراع الجبابرة وسيمتري جنكشن حالة سخطٍ عامةٍ في الصحافة البريطانية - قبل أن تنشغل بالانتخابات النيابية. فيلم صراع الجبابرة رديء – بشهادة النقاد – لكن فاينز الوحيد الذي يستحق أجره فيه، ويستحق أن يُشاهَدَ الفيلم لأجله – بشهادتهم كذلك، أما فيلم سيمتري جنكشن فحالةُ نوستالجيا يقع فيها ريكي غيرفيز ويُنقذه منها فاينز بأدائه المُتقن لشخصية ربِ العمل ميت العيون. تُحنِقُ هذه الشهادات المعلقين في الصحف، فوفقاً لها، انضم فاينز رسمياً إلى نادي أشرارِ هوليوود تحت الطلب الذي ضمَ في عضويته قبله ممثلين من وزن تِم كَري وآلان رِكمان وأنتوني هوبكنز وجيريمي آيرونز، ووفقاً لها أيضاً، فإنه يبذل جُهداً فائقاً ليُقدم شخصياتٍ لا تُنسى – لأنه ممثل شخصية ممتاز – لكن هوليوود لا تأبه بالجهدِ الذي يبذله، فالمهمُ أن يكون الشرير ممثلاً بريطانياً شكسبيرياً.
مشكلة البريطانيين مع تنميط هوليوود لممثليهم قديمة جداً، وينكأها كُلَ مرةٍ انضمام موهبة بريطانية جديدة إلى ركبِ الأشرار – حيث يضع منتجو هوليوود عيونهم على المواهب الحقيقية ليحصروها في أدوار الأشرار، تاركين ممثلي الصف الثاني لشأنهم. لا يبدو أن مشكلةَ هوليوود مع الجزر البريطانية ستُحل قريباً، لذلك يكتفي المعلقون الصحفيون البريطانيون بالعويل ناعين ريف فاينز الذي لم تعد أمامهُ فرصةٌ للعظمة مع اقترابه الحثيث من سن الخمسين وظهور بوادر الصلع عليه، ومغنين في جوقةٍ جماعية: "وطريقك يا ولدي مسدودٌ، مسدودٌ، مسدود!"
لا يبدو أن فاينز يلقي بالاً إلى عويل النادبات الإغريقيات في صحافة بلاده، فلا تزالُ في جعبته بعض الحيل وأولها فيلمه الجديد كريولانس الذي يُخرجِه بنفسه ويقوم بدورِ البطولةِ فيه، ويُسنِدُ بقيةَ الأدوارِ فيه إلى كُل الممثلين الذين يحبهم ولم تسنح له فرصةُ العمل معهم من قبل: فانيسا رِدغريف، برايان كوكس، وجيرارد بتلر. ليس هذا فقط، بل إنه يُسيطر على كافة عملياتِ الفيلم، من اختيارِ الممثلين والطاقم، وتقرير أماكن التصوير وكيفيته، وتحديد نظام العمل، خلافاً للنظام الهوليوودي السائد حيثُ تتحكم الإستوديوهات والشركات بكُل هذه التفاصيل تاركةً للمخرج رسمَ بعضِ الخطوطِ العريضة فقط.
اختيارُ كريولانس ليكون أولَ فيلمٍ يُخرجه خيارٌ صعب ينطوي على مُجازفةٍ بالغة - وقد بدأت صحافة بلاده تندب اختياره منذ الآن، فالمسرحية الشكسبيرية التي تجري أحداثها في روما، وتدور حولَ قائدٍ عسكريٍ مغرورٍ يخونه شعبه فيردُ الخيانةَ بالخيانة ويتحالف مع عدوه؛ ثم يتراجع عن خيانته الأولى ويخون حليفه الجديد؛ ويضيع بين الخيانات من أبغض المسرحياتِ عند النقادِ الشكسبريين وقراء شكسبير، ومن أقل المسرحياتِ تمثيلاً في المُنتج الشكسبيري. (ولو أنني أفضلها على هملت). مع ذلك، يُقرر فاينز أن يُخرج فيلماً عنها ليكون فيلمه الأول، وينقل الأحداث إلى الزمن الحالي، ويختارُ تمثيل شخصيةِ كريولانس التي يصعب أن يتعاطف معها الجمهور، ويمضي في مشروعه صغير الميزانية بعناد.
