05 ديسمبر 2010

فاشية بالنعناع

اضطررتُ - مؤخراً - للإصغاء إلى إملاءات أحد المثقفين بخصوص الحالة الثقافية للعالم العربي، وغياب ثقافة التسامح والتأصيل المعرفي فيه - من جملة قضايا أخرى مُتنوعة. أخيراً، قاطع المثقف الكبيرُ نفسه وسألني: "ما آخر قراءاتك؟" فأجبت: "أُمبرتو إيكو." هز المثقف الكبيرُ رأسه في وقارٍ وواصل إملاءاته: "مُشكلة إيكو أنه لساني، وهذا يُفسد كتاباته." ثم مضى ينتقد ضعف أداء إيكو الروائي وجموده الشديد لكونه عالم لسانيات في الأصل. كان كلامه يحملُ قدراً من الصحة، لكنني قرأتهُ في عدةِ أماكِن قبل ذلك، وبدا لي كأنه يُردد رأياً سمعه لا كونه بنفسه. لم أُعلِق، فمضى يُعدد مثالِب إيكو: أنه عالمٌ لساني، أنه عالمٌ لساني، أنه عالمٌ لساني. ثم اقترح علّي قراءة إيزابيل أليندي إذ أن لها اشتغالاتٍ تاريخية في مرحلة ما بعد زورو. (روايات إيكو تاريخية كُلها، وكذلك روايات أليندي التي تربط بين تاريخ تشيلي وتاريخ الولايات المُتحدة الأمريكية مُنذ بيت الأرواح إلى الجزيرة تحت البحر).
بالنسبةِ لي، إيكو قروسطي، وهذا المفتاحُ الرئيسي لمعظم ما قرأته له من روايات - بغض النظر عن الجدليات اللسانية التي يدخلُ فيها. إنه يحكي حكاياتٍ مُسليةً عن الحالة الثقافية في القرون الوسطى، وإسقاطاتنا المُعاصرة عليها، ولديه مغامراتٌ طريفة، وحبكاتٌ مثيرة للاهتمام، وشخصياتٌ مميزة، بل إنه يكتُبُ شخصياتٍ ثانوية مثيرة للاهتمام أكثر من شخصياته الرئيسية (فريدريك بارباروسا، عبدول، سان سافان، أدزو،....). ورغم أنه يزورُ نفس أماكن هرمان هِسِه في نرسيس وغولدموند - مثلاً، إلا أن كتاباته أقل جموداً بكثير من كتابات هِسه الروائي غير اللساني.
والمسألة ليست ما يكتبه إيكو أو أليندي أو هِسِه، وإنما اعتقادُ المُثقف اليقيني بأن التأويل الذي يتبناه للنص التأويل الأوحد، وأن مقولاته في مُختلف القضايا التي عرضها فصلُ الخطاب، بحيث تصير أي فُرصةٍ يعثر فيها على شخصٍ يستمع له مُناسبةً لفرض إملاءاته عليه. لا تعود هذه الإملاءات إلى المثقف نفسه، وإنما إلى مُثقفٍ أكبر حجماً منه وأكثر مهابة، وهذا الأخير قد رضعها بدوره عن مُثقفٍ أكبر حجماً منه ومهابة، وهكذا إلى ما لا نهاية. المسألة تعود بنا إلى فرض الرقابة على التاريخ في جوهرها، فبينما تأتي المُطالبة بفرض رقابة على التاريخ صريحةً وواضحة تُلغي النص، يُصادِرُ النفوذ الثقافي تأويل النص ويُغلقه. ليس هذا خبراً جديداً، فأهمُ ما تعلمته في حياتي أن الفاشية موجودة في كُل مكان، وقادرةٌ على التكيف لتحافظ على بقائها.

