15 ديسمبر 2011

شفاء عين المُبتلى

في فيلم ممر إلى الهند (١٩٨٤) مشهدٌ شهير: يذهب مُدير المدرسة المتعاطف مع الهنود - ومع الطبيب عزيز على وجه الخصوص - لزيارة الطبيب عزيز في بيته - وعيادته - بعد أن أسقطت الآنسة كويستِد التُهَم الموجهة إليه، ليُهنِئه بالبراءة ويطلب منه ألّا يواصل قضية التعويض التي قرر محاميه (السياسي) رفعها ضدها. يُقابله الطبيب عزيز وهو يُنهي استعداداته للخروج لحفل انتصاره، مُكَتحلاً، مُرتدياً ثياباً هندية تقليدية، ويقول له: "لقد اكتفيت من الإنكليز! أنا الآن هندي." 
يبدو المشهدُ وكأنه شفاء عزيز من عُقدته الإنكليزية، واعتناقه لهنديته، بعد أن حوكِم، وأُهِين، وأُهدِرَت آدميته في قضيةٍ تورط فيها بسبب عُقدته الإنكليزية ذاتها. لكن عزيزاً - في آخر الفيلم - يصرخ: "مسز مور! مسز مور!" بعد أن قطع ريتشارد فيلدنغ - مدير المدرسة - البحور ليقابله هو وزوجته، ابنة السيدة مور. لَم يُشَفَ عزيز من مرضه الإنكليزي، ولن يُشفى، مثل كُل أبناء المُستعمرات.

ضمير استعماري
ممرٌ إلى الهند - الفيلم - تُحفة سينمائية، لكن هُناك بضع خُرافاتٍ قد شاعت عنه، أهمها أنّه يتعاطف مع المُستعمرات وسكانها، وأنّه يُقدم نقداً للكولونيالية الأوروبية من حيثُ تعاملها مع المُستعمرات. الخُرافةُ ذاتها تشيعُ عن الرواية، غير أنّه لا إي. إم. فورستر ولا ديفد لين مُتعاطفان حقاً مع أبناء المُستعمرات، ولا يعنيهما حقاً ما أصابَ الطبيب عزيز. فيلم ممرٍ إلى الهند - مثله مثل المريض الإنكليزي (١٩٩٦) وحفنةِ أفلامٍ أخرى تدور في المُستعمرات - فيلمٌ عن أزمةِ ضميرٍ تتعرض لها شخصياتٌ أوروبية بيضاء، ويكون دور المُستعمرات فيها شبيهاً بدور الأحراش في قلب الظلام: نزعٌ للشخصيات من سياقها المكاني وجعلها تواجِه سياقها الفكري في مكانٍ جديد، displacement. (مثيرٌ للاهتمام أنّه في قلب الظلام وممر إلى الهند، هُناكَ حديثٌ عن "ضربة الشمس" التي تصرعُ الرجال البيض والنساء).
غير أن ممر إلى الهند فيلمٌ ممتازُ الصنعة، وعرضه لطبيعة العلاقة بين المُستَعمِر والمُستَعمَر جديرٌ بالتمعِن فيه. في البداية، هُناك سياقان مُختلفان: السيدة مور والآنسة كويستد ذاهبتان إلى الهند لزيارة ابن السيدة مور من زوجها الأول ويُفترَض أن الآنسة كويستد ستتزوج ابن السيدة مور. في الهند، الطبيب عزيز أرملٌ يعيش بعيداً عن ولديه، ويعتني جيداً بأفراد مُجتمعه الفقير. واضحٌ منذ البداية أن عزيزاً ليس كاسمه أبداً في مواجهةِ البريطانيين، إذ يصله أمرُ استدعاء في وقتٍ مُتأخر فيهرع من دون تأخير، وتأخذ سيدتان إنكليزيتان عربة الرِكشا التي استأجرها. قبل ذلك، تُسقطه عربةٌ بريطانية هو وصديقٌ له، وهما يرتديان ثياباً أوروبية بالكامل، ويتحدثان بالإنكليزية. الإنكليز يحتقرون عزيزاً، وعزيز يتعامل معهم باستخذاء تام.
يلتقي عزيز بالسيدة مور حين يذهب إلى المسجد، ويجلس ليتأمل البحر، فتدخل السيدة مور وقد وضعت وشاحاً على رأسها وخلعت حذاءيها. ويُقدم الفيلم دخولها كأنه أمرٌ ميتافيزيقي. (في الفيلم حملٌ ميتافيزيقي كبيرٌ يُخفف من حدة لومِ الكولونيالية). يحاول عزيز أن يُخرجِها من المسجد لأنّه مُعتادٌ على السيدات الإنكليزيات اللائي يتسللن بأحذية إليه، ويُفاجأ بأنها تحترم التقاليد الإسلامية. مُحاولةُ عزيز الدفاع عن المسجد الأمرُ الوحيدُ الذي سيبدو فيه مُقاوماً للإنكليز، وفيما عدا ذلك، فإنه تابعٌ للإنكليز. منذ لقائه بالسيدة مور، يتعلق عزيز بها كما لو كانت قديسة، وهو هنديٌ محروم، يُثبت نظرية غُلاة الاستعماريين البريطانيين عن وجوب تجنب أخذِ أبناء المُستعمرات باللين والرقة.