اختار فاينز العاصمة الصربية بلغراد ليصورَ فيلمه فيها، فاحتفت الصحافة الصربية بالسيرك الذي جاء من بلاد الأفلام العالمية، وجندت مراسلين مرابطين في مواقع التصوير ليزودوها بكل شاردةٍ وواردةٍ تجري في المكان، ووفرت طبعاتٍ من تغطياتها بالإنكليزية لتضمن انتشار السينما الصربية - موفرةً بذلك تغطية إعلامية مكثفة للفيلم جذبت انتباه مجلة إمباير الشهيرة لتوفر تغطيتها الخاصة لبعضِ مما يدور في موقع التصوير - الأمر الذي يعني صفقة توزيع لا بأس بها للفيلم.
ولضمان توزيع الفيلم في الولايات المُتحِدة، فإنه يُسند دور خصمه تولس أوفيديس للمثل الأسكتلندي جيرارد بتلر الشهير في الولايات المتحدة الأمريكية بأفلامٍ خفيفة من قبيل: الحقيقة المرة، واشتهر قبلها بالمشي شبه عارٍ في فيلم 300. بذلك، يضمن فاينز أن تشتري الشركات الأمريكية فيلمه وتوزعه جيداً لجمهور بتلر، كما أنه يُقدم له فرصةَ للعودة إلى كونه ممثلاً محترماً بعد أن تحول إلى العلامة المسجلة للأفلام السخيفة. وقديماً قيل: "يا بخت من نفع واستنفع!"
إضافةً إلى ذلك، فقد استفاد فاينز من دعم وزارتي الداخلية والدفاع الصربيتين له خلال تصوير الفيلم، إذ وفرت له الوزارتان فرقة قواتٍ خاصةٍ دربته وشاركت معه في الفيلم، وإمكانية التصوير في البرلمان الصربي، وسهلت له تعاملاته. مقابل ذلك، اختار بعض الممثلين الصربيين للقيامِ بأدوارٍ صغيرة في فيلمه، في بادرةٍ للفت نظر السينما العالمية إلى السينما الصربية. هكذا يكسب الجميع.
للصحافة البريطانية أن تعتقد ما تشاء، لكن النقاد ينتظرون فيلم فاينز الجديد كما ينتظره الجمهور. طاقم الممثلين مؤثر، وطاقم العاملين في الفيلم لا يقل عنه بحالٍ من الأحوال، والقصة شكسبيرية تحتوي كل ما يريده الجمهور: قتل، دم، خيانة. وفوقها ما يُريده النقاد: التعقيد العاطفي للشخصيات واللغة الشكسبيرية.
قد تكون طُرق فاينز في هوليوود مسدودة كما تعتقد الصحافة في بلاده، لكنه وثب وثبة هائلة فوق الجدار، وفتح لنفسه آفاقاً جديدة. إذا نجح كريولانس نقدياً وأبلى حسناً في شباك التذاكر، سيصبح ريف فاينز الرأس الكبيرة القادمة في صناعة السينما العالمية.

07 مايو 2010

يبننة

كتب أبو حامد الغزالي كتاباً سماه تهافت الفلاسفة، فرد عليه ابن رشد بكتاب تهافت التهافت مبيناً التهافت الذي وقع فيه الغزالي بينما كان يذم التهافت. الواقع يؤكد أن شاهد الوقوع في التهافت عند ذمه يتكرر كثيراً في التاريخ، حتى بات شبه قاعدة. ومن أحدث أمثلة تهافت التهافت، حالة الهوس المفرط باليابان اليوم.