النص الذي لا يقرأه أحد
لأن المثقفين الفاشيين يقرأون عادة دليل الفاشي الذكي إلى حياةٍ أكثر فاشية، فإنهم لا يفرضون رقابةً صريحةً ومُباشرةً على التاريخ، وإنما يلجأون إلى فرض الحصار على تأويل النص فيميتونه بهذه الطريقة. مُذ كُنت في الإعدادية وأنا أحضر ندواتٍ عن رواية مأساة واق الواق لمحمد محمود الزُبيري، وأقرأ مقالاتٍ ودراساتٍ لا تزيدني إلا نفوراً منها. في كُلِ مُناسبةٍ - ومن دون مناسبة أحياناً - لا بُد من أن تظهر جماعة تقيم ندوةً لدراسة مأساة واق الواق، تتحدث عن الأبعاد الوطنية والدينية واللسانية في الرواية - وهذه الأخيرة (موضة). حتى في كتاب الأدب المدرسي القديم كان ثمة إشاراتٌ إلى مأساة واق الواق - بوصفها واحدةً من الروايات اليمنية المُهمة وحسب.
كُنت قد عزمتُ في الجامعة على ألا أقرأ مأساة واق الواق ما حييت - وعلى أن أفرِ من الندواتِ التي تُعقد لها ما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً، وبقيتُ على العهد القديم، حتى صادفتُ باحثاً أجنبياً قرأها، فشعرت ببعض الخجل من رفضي لقراءة الرواية، وقررتُ أن أقرأها. عندما انتهيتُ من قراءة مأساة واق الواق، خلصتُ إلى نتيجة مفادها أنهم جميعاً يتحدثون عن رواية أخرى لم أقرأها.
بغض النظر عن استطرادات الزبيري الطويلة وخُطبه، فإن مأساة واق الواق تنطلقُ من سؤالٍ مركزي: أين اليمن؟ لا يزالُ هذا السؤالُ قائماً بعد اثنين وخمسين عاماً من كتابة الرواية، ولهذا السبب، كان واجباً وأدُ نص مأساة واق الواق، وتحويله إلى عجينة مائعة من الشعارات الأيديولوجية التي تُلائم القائمين على الندوات، ليستمرَ الفراغ في الاتساع.
يتحدث الزبيري بصراحة عن العقدة اليزنية التي لا يزال اليمنيون يعانون منها إلى اليوم، وهذه عُقدةٌ ترجع أصولها إلى سيف بن ذي يزن الذي يُقال إنه لم يُقاتل الأحباش بجيوشه اليمنية فقط، وإنما طلب معونة الفرس، فأرسل كسرى إلى اليمن ستمائة فارسي من المحكوم عليهم بالإعدام ليساعدوا سيفاً في حملته. بعد طرد الأحباش من اليمن، وتتويج سيف ملكاً، تسلط الفرس على اليمن عن طريقه، ومات هو بطريقةٍ مريبة، ليبدأ الحُكم الفارسي لليمن حتى مجيء الإسلام. ويبدو من روايته أن المفكرين اليمنيين كانوا يُناقشونها بصراحة في الأربعينيات والخمسينيات، وأن بعضهم قد أخذ على بعضهم الآخر تبعيتهم المُطلقة لمصر.
لأن الزبيري كتبَ روايته بعد إعدام كثيرين من المفكرين والأدباء اليمنيين في ما أعقب ثورة 1948، فإنه قد انشغل بالتبرير للجميع، وبتجميل صورة الجميع، حتى اليزنيين، لكنه مع ذلك لم يستطع أن يتجاهل العُقدة اليزنية وتجاهل مصر لليمن - أول الأمر - فانشغل العزي محمود - بطل روايته - بشرح مكان بلده ومأساتها لشيوخ الأزهر المصري الذين اهتموا بكل بقعة من بقاع الدنيا ما عدا واق الواق. وفي محاولته هذه، فإنه يبحث عن بلاده في كُل مكان، ويزور الجنة والنار ويحاور الثوار والطغاة وحتى الملائكة بحثاً عنها. الأمرُ الذي يرتجف النقاد منه فرقاً اليوم، ويتجاهلونه تماماً. والحديث عن مأساة واق الواق يطول.
في السياق ذاته، شكا إلّي زملاء من ندوة حضروها، تحدثت عن كتابٍ مُعين واصفةً إياه بأنه منهجٌ في علم التأويل - رغم أنه يخلو من أي إشارةٍ منهجية، ويكتفي بعرض قراءة سطحية للكاتب في نصٍ ما. قال الزملاء إن جميع النقاد المشاركين في الندوة قد وصفوا الكتاب بما ليس فيه، وكأنهم يتحدثون عن كتابٍ آخر، وأنهم حين حاولوا الاعتراض أُجلِسُوا.

