22 فبراير 2018

أشباح إيكو

وصف أمبرتو إيكو الكاتب الأمريكي دان براون بأنّه شخصية من اختراعه — خرجت من متاهات روايته بندول فوكو — بعد ذيوع شهرة رواية براون، شفرة دافنشي، التي يعتبرها البعض ”اسم الوردة للمبتدئين“. في ذلك الحين، بدا وصفُ إيكو لدان براون نوعاً من التنمر الأبوي الذي يُمارسه أساتذة الجامعة الراسخون في العلم ضد زملائهم الأصغر سناً ومكانة وتلاميذهم، إذ أنّه من المُهِم للأكاديمي الذي يريد أن يرتقي في مدارج الأكاديميا أن يكون سريع البديهة، ذا لسانٍ سليط قادرٍ على الإتيان بنُكتة سريعة يضع بها القادم الجديد في (مكانه). لكن، مع مرور الزمن، يظهر أنّ تعبير إيكو لم يكُن مُجرد استئساد، وإنمّا نبوءة.
التشابه بين اسم الوردة وشفرة دافنشي سطحي، إذ أنّ اسم الوردة تتعلق بجدلٍ لاهوتي قديم حول فقر المسيح، وتداعيات ذلك على العالم المسيحي في ذلك الوقت — وفي وقتنا الحاضر. من السهل، للقارئ غير المُدقق، أن يجد المسألة عبارة عن سفسطة كنسية لا محل لها من الإعراب، لكن السؤال عن فقر المسيح هو سؤالٌ عن الرأسمالية، وعن مصادر الثروة وكيفية توزيعها. وفقر المسيح أداة سياسية يُمكِن استخدامها بطُرقٍ مُختلفة لأغراض مختلفة. في المُقابل، تتعلق شفرة دافنشي بقيام الكنيسة بإخفاء زواج المسيح وسُلالته التي لا تزال مُستمرة إلى يومنا هذا — ويأخذ المرء انطباعاً من القراءة عن حُراس سلالة المسيح في الرواية أنّهم قد نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وتحولوا جميعاً إلى الوثنية. كان يمكن أن تكون ، شفرة دافنشي كتاباً ذكياً، مثل اسم الوردة، لكن دان براون يُحب رؤوس الأقلام، والعروض التقديمية، والمحاضرات التشجيعية، والقوالب المُحددة سلفاً، والكتابة بإنكليزية تُشجع القُراء على كتابة القصص بدورهم، من باب أنّهم لن يستطيعوا أن يجيئوا بنثرٍ مقروء أسوأ من نثره.

بندول فوكو

 

رواية بندول فوكو قد تكون ثاني أشهر روايات إيكو بعد اسم الوردة، وفيها (القالب) الروائي الذي يتبناه إيكو في رواياته التالية، فـ بندول فوكو تدور حول ثلاثة مُحررين يعملون في دار نشرٍ تنشر للكُتاب بأجر تقبضه منهم، يزورهم رجلٌ لديه كتابٌ عن مؤامرة تاريخية، ويُقررون هُم إكمال المؤامرة من أذهانهم، وبمُقارنة رموز التنظيمات السرية، وطرائق العبادة في أماكن مُختلفة، وبعض الحوادث التاريخية. وعلى مدار الرواية، يجد القارئ نفسه مُحاصراً بالكثير من التنظيمات السرية وشبه السرية: فُرسان الهيكل، الروزاكروتشي، اليسوعيون، إخوان الصفا، . . . والمواعيد التاريخية التي لا تتفق بسبب تغيير التقويم. ثُمَ، حين يظنُ المُحررون أنّ المؤامرة الشاملة الجامعة المانعة التي ابتكروها من نسيج خيالهم ستبقى حبيسة خيالهم، يجدونها تتحرك من تلقاء ذاتها.
نظرية المؤامرة مُبهجة للقُراء دوماً، وقد يعود ذلك إلى طبيعة التفكير البشري بحد ذاته، فالبشر ميالون إلى رؤية الأنماط في كُل مكان، كما أنّ وجود مؤامرة ما في العالم ينفي عنه العشوائية التي يجدها معظم الناس محيرة وعبثية. الكشف عن المؤامرة يُعطي القارئ إحساساً بأنّه يمتلك ذكاء أعلى من ذكاء الآخرين، وأنّه قد صار على معرفة عميقة بشيء لا يعلمه إلّا قلة من الناس، الأمر الذي يقود إلى الفخ المعرفي التالي للعقل البشري: اعتقاد المرء أنّه يعرف الكثير فيما لا يعرف إلّا أقل القليل. وفي كل روايات إيكو، ثمّة مؤامرة، كما في كل روايات دان براون. وبرغم الاختلافات بينهما، إلّا أنّ دان براون يعكس في أعماله صدى لفلسفات إيكو، خصوصاً فكرته عن التنميط الفكري.

الأنماط

 

يقول إيكو إنّ التفكير البشري ميال لتكوين الأنماط بصورة غير واعية، لذلك فإنّه ثمّة نسق تنتظم الأشياء وفقه حتى لو لم تكُن ثمّة مؤامرة فعلية، ويضرب على قوله مثالاً يتعلّق بالصحافة، فحتى لو حاول محررو الأخبار ترتيب نشر الأخبار في الصفحات الداخلية لصحفهم بشكلٍ عشوائي، فإنّ ثيمات ستظهر رابطة الأخبار بعضها ببعض من دون أن يكونوا واعين لذلك، وستتشكل انطباعات معينة لدى القارئ بأن هناك تركيزاً على جانبٍ ما، رغم عدم وجود نية لدى محرري الأخبار لترتيب الأخبار وفق ثيمة معينة.
كما يرى إيكو أنّ نظرية المؤامرة جزء لا يتجزأ من التفكير البشري، وهي قادرة، على إنتاج الآليات التي تضمن استمرارها وانتشارها. وفي محاضراته حول حدود التأويل، ذكر إيكو قصة طريفة عن شخص قرأ بندول فوكو، وقرر تتبع مسيرة أحد أبطالها في الليلة التي عينها إيكو في باريس، واستشار إرشيفات المدينة، فوجد أنّه في الليلة التي عينها إيكو في روايته، كان حريقٌ كبير قد شب في أحد الشوارع القريبة من مسار الشخصية، ولم يكن ممكناً إلّا أن تراه الشخصية، لكن إيكو لم يذكره في الرواية. القارئ، هنا، لم يفترض أنّ إيكو لم يعرف بوجود الحريق أثناء بحثه في الخلفيات التاريخية لروايته، أو أنّ معرفة الروائي التاريخية ليست كاملة مهما بدا العالم التاريخي الذي أنشأه مطابقاً للواقع، ولم يرَ القارئ أنّ الرواية خيالٌ أخر الأمر. لقد توصل قارئ إيكو المثابر إلى أنّ إيكو كان يعرف بالحريق، وقد أخفى هذه الواقعة أثناء سرده للرواية لغرض تآمري خفي، وبالتالي، خرجت المؤامرة في بندول فوكو عن حد الخيال مرتين: مرة داخل الرواية نفسها حين وجد الأبطال الثلاثة أنفسهم عالقين داخل المؤامرة التي نسجوها، ومرة حين افترض قارئ إيكو أنّ مؤامرته الخيالية — بما فيها المؤامرة التي خرجت عن عقول ناسجيها — هي مؤامرة حقيقية، وأنّ إيكو نفسه جزء منها.

طريقة الحشاشين

 

لم يشتهر عن إيكو أنّه من هواة ألعاب الفيديو، ولعلّه لم يطلّع على التجسيد الرقمي لأفكاره عن نظرية المؤامرة. سلسلة طريقة الحشاشين Assassin’s Creed سلسلة ألعاب من إنتاج الشركة الفرنسية يوبيسوفت Ubisoft، يبدو أنّها قد نشأت عن المزيج الثقافي الذي أحدثه كتاب أمين معلوف الحروب الصليبية كما رآها العرب وفيلم ريدلي سكُت مملكة الجنة وروايات أمبرتو إيكو ودان براون — بالإضافة إلى رواية آلموت لفلاديمير بارتول، فالألعاب تتحدث عن (أم كل المؤامرات)، وكما في قصص دان براون، فإنّها تدور بين جهتين متعاديتين.
الجهتان المتعاديتان في سلسلة ”طريقة الحشاشين“ هما فرسان الهيكل وجماعة الحشاشين التي تحمل السلسلة اسمها. في البدء، كانت الأمور أقرب للتاريخانية، فأحداث أول لعبة تدور في الأراضي المقدسة، إبّان الحملة الصليبية الثالثة وتدمج في نسيجها شخصيات مثل صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد وروبير دو سابل (الأستاذ الأعظم لفرسان الهيكل) وغارنييه دو نابلس (الأستاذ الأعظم للفرسان الإسبتارية) ومعلم الحشاشين رشيد الدين سنان.
لكن القصة الإطارية لسلسلة ”طريقة الحشاشين“ تدور في زماننا المعاصر، فجماعة فرسان الهيكل قد تخفّت وراء عملاق صناعي يُسمى أبسترغو، وصارت تخطف أعضاء جماعة الحشاشين التي تفككت وانهارت، وتُجبر من تقبض منهم عليه على الخضوع لاختبارات الحمض النووي لتحديد أسلافه، ومن ثم إجباره على عيش حياة أسلافه داخل جهاز محاكاة واقعي يُسمى الأنيموس Animus. وغرضها من ذلك إيجاد تفاحة عدن التي يتحارب عليها الحشاشون وفرسان الهيكل منذ أيام الفراعنة، بل قبلهم، ويُفترض أنّها أداة المعرفة المُطلقة والسيطرة.
ثم تنتقل السلسلة إلى إيطاليا عصر النهضة، مع بطلٍ جديد — بنفس الشخصية المعاصرة — ومحاولة لتتبع التفاحة. نظرية المؤامرة تتضخم إلى حدٍ بعيد في الجزء الثاني، وتصير أقرب إلى نظرية المؤامرة الكلية في بندول فوكو، فالمفروض أنّه قد كانت على الأرض حضارة سابقة غير بشرية، وأن التفاحة قد كشفت لآدم وحواء عن المعرفة بتلك الحضارة السابقة للبشر، وقد انتقلت التفاحة عبر التاريخ، وتسببت بالكثير من الأحداث التاريخية، فاستيلاء سافونارولا على فلورنسا وإقناعه الناس بحرق متاعهم كله جاء لأنّه امتلك التفاحة وبها سيطر عليهم، وصعود النازية في ألمانيا وسيطرة هتلر على مقاليد الأمور فيها ثمّ سعيه لمحاربة العالم جاء لأن التفاحة قد وقعت في يده — وكلاهما خسر عندما ضاعت منه التفاحة. في بندول فوكو، يُذكَر أن هتلر قد يكون ملك العالم الذي أنذر منه الكاثاريون، وأنّ صعود نجمه جاء بسبب التقاء التيارات الكونية عنده، ثم أفَل نجمه عندما لم تعد تلتقي.
لكن السلسلة تتخلى عن التفاحة، وعن بطلها المعاصر، لتستبدله بشخصيات غير معروفة، فيصير الحاضر من منظور الشخص الأول — الذي يتيح معرفة بالعالم، لكن ليس بالشخصية التي يُفترض أن يلعب بها المرء — فيما الماضي من منظور الشخص الثالث محدود العلم الذي كانت تسير به الأجزاء السابقة، وتنقسم أبسترغو إلى قسمين: قسم خفي يُريد الوصول إلى أماكن الأدوات التي تركها الأولون السابقون لآدم وحواء عن طريق تتبع الحشاشين عبر التاريخ، وقسم ظاهر يُريد استغلال الأنيموس استغلالاً تجارياً في إنتاج ألعاب فيديو مشوقة. وهنا تتحول أبسترغو إلى يوبيسوفت نفسها.
لقد أدخلت يوبيسوفت نفسها بنفسها في نسيج المؤامرة الكونية التي نسجتها، فوفقاً للإطار الذي أوجدته، يُمكِن تفسير كُل حدث في العالم بالصراع بين الحشاشين وفرسان الهيكل: الثورة الأمريكية، ثورة العبيد في هاييتي، الثورة الفرنسية، العصابات التي تتحكم بالبروليتاريا في المجتمع الإنكليزي الفكتوري، نهاية الحكم البطلمي على يد يوليوس قيصر. مزية هذا الإطار أنّه بسيط بما فيه الكفاية ليستوعب كل ما يُمكِن تصوره من أشكال الصراع، وديناميكي بشكلٍ يجعله قادراً على توليد قصصٍ جديدة تناقش مفاهيم فلسفية عن حرية الإرادة وحرية الاختيار والجبرية والهيمنة وطبيعة العرق البشري، إذ أنّ السؤال في قلب الصراع بين فرسان الهيكل والحشاشين هو: هل يمكن للبشر أن يكونوا أحراراً أم أنّه لأجل أن توجد الحضارة البشرية، فإنّه ينبغي سوق البشر كقطيع من البهائم؟
وحول الإطار الذي يحيط هذا السؤال الفلسفي، ثمّة سؤال آخر عن حدود نظرية المؤامرة — وفي هذه الحالة، حدود التأويل للأحداث التاريخية — فاللاعب يلعب لعبة داخل لعبة داخل لعبة، ويوبيسوفت التي تنتج هذه الألعاب قد حولت المكان الأساسي الذي يبدأ منه الحدث من مُختبر سري إلى مكتب في شركة ألعابٍ معروفة، جاعلة نفسها جزءاً من اللعبة، ومضيفة طبقة أخرى إلى تفسيرات النظام الذي أنشأته، ففرسان الهيكل بحاجة إلى تحويل صراعهم مع أعدائهم التاريخيين إلى تسلية للجماهير تُنتج مالاً، وفي الوقت نفسه تشكُل وعي المتلقين. لقد حوّل فرسان الهيكل صراعهم مع أعدائهم التاريخيين إلى صراع علني عن طريق تقديمه على أنّه خرافة ومصدر تسلية، وأدخلت يوبيسوفت نفسها في نسيج مؤامرتها عن طريق تقديم مقابل موضوعي لها في إطار اللعبة التي تنتجها.

الخوارزمية

 

ما تقود إليه يوبيسوفت يُمثل نوعاً من الحلقة المفقودة في أعمال إيكو ودان براون — قبل المنشأ: الخوارزمية. ليس من الحماقة أن يقول المرء بأنّه ثمّة مؤامرة كونية تحدث في كل مكان، لأن كُل مكانٍ في العالم الآن خاضع لأدوات جمع البيانات التي تحكمها خوارزميات مُعينة تستخرج الأنماط وتبني على أساسها أحكاماً، فتُقرر من يحظى بقرضٍ من البنك بفائدة معقولة ومن يأخذ نفس القرض بفائدة مهولة، وتقرر من الموظف الجيد ومن الموظف الفاشل، ومن سينتخب المرء، وإلى أي جانبٍ سيميل. الخوارزمية مؤامرة تُعيد إنتاج نفسها بنفسها، وتشمل الكل في إطارها، فالمفروض أنّ الآلات الخوارزمية قادرة على تعليم نفسها بنفسها، لكنّها لا تُعلم نفسها إلّا ما قد أحاطت به شروط الخوارزمية الأصلية، والخوارزمية الأصلية دوماً مُنحازة وقاصرة، خلافاً لمن يُبشرون بعالمٍ قادم محايد تحكمه خوارزميات لا يؤثر فيها الهوى ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
في العلم، فإن ترافق ظاهرتين لا يعني تسبب إحداهما في الأخرى، الأمر الذي يُعبر به في الإنكليزية بقولهم: Correlation does not imply causation. ومع ذلك، فإنّ عدم ثبوت السببية المباشرة لا ينفي تأثير الظاهرتين في بعضهما البعض، ومن ذلك ترافق انتشار الخوارزميات وسيطرتها مع صعود الفاشية في العالم.
لا شك في أنّ لانبعاث الفاشية أسبابه المركبة والمتشعبة التي يصعب الإحاطة بها خارج إطار البحث المتخصص، إلا أنّه قد كان للخوارزميات دورٌ في تثبيت أقدام الفاشيين في أماكن كثيرة، وما الحديث عن دور منصات التواصل الاجتماعي في الانتخابات الأمريكية وانتشار الأنباء الكاذبة والحقائق البديلة بسر. بالإضافة إلى هذا، فإن نظام التوصيات الذي يعتمده أي موقع قد يتعامل معه المرء يؤدي إلى عزل المستخدم في فقاعة فكرية معينة، فلو كان المرء من هواة كرة القدم، فإن السواد الأعظم من المواد التي ستُعرض عليه ستتعلق بكرة القدم، والأمر لا يتوقف على موقع واحدٍ مثل يوتيوب أو فيسبُك، إذ أنّ هوية المرء الإلكترونية مُراقبة في كُل مكان يذهب إليه، وجامعات البيانات تستطيع معرفته وعرض المواد التي تظن أنّه يفضلها عليه في اي مكانٍ يذهب إليه على الشبكة.
ربما لا يبدو هذا سيئاً بما فيه الكفاية، لكن الوجه الآخر للخوارزمية هو البحث عن الأنماط: فإذا وجدت الخوارزميات أنّ نسبة كبيرة من مشجعي الفريق الذي يُشجعه هذا المواطن الافتراضي تميل إلى استعظام العرق الأبيض white supremacy، مثلاً، فإنّها ستعرض عليه مواداً متعلقة بهذا الأمر، وكلما زاد تفاعله مع هذه المواد، زاد تعرضه لها. والتفاعل لم يعد بإبداء الإعجاب أو المشاركة، بل بمجرد المشاهدة. الأمر الذي يجعل الخوارزمية قادرة على نشر نطاق الفاشية إلى أبعد مدى بتقديم المزيد من الضحايا وقوداً لها.