عزيز وفيلدِنغ
واحدٌ من مشاهِد الفيلم الرئيسية المشهدُ الذي يُدعى فيه عزيز لمُقابلة السيدة مور والآنسة كويستد في منزل مُدير المدرسة، ريتشارد فيلدنغ. عزيز منبهرٌ بكُل شيء يراه، فضولي إزاء كُل شيء، ولا يتحلى بالكياسة لينتظر حتى يفرُغ فيلدنغ من ارتداء ملابِسه. مع ذلك، فإنه يخلع دبوس ياقته ويُعطيه لفيلدنغ عندما ينكسر دبوسه، مُدعياً أن لديه دبوساً آخر. تخلي عزيز عن جُزءٍ من هندامه ليُحسَن من هندام الإنكليزي مشهدٌ كان ليجعل نيتشه يقفز من مقعده صارخاً: "هذه أخلاق العبيد! هذه أخلاق العبيد!" (وفيما بعد يقول هِسلوب - ابن السيدة مور - إن عزيزاً جاء مرتدياً ثياب الأحد ونسي دبوس الياقة، لأنه يستحيل أن يفعل أبناء المُستعمرات شيئاً لائقاً، أو أن يفهموا معنى أن يكون الإنسان "جنتلمان").
عزيزٌ مأخوذٌ باللطف الذي يتعامل به معه الإنكليز الثلاثة، السيدة مور والآنسة كويستد والسيد فيلدنغ، ويرغب في أن يُعبر عن امتنانه لهم. فيدعوهم إلى بيته، ثم يتذكر أن بيته حقيرٌ مُقارنة ببيوت الإنكليز الفاخرة - وينسى أن الإنكليز يُقيمون في بلده، ويبنون بيوتهم الفاخرة من عرق أبناء جلدته - فيدعوهم إلى رحلةٍ نحو منطقة كهوفٍ قريبة من المدينة (تشاندرابور) لم يزُرها في حياته أبداً. توافق الآنسة كويستد فوراً، لأنها ترغب في رؤية تلك المنطقة مُذ كانت في إنكلترا، ويتورط عزيز في تدبير تكاليف الرحلة.
قبل الرحلة، ثمة حدثٌ مهمٌ آخر. يمرضُ عزيز فيعوده فيلدنغ، ويُفاجأ عزيز - وقومه - بالزيارة، ويتصرفون بقلق وارتباك، ويقدمون له عدة مقاعد، ويفقد عزيز أعصابه فيصرخ في بني جلدته. ثم يصرخ في محامٍ شاب (يُزعج) السيد فيلدنغ بسؤالٍ عن الاستعمار، يتملص منه فيلدنغ بطريقة الغربيين في (الفهلوة) الفكرية.
ثم يتدبر عزيز أمرَ إبقاء فيلدنغ عنده في مناسبةٍ أخرى، وحدهما، ويعرض عليه بيته، وصورة زوجته الراحلة، ليُشرِكَه أعزَ ما يملك. يُحاول عزيز بذلك أن يبني جسراً بينه وبين فيلدنغ، وأن يردَ لفيلدنغ لطفه وكرمه، لأنه لا يرى نفسه مساوياً له، ولذلك فإنّه يحاول إيجادَ أرضية مُشتركة بينهما. ويقترح على فيلدنغ الزواج بالآنسة كويستد وإنجاب ابناء، ثم يتحدث عمّا "لا يفهمه الشرقي" حين يقول فيلدنغ إنّه لا يكترث بالحفاظ على اسمه. عزيز يمضي - بعد أن عرض صورة زوجته على فيلدنغ - ويعرض عليه بعضاً من نساء بلده، الأمرُ الذي يرفضه فيلدنغ.