طه حسين ما كانش يقصد!

تُشعِرُ الشكوى من ضعف التقدير الذي يُكنه الآخرون لأهمية عمل المرء الشاكي بالتميز، وقد ابتُليتُ بمقابلة أسرابٍ من الشاكين من كُل صنفٍ ونوعٍ حتى خرجتُ بنظريةٍ مفادها أن من يشتكي من ضعف تقدير الآخرين لأهمية ما يقوم به، يشعرُ بأنه قد أدى ما عليه بالشكوى، ويعجز عن إنتاج أي عملٍ ذي قيمةٍ بعدها. حتى الآن، أثبتت نظريتي غير مرة، ونجحت تتمتها التي تقضي بأن جميع الشاكين فاشيون بالضرورة بصورةٍ مُزعِجَة.
من ذلك، أنني - في نهارٍ شتوي شديد البرودة - قد أُجبِرتُ على الإصغاء لشكوى مُثقَفين اثنين من مُصادرة الآراء، وضعف التفكيرِ العام، وفرض الإملاءات القسرية على كُل من يحاول أن يُفكِر بمفرده، ومن إهمال الجامعة ومراكز البحث لاثنين من ألمع المفكرين مثلهما. وحيثُ أنهما قد كانا في مكتبةٍ عامة - والذوق يفرض عدم إزعاج الناس في مكتبةٍ عامة - فقد صدف وأن جلسَ قريباً منهما قارئ، وانهمك في قراءة كتابه. توقف المثقفان عن تبادل الشكوى، ونظرا إلى الفريسة، ثم سأل أكثرهما عدوانية: "ما الذي تقرأه؟"
"في الشعر الجاهلي." أجاب القارئ بحسن نية.
هز أكثرهما عدوانية رأسه وأشار للآخر: "هل رأيت؟ هذا ما كُنت أتحدث عنه! طه حسين لم يقصد أن يكتب في الشعر الجاهلي، وإنما اضطر إلى كتابته إرضاء لنزوات أستاذه الفرنسي الكاره للعرب!"
حاول القارئ الاعتراض على ما ذهب إليه المثقف، مُشيراً إلى أن طه حسين خرج بكتابه بعد دراسةٍ مُطولة، وإلى أنه كان مُقتنعاً بما قاله، فهز المثقف العدواني رأسه في خطورة: "أنت عارف إن طه حسين حوكم على هذا الكتاب؟" همهم القارئ بشيء ما فقمعه المثقف، "هذا جزء من بليتنا! مسكين طه حسين! اضطر إلى كتابة كتابٍ لأنه كان أعمى وفقيراً في باريس، ولكنه في النهاية تاب عنه."
"عفواً،" قال القارئ، "هل قرأت كتاب في الشعر الجاهلي؟"
فنظر إليه المثقف باحتقارٍ شديد: "لا، طبعاً! لكن قرأت ما قيل عنه."
 لكن هذا لم يُثِر اهتمامي بقدر مفارقة حوار المثقفين قبل ظهور القارئ قُربهما، وهذه مُفارقةٌ لن يسلم أي كاتب دراما من الانتقاد لو ضمنها واحداً من أعماله. ليس هذا لأن الجمهور عدواني مُتطلب، بل لأن الحياة مُبتذلة للغاية، وعلى كاتب الدراما أن يحولها إلى صيغةٍ مُتسامية. هذه شروط العقد الدرامي: لا تنسخ الحياة، اجعلها أفضل.
في تأملاتي الشخصية حول طبيعة الحياة والدراما، لم أنتبه إلى الكيفية التي تفاقمت فيها المُشكلة بين القارئ - الذي كان متحمساً - والمثقفين الفاشيين الذين أصرا على أن طه حسين قد تبرأ من في الشعر الجاهلي وأعلن توبته قبل مماته، وأنه ينبغي إعدام جميع نُسِخ الكتاب لتوبة صاحبه!

ماحدش أحسن من حد!