كانت مسلسلات الأنيمي اليابانية مقرراً دائماً على شاشات التلفاز العربية، واليوم تنتشر على شبكة الإنترنت بعيداً عن مرشح وزارات الإعلام ومؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك، وتُترجم عن اليابانية مباشرة في كثيرٍ من الأحيان، مما أدى إلى ذيوعٍ كثيرٍ من الكلمات اليابانية على ألسنة المتابعين العرب، وإلى شيوع اليبننة في محتوى النت العربي. أكاد أسمع كلمتي "أوهايو" و"أريغاتو" في كُل مكان اليوم، وحين الانفعال هُناك كلمة "بَغَا" - التي يُحاولون إقناعي بأن معناها "غبي" بينما يبدو مظهرها ونطقها مريباً، وعند الحديث هُناك صيغ الاحترام اليابانية المعقدة: سعيد سان للأصدقاء، وسعيد ساما للأكبر سناً، وسعيد كُن التي لا أعرف متى تُستخدم، ومزيدٌ من الألقاب المعقدة التي يُلحقها البعض بأسماء البعض الآخر عند التعامل، وتجعل الجامعة - لغير المتيبننين - والتجمعات الشبابية على شبكة الإنترنت وخارجها أماكن مريبة كأنها محافل ماسونية - لا سمح الله.
حتى الآن، لا إشكال، من الطبيعي أن يتأثر متابعو الأنيمي باللغة اليابانية مثلما يتأثر آخرون بلغاتٍ أخرى تدخل مفرداتها حديثهم اليومي. لكن المشكلة تبدأ حين يُصاب هؤلاء بحمى اليبننة، فتصير الحياة اليابانية مُنتهى أملهم في الحياة المثالية المنتجة المثيرة والحكيمة. وتصير المشكلة إشكالية عندما يُقدم المهوسوون باليابان هوسهم هذا بوصفه بديلاً صحياً عن التغريب، بدعوى أن الحياة اليابانية (أفضل) من الحياة الغربية. ومع تقديم الجزء الخامس من برنامج خواطر من اليابان، اكتسب الهوس بها بعداً دينياً، فالحكمة ضالة المؤمن، وقد وجدها في اليابان حيث الأنيمي والمانغا وساعات العمل الطويلة والشوارع النظيفة، فتكونٍ نادٍ جديد من الأرستقراطية الفكرية الإسلامية الشبابية العصرية المتيبننة والحريصة على تبيان تيبننها بشتى الطرق، بوصف التيبنن صفةً لازمةً للمُسلم العامل، حتى صارت اليبننة البديل (الإسلامي) للأمركة!
هُنا يتجلى التهافت بكل معانيه، فاليبننة - مثلها مثل الأمركة - تَمَثُل ثقافةٍ غريبة ونمذجتها بوصفها ما ينبغي أن تكون عليه ثقافة الفرد، والانبهار بقشورها دون مضمونها. ما يأخذه المتأمركون من الثقافة الأمريكية ليس سوى: "هاي"، "باي"، "بيس"، الراب والبوب التجاريان، الكوكاكولا والبيبسي، والتنمية البشرية. وما يأخذه المتيبننون من الثقافة اليابانية ليس سوى: "أوهايو"، "أريغاتو"، "بَغَا"، "يشمَي مساي"، الأنيمي والمانغا، السوشي، البلاي ستيشن، والدعوة إلى ساعاتِ عملٍ استعبادية يراها المتيبننون الحل الأوحد لتطوير حالة الأمة الإسلامية.
حالة اليبننة حالة غير إيجابية، لأنها حالة دخيلة مثل الأمركة - التي يحتقرها المتيبننون بوصفها رجساً من عمل الشيطان - ولأن اليابان - بالذات - لا تصلح مثالاً يُحتذى به لأيٍ كان.