إمبراطور المغول
يُرسل هِسلوب أحد خدمه ليحرسَ أمه وخطيبته، لكن عزيزاً يصرفه، ويُعطيه بعض المال. عزيز يُريد أن يظهر بمظهر صاحِب السُلطة مع (أصدقائه) الأوروبيين، لذلك يصرفُ مواطِنه بـ(قرشين). تركب السيدة مور والآنسة كويستد القطار معه - وإن كان هو في عربة الدرجة الثالثة، بطبيعة الحال - وتفاجآن به يقفز متعلقاً بنافذة القطار كأنه قرد، جيئةً وذهاباً بين مقصورته ومقصورتهما ليطمئن عليهما. مُنزِعجاً من عدم استطاعة فيلدنغ اللحاق بهما. عزيز يعتبر السيدة مور قديسته، ويرى في فيلدنغ مثلاً أعلى له، لكن الآنسة كويستد لا تملكُ مكاناً واضحاً في علاقته بالبيض، وعلاقته بها تتأرجح ما بين الإعجاب بها بوصفها امتداداً للسيادة البيضاء، وعداء لها لأنها امرأة عزباء وغير جذابة.
في منطقة الكهوف، يستأجِر عزيز فيلاً ويركب عليه مع المرأتين الأوروبيتين. تتحول الزيارة إلى موكب شعبي، ويقول عزيز إنه يشعر وكأنه إمبراطور، مثل أسلافه المغول. هو يركب الفيل مُنتصراً مع امرأتين بيضاوين هما (ضيفتاه)، ويُحيط به أبناء شعبه الذين يعتبرونه قادماً من عالمٍ آخر بسبب الصُحبة التي تُرافقه. عزيز يُحقق نفسه من خلال خيالٍ (هونتولوجي) يعود إلى الماضي، لا ليقاوم المُستعمر، وإنما ليقول له: إنظر، أنا أيضاً كُنت آمرُ وأنهى وأضطهد. عزيز يتمثل المستعمر البريطاني في خيال إمبراطور المغول، والقمعُ لا يقع إلا على أبناء جلدته. فالمثالُ الذي يستخدمه إنمّا يرمي إلى إثارة دهشة الأوروبيين، وإرضاء خيالاتهم عن الشرق الغرائبي بأباطرته.
تنزعج السيدة مور من الصدى والازدحام، فتذهب لترتاح، وتطلب من عزيز التخلص من (الحاشية) والذهاب لاستطلاع بقيةِ الكهوف مع الآنسة كويستد والدليل. عقب صعود الجبل، تحصلُ الكارثة. عزيز يذهب للتدخين، الآنسة كويستد تنزل راكضة مجروحة.