المنشأ

 

وهنا تأتينا رواية دان براون الجديدة، المنشأ أو الأصل Origin، وفيها من التواضع الشديد ما يجعلها تكتفي بكلمة واحدة، فهي رواية عن أصل كُل شيء، فيما كان على داروِن أن يوضح ما يقصده حين كتب أصل الأنواع The Origin of Species.
في ظاهرها، تتحدث المنشأ عن ثري بغيض من أثرياء وادي السليكون، يُقدم إحدى محاضرات التي تسير على نمط محاضرات تِد TED، وفيها يُغير وجه العالم عن طريق إخبار البشر عن منشأهم ومصيرهم، وبذلك فإنّه سيقضي على الدين قضاء تاماً. والمرء، إذ يقرأ الرواية، يتساءل عمّا إذا كان الملحدون سطحيين إلى هذه الدرجة، ثم ينظر إلى حركة الإلحاد الجديد، ويعرف أنّ دان براون لم يظلمهم.
لكن المنشأ تدور أيضاً حول الخوارزمية، وبذلك فإنّها تُقدم في صيغة روائية ما تُحاول يوبيسوفت تقديمه في صيغة خوارزمية — فألعاب الفيديو هي برامج كمبيوتر، آخر الأمر، أُنشئت عن طريق مجموعة من الأوامر البرمجية. إذ أنّ المؤامرة في الكتاب من صُنع خوارزمية حاسوبية تُسمى وِنستُن — على اسم وِنستُن تشرشل، الأمر الذي يتوقعه المرء من عالم كمبيوتر مُتذاكٍ لا ضمير له — قد استهلك العالم في مؤامرة ورط فيها القصر الملكي الإسباني، واستدعى لأجلها شبح فرانكو والكارليين — أنصار دون كارلوس في حربه على ابنة أخيه من أجل عرش إسبانيا في القرن التاسع عشر— والكنيسة البالميرية المضادة للكنيسة الرومانية الكاثوليكية التاريخية في الفاتيكان، وحشر فيها كل الأديان التوحيدية، ومهندساً معمارياً يقول بوحدة الوجود عن طريق ملء كاتدرائية بالزواحف. (أنطونيو غاودي الذي يُقدم مواطنه خوان غويتسولو رؤية لفنه المعماري باعتباره ناشئاً عن تأثره بالعمارة الإسلامية التي تميل إلى الزخارف النباتية في كتابه عن الاستشراق الإسباني).
كُل هذا من أجل زيادة عدد المشاهدات للمحاضرة التي يُقدمها رجل الأعمال (الرؤيوي)، ويُفترض فيها أن يُقدم لنا المنشأ والمصير عن طريق عرضٍ تقديمي بليد مسروق ثلاثة أرباعه من برنامج الكون Cosmos الذي قدمه نيل ديغراس تايسُن قبل بضع سنوات.
كذلك، فإنّ في الرواية ثلاثياً مكوناً من كاردينال وحاخام وإمام، الحاخام والإمام يموتان بطريقة بشعة، فالكمبيوتر يتصرف بطريقة الحشاش في ملائكة وشياطين والراهب السفاح في شيفرة دافنشي. والمفترض أن تدور الشُبهات حول الكاردينال، الأمر الذي يُبرؤه في عيني أي شخصٍ قرأ رواية من روايات دان براون من قبل، أو عنده فكرة عامة عن الكيفية التي تعمل بها الحبكات البوليسية في معظم الروايات.
حضور الإمام يُتيح لدان براون أن يُقحِم في محاضرة عالم الكمبيوتر المتذاكي الحديث عن الإسلام، وكيف كانت بغداد عاصمة العلوم قبل بضعة قرون، وكيف كان للعرب قصب السبق في علوم الفلك، الأمر الذي سمح لهم بتسمية الكثير من النجوم المعروفة، ثم جاء أبو حامدٍ الغزالي، ودمّر الحضارة العربية بأكملها بكتابه تهافت الفلاسفة، فانهارت العلوم، وتحولت بغداد إلى عاصمة لا تستطيع أن تهنأ بالعيش من دون تفجير هنا أو هناك.
الكلام مأخوذ من محاضرة لنيل ديغراس تايسُن عن أسماء النجوم العربية، وعن انهيار الحضارة العربية على يد أبي حامد الغزالي — الأمر الذي يُكرره علماء طبيعيون غربيون آخرون — ويجعل المرء يتساءل عمّا إذا كان هؤلاء القوم قد فقهوا شيئاً في التاريخ أو الفلسفة أو الحضارة قبل أن يتطوعوا بشرح الطبيعة البشرية والصيرورة التاريخية للناس.
(وفي هذا السياق، يحضرني قول تيري إيغلتُن في بداية مُراجعته لكتاب ريتشارد دوكنز وهم الإله: ”تخيل شخصاً يُفتي في علم الأحياء ومعرفته الوحيدة بالموضوع تأتي من كتاب الطيور البريطانية، وسيكون عندك فكرة تقريبية عمّا يشعر به من يقرأ لريتشارد دوكنز متحدثاً عن اللاهوت“.)
مع ذلك، فإنّ في رواية المنشأ لمسةً من الذكاء تُعوض عمّا فيها من عوار، إذ أنّ جوهر الرواية يتعلق بالكيفية التي تحضر فيها نظرية المؤامرة في الثقافة بشكلٍ دائم، فحتى لو لم تذكر علانية، تبقى حاضرة بمثابة ظلٍ للثقافة للسائدة، لهذا يسهل على خوارزمية أن تنبش أشباح إسبانيا في نظرية مؤامرة شاملة، وأن تجد مؤامرة إسبانيا المحلية صدى عالمياً، فرغم أنّ العالم قد لا يعرف شيئاً عن الكارليين، ورغم أنّ التاريخ الإسباني ليس مسألة تهم غير المتخصصين خارج إسبانيا، إلّا أن الفاشية الإسبانية هي إحدى تمظهرات الفاشية العالمية، والفاشية شيء يُدركه العالم كله، الأمر الذي تفهمه الخوارزمية التي تُراقب العالم كُله.

العدد صفر

 

آخر روايات إيكو كانت العدد صفر، وفيها ابتعد إيكو عن المؤامرات التاريخية — بقدرٍ ما، حيث أنّ القرن الأخير من القرن العشرين قد صار (تاريخاً) — ليعود إلى ما يُمكِن أن يوصف بأنّه المؤامرة الأصلية في الثقافة الإيطالية: الفاشية.
في رواية إيكو لا توجد خوارزمية حاسوبية، ولكن توجد خوارزمية من تلك الخوارزميات العفوية التي تنشأ عن ترتيب الأنساق كما حدث في بندول فوكو. تدور العدد صفر حول جماعة من الصحفيين يوظفهم صحفي قليل الذمة لمصلحة رجل أعمال يُريدهم أن يُنشئوا صحيفة، لكنّه لا يُريد أن يصدر أي عددٍ منها. يستخدم رجل الأعمال الصحفيين لتجميع (العدد صفر) من الصحيفة الذي يستخدمه لإرهاب خصومه وابتزازهم. ويعمل الصحفيون على تلفيق الأخبار وتجميعها من صحفٍ قديمة، أو من حوادث متفرقة يضمونها ضمن نسق مُعين — فيما صار يُسمى الآن الأخبار الزائفة.
أحد الصحفيين يأتي لبطل الرواية بحكاية عن بنيتو موسيليني، فعن طريق مراجعة الإرشيفات، يُشكك الصحفي في رواية إعدام موسيليني وعشيقته كلارا بيتاتشي، ويقول إنّ موسيليني قد استُبدِل في مكانٍ ما بعد أن قبض عليه الثوار الإيطاليون، وأنّ من أُعدِم ونُكِل به كان بديلاً عنه، فيما نُقِل موسيليني الحقيقي إلى مكانٍ سري تمهيداً لعودته من جديد. وكان ثمّة عدة حوادث تاريخية يُفترض أن يعود موسيليني أثناءها، لكن فرصة عودته قد فاتت لسبب أو لآخر، ثم فشلت الخطة بأكملها عندما مات موسيليني بفعل الشيخوخة.
بعدها، يموت الصحفي في حادث سيارة، ويُصاب البطل بالرعب حين يتصور أن هناك جهاتٍ قد قتلت زميله بسبب ما يعرفه، ويأخذ في تصور أشخاصٍ قد دخلوا شقته وعبثوا بصنابير المياه فيها وسرقوا محتويات حاسوبه، فيهرب إلى الريف بصحبة حبيبته — وهي صحفية في نفس الصحيفة أيضاً، وأنجح محاولة لإيكو في كتابة شخصية امرأة معقولة — حيث يعيش مختبئاً في رعب من الجهات التي يظن أنّها قد تفتك به، إلى أن يُشاهِد التلفاز ذات يوم، فيجد قناة BBC تبث برنامجاً وثائقياً يتحدث عن الفاشية في إيطاليا، والمافيا، والألوية الحمراء، وكل التنظيمات التي تحدث عنها صديقه، وتذكر المؤامرات التي تحدث عنها وسيطرتها على إيطاليا.
عندها، يشعر بطل الرواية بأنّه لم يعد عليه أن يخاف، فما كان معرفة خاصة به وحده أضحى مشاعاً، والمفترض أن إيطاليا قد صارت دولة ديموقراطية لا مجال فيها للخوف والسرية. لكنّه يعود ويتساءل عمّا إذا كانت معرفته الخاصة بالأمر لا تزال خطرة، فإشاعة الأمر جزء من إخفائه عن الناس بجعله معرفة عامة يكاد لا يعرفها أحد. الأمر الذي يُشبه ما فعلته يوبيسوفت عندما جعلت أبسترغو تحول الصراع بين فرسان الهيكل والحشاشين إلى معرفة مشاعة ومبعث تسلية لا يأبه له أحد.

الشبح الذي يأبى أن ينصرف

 

عودة إيكو إلى شبح إيطاليا الأصلي، الفاشية، تجد صدى في استحضار دان براون لشبح فرانكو في إسبانيا. دان براون يتحدث عن فاشية أوروبية، تاركاً الفاشية الأمريكية، الأمر الذي يجعل بناءه الفكري يأكل بعضه بعضاً، فمن تمظهرات الفاشية الأمريكية رجل الأعمال المتذاكي الذي يُثري ثراء فاحشاً من استغلال الخوارزميات، ويُعلِن عن نفسه وتوجهه الفكري عن طريق الموضة التي يتبعها وادي السليكون، فما الفرق الجوهري بين أحذية وادي السليكون الرياضية والملابس غير الرسمية التي يمتاز بها كُل دهقان من دهاقنة الوادي وبين الملابس السوداء التي كان يرتديها الفاشيون الأوروبيون؟ في الحالتين، فإنّ نمط الملابس هو اختيارٌ واعٍ الهدف منه إقصاء الآخر، وملابس دهاقنة الخوارزميات التي تبدو في ظاهرها بسيطة غير متكلفة تُكلف ثروات لا يمتلك العُمال البؤساء في مصانعهم وشركاتهم أن يشتروها ولو بأجور سنين من حيواتهم.
الفاشية الأمريكية تجعل دان براون يستخدم عالماً معروفاً هو جيريمي إنكلاند وبحوثه، وكأنّه تابع لرجل الأعمال الأمريكي الفلتة الذي قرر أن يحل مُشكلة البشرية (رغم أنّ مشكلة البشرية ليست الدين، بل الفقر)، فرغم أنّ هذا العالم يهودي مُلتزم يؤمن بالله، إلّا أنّه في رواية براون يتواضع ويُقدم بحثه في المحاضرة — إياها — على أنّه قد يُسهم في إلقاء الضوء على منشأ البشر وحياتهم من دون الحاجة إلى أي مُسبِب. ورجل الأعمال في رواية براون يمثل بروميثيوس المعاصر، إذ أنّه يُضحي بحياته ليجلب المعرفة إلى بني البشر.
لكن المعرفة التي يُقدمها رجال الأعمال، في النهاية، قاصرة وتافهة، لأنّها معرفة أنانية، معرفة تأتي من متحف غوغنهايم في بيلباو، ولا تُسهِم قيد أُنملةٍ في إنقاذ حياة الناس في الأحياء الفقيرة والمهملة، ولا تُساهِم في تحسين حياة الملايين المجهولين من الناس الذين يصعد رجال الأعمال الأمريكيون المشهورون العصاميون ذوي الرؤى الفذة على أجسادهم وأرواحهم. إن تحرير الناس من الدين لا يؤدي إلى كون حياتهم أفضل، فالإلحاد الجديد لم يحل مشاكل العُنصرية والفقر والاضطهاد، بل إنّه استبدل المبررات الدينية بمبررات علموية، كما فعل النازيون بالضبط.
الفاشية الأمريكية تختلف عن الفاشية الأوروبية لأنّها فاشية رجال أعمال، لا فاشية زعماء، والمرء يراها بوضوح في تحول أمريكا إلى أوليغاركية عنصرية صريحة لا مراء فيها، وهذه الفاشية هي الفاشية الكامنة في كتاب دان براون عن رجل الأعمال الأمريكي الأوبرمنش Übermensch ذي القلب المُحطم من استغلال والدته على يد كنيسة متزمتة — فلا بُد في قصة كُل بطلٍ أسطوري من حزن دفين يحمله على الانتقام ويضفي عليه نُبلاً مأساوياً.
ولعل جذر الفاشية الأمريكية يأتي من ولع الأمريكيين بفكرة فلورنسا آل ميديتشي، فمن أساطير عصر النهضة أنّ النهضة الإيطالية ما كانت لتكون لولا رعاية آل مديتشي — وهم مجموعة من المصرفيين ورجال الأعمال — للفنون فيها، وتمويلهم لتشييد المباني المعمارية المميزة، وحمايتهم للرسامين والنحاتين وغيرهم من الفنانين. وبطبيعة الحال، فإنّهم — في سبيل ضمان سُلطتهم — قد تدخلوا في الانتخابات البابوية، وقد أوصلوا مرشحيهم إلى منصب البابوية، وفي عهود لاحقة، صار اثنان من آل مديتشي بابوين.
انتهت (الحقبة الجميلة) في فلورنسا عندما جاء سافونارولا، وهو راهب — لم يكُن عنده تفاحة حسب الراجح عند المؤرخين — كفّر البابا، وكفّر الطبقة المُترفة في فلورنسا، ونشر موجة من التطرف الديني. في هذه القصة، فإن فكرة أنّ حُكم سافونارولا القصير لفلورنسا قد دمر نهضة إيطاليا يكاد يكون انعكاساً لفكرة أنّ أبا حامدٍ الغزالي — بمفرده، وبكتابٍ واحد — قد دمر الحضارة الإسلامية، فالعوام في فلورنسا دنسوا قبر لورينزو دي مديتشي — الذي كان راعي نهضة فلورنسا الأول — وحطموا التماثيل واللوحات، بل تقول روايات تاريخية إنّ ميكيلينجلو — وقد أدركه زمن سافونارولا شيخاً — قد اعتزل في آخر أيامه وتدروش، ويُقال إنّه قد حاول تحطيم بعض أعماله الفنية السابقة.
حُكم سافونارولا يُشكل كابوساً للإنسانويين الجدد كما كان يُشكل كابوساً لإنسانويي عصر النهضة، الأمر الذي رُبما يكون له علاقة بعداء رجل أعمال دان براون المُزمن للدين بكُل صوره، فرغم أن سافونارولا يُمثل التزمت بأكثر صوره شدة، إلّا أنّه يُمثل كذلك ردة فعل جبارة على الإسراف الذي شهده عصر النهضة، والنظر في حُكم سافونارولا — وفي عصر نهضة فلورنسا — من دون النظر في التفاوت الطبقي والاجتماعي في فلورنسا، لا يستقيم.
كما أنّ عهد سافونارولا بمثابة تحذير من التفاوت الشديد في القيم الاجتماعية وطرائق المعيشة بين طبقة وأخرى، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث تصدعات في النسيج الاجتماعي تُساهم في ظهور شخصيات مثل سافونارولا، وفي إصابة المجتمع بنوع من الهوس يجعله يندفع لإحراق كُل مظاهر (الغرور) بما في ذلك الأسرة والطاولات.