اليابان بلدٌ صناعي متقدم، ومع أن المتيبننين أول من يقول إن التقدم الصناعي لأي شعبٍ يعني خواء أخلاقياً - بالضرورة - إلا أنهم يغضون الطرف عن كُل ما يُمكن أن يسم اليابان بالفقر الروحي. فمثلاً، اليابانيون من أكثر شعوب العالم انتحاراً، بينما تُحرم الأديان السماوية الانتحار الذي يُشكل جُزءاً من الثقافة اليابانية التقليدية. وبسبب ساعات العمل الاستعبادية، يموت الرجل الياباني عادة في الخمسين، أو أقل من ذلك. أما الناجون من الموت في منتصف العمر، فيواجهون الشيخوخة والذبول في مجتمعٍ شائخٍ شبابه أقل من شيوخه. في اليابان، يحدث أن يعتكف أفراد الأسرة الواحدة في غرفهم يلعبون بألعاب الفيديو من دون أن يخرجوا أو يقيموا أي صلةٍ إنسانية مع أي فردٍ في أسرهم أو خارجها. صحيحٌ أن هذا قد يحدث في أي مكانٍ، إلا أنه في اليابان شائعٌ بحيث لم يعد يُثير دهشة أحد، فاضطرابات العزلة تشيع في اليابان، والنفور من التواصل الإنساني مفردةٌ من مفردات الثقافة الشعبية اليابانية. هذه الاضطرابات بدأت تكثر في العالم العربي.
هُناك من يرى المجتمع الياباني أكثر المجتمعات شبهاً بالمجتمعات العربية، فالثقافة اليابانية تحتقر المراة بشكلٍ تقليدي، ويظهر هذا الاحتقار في الأنيمي والمانغا، حيث تظهر النساء بأشكالٍ أقرب إلى الدمى والقطط والأرانب منهن إلى النساء الحقيقيات، مما يؤدي إلى انتشار صورةٍ مغلوطةٍ عن الذات لدى الفتيات المتأثرات بالأنيمي. الثقافة اليابانية عنصرية كذلك، فسكان هيروشيما وناغازكي لا يزالون يُعرفون إلى اليوم بذوي الدم المسموم، والموظفون الأجانب الذين يُخطفون أثناء أدائهم لمهماتٍ خارج اليابان ويظهرون في التلفاز، يعودون ليعانوا نبذ الجيران لهم.
تشترك اليابان مع الدول العربية في رُهاب الأجانب الذي يُسيطر على مجتمعاتها، فالحصول على جنسية دولةٍ عربية أمرٌ قبل الغول والعنقاء والخل الوفي، ومثله الحصول على الجنسية اليابانية. لا يهم كم يمضي المرء من السنين في مجتمعٍ عربي أو ياباني، لأنه سيبقى أجنبياً دائماً في نظر المجتمع والدولة، حتى لو بدل اسمه واعتنق ديانة الدولة الرسمية.
تمتلئ الثقافة اليابانية بالتفاصيل المعقدة التي لا يُمكن الإلمام بها جميعاً، لكن الهجرة شرقاً ليست الحل، واليبننة مثل الأمركة وسيلةٌ لتدمير الثقافة العربية. لن يُنقذنا تعلم اليابانية، أو الاقتداء بنمط الحياة اليابانية لأن المجتمعات العربية تطورت في سياقٍ يختلف عن سياق تطور المجتمع الياباني، والثقافة العربية تكونت في ظروفٍ مختلفة. لا مشكلة في التعرف على الثقافة اليابانية - والأخذ عنها، أحياناً - لكن المشكلة أن تصير الثقافة اليابانية ثقافة بديلة مما يُعمق أزمة الهوية العربية.
لا يوجد نموذج موحدٌ يُمكن أن يسير عليه البشر، وأسوأ ما تفعله ثقافة التنمية البشرية التنميط والقولبة الذين تمثلهما اليبننة حالياً. فالمرء لن يتحرك إلى مكانٍ أفضل إلا إذا كان قادراً على فهم تجارب الآخرين، والاحتفاظ بنفسه على مسافةٍ منها، لئلا يُضيع من يكون، فلا صار يابانياً ولا بقي عربياً.