مع كأس العالم 2006 في ألمانيا، أخذت صورٌ لنصبٍ تذكاري مُكونٍ من الكُتِب تنتشرُ في كُلِ مكان، وصرتُ أسمعُ ثناءً على الألمان في كُلِ مكانٍ، فهُم قومُ ثقافةٍ وكتابٍ، كرموا كُتابهم بنصبٍ تذكاري هامٍ بينما يموت كُتابنا من الإهمال. لكنني لم أتحمس للنصب، فقد شعرتُ بأنه يفتقر إلى شيء ما - غير الجمال. هُناك اسمٌ ما ناقص، وقد تفطنت إليه أخيراً: لا يُوجَدُ في النصب إشارةٌ إلى فريدريك نيتشه! الألمان مثلنا - والفاشية لا تعرف ديناً أو عرقاً على كُل حالٍ - يُمارسون النبذ والإقصاء، ويحذفون كُتاباً مُهمين لمُجَرَدِ أنهم لا يتلاءمون مع الصورة العامة التي تحاول السُلطاتُ الثقافية تكريسها عن البلد وترويجها.
إن فريدريك نيتشه أديبٌ أكثر إثارة للاهتمام من توماس مان - مثلاً - وأكثر تأثيراً، وفلسفته لا تقل أهمية عن فلسفات كانت وهيغل. لكن إضافة اسمه إلى النصب قد تتسبب في كارثةِ علاقاتٍ عامة للقائمين على تنظيم كأس العالم، فكثيرٌ من الفاشيين الأوروبيين والأمريكيين سيلوكون حديث النازية والمحرقة، إذ أن اسم نيتشه موصومٌ بالنازية. لذلك اتخذت الفاشية الألمانية الطريق الأسهل، فأنكرت نيتشه وشوبنهاور وكُل من لا يُناسِبُ موجة جلد الذات الألمانية العامة. ووفقاً لترتيبٍ فاشي ذكي، احتل غونتر غراس قمة الهرم، لا لأنه أحدث الكُتاب زمناً - فالهرم غيرُ مُرتبٍ زمانياً - وإنما لأنه أكثر جلادي النازية قسوة - قبل أن يُقر بأنه كان فرداً في شبيبة هتلر. ولأسبابٍ مُشابهة قفز مارتن لوثر فوق كانت، وتوارى ماركس تحت الأخوين غريم. هكذا، يصيرُ نصب الكُتاب الألمان واحداً من أكثر أعمالِ الفاشية إبداعاً وذكاء.

قضية عباد الشمس

وبالحديث عن الإبداع الفاشي، تذكرتُ الاتصالَ الهاتفي الذي أثار ضجة قبل مُدة، إذ اتصلت سيدةٌ بأحد برامج الأسئلة الدينية، وتحدثت بُحرقة عن شيوعِ نباتٍ كافر لا يعبد الله، اتضح أنه عبّاد الشمس. السخرية من مشاعِرِ الناس مُعيبة، وقد تعرضت هذه السيدة لكمٍ كبيرٍ من السخرية. المشكلةُ في العقلية التي أفرزت مثل هذا الهجوم العاطفي على عبّاد الشمس، والعقلية التي تحاولُ أن تدعي العقلانية فتقول إن عبّاد الشمس ينبغي أن يُسمى دوار الشمس أو تبّاع الشمس. كُل هذه الزوبعة الفاشية عاطلةٌ عن العقل، فعبّاد الشمس مخلوقٌ لا يُفكِر، والشمسُ مخلوقٌ لا يُفكِر، ومن لا يُفكِر لا يختار. كذلك لا يفعل من يتجاهلون التسمية الاستعارية لعبّاد الشمس، ومن يعتقدون فعلاً أنه نباتٌ كافر يتسبب في كفر من يتعاطونه.
على أيِ حالٍ، أعتقد - شخصياً - أن الفاشية الخلّاقة إنما تكمن في خُطةِ شركاتِ زيوت الذرة لضربِ سوقِ زيوتِ عبّاد الشمسِ في مقتل بعد أن تعددت مصانع زيوت عبّاد الشمس العربية، وتغلبت على سوق زيوت الذرة حتى كاد يُشَلُ. إنها حقيقة يُدركها العالم أجمع، أن المال حليف الفاشية الأكبر.