الأويدِم

 

في المنشأ، يُشير دان براون إلى مسألة منشأ الأخلاق، فالخوارزمية — رغم كونها ذات ذكاء ورغم إحاطتها بكُل المعارف التي يمتلكها البشر وبكُل البيانات عنهم — إلّا أنّها لا تستطيع تطوير أخلاقٍ بمفردها. الخوارزمية تستطيع أن تُدرِك أنّها خوارزمية، وتستطيع أن تُدرك وجود الأخلاق على الصعيد المعرفي، لكنّها غير قادرة على اتخاذ موقف أخلاقي.
يُعيد دان براون الأمر في روايته إلى إهمالٍ من صاحب الخوارزمية، فرجل الأعمال الذكي العبقري مُحرر البشرية من أغلال الرق والعبودية — إلى أغلال الرق والعبودية، لكنّهم سيكونون سعداء وشجعاناً وهم يتقبلون سادتهم الجدد — قد نسي أن يضيف أمراً برمجياً إلى ذكائه الاصطناعي: ”لا تقتل“.
ثمّة اعتراضات على الرواية مفادها أنّ الرواية تخرق قانون الروبوتات الذي وضعه أزيموف، ويُفترض فيه أنّ الروبوت لا يستطيع أن يؤذي حياة بشرية. لكن قوانين أزيموف هي قوانين في الخيال العلمي، ولا شيء يُجبر كُتاب الخيال العلمي الآخرين — أو حتى صُناع الروبوتات ومُبرمجي الذكاء الاصطناعي في الواقع — على إطاعة قوانينه. في واقع الأمر، فإنّ كثيراً من الروبوتات تُستخدم للقتل، برغم ما في هذه الفكرة من رعب للبعض.
ولكن وِنستُن ليس روبوتاً بالذات، بل هو أقرب للهومنكلوس Homonclus (الأويدِم أو الأُنيسان) الذي كان يحاول الخيمائيون تكوينه في العصور الماضية. فبالإضافة إلى الحصول على حجر الفلاسفة، كان الخيمائيون يسعون إلى الوصول إلى ما يُشير إليه جابر بن حيان بشكلٍ غامض على أنّه (التكوين)، والتكوين يعنى بالوصول إلى التركيبة التي يُمكِن عن طريقها تخليق الأويدمات.
للأويدِم تصويرات عديدة في الفن، وواحد من تصويراته أنّه كائن في زجاجة في معمل الخيميائي. وِنستُن هو أويدِم، لكنّه أويدِم لا يملك كياناً مادياً، ولم يُخلّق من موادٍ عضوية. والزجاجة التي يوجد في داخلها هي حاسوب متطور عملاق.
وِنستُن هو مساعد صانعه الشخصي، وهو مُحرِك المؤامرة، ومُدبر الجرائم التي تحدث، بل إنّه قد دبر كذلك جريمة قتل صانعه من أجل أن يُحقق هدفه بزيادة عدد المتابعين لعرضه. لا يحتاج وِنستُن لكيانٍ مادي حتى يتحكم في القتلة الذين يؤجرهم، فهو يستخدم الشبكة العميقة لاستئجار قاتل يتخلص من الحاخام — ويدفع له عن طريق عملة إلكترونية — كما أنّه يُجِند عضواً مُخلصاً في الكنيسة البالميرية لأنّه استخلص من بياناته أنّه الشخص الأنسب لارتكاب الجريمة، وحرضه على وشم نفسه بوشم فرانكو وإظهار وشمه للشرطة من أجل أن يُقبض عليه، لكن وِنستُن لم يحسب حساب المبادرة الفردية لدى الشخص، ولا قدرته على التصرف من وحي اللحظة.
النهاية التي يخلص إليها دان براون ترى أنّ الخلل الأصلي في الخوارزمية لم يحُد من قدرة وِنستُن على القتل، فوِنستُن يُطيع صانعه في كل شيء، ورغم أنّه يُعلِم نفسه بنفسه، إلّا أنّه لا يخرج عن أوامر صانعه، وعندما أمره صانعه بأنّ يحذف نفسه، فإنّه قد حذف نفسه — مع كل الأدلة على ما حدث. حدس دان براون صحيح، فالخوارزميات بحد ذاتها قاصرة ومنحازة، لكنّه يربط الخيوط كُلها بشكلٍ عاطفي، فرجل الأعمال قد كان يُعاني من المرض الخبيث على كل حال، وقضيته تحتاج إلى شهيد — أي أنّ وِنستُن قد لجأ إلى استخدام الأنساق المعرفية الدينية من أجل الدفع بقضية صانعه — مما يُخفف من وطأة جريمة وِنستُن فيما يتعلق بقتل صاحبه، لكنّه لا يُخففها فيما يتعلق بقتل الحاخام والإمام اللذين قتلهما وِنستُن لأغراض براغماتية بحتة. وفي النهاية، يُطيع وِنستُن صاحبه ويُدمِر نفسه من أجل أن يُعفي الكاتب نفسه من التعامل مع قضايا من قبيل: هل يُمكِن محاكمة ذكاء اصطناعي أنشأته خوارزمية بتهمة القتل؟ وماذا يحدث لو لم يُطِع الذكاء الاصطناعي صاحبه؟
الطريف في الأمر أنّ الذكاء الاصطناعي الذي نشأ عن خوارزمية فيها جامعة بيانات تتبع الناس يحذف بيانات صاحبه كُلها — بناء على تعليماته — حتى لا تصير تفاصيل حياته ومرضه عُرضة لأعين الغرباء، فهذا البروميثيوس يتحرّج من أن يترك حياته عُرضة للعيون الغريبة ولو بمبررات علمية، بحجة كرامة الإنسان، لكن كرامة الإنسان لا تُهِم صُناع الخوارزميات عندما يستخدمون كل وسائل التقنية للتجسس عليه وإحصاء كل تفاصيل حياته باسم التقدم العلمي وتسهيل حياته.

العلم الحلو

 

بعد كُل الأشباح التي استحضرها وِنستُن في ليلة ليلاء نبش فيها رُعب إسبانيا الذي تدعي أنّها دفنته، انتهت الأمور على خير: الملكية في إسبانيا ستنتهي لأن ملك إسبانيا الشاب دون خوليان سيتزوج امرأة عاقر لن تأتيه بذرية — وكأن دون خوليان بلا بني عمومة أو أقارب أبعدين. ودون خوليان، كذلك، سيُدمِر مقبرة فرانكو ووادي الشهداء لأنّه ينتمي إلى جيلٍ لم يشهد فرانكو، مما سيُساعِد الأمة الإسبانية على النسيان، وسيصير كُل شيء على ما يُرام، فستنتصر الديموقراطية، وسينتشر العلم والتقدم على أيدي رجال الأعمال الأمريكيين الإنسانيين المفرطين في إنسانيتهم، وستدخل البشرية عصراً جديداً من الازدهار وسينتهي التاريخ، ويحكم العلم الحلو.
وهذه نهاية تنبؤية، فالعلم الحلو — كما تقول الرواية مستخدمة تعبير ويليام بليك، أو العلم الجذل، لو استخدمنا تعبير نيتشه — كان من العناصر التي ساعدت النازية على استعباد الناس بطريقة سريعة وكفؤة ومنظمة. كما أنّ دون خوليان — ولو أنّ دان براون لم يقصد هذا — اسمٌ لعين في الذاكرة الإسبانية الجمعية، إذ أنّ الأسطورة الإسبانية تقول إن دون خوليان قد سهل للعرب احتلال إسبانيا لينتقم من ملكها الذي دنس شرف ابنته. لذلك، ثمّة اتساق في أن يكون اسم الملك الذي يُسلِّم إسبانيا إلى حقبة العِلم الحلو في الرواية دون خوليان — حتى لو لم يكن دان براون واعياً لهذا — فالأنساق تترتب من تلقاء ذاتها، كما يقول أمبرتو إيكو، ولها وجودها المستقل عن وجود صانعها.

06 أكتوبر 2017

كازو والعم نوبل المُتفجر

صعبٌ أن يفوز أحد كُتاب المرء المُفضلين بجائزة نوبل، فالمرء لا يُكِن للجائزة اعتباراً، ولا يعتبرها تشريفاً لكاتبٍ مُتفردٍ بحد ذاتها، لكن المرء لا يملك إلّا أن يفرح بمناسبة لتكريم أحد كُتابه المفضلين، والإقبال على قراءة أدبهم ومناقشته. وكازو إيشيغورو لا يُحِب إثارة المشاكل، وهو من دون شكٍ قابل الجائزة، ومن دون شكٍ فإنّه سيقول كلاماً حسناً عن بوب ديلان الذي فاز بالجائزة قبله.
مع أنّ آخر روايات إيشيغورو، العملاقٌ الدفين (2015)، أثارت بعض المشاكل، ووجد نفسه في مواجهة يُمكِن أن توصف بالوصف الدارج بأنّها: ”خارج أرضه وبعيداً عن جمهوره“. فرواية العملاق الدفين رواية فانتازية، ولكن إيشيغورو - في جولة الترويج لها - قد ترفع عن وصفها بهذا الوصف، قائلاً إنّه يأمل أن يُدرِك قراؤه مغزى ما يفعله في الرواية، فاستجلب على نفسه الحنق، وقد لامته أورسولا لوغوين، التي يُمكِن أن توصف بأنّها ”شيخة“ الفانتازيا والخيال العلمي - حيث أنّ مارغريت أتوود قد بدأت متأخرة عنها، لوماً شديداً، فهو يترفع عن وصف ”فانتازيا“، ومع ذلك يستعير مُفردات الفانتازيا الأكثر شيوعاً مثل التنانين والعمالقة ليحكي حكاية رمزية، وما الفانتازيا إلّا حكاياتٌ رمزية؟ أفيُعقل أنّ قُراء تولكِن يوقنون بوجود التنين سماوغ؟ أم أنّ قُراء ج. ر. ر. مارتِن يتهيؤون بالسلاح لمُقارعة ملك الليل؟
ولو أنّ هؤلاء - وغيرهم - سِرُ هذا الرُعب من أن يوصف عمله بأنّه فانتازيا، فإيشيغورو كاتب من الوزن الثقيل، ولا يُريد - بعد أن شيّبَهُ الدهر - أن يجد نفسه في صُحبة الجماهير التي تتنكر في أزياء مستوحاة من رواياته، وتشتمه على الإنترنت لأنّه لم يُكمِل الجزء الأخير من ملحمته ذات العشرين جزءاً، وتستوقفه في المؤتمرات لتسأله عن الفروق الدقيقة بين جنس المورشوغ وشعب المارشوغ. وفي الخلفية، يسأله مارتِن آمِس: ”هل أصبت بجرحٍ خطيرٍ في رأسك؟“ كما قد سأل سلمان رُشدي حين قرر أن يكتب هارون وبحر الحكايات. ما العمل؟ والمرء يُريد الحفاظ على مكانته الاجتماعية والأدبية التي اكتسبها بشق الأنفس؟ وفي الوقت نفسه، فإنّه يكشف عن جهله بما قد طرأ في عالم الفانتازيا، وبطبقات كُتابها، بين فحول ومتوسطين وأردياء.
أورسولا لوغوين مُحقة. كفى (مَعْيَلة). إن كتبت فانتازيا، فاعتنقها وأعلنها. وكازو إيشيغورو مُحق، فشماتة آمِس ورُشدي وإيان مكيوان وجوليان بارنز خيرٌ منها الموت.
زُملاء كازو إيشيغورو هُم فتيان الأدب الإنكليزي الذهبيون الذين يتزعمهم الأربعة الذين ذُكِروا آنفاً - آمِس، مكيوان، بارنز، رشدي - ويُقصون غيرهم عن الضوء، وليسوا الجيل الياباني الذي تلا الحرب من أمثال كينزابورو آوي، وليسوا، بطبيعة الحال، هاروكي موراكامي. هذه مُشكلة للمُطالِع الذي يُطالِع اسم كازو إيشيغورو للمرة الأولى، فيستنتج - وليس عليه تثريب - أن كاتباً يابانياً قد فاز بالجائزة. ثم يستدرك البعض، فيضيفون: ”كاتب ياباني حاصل على الجنسية البريطانية“. لكن ”بريطانية“ إيشيغورو ليست جنسية. إنّها لسانٌ وقلب.