01 مايو 2010

صورة الأب

لا أتابع السينما المصرية الجديدة، فلا أحبُ رؤية الضحالة التي صارت علامةً فارقةً تُميزُ سينما جيلي. مع ذلك، يحدثً أن أشاهد فيلماً من الموجة الجديدة من حينٍ لآخر بدافع الملل أو الفضول، وفي كُلِ مرةٍ أكتشفُ مدىً جديداً للسخف الذي تقدمه السينما اليوم، وتأكيداً على أن مُهمتها الوحيدة "عمل الفلوس" كما يقول جمال مروان في إعلان ميلودي الذي يُعرض على القناة في هذه الآونة؛ عمل الفلوس بالتهريج، لا بالاحترام، فحتى الأفلام التي تدعي مُناقشةَ قضيةٍ ما تنتهي إلى ثقبٍ أسود من بؤسِ السيناريو، وسوء التصوير والأخراج، ورداءة التمثيل، والشعور بالحسرةِ على الوقتِ الذي انقضى في مشاهدةِ فيلمٍ سخيفٍ إلى درجة أن عدَ بلاطِ الغُرفة يُقدم فائدة تفوق فائدته، ومتعة تفوق متعة مشاهدته.
السينما صناعة، وكونها كذلك يعني أنه من أبسط حقوقِ المستهلك الحصول على سلعةٍ جيدة مقابل ما يدفعه؛ غير أن صناعة السينما في مصر - حاضرة العالم العربي السينمائية - تدخل في باب النصب العام. مع ذلك، يستمرُ المستهلكون في ضخِ الأموالِ في حسابات مليارديرات السينما، بينما لا أرى سبباً يدعو لدفعِ المالِ لمشاهدةِ أي فيلمٍ جديد: ليست هُناك قصةٌ جيدة، ولا إخراجٌ مقبول، ولا تصوير فني، ولا تمثيل جيد. في الواقع، لا توجد أي عوامِلِ جذبٍ في سينما اليوم، فلا البطلات جميلاتٌ - كما هُن بطلاتُ الأفلام القديمة - ولا الأبطال رجالٌ وسيمون. بطلاتُ اليومِ نساءٌ حمقاواتٌ، وأبطالُ اليوم شبابٌ (صفيق) كما جاء في فيلم عمر وسلمى بالحرف. (مع أنني لا أشعرُ بالارتياح لاستخدام كلمةٍ مثل "صفيق").
مع ذلك، تحقق مثل هذه الأفلام أرباحاً طائلة حتى أن أخي الأصغر قد توصل إلى استنتاجٍ مفاده أن الصيغة السحرية لنجاح أي فيلمٍ واحدة من اثنتين: "شعر صدر + أحضان + صفعات" أو "مخدرات + راقصة + قضية طنانة". باستخدام واحدةٍ منهما، لا يُمكن أن يفشل فيلم، ولا يُمكن أن يتعرض أيٌ منها للهجوم لأنها تقع في نطاق السينما (النظيفة)، وبذلك يكسب الممولون والمنتفعون مالاً (حلالاً) رغم أنهم يغشون في الصنعة، ويخدعون المستهلك.
كُل ما سبق لا يتجاوز كونه الطبقة السطحية لإشكالية أكثر عمقاً وأهمية: المُنتَج الناشئ عن تفكير هذا الجيل، والمُقولِب لتفكيره في الآن عينه. فنتيجة لتغير قيم المجتمع في السنوات العشر الأخيرة، تغيرت صورة الأب في السينما المصرية، ونتيجة لتغير صورة الأب في السينما، لم يعد مُمكناً إقناع الجيل الجديد بأن الأب شيء آخر غير المسخ الذي تقدمه السينما. في الأفلام القديمة، تحضر صورة الأب - حاضراً كان أم غائباً - محاطة بالتقدير والإجلال، حتى لو كان أباً ظالماً. كُل الآباء في السينما المصرية مراكز للهيبة لا يُمكن المساس بها، مهما كانت تصرفاتهم ظالمة وجشعة وأنانية.
على سبيل المثال، يشتكي حسن يوسف من أبيه الظالم في فيلم أنا حرة، فلا يجرؤ إلا على ترديد عبارة من كتابه: "وكان هولاكو رجلاً ظالماً"، ورغم أن الفيلم يُناقش تراجع الجيل القديم ليُفسح مجالاً للجيل الجديد، فإن شخصيتي الأب فيه حافظتا على احترامهما رغم أنهما صورتان لزمنٍ يذوي ويتراجع.