ربع قرنٍ قبل الاستقلال
يُعتقَل عزيز، تُصادر مُحتويات منزله، وتبدأ إجراءات المُحاكمة، فيما الشارِع الهندي يغلي. أبناء جلدةِ عزيز الذين (يشخط فيهم) هُم من يجمعون مالاً ليساعدوه في (المنظرة) على الأجانب، وهم من يثورون لاعتقاله. يتطوع اثنان من المحامين للدفاع عنه، منهما صديقه الذي صرخ فيه لسؤاله فيلدنغ عن الاستعمار، ويُكاتبان مُحامياً شهيراً اسمه أمريت رو للدفاع عن عزيز، فيتبرع بأجره ووقته. حين يعلم فيلدنغ بذلك، يصرف الفكرة لأن أمريت رو "سياسي أكثر من اللازم". قد يكون موقف فيلدنغ مُنطلقاً مما يراه الأصلح لنجاة عزيز، لكنه كذلك يتفق مع الرؤية البريطانية لما يصورونه على أنّه "ألاعيب أمريت رو السياسية". 
مُشكلةُ البريطانيين مع أمريت رو أنّه يربطُ كُل شيء باستعمارهم للهند، وهم يرغبون في (الترفع) على هذه القضية، والانتقال نحو أرضية مُشتركة للحوار تؤدي إلى التقدم. نفسُ الخطاب الاستعماري يُعاد إلى اليوم. مع ذلك، يستعين المحاميان المُسلمان حميد الله وعلي بالمحامي الهندوسي أمريت رو لأنّه سياسي حاذق ومُحامٍ شهير، يعرف كيف يتعامل مع الإنكليز.
تعود السيدة مور إلى إنكلترا لأن هذا موعِد رحلة عودتها، ولأنها لا ترغب في البقاء لشهود المهزلة، مهزلةِ عدالة الهنود. ثمة مقولة شهيرة من زمن الاحتلال البريطاني عن "عدالة الهنود"، ففي تاريخ بريطانيا الاستعماري، حظي الهنود بمُحاكمات ذات قضاة مستقلين ومُحلفين ومحامين، لكن العدالة الاستعمارية لم تُبرئ مُتهماً هندياً في تاريخها. لقد حظي الهنود بمحاكمات (الرجال الإنكليز) من دون حقوقهم. 
هِسلوب - ابن السيدة مور وخطيب الآنسة كويستد - هو قاضي المدينة المحلي، لذلك يُنيب عنه نائبه، ويحضر المُحاكمة مع خطيبته، الآنسة كويستد. نائبه هندي - كالعادة في المستعمرات - وهو قاضٍ مُتوتر يزدريه الإنكليز ويرفضون احترامه في المحكمة، ويحتاج إلى إيماءةِ من هسلوب ليعمل. الهنودُ في المحكمة - القاضي والمُتهم والمحامون - قلقون، خارج المكان، بحاجة إلى تأكيد لوجودهم، وكأنهم ضيوف ثُقلاء على أصحاب المكان. (باستثناء أمريت رو، الخبير بالحيل الإنكليزية).
مُحامي الادعاء عسكري بريطاني يُقيم قضية على أدلة ظرفية. بين الادعاء والدفاع تُرمى ورقة السيدة مور، مع إنها ليست حاضرة. ينفعل مُحامي عزيز الشاب ويسب المحكمة، ثم يخرج ويخاطب الجماهير: "لقد أخفوا عنّا السيدة مور!" تهتف الجماهير: "مسز مور! مسز مور!" يُطالب الهنود بالعدالة البريطانية، بالسيدة مور. إنهم بحاجة إلى قديسة تُعيد لهم ابنهم الذي سيأكله المستعمرون، قومها.
في النهاية، تُسقِط الآنسة كويستد الاتهامات، فينفض عنها المُجتمع البريطاني في الهند بأكمله، ويُدينها. ويرتاح القاضي الهندي، لأنّه قد أُعفي من أن يكون أداة لتطبيق "عدالة الهنود"، مع أن هذا الدور الذي يختصُ به المُستعمرون موظفيهم من أبناء البلد. وحين تخرج مُترنحة من الباب، يُرحب بها الهنود ظانين أنها السيدة مور. الوضع مأساوي، من حيث كونه نقمة ورحمة في الآن ذاته. نعمةً لأن أديلا كويستد كانت في حالٍ يُرثى لها، ونقمةً لأن الجماهير قد حُرِمَت من أن تكون "مُحسِنة". لقد ظنت المُسيء مُحسناً، وباركت جلادتها على أنها قديستها.
بعدها، أخذ أمريت رو في ألاعيبه السياسية التي قادت إلى المشهد الذي تُفتتح به هذه التدوينة. شفاء عزيز من مرضه الإنكليزي، واعتناقه لهنديته. يقول عزيز لفيلدنغ: "قُل لها أن تشتري زوجاً بالمال." ويُبكته: "سيقولون، هذا رجلٌ نبيل، كان ليكون رجلاً جنتلمان لولا لون وجهه!"