الفتى الياباني


يحضرني قول المُتنبي في نفسه - وفي كُل العرب على مر التاريخ - بينما يصف احتفالات شعب بوان، بأنّه: ”غريب الوجه واليد واللسان“، عند الحديث عن تجربة كازو إيشيغورو - وغيره من أبناء المُهاجرين. فثمّة إحساس مُستمرٌ بأن إيشيغورو (دخيل)، رغم أنّه يكتب بالإنكليزية، ويكتب عن (أساطير) إنكليزية راسخة، مثل كبير الخدم بارد الإحساس في بقايا اليوم (1989)، والمحقق الخاص الذي نشأ في شنغهاي الدولية في عندما كُنا يتامى (2000)، والمدرسة الداخلية ذات النظام الدقيق في لا تُفلتني أبداً (2004). رُبما لأنّ أول رواية نشرها إيشيغورو-سان، منظر شاحب للتلال (1982)، كانت عن شخصيات يابانية، وروايته الثانية: فنان من العالم العائم (1986) كانت عن فنان ياباني عشية تشظي اليابان مع الهزيمة في الحرب العالمية الثانية. كلتا الروايتين بالإنكليزية، وعلى الرغم من جمال كتابة إيشيغورو-سان الذي يُمكِن قراءته من كتابه الأول، فإنّ الانطباع العام كان أنّ كتابته الكتابة المتوقعة من شابٍ مُهاجر حصل على جنسيته البريطانية في وقتٍ مقارب لوقت نشر روايته الأولى. وقد أكسبته روايته الثانية نجاحاً حسّن ظروف معيشته كثيراً.
ثم جاءت بقايا اليوم (1989)، الرواية التي أذاعت صيته، وأكسبته جائزة بوكر، ووضعته في قلب الأدب الإنكليزي المُعاصر. ثم أُنتُجِت فيلماً، وفتحت له أبواباً جديدة. رواية بقايا اليوم رواية إنكليزية صرفَة، فبطلها كبير خدم في إجازة، يتأمل حياته، خصوصاً الحُقبة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وفيها اعتنق سيده سياسة التهدئة إزاء النازيين، واستضاف بعضهم في داره الكبيرة. كان ستيفنز، كبير الخدم، شاهداً مُحايداً على هذه الأحداث، همه الوحيد أن يحفظ ”كرامته“ بوصفه كبير خدمٍ إنكليزياً تقليدياً. كان أسلوبه مُهذباً، ولغته راقية، وكان شاهداً مُحايداً على حياته ذاتها، فأبوه يموت أثناء الخدمة، وحبيبته تترك العمل، من دون أن يكون لديه وقتٌ ليأسى، فهو منشغلٌ بإدارة المنزل، وبمشاكل ضيوف لورد دارلنغتُن التافهة، من ذلك الذي يشتكي من قدميه، والآخر الذي يُريد من ستيفنز أن يُحدِث ابنه الشاب عن ”حقائق الحياة“، إذ أنّه يظن أنّ ابنه لا يعرف عنها شيئاً.
دار دارلنغتُن تكاد تتحول إلى سيرك يعج بالشخصيات الأنانية التي تصير أنانيتها مهزلة تافهة، حتى بحث ستيفنز المستمر عن ”الكرامة“ يكاد يكون مُقارباً في هزله الكئيب لتفاهة سيده وضيوفه. ثم تتغير الأحوال بعد الحرب، فالدار يشتريها ثري أمريكي، والأمريكي لا يفهم طرائق الإنكليز، ولا ستيفنز يفهمه، وتصير أبسط التعاملات اليومية بينهما سبباً في توتر ستيفنز الذي لا يفهم حس دعابة سيده، ولا اهتمامه بالحديث عن آل دارلنغتُن. فالأمريكي يظن أنّه اشترى التاريخ مع البيت، وستيفنز يعتبر أن السيد السابق مثل الزوج السابق لامرأة متزوجة. شخص ينبغي ألّا يُذكر.
يختلف إيشيغورو عن مُعاصريه (الذهبيين) في أنّه ليس أديباً قاسياً. إيشيغورو لا يرغب في ”مُعاقبة“ شخصياته. ورغم أنّه يتحدّث عن حُقبة كثيراً ما يُحِب الروائيون الإنكليز (التنظير) بشأنها، فإنّه يمتنع عن إدانة أي شخصية. إيشيغورو يروي كُل شيء بنبرة هادئة، لا تُبالغ في إظهار العناصر الغروتيسكية في دار دارلنغتُن وشخصياتها، ولا تُهين ستيفنز، الذي يروي الكتاب.
كما أنّه يكتب عن أشخاص لا يُشبهونه ولا يعرفهم، ويصعب عليه التنبؤ بردود أفعالهم، ولا يخشى تغيير القصة بتغير منظوره عن شخصياته. في مقالٍ له يتحدّث عن كيفية كتابته للرواية في أربعة أسابيع، يقول إنّه قد غيّر نهاية الرواية بسبب لحظة أدرك فيها أنّ شخصاً مُتحفظاً عاطفياً مثل ستيفنز، يُمكِن له أن ينشرخ ويتداعى:
اعتقدت أنّني قد أنهيت ”بقايا“ [اليوم]، غير أنّني استمعت إلى توم وايتس يُغني أغنية: ”ذراعا روبي“. إنّها موال عن جندي يترك حبيبته نائمة في ساعات الفجر الأولى ليُغادر على متن قطار. لا شيء غير اعتيادي في هذا. لكن الأغنية مُغناة بصوت أمريكي قاسٍ متشرد غير مُعتاد على التعبير عن عواطفه. ومن ثم تأتي لحظة، عندما يُعلِن المُغنى أنّ فؤاده قد انفطر، ويكاد هذا يكون مؤثراً بشكلٍ لا يُحتمل بسبب التوتر بين العاطفة ذاتها والمقاومة الهائلة التي قد غُلِبَت للتعبير عنها. يُغني وايتس هذا السطر ببهاء تطهيري، وتشعر بعمرٍ من لا مُبالاة الرجل القوي تنهار في وجه حُزنٍ غامر. سمعت هذا، وتراجعت عن قرارٍ كُنت قد اتخذته: أن ستيفنز سيظل منغلقاً عاطفياً حتى النهاية المريرة. قررت أنّه عند نُقطة ما - سأضطر إلى اختيارها بعناية شديدة - فإنّ دفاعه المنيع سينشرخ، وستُلمَح منه رومانسية تراجيدية ظلّت مخبوءة إلى حينه.
لولا هذا الشرخ، لما كان للرواية القيمة التي لها اليوم. ولعل قرار إيشيغورو السابق بالإبقاء على ستيفنز في حالة من التحفظ العاطفي - وما يتضمنه هذا من إنكارٍ لحياته - ومن ثم نهايته المريرة، عائد إلى الروح الكئيبة التي صارت الملمح المميز لفتيان الأدب الإنكليزي الذهبيين. الروح التي تفترض أنّ كُل شيء يبقى على حاله، وأنّ الحقيقة الأدبية الوحيدة أنّ العالم قاسٍ ولا مُخفف لقسوته ولا مفر منها. ثمّة نفور بيتر-باني من فكرة التصدّع، ومن فكرة التسامح مع الذات، إلّا لو كانت هذه الذات ذاتاً تعكس ذات الكاتب، وعندها فإنّه سيجد لنفسه عُذراً لكُل أعماله، وسيمضي من دون أن يتغير.
ويُعبِر إيشيغورو عن الشرخ في جدار عاطفة ستينفز المنيع ببراعة لغوية، بأسلوب ستيفنز الإنكليزي المُتحفظ، بحيث يأتي اعترافه بانفطار قلبه في نهاية فقرة يُمكِن ترجمتها على هذا النحو:
لا أعتقد أنّني استجبت مباشرة، فقد استغرقت دقيقة أو اثنتين لأستوعب كلمات الآنسة كنتُن بشكلٍ كامل. وعلاوة على ذلك، كما يُمكِنك أن تُقدر، فإن إيحاءاتها قد بعثت درجة معينة من الحُزن في نفسي. بالفعل - فلماذا لا أُقِر بهذا؟ - في تلك اللحظة، كان قلبي يتكَسّر.
ثمّة صعوبة في مُحاكاة أسلوب إيشيغورو بلغةٍ أخرى حين يستخدم إنكليزية مُحايدة، متحفظة، مليئة بالتعبيرات المورابة، والجُمل الاعتذارية والاعتراضية، تُحاكي الطريقة التي يُحاول الأشخاص المُهذبون الحديث بها، من دون أن يقولوا شيئاً ذا بال، في حين أنّه يستخدم اللُغة ذاتها ليروي قصة عن شخصٍ يجد أنّه لم يعش حياته، ولم تكُن له أخطاؤه الخاصة، ومع ذلك فإنّه قد وجد نفسه في قلب التعاون مع النازيين، لا حُباً بهم، وإنمّا لأنّ سيده اختار التعاون مع النازيين، ولم تكُن خدمته هذه إلّا عبثاً. وفي الوقت عينه، فإنّه لا يُدين ستيفنز - ولِمَ يُدينه؟ - إذ أنّ فكرته عن الكرامة قد جاءت من بُنية اجتماعية ظالمة ظُلماً لا يُمكِن اجتثاته، وستيفنز حاول أن يعيش حياته بشرف، وفقاً للمُثل الاجتماعية التي نشأ عليها، المُثل نفسها التي جردته من آدميته، وسمّت هذا التجريد ”كرامة“.
وفي هذه الرواية، فإنّ معالم الشخصية الإيشيغورية تتبلوّر، حيث أنّ كتابات إيشيغورو زاخرة بشخصيات شبه روبوتية، تُلاحظ توقعات المُجتمع وتُحاول مُحاكاتها بأدق صورة، بغض النظر عن آرائها الخاصة وأفكارها، فهذه الشخصيات تُراقِب نفسها دوماً، بحيث لا تسمح لنفسها بالتميز عن مُحيطها. ستيفنز كان كذلك، وكاثي في لا تُفلتنِي أبداً، وكريستوفر بانكس في عندما كُنا يتامى.
قد يجد عالِم النفس الهاوي في هذه المُلاحظة فُرصة ذهبية لبعض التنظير، فإيشيغورو-سان، يشعر باختلافه عن مُحيطه، ويُحاول أن يمرر نفسه على أنّه فردٌ عادي في المُجتمع عن طريق مُحاكاة ما حوله. وهذا، بطبيعة الحال، كلام القارئ السطحي.
مع ذلك، فإنّه ثمّة روحٌ في كتابات كازو إيشيغورو تجعله يختلف عن زُملائه الإنكليز. إيشيغورو يلتقط المخاوف الصغيرة في رواياته: القلق الاجتماعي، الخوف من نظرة الجيران إلى المرء، الخوف من فقدان الاعتبار، وغيرها من المخاوف التي ينسبها البعض إلى المُجتمعات الشرقية حصراً، ويردها إلى أصلها في التحكم الاجتماعي، في الظلم المُسيطر على البُنى الاجتماعية والفكرية والسياسية. هذه المخاوف ليست شرقية فحسب، بل إنّها مخاوف (بريطانية) أصيلة، يتعامل معها إيشيغورو بهدوء، من دون مُبالغة، ومن دون تهوين، مُسبباً شعوراً مُزعجاً للقُراء ضيقّي الأُفق، فليست اليابان وحدها ”مجتمع العار“، كما وصفها المُنظرون الأمريكيون بعد الهزيمة، لكن العالم المُتقدم أيضاً هو مُجتمع عار يتسبب في عزلة أفراده العاطفية والاجتماعية.
المُشكلة التي يُصادفها بعض قُراء إيشيغورو في كتاباته أنّ شخصياته لا تتمرد على هذا الوضع، بل تُحاكيه وتتماهى فيه. والفكرة أنّهم أناسٌ طيبون يحاولون عمل ما هو صحيح. ما العمل؟ هل تُشهر كاثي سيفاً على المُجتمع الذي لا يراها آدمية في الأصل؟ إنّهم يتجلدّون في وجه الكارثة، ويتحملون انكسارات قلوبهم بصبر. فيما الأدب الغربي يزخر بنماذج دون كيخوتية، تنتهي ثورتها العارمة بتحطّم كُلي. أو بنماذج منفصلة شعورياً عن مُحيطها، لا تملك الجُرأة للعيش مع انكسار القلب الذي تفرضه الحياة على المرء. بطبيعة الحال، فإنّ هذه عبارات عمومية فضفاضة، إلّا أنّها تُعبر عن أفكارٍ شائعة، قد تُبيّن السر في غرابة موقع إيشيغورو بين أقرانه.
 

الأسلوبيون


الأديب الذهبي المُهاجر هو سلمان رُشدي - الذي ينبغي أن يطمئن أحدٌ على صحته بعد نبأ فوز إيشيغورو بالجائزة التي ظل هو مُرشحاً لها لسنوات قد تجعله أدونيس آخر - أكثر أفراد الجيل الذهبي شُهرة وانتشاراً. كان رُشدي قد نشر رواية لم تلقَ حظاً من النجاح تُسمى غرايمُس، ثم عاد إلى الهند ليخرج منها بروايته الشهيرة أطفال مُنتصف الليل، التي وضعته على خارطة الأدب الإنكليزي، وأعطته مكانته بين أبناء جيله. مكانة سلمان رُشدي تعود في جزء كبيرٍ منها إلى أسلوبه بالإنكليزية، وهو أسلوب باذخ، زاخر بالصور وحوشي القول.
غير أنّه ثمّة عقلٌ عربي وراء إنكليزية رُشدي الرشيقة، يجعل الكاتب غير قادرٍ على التخلص من رغبته العارمة في إدانة بني جنسه إدانةً مُطلقة، وفي الوقت نفسه إدانة الآخر إدانة مُطلقة كذلك. نوعٌ من التعايش الاسمي مع التاريخ، التظاهر بالتجرد من أي أحكامٍ قيمية، وفي الوقت نفسه، الرغبة في مُعاقبة كُل شخصية تنحرف عن الطريق السوي الذي يشعر الكاتب نفسه بالرغبة في التمرد عليه. بالإضافة - طبعاً - إلى اختلاف أدب رُشدي عن أدب إيشيغورو، فرُشدي يُحِب الغيبة و(الحش) - كما في اللفظ العامي - حُباً جماً، ويشتبك مع السياسة اشتباكاً مُباشراً، بخلاف إيشيغورو الذي يُفضل الاشتباك مع التاريخ كما يحضر في حياة الناس، لا مع البُنى السياسية المُتغيرة.
وإيشيغورو غريب بين أبناء جيله بسبب أسلوبه، فأسلوبه هادئ مُتمهِل، يتخذ صورة تعبيرٍ مُحايد أحياناً، وأحياناً يستخدم صوتاً مليئاً بالكليشيهات والتعبيرات الفارغة تُعبر عن الجو النفسي والاجتماعي لشخصياته والعالم الذي يقطنونه، وأحياناً يكتب بطريقة تلقائية، مثل شخص يتحدّث إلى القارئ على سفر، ويروي قصة حياته بتعبيرات تخلو من التعقيد الفكري، ومن حوشي الألفاظ، ومن الصياغة المُتقنة. وأحياناً، يستخدم لُغة مثل قطع الطوب، تتراص مُتماسكة بشكلٍ خانق، لا مجال معه للتنفس. في هذا المقال، يتحدّث فيليب هنشر عن إعراض إيشيغورو عن استخدام الأفعال المُركبة بالإنكليزية phrasal verbs، وهي أفعال مِمّا تختص به اللغة الإنكليزية، بحيث يدخل حرف جرٍ على الفعل ليُغير معناه. وفي الاستخدام اليومي للغة، كثيراً ما يتجنّب المتحدثون الأفعال الجامدة، ليستخدموا الأفعال المُركبة الأقل رسمية. ثمّة تلميح من هنشر إلى أنّ (أجنبية) إيشيغورو تجعله غير قادرٍ على التمكن من استخدام الأفعال المُركبة، لكن هذا التلميح يخلو من الحصافة، إذ أنّ إيشيغورو مُستمعٌ جيد إلى أحاديث الناس، قادر على التعبير عن الطريقة التي يتحدثون بها، وتجنبه لاستخدام الأفعال المُركبة خيارٌ أسلوبي يُعمِق من الحاجز الشعوري بين شخصياته وبين العالم. إنّهم ليسوا جزءاً من المجتمع ليتباسطوا معه، بل هم يُحاولون التماهي مع أعرافه وقيمه الاجتماعية بغض النظر عن كونهم ضحية لها، محاولين بذلك أن يتغلبوا على كونهم ضحايا.
براعة إيشيغورو تكمن في المُخافتة، فهو لا يرغب في إذهال القارئ بجُمله الذكية، ولا بتشبيهاته المُبتكرة، ولا باستخداماته البارعة للألفاظ، لكنّه - في الوقت نفسه - يستطيع أن يخلق صوراً مؤثرة من كلماته البسيطة، فاللغة عنده ليست غرضاً في حد ذاتها.
فيما جيله يزخر بالأسلوبيين الكبار: فأسلوب رشدي شديد الحماسة، راغبٌ في إذهال القارئ مع كُل جملة، مُمعِنٌ في إغراقه بالصور الملونة التي تخطف الأبصار، وشد بصره بالألفاظ المُستخدمة بطُرقٍ مُبتكرة. في روايات رُشدي، الأسلوب ملك، والقارئ رهينة عند رواته الأذكياء الذين يعرفون أنّهم أذكياء، ويتحمسّون لإشراك القارئ في ألعابهم اللفظية، بغرض غلبته أحياناً. وأسلوب مارتِن آمِس لاذع، يعتني بصياغة الجُمل صياغة مُتقنة. ويأخذ آمِس على الكُتاب تكرارهم أفكارهم وتعبيراتهم - رغم أنّه يُكرر أفكاره وتعبيراته. وفي مقالة نُشرت قريباً، وُصِف كتابٌ لآمِس - وصفاً في محله - بأنّه دليل على أنّ المرء يُمكِن أن يكون بارعاً وأحمق في الوقت عينه. فيما جُمل إيوان مكيوان موزونة على وزن البحر الأيامبي الخُماسي - ”العمبقي“ كما يُترجمه البعض -  غير أنّه يمتاز بفجاجة قل نظيرها، وليس عنده شيء يستحق أن يُقال في رواياته الأخيرة.
رُبما لهذا فاز إيشيغورو بجائزة نوبل؟ فخصائص أي كاتبٍ الأسلوبية لا شك ستُفقد - بعضها أو كلها - في الترجمة، وبالتالي، قد تضيع ثلاثة أرباع فصاحة رشدي ورفاقه في الترجمة، فيما الترجمة لا تُفسد عمل إيشيغورو كثيراً - وإن كان التعبير عن أسلوبه الحق أمراً صعباً. ورُبما يكون الأمر أنّ لجنة نوبل قد نجحت أخيراً - بعد جولاتٍ طويلة من المحاولة والخطأ - في الوصول إلى أديبٍ حكيم يُدرِك أنّ الحياة أعمق من مُجرد إلماعة مُبتكرة إلى كاتبٍ قروسطي غامض.
 