أما اليوم، فالأب حشاشٌ مُهرج في السينما، سواء كان من مليارديرات عصر الانفتاح أم من مسحوقيه. اختفت هيبة الأب التقليدية ليتحول دوره إلى مجرد زينةٍ للديكور الاجتماعي، ومُسهِلٍ للانحراف. حتى أن الأب فقد هيبته التي تجعله مصدر تعاسة الأبطال وشعورهم بالتهديد، فلم يعد يملك القدرة على التدخل في الأحداث بأي شكلٍ فعال، وصار أقل شأناً من أن (يَظلِم)، وتحول إلى مُجرد سنيدٍ للبطل (الابن) يشتكي من فواتير إنفاقه، ويتسابق معه ليفوز عليه بلقب الأشد (صياعة).
حين يُريد المنتجون - في سينما اليوم - إضافة عمق للفيلم، فإنهم يجعلون شخصية الأب تغضب مثلاً، لكن غضبتها تنتهي إلى لا شيء، لأن الأب قد فقد دوره المحوري بوصفه نقطة اتزان الكون، وتحول إلى مجرد مزودٍ مالي وشريكٍ في التهريج. لا يعني شيئاً أن يستاء الأب أو يغضب في السينما المصرية الجديدة، بينما كانت غضبة الأب في السينما القديمة تحقيقاً لمقولة: "غضب الأب من غضب الرب".
من المؤسف أنه لا يُمكن اختيارُ نموذجٍ بعينه لضرب مثالٍ عليه، فكل الآباء مهرجون: حسن حسني في معظم أفلامه الجديدة، ومنها فيلم إتش دبور، عزت أبو عوف سينمائياً وتلفزيونياً في أفلامٍ مثل عمر وسلمى ومسلسلاتٍ مثل العمة نور، حتى لطفي لبيب مهرج، مع أنه يُمثل عادة دور أبي الفتاة، والفتيات أقل (صياعة) من الفتية في السينما، خصوصاً البطلات اللائي يتزوجهن الأبطال في النهاية. وينسحب هذا التهريج على رجال الدولة كذلك، فأحمد راتب ليس إلا أباً مهرجاً في رامي الاعتصامي.
في الأفلام التي تُصنف على أنها أفلامُ (مثقفين)، يغيب الأب تماماً وتتلاشى صورته، فيتحول - إن وُجِد - إلى كيانٍ هُلامي يعيش على حدود مملكة الأبطال النفسية. البحث عن الأب في أحلى الأوقات لا يقود البطلة إلا إلى إيجاد زوج، لأن الأب الحقيقي مهرج عاطلٌ، والقائم مقامه مهرجٌ (شيك). في أوقات فراغ يغيب الأب تماماً، وفي أفلامٍ مثل دكان شحاتة، لا يحدث وجوده فرقاً أو غيابه.
تحول شخصية الأب إلى مهرج، وانسحاب هذا الدورِ على رجالِ الدولة، جعل التهريج ينسحب حتى على الشخصياتِ التي تُجسد الشيطان. رغم أن خالد صالح ممثلٌ ممتاز، إلا أن شخصيته في الريس عمر حرب أقرب إلى المهرج منها إلى الشيطان. هُنا، تتجلى إحدى صور معضلات هذا الجيل: قتل الأب كان دوماً الطريقة التي يتراجع بها النظام القديم، ويُفسح المجال لنظامٍ جديد يحلُ محله. أما الآن، فلا يوجد غير التهريج، ولا نظامَ جديد يحلُ محل النظام القديم. لم يعد هُناك صراعٌ لأن الجميع تساووا في الضحالة، ولم يعد للفضيلة معنىً أو للرذيلة، إذ لا يوجد اختيارٌ، ولا عُمق، ولا معنى لأي صراعٍ أو انتصار أو تسامٍ.