ضمير استعماري
غير أن القصة ليست قصة شفاء الطبيب الهندي عزيز أحمد من مرضه الإنكليزي، وإنما قصة الشمس التي تصرّع الأوروبيين في المُستعمرات. القصةُ عن التعرض للتجربة في الشرق، ونقد المُجتمع البريطاني لذاته، من حيثُ الكيفية التي يقمع بها رغباتِ بعض أفرادِه في العيشِ كما يروقهم في المُستعمرات. ريتشارد فيلدنغ وأديلا كويستد والسيدة مور لا يحملون أجنداتٍ استعمارية كالتي يحملها هِسلوب والحاشية البريطانية، لكنهم جزءٌ من النسيج الاستعماري، والشرقُ بالنسبة لهم رحلةُ تطهيرٌ روحية. إنّه مكانٌ أنثروبولوجي، مكانٌ محفوظٌ في التاريخ وفقِ هيئةٍ مُعينة، تُتيح لهم رؤية حضارتهم هم وفق نسقِ الانتزاع من السياق المكاني للتأكيد على السياق الحضاري.
لا يعني هذا أنّه على الإنكليز أن يكفوا عن كونهم كذلك، لكن عليهم أن يكفوا عن تحويل الشرق مسرحاً لتطهيرِ أرواحهم هم، مُقابِل سحق روح سُكان المكان. إذ أن مُمارستهم هم لنزع أنفسهم من السياق المكاني لحضارتهم، ينزع السُكان الأصليين من السياق الحضاري لمكانهم. إنّه إخلالٌ بالمكان والزمان الحضاري للآخر.

نزعُ الإنسانية
في الفيلمِ إيحاءات كثيرةٌ تخلطُ البشر بالقرود في الهند. من القردة التي تُهاجِم الآنسة كويستد في المعبد الهندي المهجور - المليء بتماثيل شهوانية - إلى البشرِ الذين يرتدون هيئات القردة، إلى عزيز نفسه الذي يتعلق على القطار، ويتحرك بطريقةٍ أقرب للحيوانات منها إلى البشر. الفيلمُ يترك الأسئلة مُعلقة: من هاجم الآنسة كويستد؟ هل كانت ضربة شمس؟ لماذا طاردتها القردة؟ لماذا يُلاحقها الذي يتزيا بهيئة القردة؟ 
الهندُ كُلها هاجمت أديلا كويستد. الهند الحسية، المُزدحمة، التي يُخالِط البشرُ فيها الحيوانات. الهندُ التي تقطنها أعراقٌ غريبة، عاداتها غريبة، أرضها مرصودة للسحر. الهندُ التي يصورها الخيالُ الاستعماري البريطاني موطناً لكُل ما هو غرائبي و"شرقي". ويتصورها تسترق النظر إلى نسائه بعين حيوانية شرهةٍ.