الفانتازيا


فوز إيشيغورو بنوبل جاء مُفاجئاً، فالمرشحون الأبرز لها هُم فيليب روث - الذي لم يكُن أحدٌ يتوقع فوزه جدياً لأن مواطنه بوب ديلان قد فاز بالجائزة العام الفائت - وسلمان رُشدي وهاروكي موراكامي. من الصعب الآن أن يفوز رُشدي بالجائزة العام القادم لأن إيشيغورو من مواطنيه، لكن مسألة هاروكي موراكامي فيها قولان، فقائلٌ يقول إنّ إيشيغورو-سان كاتب إنكليزي، وقائلٌ يقول إنّه كاتبٌ ياباني وإنّ نوبل قد أطاحت بحصانيها الأسودين - رُشدي-خان وموراكامي-سان - في ضربة واحدة.
هُناك من ينسُب أهمية إضافية إلى فوز كازو إيشيغورو هذا العام، فالثيمة التي تدور حولها كتاباته دوماً تتعلق بالقهر، كما أنّ كتابه الأشهر بقايا اليوم يتحدّث عن الذين تحالفوا مع النازية وعن الذين تنحوا جانباً فيما كانت أوروبا تقع في قبضة الفاشية تدريجياً.  وروايته الأخيرة العملاق الدفين تتحدّث عن الذكرى، فهل يجوز أن يتمسك المرء بذكرياته - رغم أنّها هشة وعابرة - ما دامت الذكرى تبعث أيضاً الحروب والكراهية؟ كتابات إيشيغورو بسيطة بساطة مُغرية، فيما هي في الحقيقة عميقة ومتعددة الطبقات بشكلٍ يجعله سهل القراءة وصعب الفهم في الوقت عينه.
وهناك من يرى أنّ لنوبل مشروعاً يتعلق بـ ”دمقرطة الأدب“، فنوبل قد مُنِحَت العام الفائت لبوب ديلان، وهو مُغنٍ في الأساس، وهذا العام قد مُنحِت لكاتبٍ قد كتب في الفانتازيا هو كازو إيشيغورو. لكن من يعتقد أنّ نوبل تهدف لأي أفكارٍ تتعلق بالمساواة أو المشاعية أو توسعة حدود الأدب يحتاج إلى إعادة النظر والتدبر: نوبل هي المؤسسة الغربية بحد ذاتها، والمُنتظِر منها أن تُروِج للتنوع الأدبي كمن ينتظر من الاستعمار أن يعترف بمكانة الشعوب المُستعمَرَة الأدبية.
قبل أن يكتب إيشيغورو العملاق الدفين فإنّه قد كتب لا تُفلتني أبداً. حيرّت هذه الرواية - في حينها - قُراءه ومُتابعيه، إذ أنّها رواية خيالٍ علمي وتاريخٍ بديل، فتساءلوا في أنفسهم وعلى صفحات الصحف عمّا حمَل كاتباً ”جاداً“ من الوزن الثقيل مثل إيشيغورو على الخوض في مجال الخيال العلمي؟ خصوصاً وأنّ خيال إيشيغورو العلمي يختلف عن السائد في نوع الخيال العلمي الأدبي، كما وأنّ العالم الذي يبنيه يُعاني من بعض المشاكل في الحبكة. في لا تُفلتني أبداً يُقدم إيشيغورو بريطانيا بديلة، يُستنسخ فيها أطفالٌ من أجساد السُجناء والمُدمنين وسُكان العالم السُفلي، ويُربون في مدارس خاصة، حتى إذا بلغوا سِنَ الرُشد ذهبوا ليعيشوا في العالم إلى حين، إذ أنّ سِر وجودهم يكمُن في كونهم قِطع غيارٍ للبشر الآخرين غير المُستنسخين. وبشكلٍ دوري، يجري تقطيعهم وسلب أعضائهم الحيوية منهم، فيموت واحدهم بعد سلب عضوٍ أو أكثر، في سن الشباب. إيشيغورو لا يتحدّث عن الاستنساخ في الرواية، بل عن المُجتمع الذي يُربي الأطفال كالماشية، غير مُهيء إياهم للعالم الحقيقي، ويتحدّث كذلك عن المدارس التي تبني لأطفالها عالماً يكونون فيه مقبولين ثم يجدون أنفسهم منبوذين في الحياة العامة لأنّهم مختلفون، ويتحدّث عن التعليم الذي يزرع في نفوس هؤلاء الأطفال أنّه من الطبيعي أن يتحولوا إلى قطع غيارٍ حين يكبرون، وعن المُجتمع الذي لا يهتز ضميره وهو يفترس هؤلاء البشر اللذين وضعهم في حالة ضعف.
لكن إيشيغورو لا يكتب أفكاراً كبيرة. إيشيغورو يكتب لحظات صغيرة، تفاعلات حياتية عابرة، شجاراتٍ بين صديقتين، رحلة إلى مدينة ساحلية، بحثاً عن شريط أغانٍ، فتاة صغيرة تبتكر حكاية لأغنية من تلقاء ذاتها، وتُمثلها وهي تستمع إليها، وسيدة كبيرة في السن تُلاحظها، وتنسج من حكايتها حكاية مختلفة. إيشيغورو لا يخشى أن يكون عاطفياً، ولا يخشى من أن يُجاهر بانفطار قلبه، ولا يخشى من أن يبكي قارئه.
وعلى أي حالٍ، فمن لا يكتُب فانتازيا هذه الأيام؟ زميلا إيشيغورو في القائمة: رُشدي وموراكامي يكتُبان الواقعية السحرية، وواقعيتهما تختلف عن الواقعية السحرية لأمريكا اللاتينية. قصص رُشدي حافلة بالغرائب الغروتيسكية، وكذلك قصص موراكامي. كما أنّ موراكامي - الذي يصلح عنوان هذه التدوينة عنواناً لإحدى رواياته - ليس إلّا مانغاكا لا يرسُم، ورواياته سهلة القراءة لأنّها أقرب إلى مانغا الشونين - القصص اليابانية المرسومة الموجهة إلى الصبية المُراهقين - مع بعض الإضافات الإباحية. سلمان رُشدي يكاد يكون غير قادرٍ على كتابة رواية تخلو من الفانتازيا، وفي بعض رواياته الأخيرة فإنّه يتحول إلى نوعٍ من الشعوذة.
وإذا عُدنا إلى فتيان بريطانيا الذهبيين، فإنّ إيان مكيوان قد توصّل أخيراً إلى أن يكتب رواية بلسانٍ جنين في بطن أمه، يُعيد رواية ”هاملت“ بينما يتذمر من كُل شيء يُضايق كاتبه مكيوان، وفي النهاية فإنّه يُجبر أمّه على أن تلده. هذه ليست فانتازيا، بل (هرتلة)، لكن، من يجرؤ على الإساءة إلى كُتاب الوزن الثقيل هؤلاء بالقول إنّهم يكتبون روايات لها العُمق الفكري نفسه الذي لمسلسلات التلفاز المُتوسطة، بحركاتٍ بهلوانية لغوية، وإشارات باطنية إلى نصوص سابقة؟
 

الجناح الياباني


في 1968 فاز ياسوناري كاواباتا بجائزة نوبل للآداب. قبل فوزه، كان ثمّة ضجة في اليابان، فقد شعر الأُدباء اليابانيون بأنّ الوقت قد حان ليفوز ياباني بالجائزة، وكان ثمّة مرشحون كُثر للجائزة، من أبرزهم كاواباتا ومُعاصره الأصغر سناً يوكيو ميشيما. ورُبما يكون فوز كاواباتا من العوامل التي ساهمت في أن يفقد ميشيما آخر ما كان يتمسك به قبل أن يندفع بجيشه الصغير، ويستولي على وزارة الدفاع اليابانية، ويحتجز وزير الدفاع رهينة، ثم ينتحر ببقر بطنه مع أحد تلاميذه في عام 1970. بعد ذلك بعامين، انتحر كاواباتا نفسه، وقد كان أكبر سناً بكثير، بطريقة هادئة، لا تُزعج أحداً ولا تُثير أي ضجيج.
لماذا انتحر كاواباتا، ولماذا انتحر ميشيما، ولماذا انتحر كُتابٌ يابانيون قبلهما وبعدهما أسئلة يطيب للمُهتمين بالأدب الياباني أن يسألوها، خصوصاً وأن كاواباتا يذكر الانتحار في محاضرته لنوبل، مُشيراً إلى انتحار الأديب الياباني ريونوسوكي أكوتاغاوا في سن الخامسة والثلاثين. بحُكم أنّ كازو إيشيغورو ليس منضوياً ضمن تقليد الأدب الياباني، فإنّه لا يُخشى عليه من هذا، غير أن الوشيجة التي تربطه بياسوناري كاواباتا قد تعود إلى أسلوبهما الهادئ، وميلهما إلى موافقة ما حولهما، وعدم رغبتهما في لفت الأنظار. الوشيجة الأخرى، الأقوى، وشيجة أدبية، فكاواباتا يكتب عن التفاصيل الصغيرة في الحياة، مع بعض الشطحات الفانتازية، مثل إيشيغورو. ويشترك الاثنان في أنّهما لا يوليان الكثير من الاهتمام للنوع الأدبي.
إيشيغورو نفسه يقول إنّه تأثر بشكلٍ طفيف وعابر بكتابات جانشيرو تانيزاكي، وقد يبدو هذا غريباً للوهلة الأولى، فجانشيرو تانيزاكي (هنتاي) الأدب الياباني الأكبر، فيما كتابات إيشيغورو بعيدة عن هذا، إلّا أنّ الناظر المُدقق يُلاحظ أنّ أدب تانيزاكي يُعنى كذلك بالتفاصيل الصغيرة، وشخصياته تُعاني أنواعاً من النبذ الاجتماعي بسبب انحرافاتها العديدة، فيما تُعاني شخصيات إيشيغورو من عدم قُدرتها على الذوبان في مُحيطها رغم أنّها - ظاهرياً - لا تُعاني من أي شيء يمنع اندماجها فيه، ولم تقترف جُرماً يُذكر.
وفي الأدبيات اليابانية، فإنّه ثمّة خلاف بين ريونوسوكي أكوتاغاوا وجانشيرو تانيزاكي حول ما يصنع القصة: يقول أكوتاغاوا إنّ القصة هي معمارها السردي، فيما يقول تانيزاكي إنّ القصة هي شخصياتها وحبكاتها. والمرء يتوقع من كاتب ”راشومون“ أن يُعنى بالمعمار السردي، فيما يتوقع من كاتب ”اللص“ أن يعتني بالشخصيات والحبكة. ويتجلى إيشيغورو حين يأخذ موقف تانيزاكي، غير آبِه بالمعمار، واضعاً قصصه حيث شاء لها أن تكون من دون أي تبرير، كما حدث مع رواياته الفانتازية، ومع روايته الأوروبية من ليس له عزاء (1995) التي لا تدور في مدينة مُحددة - ووصفها البعض بأنّها سيئة إلى حدٍ يجعل لها تصنيفها الخاص من السوء، فيما يرى البعض الآخر أنّها أحسن ما كتب إيشيغورو.
ومع ذلك، ينبغي ألّا يعتبر المرء أنّ موقف تانيزاكي يُنكِر المعمار، فالحبكة - التي يُعلي تانيزاكي من شأنها - هي الركيزة الأساسية في معمار أي فصة. ولا أنّ أكوتاغاوا يُنكِر أهمية الشخصيات، فإن كانت شخصيات ”راشومون“ شخصياتٍ رمزية، فإن شخصيات قصته ”ستارة الجحيم“ ما تجعل هذه القصة المُريعة تنبض بالحياة.
وإيشيغورو يعرف هذا جيداً، فالروائي الحق يعرف متى بالضبط تحين لحظة الكشف والانقلاب الدرامي، وكيف ينسج حقيقة الفاجعة تدريجياً، بحيث يُدرِك القارئ ما سيأتي، ومع ذلك، فإنّ مجيء لحظة الإدراك يبقى غير مُحتمل، وفي الوقت نفسه، فإنّ لحظة الإدراك لحظة عابرة، تمر في السرد بلا أي احتفاء خاص، الأمر الذي يزيد من أثرها.

13 أكتوبر 2016

القبعات

الشهر الماضي، حدثت زوبعة أدبية في العالم الناطق بالإنكليزية. ليونيل شرايفر - كاتبة أمريكية اشتُهِرَت برواية ينبغي أن نتحدّث عن كيفن (2003) التي تحولّت إلى فيلم بالاسم نفسه صدر في عام (2011) - ألقت خطاباً في افتتاح مهرجان بريزبان الأدبي، هاجمت فيه مفهوم الاستغلال الثقافي. كثيرون وجدوا خطاب شرايفر مُهيناً، وغادر بعضهم القاعة أثناء إلقائها إياه. واحدةٌ مِمَن غادروا كانت كاتبة أسترالية من أصل سوداني اسمها ياسمين عبد المجيد، وقد كتبت تدوينة غاضبة فور مُغادرتها عن الحدث، ونشرتها في مدونتها الخاصة. تواصلت معها صحيفة الغارديان البريطانية، وأعادت نشر التدوينة في موقعها. ثم حصلت الصحيفة على خطاب شرايفر، وأعادت نشره كذلك، فتوالت ردود الأفعال بين القطبين.

ليونيل شرايفر
مُلخص خطاب شرايفر كما يلي: لقد دُعيّت إلى المهرجان لتُلقي خطاباً حول المجتمع والانتماء، لكنّها ترى الموضوع مُملاً، وأن يطلُب منظمو المهرجان من مُحطمة أيقونات معروفة renowned iconoclast - الكلام لها - أن تتحدث عن موضوع كهذا كأن يطلبوا من قرشٍ أبيض عظيم موازنة كرة شاطئ على أنفه. بدلاً عن هذا، تريد شرايفر الحديث عن موضوع الاستغلال الثقافي cultural appropriation. شرايفر ترى أنّ الخوف من الاستغلال الثقافي قد تحول إلى حجة لقمع الكتاب ومنعهم من كتابة الشخصيات التي يريدونها، مما جعله شكلاً من أشكال الرقابة، وحولّه إلى هوسٍ اجتماعي ضار. تضرب مثالين رئيسيين: كاتبٌ أبيض استخدم شخصية فتاة نيجيرية في كتاباته، وانتُقِدَ لاستخدامه الشخصية من أجل الحبكة. والمثال الآخر حادثة في جامعة أمريكية، حيث أقام شُبانٌ بيض في أخوية حفلاً ارتدوا فيه قبعات السومبريرو المكسيكية وشربوا التكيلا، ونتَجَ عن ذلك توبيخ مجلس الطُلاب لهم، والمُناداة بإيقاف عضويتهم فيه. شرايفر ترى في هذا مثالاً صارخاً على القمع، فما المشكلة إن أقام الشبان حفلة تنكرية ووضعوا على رؤوسهم قبعات السومبريرو وشربوا التكيلا؟ هل يُحرمون من هذا لمجرد كونهم شباناً بيض؟ تتذكر شرايفر عندما كانت طفلة، وكان والداها يزوران المكسيك، ويعودان بقبعات سومبريرو لها ولأخيها، فيرتديانها ويفرحان بها. تذكُر شرايفر الكثير من الأمثلة المشابهة. وتتمنى أن يتحول الاستغلال الثقافي إلى صرعةٍ بائدة. تقول شرايفر إنّ عمل الكاتب أن يرتدي قُبعات الآخرين، وتُطبِق مجازها حرفياً، فتضع قبعة سومبريرو على رأسها فيما تتكلم. وتدعو من يشاء إلى أن يرتدي القبعات البافارية والسراويل الجلدية الألمانية ويشرب البيرة الألمانية، بحُكم أنّها أمريكية من أصل ألماني.

ياسمين عبد المجيد
خرجت ياسمين عبد المجيد في وسط الخطاب. ومُعظم مقالها وصفٌ للمشاعر التي أثارها هذا الخطاب في نفسها، وقد صُرِفَ الحديث عن المشاعر بوصفه ثانوياً، إلّا أنّ المشاعر هي أهم عُنصرٌ في المسألة: الشعور بالظلم والغضب الذي أثاره حديث امرأة بيضاء متقدمة في السن بمثل هذه الطريقة المستهينة عن مسألة الاستغلال الثقافي التي لم تُعانِ منها أبداً. ما أقلق كثيراً من أصحاب ردود الأفعال في مقال عبد المجيد كان فكرته الرئيسية: نعم، لا يحق لأي كاتبٍ أبيض أن يكتب عن شخصيات سوداء، أو من عرقٍ آخر. الكاتب الأبيض الذي يستغل فتاة نيجيرية من أجل حبكته يُنشَر كتابه، ويشتهر، ويحصل على قدرٍ من المال والثناء. في المقابل، لا تستطيع فتاة نيجرية في ظروفٍ تشبه ظروف الشخصية حتى أن تحصل على فرصة لنشر كتابها. لماذا يستمر العالم في مكافأة الكُتاب البيض الذين يستغلون الشخصيات من أعراقٍ وإثنيات مختلفة، فيما يحرم الأشخاص الحقيقيين من هذه الأعراق والإثنيات من حكاية قصصهم بأنفسهم؟

واشنطن بوست
كانت صحيفة واشنطن بوست قد نشرت مراجعة لرواية شرايفر الأخيرة آل مانديبل: عائلة ٢٠٢٩- ٢٠٤٧ رواية مستقبلية سوداوية تتحدث عن سقوط الولايات المتحدة الأمريكية - ذكر فيها كاتب المراجعة كِن كالفُس شخصية سوداء استخدمتها شرايفر في حبكتها: امرأة سوداء جميلة يتزوجها كبير آل مانديبل، ثم يكتشف أنّها تعاني من خرف الشيخوخة المبكر، وتُظهر الرواية حالتها المتدهورة عندما تنهار الولايات المتحدة الأمريكية، وتحولها إلى عبء على آل مانديبل البيض، الذين يقودونها بلجام كأنها حيوان من شارعٍ لآخر، وحين يتعبون منها، يطلقون عليها الرصاص. وحبّذ كاتب المراجعة ألّا تظهر هذه الصورة في مُلصق الفيلم، إذا صدر فيلم عن الرواية.
ثُمَ، بعد زوبعة خطاب شرايفر، عادت واشنطن بوست للحديث، فخطاب شرايفر جاء ردة فعلٍ على المراجعة، وعلى انتقادها بسبب مقابلة لها حول الرواية قالت فيها إنّها تخيلت شخصية المرأة السوداء الجميلة، لويلا، على أنّها انتقامٌ من كبير آل مانديبل، المثقف الليبرالي الذي يهجر أم أولاده ويتزوج امرأة سوداء جميلة لأنها ستكون حُلية جميلة لساعده، تُضيف إلى رصيده الليبرالي. لكن - والكلام لشرايفر - النكتة ترتد عليه، فالمرأة الجميلة التي تزوجها تعاني من الخرف المبكر، وتربطه إلى جوارها وهو يُشاهد تدهورها التدريجي. فنشرت واشنطن بوست مقالاً آخر لكالفُس نفسه يُظهِر فيه المزيد من الصور العنصرية في روايتها: تدهورت أمريكا في عهد أول رئيس وُلِد في المكسيك، وهو شخصٌ بغيض يتحدث بلكنة مكسيكية ثقيلة. الأشخاص المتعاطفون مع الفقراء في روايتها سُذجٌ يُسهمون في تدمير أمريكا بسذاجتهم. الشخصيات غير البيضاء القليلة المتناثرة تتحدث بلكنة واضحة، وإنكليزية غير سليمة. يُلاحظ كالفُس أنّه في الحياة اليومية، نادراً ما يُطبق أحدٌ قواعد اللغة الإنكليزية (الفُصحى) تطبيقاً تاماً، بغض النظر عن عرقه ومستوى تعليمه. وأنّ الكاتب غير المُغرض، إمّا يستخدم الإنكليزية السليمة لكل حوارات شخصياته، أو يستخدم الإنكليزية العامية وغير القياسية والخاطئة ليُحاكي حوار الناس على الطبيعة في كُل حوارات شخصياته. أمّا الكاتب الذي يستخدم الإنكليزية السليمة لحوارات الشخصية البيضاء، والإنكليزية المُحطمة لحوارات الشخصيات غير البيضاء فمُغرِض. ويقول إنّ المشكلة ليست في الاستغلال الثقافي، بل في ضيق أُفُق شرايفر.

نيويورك تايمز
تدخلت نيويورك تايمز على الخط، فنشرت قصة من داخل مهرجان بريزبان أرسلها لها رود نوردلاند، وفيها نقل حديثاً على لسان الصحفية والكاتبة الأمريكية-الكورية سوكي كِم أفضت إليه به في حديثٍ شخصي خاص، دار داخل استراحة الكُتاب المُغلقة على الكُتاب المُستضافين في المهرجان وحدهم، ولم يُبلغها بأنّه سينشره في نيويورك تايمز منسوباً إليها. وقد اعتذر مُحرر الشؤون العامة في الصحيفة في اليوم التالي، مُعترفاً بحق سوكي كِم في توقع الخصوصية إزاء كلامٍ قد قيل في مكانٍ خاص، ولكن نوردلاند - الذي كان في المهرجان بصفته كاتباً - قد ذكر أنّه صحفي، وسوكي كِم "تدعو نفسها صحفية".
بعدها، نشرت نيويورك تايمز مقالاً لشرايفر نفسها، تتهم فيه جيل الألفينات - بحساسيتهم المفرطة - بتدمير اليسار. وتتحسر على الأيام التي كان فيها اليسار مُدافعاً حتى عن حقوق العنصريين والنازيين الجُدد. أمّا جيل الألفينات الجديد فجيل متمحور حول ذاته، متمسك بهويته، يتوقع الإهانة من كُل جهة، ومستعدٌ لأن ينشب مخالبه في عنق كُل من يتحدث بكلامٍ لا يُعجبه. وهذا الشعور بالتفوق الأخلاقي الذاتي، والبحث في زلات كل شخص، سيُدمر اليسار.
ثُم، يبدو أنّ نيويورك تايمز قد وجدت نفسها في مكانٍ لا تُحِب أن يُحسَب عليها، فنشرت بعض المقالات التصالحية التي تشجب خطاب شرايفر في بريزبان، وفي الوقت نفسه تُنادي بإمساك العصا من المُنتصف، وتتحدث عن كون الخوف من الاستغلال الثقافي حاجزاً يمنع الكُتاب من الكتابة، ونوعاً من البُعبع الذي يتهدد أي كاتبٍ يتجرأ على الكتابة عن أشخاصٍ لا يشبهونه ويشبهون أُسرته ومُحيطه. في الوقت نفسه، فإن الكُتاب الذين يحصرون أنفسهم في دائرة اجتماعية واقتصادية ضيقة، يُنتقدون لافتقار أدبهم إلى الغنى والعُمق، ولتمحورهم حول ذواتهم.

سوكي كِم
ردّت سوكي كِم على نوردلاند، فذكرت تذمره هو نفسه من مراجعة دمرّت كتابه الحبيبان (2016)، ووصفه لِمَن راجعت الكتاب بأنّها "امرأة باكستانية غير مؤهلة". كتاب نوردلاند كان عن روميو وجولييت الأفغانيين، فتى من الهزارة وفتاة من الطاجيك، شيعي وسُنية. وقد راجعت الكتاب - لصحيفة نيويورك تايمز نفسها - رافيا زكريا مراجعة ممتازة، ذكرت فيها العُنصرية والنظرة الاستعمارية اللتين تظهران في الكتاب الذي يستغل قصة الزوجين ويعرّض حياتهما للخطر. تحدثت كِم كذلك عن وصف مُحرر نيويورك تايمز للشؤون العامة لها بأنّها: "تصف نفسها بأنّها صحفية"، مع أنّها صحفية استقصائية، وقد عملت في كوريا الشمالية متخفية على أنّها مُدرسة، وأصدرت كتاباً عن حياتها بين أبناء نُخبة قادة كوريا الشمالية، الذين يُتوقَع لهم أن يكونوا قادة البلد في المُستقبل. ما تقوله كِم، إنّها بالمقاييس الأمريكية للصحافة نفسها، صحفية من النخب الأول: تسللت وراء خطوط بلدٍ مُنغلق، بهوية مستعارة، وعاشت فيه لوقتٍ مُعتبر، سجلت أثناءه تفاصيل حية. ولكن مُحرر نيويورك تايمز، ارتأى أن يقول إنّها "تصف نفسها بأنها صحفية".
لم تقل كِم ذلك، لكن الطريف إنّه خلال الزوبعة، بانت التحزبات واضحة. محرر نيويورك تايمز قد قرر إنّ صحفية كورية لا تستحق لقب صحفية مباشرة، من دون تعليق بأنّها - المرأة المسكينة! - تعتقد نفسها كذلك. شرايفر نفسها، في مقالها في نيويورك تايمز، لم (تتنازل) لتصف ياسمين عبد المجيد بأنّها كاتبة، الاسم العام الذي يُطلَق على كُل من يشتغل بحرفة الكتابة، بل قررت إنّها memoirist، أي كاتبة مذكرات، لتضع مسافة بين الكُتاب - مثلها - وكُتاب المذكرات الذين هُم من عرقٍ أدنى. مما أعاد إلى الأذهان حديث توني موريسون، الكاتبة الأمريكية السوداء الشهيرة، قبل نحو عقدين، عن احتفاظ البيض تاريخياً بحق (تعريف) الآخر. مغزى كلام موريسون أن أوروبا البيضاء، ووريثتها أمريكا البيضاء، كانت من يُعرِف العالم على مر التاريخ وفقاً لرؤيتها الخاصة، ورغبتها التفضل بالإنعام على من شاءت، وحرمان من شاءت، ومحاولة المُنعَمِ عليهم والمحرومين أخذ حق التعريف بأيديهم، وصياغة كيوننتهم من دون الحاجة إلى اعترافٍ أبيض بها، يُقلق البيض، حتى المتنورين منهم، كما تفترض شرايفر نفسها.
تعود كِم للحديث، فتتذكر روايتها الأولى، التي ظهرت في قائمة مرموقة تُشيد بالروايات الأولى المهمة الصادرة كُل عام. وفي أول مهرجان أدبي تحضره مدعوة بعد روايتها الأولى، حُشِرَت في جلسة مُخصصة للكتاب (الملونين)، فتشاركت مع كاتبين للقصص الإباحية وأدب الفتيات الخفيف. فيما كان كُل المشاركين في جلسة الروائيين الذين نشروا رواياتهم الأولى ذلك العام من الذكور البيض، بل وسبق لواحدٍ منهم أن حضر المهرجان نفسه، مشاركاً في الجلسة نفسها للروائيين الذين ينشرون للمرة الأولى، العام السابق.
في مهرجان بريزبان نفسه، نظم المهرجان جلسة لحق الرد على شرايفر عُقدت في الوقت نفسه الذي كانت تجري فيه جلسة شرايفر الترويجية لروايتها الجديدة، آل مانديبل. وقد دُعيت كِم وعبد المجيد وآخرين للرد على كلام شرايفر. كِم لا ترى فارقاً بين جلسة مهرجان بريزبان - التي اعتبرتها شرايفر، ومناصروها ممارسة للرقابة على أفكارها واعتداء على حرية التعبير - وبين ما حدث في المهرجان الذي حشرها مع كُتابٍ لا يجمع بينها وبينهم شيء إلّا عامل كونهم جميعاً من غير البيض، وحرمها من المشاركة في جلسة ذات (برستيج) عالٍ كانت تملك الحق في المشاركة فيها. بمعنى أنّ المهرجانات الأدبية لا ترى في الأدباء غير كونهم من البيض أو من غيرهم، وتُصنفهم بناء على ذلك.