الرُعب! الرُعب!
يُمضي الطبيب عزيز سنيناً في كشمير، بعيداً جداً عن تشاندرابور وأحداثها، وبعيداً عن ريتشارد فيلدنغ الذي يعود إلى بريطانيا. يأتي فيلدنغ لزيارته بعد أن توصل إلى مكانه أخيراً، ويرفض عزيز في البداية الحديث معه، ثم يواجهه بما يجده في نفسه عليه، من أنّه تزوج عدوته التي لطخت سمعته وسرقت ماله. لكن فيلدنغ لم يتزوج الآنسة كويستد - كما توقع عزيز - وإنما تزوج ابنة السيدة مور من زوجها الثاني، إستيلا مور. يتغير ميزانُ الأمورِ من وجهة نظرِ عزيز. فيلدنغ تزوج من ابنة القديسة، السيدة مور - التي ماتت في البحر أيام مُحاكمته - وبذلك عاد إلى كونه "صديقاً". 
في النهاية، يصرُخ عزيز، مثل الجماهير التي كانت تنتظر عند المحكمة، "مسز مور! مسز مور!" لقد عادت إليه الثقة بالإنكليز، وبإحسانهم. لقد مدّت المُحسنة إليه يداً من الرحمة حتى بعد موتها. عزيز يرتدي الثياب الهندية الآن، لكنه لا يزال عزيز نفسه الذي يصرخ في ولديه، ويتوتر في مواجهة الإنكليز. حتى أنّه - في النهاية - يُسامح الآنسة كويستد، ويُقدر شجاعتها في إسقاط التُهَم.
في قلب الظلام، يصرخ كرتز: "الرعب! الرعب!" عند وفاته، لأنه يُدرك الهول الاستعماري الذي كان جزءاً منه في حياته. الردُ على "الرُعب! الرُعب!" يأتي في هيئة الصرخة: "مسز مور! مسز مور!" لقد أدرك المُستعمِر الرُعب، لكن من وقَع عليه العذاب، لا يزال - ياللرعب! - يأملُ في رحمته.

08 ديسمبر 2011

زومبي

رأسٌ آخر يتدلى خفيضاً،
طفلٌ آخر يُدّمَر ببطء.
والعُنف يُعقِبُ صمتاً كهذا.
بحق مَن نحنُ مُخطئون؟

غير أنّك ترى، أنه ليس أنا، وليس عائلتي.
في رأسك، يتقاتلون في رأسك،
بدباباتهم وقنابلهم
وقنابلهم وبنادقهم
في رأسك، في رأسك، صارخين!

في رأسك، في رأسك،
زومبي، زومبي، زومبي!
هيه، هيه، هيه!
ماذا في رأسك؟
في رأسك؟
زومبي؟ زومبي؟ زومبي؟

وقلبُ أمٍ مفطورٌ آخر، يَعُم.
حين يُعقِبُ العنف صمتاً،
فإننا مخطئون، ولا شك!

إنه الفريق القديم ذاته،
منذ ١٩١٦*،
في رأسك، لا يزالون يتقاتلون في رأسك،
بدباباتهم وقنابلهم
وقنابلهم وبنادقهم.
في رأسك، في رأسك يموتون!

في رأسك، في رأسك،
زومبي، زومبي، زومبي!
هيه، هيه، هيه!
ماذا في رأسك؟
في رأسك؟
زومبي؟ زومبي؟ زومبي؟

* انتفاضة عيد الفصح الإيرلندية في ١٩١٦، نتجت عنها مذبحة بشعة قامت بها القوات البريطانية، وحملة إعدامات بالجملة حصدت مُعظم من لهم علاقة بحركة التحرر الإيرلندية، حتى أن شاعراً مثل ويليام بتلر ييتس قد كتب عنها واحدةً من أجمل قصائد الشعر الإنكليزي بعنوان "عيد الفصح، ١٩١٦"، وفيها السطر الذي يُعتبر علامة على القرن العشرين: "وُلِد جمالٌ رهيب".