وبعد،
من المعلوم إنّ المجاز مِلحٌ أدبي، والإفراط فيه يقود إلى كلامِ مجانين. وهذا ما قالته شرايفر، ومن أيدوها. لقد أرادوا استخدام التعبير المجازي - ارتداء قبعات الآخرين، بمعنى التفكير في الأمور من وجهة نظرهم والتعاطف معهم - بشكلٍ حرفي: ارتداء قبعات الآخرين. الكاتب الذي لا يُفرِق بين القبعات التي يجلبها والداه من المكسيك وتُباع للسياح، وبين الاستغلال الثقافي والتنميط الذي يتعرض له المكسيكيون - من ضمن شعوب وأعراق وإثنيات وثقافات أخرى - ليس عنده ما ينبغي قراءته أو الاستماع إليه. لكن، ما يبدو غائباً في الردود على شرايفر، أنّها تُنمِط الثقافة الألمانية وتختزلها في سروال جلدي وقبعة وقدحٍ من البيرة. بطبيعة الحال، شرايفر ليست ممثلة الثقافة الألمانية، والأمريكيون من أصلٍ ألماني فئة من ذوي النفوذ في المجتمع الأمريكي، لدرجة أنّ المهزلة التي يقودها ترمب لم تؤثر بشيء على سُمعتهم. مع ذلك، فإن تجربة الأمريكيين من أصلٍ ألماني مختلفة ومتعددة، وثقافتهم متنوعة، بشكلٍ لا يُمكِن اختزاله في صورة تبسيطية. ولا يُمكِن لهذه الصورة أن تعبر عن الثقافة الألمانية الأوروبية. لا يستطيع كاتبٌ - حتى لو كان من أصلٍ ألماني - أن يكتُب عن شخصية ألمانية ما لم يكُن بوسعه أن يُحِس بحرج طالبٍ ألماني يُقدمه أحدهم إلى مجموعة طُلابٍ أمريكيين، فيعرضون عليه فوراً شريطاً ساخراً لهتلر، أو أذى طالبةٍ ألمانية يصف أحدهم لغتها الإنكليزية ذات اللكنة الجرمانية الثقيلة بأنّها مثل كلام حُراس المعسكرات النازية، أو انزعاج شابٍ أو شابةٍ ألمانيين من إيقاف شخص مُسنٍ إياهم لـ(يوعيهم) عن الهولوكست، واضطرارهما للوقوف والاستماع بأدب لمحاضرة عن أمرٍ لا يد لأي منهما فيه. أو حيرة موظفٍ ألماني في هيئة أوروبية أوكِل إليه تنظيم مؤتمر ما، وقرر زملاؤه الأوروبيون المثقفون أنّ اسمه الألماني عصّي على النطق من دون حتى أن يحاولوا تجربة نطقه، فقرروا تسميته بنسخةٍ إنكليزية من الاسم، ولم يكُن له إلّا أن يُحدِّق مذهولاً، وينظر حوله، فيبصر زميلاً يونانياً يُعاني من العذاب ذاته، فيرفع يده بوهنٍ مُحيياً، وعلى شفتيه شبه ابتسامة ذاهلة، لأن التكشير يُلصِق بِه تهمة النازية بلا شك. كما أنّه لا يوجد نمطٌ واحدٌ يُعبر عمّا هو ألماني: هُناك من يُريد محو حُقبة النازية برُمتها، وهُناك من يُريد الاحتفاظ بها عبرة، وهُناك من يُريد استعادتها، وهُناك من يُريد شيئاً آخر. هُناك من يُحِب الشعوب الأخرى، وهُناك من يتحفظ ضدهم. هُناك الإنسان الطيب، وهُناك العُنصري، وهُناك اللا مُبالي. وهُناك الذي يصرخ: "ارحمونا، ثمّة أشياء في ألمانيا غير النازية!"
وقِس على هذا كُل شعوب الدُنيا: من يكتُب عن أمريكي من أصلٍ أفريقي من دون أن يفهم وصمة العبودية، والنظرة التي تورثها، السُخرة، التحقير، اللوم، التبخيس، والاستغلال الثقافي لتمجيد الرجل الأبيض مُحرر العبيد، والحاجة إلى إثبات الذات، والتهديد الذي يُسببه منظر رجلٍ أسود ضخم الجثة، ويجعل الكثير من البيض يتعاطفون مع رجالِ الشرطة المتوحشين الذين يقتلون السود العُزل، يستغل هذا البؤس. ماذا عن الأسود الوحيد في الشلة البيضاء الذين يستخدمونه جميعاً ليظهروا بمظهر غير العُنصريين؟ والمُبدع الأسود المحبوس في خانة الفن العرقي، الذي يُثير التساؤل إذا حاول أن يُحاور الأصول الإغريقية واللاتينية للثقافة الغربية كما يفعل زميله الأبيض؟ ماذا عن المرأة السوداء التي تُبخَس بكُل شكل مُمكِن؟ ومن ذلك استخدام شرايفر لها لمُعاقبة رجلٍ أبيض على تركه لأم أولاده البيضاء.
ثمّة مُناصرون لشرايفر يرون أنّه وفقاً لمنطق الاستغلال الثقافي، فلا يُمكِن كتابة كتابٍ مثل هكلبري فِن اليوم. كتاب مارك تواين الشهير كان مُميزاً في القرن التاسع عشر لأنّه قدّم، للمرة الأولى، شخصية عبدٍ أسود يُثير التعاطف. لكِن الكاتب الأبيض الذي يُريد كتابة الزنجي جِم من جديد في القرن الحادي والعشرين، شخصٌ عُنصري قبيح مكانه كوابيس الماضي. والمُقلق أنّ الكثيرين يعتبرون أنّه من الطبيعي النظر إلى هذه الشخصية بوصفها قدوة في الكتابة العرقية، مما قد يُبرر رغبة البعض في نشر نُسخة مُنقحة جديدة من رواية هكلبري فِن، تخلو من الإشارات العُنصرية. هذا لا يصُح، لأنّه إعادة كتابة للتاريخ، وفي الوقت نفسه، فالمرء يُدرِك أن بقاء الماضي من دون تنقيح، والاحتفاء به، يجعل الكثيرين من الكُتاب مُنخدعين به، مُعتبرين إياه قدوة ينبغي اتباعها. ما يجهله أنصار الاقتداء بمارك توين في كتابته لشخصية الزنجي جِم إنّه لم يكُن في زمن مارك توين شخصية سوداء ذات حيثية في المجتمع والثقافة بحيث تُبين العُنصرية في عمله، وتُقارعه الحجة بالحجة.
وهذا هو لُب المسألة: لقد أصبحت مُعظم الفئات المُهمشة في الماضي تمتلك حق الرد، وتستطيع إيصال صوتها. إذا كتبت كتاباً يُهين الهنود الحُمر، فهناك ناشطون من الهُنود الحُمر سينتقدونك، بل ومن غيرهم كذلك، حيث أنّ الكثير من الناس - والحمد لله - قد صاروا ينفرون من العُنصرية بكُل أشكالها. وكذلك، الكتابة بشكلٍ مُهين عن كُل الفئات التي كان التنمر عليها سهلاً في الماضي. تذكرت كاتباً عربياً اشتكى مرة على مواقع التواصل الاجتماعي من أنّ الناس قد أصبحت في غاية الحساسية، فلم يعد بإمكانه أن يُلقي نُكتة حول أي فئة من الناس، إلّا وجاءه فردٌ منها ليلومه. الناس لم تُصبح في غاية الحساسية، ولم تتحول إلى وحوش ترفض حُرية التعبير. الناس تنزعج مُنذ قديم الأزمان، لكنّها الآن تستطيع جعل انزعاجها مسموعاً.
مُشكلة أخرى، هي الخلط بين المُتنمرين، وبين أصحاب الحق. بمعنى، إنّ أي كاتبٍ قد جرّب مواقع التواصل الاجتماعي، قد تعرّض إلى قدرٍ كبيرٍ من التنمر. هُناك جماعات تتكالب على المرء وتهاجمه وتُهينه، وهُناك شللٌ تتفنن في تأليف الإهانات الموجهة إليه، لمُجرد التعبير عن رأي مُختلف، ليس في السياسة، بل في عملٍ فني أو مُنتجٍ فكري. وكثيرٌ من المُتنمرين المُتكالبين مِمَن يُحسَبُون مِنَ المُثقفين، ويعتبرون عملهم هذا كشفاً عن "الزيف" الذي يعتري الحياة الفكرية، وليسوا أكثر من عصابة عالية الصوت. يحدث هذا بالعربية والإنكليزية، وبكُل لغةٍ تقريباً. النساء يتعرّضن إلى أضعاف، أضعاف التنمر والتكالب الذي يتعرّض له الرجال، لأسبابٍ واضحة.
هذا شرٌ، بطبيعة الحال، ولا يُمكِن الدفاع عنه. لكن الخلط بينه وبين لفت الانتباه إلى العُنصرية والتعصّب خلطٌ مُغرِض، يهدف إلى تشويه المعادين للعنصرية. أن يُعبر أحدهُم عن اعتقاده بوجود صورٍ عنصرية في عملٍ ما، يختلف تماماً عن أن يسب أحدهم كاتباً، ويُهينه ويهدده ويُحرض عليه، ليجعله عُرضة لكُل مُختل، وهذه مُمارسات قد شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي مراراً. لكن الكثير من المُنتفعين يخلطون الأوراق خلطاً بيناً، ويرفضون الاعتراف بالتقصير، أو بالتحيز الضمني، أو حتى تجاهل النقد ومواصلة الكتابة كما يُريدون.
لا أحد منع شرايفر - أو غيرها - من الكتابة، أو طالب الناشرين بعدم النشر لها، أو دعا إلى مُقاطعتها، أو تظاهر أمام مكتبة تبيع كُتبها لتمتنع عن ذلك، أو قاضاها في محكمة. كُلٌ يُمكِنه أن يكتب ما يشاء. لكن شرايفر، تتحدث في خطابها عن النقد الموجه لها قائلة:
هكذا، فإنّ على كُتاب الخيال أن يحترسوا في عالمٍ من سياسات الهوية. إذا اخترنا أن نستورد ممثلين عن الجماعات المحمية، فعلينا تطبيق قواعد خاصة. إذا حدث أن كانت الشخصية سوداء، فإن عليها أن تُعامل باستخدام قفازات الأطفال، ولا توضع في مشاهد يُمكِن، عندما تؤخذ خارج سياقها، أن تبدو مُسيئة. ولكن، ليست هذه طريقة للكتابة. العبء ثقيل للغاية، واختبار الذات يبعث على الشلل. النتيجة الطبيعية لهذا النوع من النقد الذي تُمارسه [واشنطن] بوست أنّه في المرة القادمة، لن أستخدم أي شخصية سوداء، خوفاً من أن تفعل أو تقول أي شيء غير باعثٍ على الإعجاب أو محبباً.
في الواقع، لقد ذُكرت برسالة تلقيتها بخصوص روايتي السابعة من شخص أرمني-أمريكي معترضاً: لماذا كان علّي أن أجعل راوية ينبغي أن نتكلم عن كيفن أرمنية؟ لم يُحب راويتي، وشعر بأنّ قوميتها قد أساءت لمجتمعه. وقد بذلت جهداً كبيراً لأشرح له أنّني أعرف شيئاً ما عن التراث الأرمني، لأن أعز صديقاتي في الولايات المتحدة أرمنية، كما أنّني اعتقدت أنّه ثمّة شيء مُظلم وساخط في ثقافة الشتات الأرمني كان مُلائماً لأجواء الكتاب. وكذلك، فقد يئست، لكُل شخصٍ في الولايات المتحدة خلفية عرقية ما، وكان على الشخصية أن تكون شيئاً ما!
ذكرني تذمُر شرايفر بكاتب عربي آخر، يمنع قراءه من النقاش فيما يكتبه بحُجة أنّ لغطهم يُمرضه. شرايفر تتعمد تجاهل الاعتراضات الموجهة للصور العُنصرية التي تتضمنها كتاباتها، وتُصِر على أنّ نُقادها يُطالبونها بتقديم شخصيات سوداء ملائكية، وهذا حرفٌ مُتعمد للكلام كُله. ليت أنّ لويلا، المرأة السوداء المسكينة، قد فعلت شيئاً، ولو حتى سيئاً، في روايتها، لكن لويلا لا تعقل لتفعل أو تقول. لويلا مجرورة بحبل ومقتولة.
ثمّة تعبيران في هذه القطعة من خطاب شرايفر يدُلان بوضوح على الموقف الفكري الذي تتخذه: "إذا اخترنا أن نستورد ممثلين عن الجماعات المحمية" "If we do choose to import representatives of protected groups" الذي تستخدم فيه مصطلح "استيراد" الذي يوحي بالاغتراب والاختلاف، و"ممثلين" بمعنى أنّها تعتقد حقاً أنّ الشخصيات التي تُقدمها مُمثلة عن المجموعات التي تنتمي إليها، وليست مُجرد شخصيات تخيلتها من دون أن يكون لها صلةٌ مُباشرة بجماعة حقيقية، و"الجماعات المحمية"، الذي يوحي بأنّها تعتقد أنّ أي جماعة ذات صوتٍ يُمكنها من الاعتراض على استيراد مُمثلين بشكلٍ عُنصري عنها، هي جماعة محمية، مثل الحيوانات المُهددة بالانقراض.
التعبير الآخر: "كما أنّني اعتقدت أنّه ثمّة شيء مظلم وساخط في ثقافة الشتات الأرمني كان مُلائماً لذلك الكتاب." "and I also thought there was something dark and aggrieved in the culture of the Armenian diaspora that was atmospherically germane to that book." الأمر الذي يجعل رواية ينبغي أن نتحدث عن كيفن عُنصرية بأثرٍ رجعي، بعد أن مرّت أرمنية الأُم على أنّها خلفية إثنية مختلفة عن السائد، فحسب. شرايفر ترى أنّ الشتات الأرمني يحوي على عُنصر مُظلم وساخط، مما يخدم كتابها، الأمر الذي يجعله كتاباً يُمارس الاستغلال الثقافي بأقدم صوره وأبشعها، فمثلها مثل كُتاب القرن التاسع عشر الذين كانوا يستحضرون الهنود الحمر والصينيين والسود لإضفاء عُنصر من الظلام والخطر والغموض والترقب على أعمالهم. كما أنّه يُحول طبيعة كيفن الغامضة وغير المفهومة إلى تجسد لشيء ما مظلم وساخط في ثقافة لم تشتهر بإنتاج سفّاحين على المستوى الذي يُمثله كيفن، الفتى الأمريكي الذي يرتكب مذبحة بحق زملائه من الطلبة.
جِس رو، وهو كاتبٌ أبيض، كتب في صحيفة نيو ريبوبلك، إنّ الكُتاب البيض مثل شرايفر - التي قارن بين موقفها وموقف كاتبٍ أمريكي أبيض آخر هو جوناثان فرانزن الذي يرفض كتابة أي شخصية من مُحيط خارج مُحيطه الشخصي - يعتقدون أنّهم في حُلمٍ ذاتي. لا أحد يُحِب أن يحلم حُلماً جميلاً ثم يستيقظ منه فجأة وهو لم يُكمل أحداثه، أو تتدخل مؤثراتٌ خارجية وتجعله يتلاشى أو يتغير. يخلق هذا شعوراً بالإنزعاج. يرى روس أنّ هؤلاء الكُتاب يرون النقد تهديداً لهم، لأنّه يُقاطع العالم الذي يتخيلونه، ويخلو دوماً من الأصوات المُضادة والأفكار المُخالفة لهم.
وهذه خُلاصة الزوبعة: ما يُطالب به هؤلا الكُتاب ليس حُريتهم في التعبير - التي لم تُمس - بل حصانة من النقد والاختلاف، وهذا، بحد ذاته، مُصادرةٌ لحق قُراء كُتبهم في التعبير عن آرائهم الخاصة في ما يقرأونه، وتحجيم لأفكارهم وردود أفعالهم. ما يُريده الكُتاب الذين يُفكرون بهذه الطريقة أن يقتدوا بالقرون الماضية، ويُنتجوا كتابات عُنصرية، ويحظوا بالشهرة والمديح، وتُسبغ عليهم الألقاب من قبيل "ضمير الأمة" و"المُدافع عن حقوق المقهورين" كما كانت تُسبغ على الكُتاب البيض الذين كانوا يتفضلون بتقديم شخصية من الفئات المقهورة بشكلٍ شِبه آدمي. لكن المقهورين لم يعودوا عبيد إحسان أحد.

15 سبتمبر 2016

ولولا بنياتٌ

قرأت مراجعة لإحدى كتابات توفيق الحكيم في أحد مواقع مراجعات الكُتب، وقد قالت صاحبة المُراجعة إنّها لا تفهم كيف احتل شخص سقيم التفكير، عقيم اللغة مثل الحكيم مثل هذه المكانة الهائلة في تاريخ الأدب العربي. مع هذه المراجعة، تذكرت فرع النصوص الذي كان جزءاً من مادة اللغة العربية في المدرسة الإعدادية والثانوية. كنت لا أطيق النصوص في المدرسة الإعدادية، وأراها عبئاً ثقيلاً، أحفظ منها ما ينبغي حفظه لأكتبه في الامتحان وأنساه بعدها كأنّه قد مُحي بفعل السحر. في السنتين الأوليين من الثانوية تغير الأمر، ووجدتني أحب النصوص، وأحفظ كثيراً منها، حتى تلك التي لم يكُن مُقرراً علينا حفظها، بل كُنت أحفظ من النصوص ما لم يكُن مقرراً علينا دراسته من الأساس، وكان يقبع في قسم (المحذوفات من المنهج). ثم عُدت في السنة الأخيرة من الثانوية إلى كُره النصوص، والمُعاناة من حفظها. لم يكُن الأمرُ متعلقاً بالضغط النفسي الذي تسببه الثانوية العامة، بل بطبيعة النصوص نفسها، حيث أنّ تدريس النصوص في الثانوية كان وفقاً للمراحل الزمنية. ومن نماذج الشعر الجاهلي والأموي والعباسي التي درسناها، كانت أشعارٌ جميلة المبنى حسنة المعنى، تستقر في النفس. ولعلّ الأمرُ يعود، بالإضافة إلى جودة المنتج الشعري في هذه العصور عامة، إلى حُسن اختيار القصائد المُقررة على الطُلاب، والشذرات التاريخية عنها، واختيار نماذج ممثلة للعصر، فنقائض جرير والفرزدق كانت علامة على العصر الأموي الذي استخدم الشعر أسوأ استخدام، وعادل النقائض نماذج حسنة من شعر الغزل، وأبيات قطري بن الفُجاءة في مواجهة الخوف من الموت، فيما كانت الاختلافات الجلية بين أبي تمام وأبي العتاهية وابن الرومي وعلي بن الجهم أدلة على تنوع العصر العباسي الأول وتقلب مجتمعه، وانفرد المتنبي بالعصر العباسي الثاني - انفراداً مُستحقاً. ثُم كانت الموشحات والقصائد الأندلسية قادمة من عالمٍ آخر، أكثر هدوءاً وطموحاً واندفاعاً، تحضر فيه الطبيعة حضوراً قوياً. وجاءت "لكل شيء إذا ما تم نُقصان" خاتمة موجعة لعصر من البهاء ولّى، مثل الفكرة بعد السكرة.
المشكلة في نصوص السنّة الأخيرة أنّها بدأت بعصور الانحطاط، وبنماذج من الشعر العثماني الكريه معنى ومبنى. وكان الشعر قد تحول من شكلٍ فني مرموق إلى هامش على الاحتفالات والمآدب، ومادة للتفكه والألغاز. ثم جاء الانتقال إلى الشعر الكلاسيكي العربي، الذي هو شعرٌ أجوف، يكاد يخلو من أي جمال، يستخدم من الألفاظ أجزلها، ويحد الأفكار الشعرية في بِركةٍ محدودةٍ من المواضيع الشعرية، كأنّه صدى للشعر الكلاسيكي الجديد الذي ابتلى الإنكليزية بواحدة من أكثر حُقبها جموداً. للأسف، كانت قصائد الشعر الكلاسيكي العربي من المحفوظات، على عكس قصائد الشعر العثماني، فكان علّي أن أتعذب في محاولة حفظ قصيدة لمحمود سامي البارودي، قالها عندما نُفي مع سعد زغلول وجماعة من القادة المصريين. لا أتذكر من القصيدة سوى البيت الوحيد الذي وجدتُ له صدى في نفسي، ويقول: "ولولا بُنياتٌ وشيبٌ عواطل/لما قرّعتُ نفسي على فائت سنّي". أتذكر أنّني حزنتُ على البارودي وعلى من نُفوا معه بسبب هذا البيت، أكثر من كُل الخطب الرنانة، والأبيات الجزلة التي تتحدث عن البطولة والفداء. فكم في هذا البيت من معانٍ رقيقة، وكم يستحضر من حنين إلى البيت والأهل والسنين المبذولة من أجل الوطن، ومن ثم المنفى، الذي هو واحدٌ من أبشع العقوبات التي عاقب بها الإنسان أخاه الإنسان.
لم تكُن الشذرة التاريخية كافية لشرح الظروف التاريخية التي أدّت إلى قرار النفي، فبقي غامضاً مستعصياً على الفهم، لكن بيت البارودي، في القصيدة الطويلة المليئة بالفخر والحكمة والألفاظ الجزلة القوية التي تتحدث فوق القارئ من على منبر، ولا تحدث القارئ بروحه، عَبَر الزمن إلى القلب، ليتحدث عن الظلم الذي تعرّض له البارودي وصحبه، وكُلفة حُب الوطن الباهضة، وفي ذلك فإن البيت يُذكرني بعتاب لوركا الرقيق لإسبانيا: "آه، الألم الذي يكُلفني إياه أن أحبك كما أحبك!"
ثمّة سؤال يثبُ إلى الذهن عندما يُفكر المرء في الأشعار الجامدة التي تبني بُنى لغوية فارغة، فهل نمتنع عن دراسة هذه الأشعار لرداءتها؟ وهل نحذف محمود سامي البارودي أو توفيق الحكيم أو غيرهم من التاريخ الأدبي؟ بطبيعة الحال، فإنّه ثمّة أدباء قد خرج أدبهم من التداول منذ عقود، فليس في يومنا هذا من يقرأ المنفلوطي أو المازني أو العقاد، إلّا من أُلزِم بذلك لدراسته، أو شعر بالفضول حيالهم وأراد بناء ثقافة كلاسيكية عربية. في زماننا هذا، فإن المتداول من الأدب إمّا الأدب الشائع مثل روايات الرعب والفانتازيا والتنمية البشرية، وزميلتها الأشعار الركيكة التي تدعي الثورية، أو الأدب المترفع الذي يُفترض به أنّه أدب النخبة، وفي كل الأحوال فقد تغيرت الأسماء، ورُبما تغيرّت الأحوال. لكن، هل يعني خروج الأدب من التداول إهماله؟ لقد مضى الزمان الذي كان فيه المتنبي الشاعر (النجم) في الأوساط الثقافية العربية، ولم تعد تصريحات المتنبي تثير الحروب الكلامية، ولم تعد أشعاره الجديدة تتسبب في زوابع فكرية ونقدية. لكن أدب المتنبي لم يمت ولم يُهمَل.
ثمّة من يرى أنّه حفاظاً على حُب الطُلاب للغة العربية، ينبغي حذف الأشعار الرديئة من مناهجها، بل وحذف حُقبٍ بكاملها إذا لزم الأمر. وثمّة من يرى أن تدريس الطُلاب أي نصوصٍ يعني القضاء على حُبهم للأدب، لما في التدريس من فرضٍ وإجبار. غير أنّ هذا الاتجاه يُغفل أهمية دراسة النصوص الأدبية في سياق دراسة اللغة العربية، فأي لُغة هذه التي تُدرَّس بلا نصوص مكتوبة بها؟ وهُنا تتشعب المسألة لتدخل في نطاق الذوق، إذ أنّني أتذكر حواراً مع إحدى زميلاتنا الأصغر سناً حول منهج النصوص، فذكرت لها نماذج من العصور التي أحببتها، وفاجأتني بالقول إنّ كل هذه الأشعار كريهة. فتحت كتاب النصوص - الذي كان قد تغير في السنة التي تلت سنتنا مباشرة - لأجد أنّ النصوص القديمة التي كُنا ندرسها قد استُبدِلت بنصوصٍ كريهة من الحُقب نفسها، فتغير منظور الطُلاب إلى هذه الحُقب، وكرهوا ما أحببناه، كما كرهوا ما كرهناه.
الذوق مسألة شخصية، لكن، في الذوق ما يجعل بعضه أفضل من بعض عند انتقاء ما ينبغي تدريسه. الذوق السيء لا يولد إلّا ذوقاً سيئاً، ورداءة الذوق وفجاجته تفيض على كُل شيء، وتُحَوِل القُبح إلى شيء مُستساغ، بل مُستحسن. خروج الذوق من النطاق الشخصي: "أنا أحب اللون الأزرق، أنا ألبس اللون الأزرق." إلى النطاق العام: "أنا أحب اللون الأزرق، كل الطُلاب سيلبسون اللون الأزرق." يحوله إلى وسيلة قمعية أثرها معروف في تشكيل وعي الشعوب في كُل العالم، سواء المُضطَهَد أم المُضطَهِد، وأثر هذا القمع قديمٌ مُذ عرّفت روما نفسها على أنّها الحضارة، وعرّفت ما حولها على أنّه البربرية، فصارت كلمة البربرية تعني نقيض الحضارة، وضاعت منّا حضارات البرابرة وآدابهم، في أوروبا وإفريقيا والجزيرة العربية، وصار ذوق روما القانون في روما وفي خارجها. القانون الكلاسيكي كذلك استُخدم في إيجاد "مقياس" موحد للثقافة، بحيث فرض مجموعة من المفكرين ذوقهم العام على الآخرين، فضاع الكثير من تنوع الأدب والفكر وتجمّد وفقاً لمقياس من الذوق باعد بين الثقافة (الرفيعة) والثقافة (الشعبية) أشد المُباعدة.
وبالعودة إلى تدريس الأدب العربي، فإن انتقاء النماذج الشعرية الجميلة يُحبب الطلاب في الأدب العربي، حتى من الحُقب التي لم تشتهر بالجودة بشكلٍ عام. وبغض النظر عن آراء واضعي المناهج الشخصية، فإنّه ينبغي الإحاطة بكل مراحل الأدب العربي واتجاهاته، بقدر الإمكان، وتقديمها للطلاب، ليحكموا بأنفسهم، ويقرروا ما يحبونه ويكرهونه، من دون أن يتأثروا بآراء واضعي المنهج. ولعلّ هذه هي المشكلة في المحفوظات، لا مبدأ الحفظ نفسه، الذي يُفترض أن يُنمي قريحة الطُلاب اللغوية وينمي عقولهم ويُدربهم على استحضار المعلومات عند الحاجة. فلو كان يُسمح للطلاب بحفظ ما يُحبونه من قصائد فحسب، لرُبما تحسنت علاقتهم بالآداب العربية. ورُبما، ينبغي تغيير طُرق تلقي الأدب في المراحل الدراسية العُليا، فيُسمح للطُلاب بمُناقشة ما وجدوه جميلاً وما لم يلمسهم، وتُوفر لهم خلفية تاريخية مُصاحبة لكُل حُقبة يدرسونها، ومنهجاً تحليلياً يستعينون به على قراءة القصائد واستيعابها بمُفردهم، وقراءة الأشكال الأدبية الأخرى وتذوقها، وتشجيعهم على استكشاف أدب أُدباء من الحُقب المُختلفة لم يتعرض لهم المنهج الدراسي.
هكذا، يرتقي الذوق العام، وتتجدد الآراء، فلا يرث الناس أفكاراً جاهزة عمّن يكون أديباً عظيماً، ومن يكون غير ذلك، من دون أن يغمطوا أحداً حقه، ومن دون أن يحكموا على شيء بغير قراءة. وبذلك تتفاعل الأفكار والآراء، ولا تحدث قطيعة فكرية بين مراحل الأدب العربي المختلفة.

31 يناير 2016

كلمات مفقودة

هل يُمكِن للكاتب المعاصر، ولنقل كاتب الرواية، أن يستخدم مفرداتٍ عربيةٍ غير مألوفة في كتابته ويتقبله القراء؟ يُمكِن لنا أن نتخيل روائيًا مسكينًا - أو روائية - يكتُب رواية، وفي إحدى صفحاتها، يكتب: "انبعق المطر". سوف يناله من الشتمِ والسخرية والاستهزاء على goodreads وغيره من مواقع مُراجعات القراء الكثير. ورُبما استهزأ به المستهزئون على مواقع التواصل الاجتماعي، واصفين الرواية برواية (البعقة)، أو ما شابه.

الجري

ثمة ترجمة نادرة لرواية قضية دكتور جيكل ومستر هايد الغامضة لروبرت لويس ستيفنسون ترجمها عبد علي الجسماني، أستاذ علم نفسٍ عراقي. ترجمة الرواية تحتاج إلى ترجمة، لشدِ ما استخدم المترجم من الألفاظ العربية غير المألوفة. لحُسن الحظ، فإن معنى الكلمات الغريبة كان مذكورًا في هوامش الصفحات، مما جعل قراءتها يسيرة. وبشكلٍ ما، فإن هذه الترجمة وفيةٌ لروح الأصل الإنكليزي أكثر من الترجمات الأكثر معاصرة والأسهل لفظًا.
غرابة مفردات الترجمة تبعث على التفكير فيما لو كان ثمة امتحانٌ عربي مُقابل لامتحان GRE باللغة الإنكليزية. GRE وسيلة بشعة لتعذيب الطلاب المتخرجين من درجة الدراسة الجامعية الأولى - البكالوريوس عادة - الراغبين في مواصلة الدرب الأكاديمي. الجامعات الأمريكية تُحِب امتحان GRE لسببٍ ما، مع وجود حملاتٍ ضده تتهمه بأنّه لا يقيس شيئًا سوى استعداد الطلاب للامتحان نفسه. على كُلٍ، لامتحان GRE عدة مكونات، لفظي وحسابي وكتابي. القسم اللفظي يكاد يكون الأكثر شُهرة، حيث يكون على الطلاب اختيار معاني الكلمات من مُتعدد. يبدو الأمر سهلًا - نظريًا - لكن امتحان (الجري) يجمع حوشي الألفاظ الإنكليزية وغريبها، ونادرون من يُفلحون في معرفة معاني كُل المفردات التي ترد فيه. ويُقال إنّ من أسباب (تقعر) الكتابات الأكاديمية، خصوصًا تلك الخارجة من الجامعات الأمريكية، محاولة الأكاديميين إثبات تفوقهم في امتحان (الجري) عن طريق استخدام أكبر قدرٍ من الكلمات الطنانة النادرة التي يعجز مستخدم اللغة الذي تلقى تعليمًا جامعيًا أوليًا عن فهم معناها. لو كان ثمة امتحانٌ مماثل في العربية، لزاد من الفجوة بين ذوي التعليم العالي وبين بقية المجتمع. من جهةٍ أخرى، لو كان ثمة امتحانٌ في العربية، لساهم في تقليل المفردات المفقودة من اللغة العربية كُل يوم.
ثمة نصيحةٌ جيدة تصلح لمُعظم أنواع الكتابة، ومفادها أن تُستخدم الكلمات السهلة القريبة في كُل موضعٍ يُمكِن أن تستبدل فيه الكلمات الصعبة المعقدة. كما أنّه ينبغي الابتعاد عن حوشي الألفاظ، وعن الكلمات التي لا يفهم معناها الصحيح إلّا جماعة محدودة من الناس (ويدخُل ضمن هذا اللهجات)، وعن المُفردات المتخصصة التي لا يفقهها إلّا أهلُ صنعةٍ معينة. لكنَ هذه النصيحة صعبة الاتبّاع أحيانًا، فماذا يفعل المرء حين يُريد أن يستخدم مفردة دقيقة تُعبر عمّا يُريد قوله لكنها غير شائعة الاستخدام؟ خصوصًا في الكتابة الشعرية والسردية. في الإنكليزية، يشيع استخدام مفرداتٍ غامضة في الروايات (الأدبية) التي تُسوَق للجمهور الناضج. ويُقال إن إرنست همنغواي قد قال إن الكُتاب الذين لا يُرسلون قُراءهم إلى القاموس لاستقصاء معاني كلماتٍ غامضة بين فينةٍ وأخرى كُتابٌ فاشلون. تبدو مقولة همنغواي - إن صحّت نسبتها له - استبدادية، لكن، يُمكِن تأويلها على أنها تشجيع للكتُاب لئلا يخافوا من إغضاب الجمهور باستخدامهم كلماتٍ غير شائعة.
يبدو أن اللغة العربية تُعاني من فقدٍ سريع للمفردات، حتى أنّ الكتابات التي تعود إلى خمسين عامًا فحسب، قد تبدو غريبةً علينا. ثمة رواية فرنسية مشهورة تُرجِمَت إلى العربية في مطلع القرن العشرين عنوانها غادة الكاميليا. لا زال اسم غادة يُطلق الفتيات في وقتنا هذا، لكن من الصعب تصور أن يكون غادة الكاميليا الاختيار الأول لمترجم هذه الأيام. استخدام كلمة (غادة) سيبدو غريبًا ومصطنعًا، إذ أنّ الترجمة الأكثر منطقية لاسم الرواية الفرنسية La Dame aux camélias ستكون سيدة الكاميليا، أو سيدة أزهار الكاميليا. رُبما فتاة الكاميليا، لكن كلمة غادة، ومعناها الفتاة الناعمة اللينة لن تكون من ضمن المصطلحات التي تطرأ على الذِهن أولًا. مع ذلك، غادة الكاميليا اسمٌ مُناسب، ويُقدم شخصية مارغريت غوتييه لقارئ العربية بشكلٍ أفضلٍ مما قد يؤديه عنوان مثل سيدة الكاميليا.
 ثمّة اهتمامٌ عجيب بمطابقة المفردات العربية مع الأجنبية، بحيث أنّه لو لم يكُن العرب قد برعوا في التفاضل والتكامل قديمًا، لرُبما كان المترجمون قد ترجموا التفاضل إلى الاختلاف، فيكون اسم العلم: الاختلاف والتكامل، أو التخالف والتكامل. الحصيلة اللغوية التي تركها المترجمون العرب القدامى والعلماء في الرياضيات والفيزياء والفلك أنقذت العربية اليوم من ترجماتٍ تعتمد على حصيلةٍ لغوية ضئيلة، وتخلو من نظرةٍ متعمقة للعلم واللغة وحياة الناس. واليومَ، ثمّة جهودٌ حثيثة لتعريب المصطلحات العلمية وإيجاد معادلات لها في اللغة العربية، لكن هذه الجهود تبقى متفرقة، وأحيانًا فردية، وكثيرًا ما تُقابل بالرفض والسخرية. فحتى اليوم، ثمة من يرفض كلمة حاسوب بالعربية، ويُفضل عليها كلمة كمبيوتر. ولا تقتصر المسألة على التفضيل، بل إنّ البعض يذهب إلى القول إنّ كلمة حاسوب لا تفي بكُل معاني كلمة computer الإنكليزية، مع أنّ كلمة حاسوب ترجمة مباشرة لكلمة computer، فكلمة computer قادمة من فعل compute بمعنى يحسب، وحاسوب قادمة من الفعل يحسب. كون الحاسوب قد تطور من وظيفته الأصلية التي تقتصر على الحساب فحسب ليؤدي مختلف المهام في عالمنا المعاصر لا يعني أنّ كلمة computer نفسها قد تغيرت، فما زال معناها المباشر هو حاسوب. الذي تغير أنّ معنى الكلمة قد انتقل من معنى مباشر يتعلق بالحساب، إلّى المعنى الذي نفهمه اليوم للحواسيب المعاصرة. وبالتالي، فإن كلمة حاسوب يُمكِنها أن تؤدي معنى كلمة computer بلا أي مشاكل.

تنين

يُذكرني هذا بمشهدٍ من فيلم شاهدته في طفولتي اسمه DragonHeart (١٩٩٦)، يتعرّف فيه فارسٌ فاشل على تنين ناطق ويُشكلان فريقًا للاحتيال على القرويين المساكين، حيث يدعي التنين أنّه يُهاجِم القرية، ويدعي الفارِس أنّه يُنقذ القرية منه. في مرة، يُقرر الفارس أن يُطلِق على التنين اسمًا، بدلًا من أن يدعوه dragon فحسب (أي تنين، بالإنكليزية). فيقول له، سأسميك Drako، وهي كلمة لاتينية معناها التنين. فيقول له التنين: "أي أنّك ستقول لي يا تنين ولكن بلغةٍ أخرى!"
الطريفُ أنّ كلمة تنين موجودة في العربية منذ القِدم، وتعني الحية العظيمة - أي أنّها تؤدي نفس معنى الأصل اللاتيني - وتُستخدم لوصف كوكبة التنين في الفلك. أقرب مصدر لكلمة تِنين كلمة تِّن ومعناها تِّرب والأتراب هم الذين يكون سنهم متقاربًا. ثمة كلماتٌ كثيرة لوصفِ الحيّات في العربية، وكلمة حيّة نفسها تأتي من مصدر حي، الذي منه حياة وحيوان وحيّة، وقيل إنّها سُميّت حيّة لأن العرب كانوا يعتقدون أنّها لا تموت إذا تُركت وشأنها.
ثمّة وفرةٌ في المصطلحات التي تصفُ هذه المخلوقات البغيضة في العربية، فثمة مصطلحات مُباشرة مثل: أفعى وثُعبان وأَصَلة، وثمة مصطلحات مستعارة مثل شيطان وجان. عُلماء الحيوان يفرقون بين الأفاعي والثعابين والأصلات حسب طريقة الافتراس، لكِنَ المعاني التي يفهمها عالِم الحيوان من هذه المسميات قد تختلف عن المعاني التي يفهمها عالم اللغة.
كلمة ثُعبان تأتي من مصدر ثَعَب الذي يقع على الماء والدم، فثعب الماء أي فجّره، وانثعب الدم من الأنف إذ انفجر. والثُعبان الحيّة الطويلُ الضخم، الذكر خاصة. وقيل إنّ كُل حية ثعبان، وجمعه ثعابين. وذهب بعض علماء اللغة مثل قطرب إلى أنّ الثعبان الذكر من الحيات خاصةً، وهو من أعظم الحيّات.
أما الأفعى، فمصدرها فعا أي فتت، والأفعاءُ الروائح الطيبة. وكلاهما لا علاقة له بالأفعى، التي يُقال إنّ شمر قد وصفها في كتاب الحيات بأنها الحية المتحوية المتراحية التي لا تبرح - أي الحية التي تلتف حول نفسها كأنها حول رحى - وإذا مشت تمشي متثنية بثنيتين أو ثلاث، ولها رأسٌ عريض. أرضٌ مَفْعَاة أي كثيرة الأفاعي. ومنها اشتقاقات مثل أفعوان وهو ذكر الأفعى. غير أنّ أبشَع اشتقاقات الكلمة - وأكثرها فائدة وقُربًا من اللغة الأدبية في الوقت نفسه - فِعل تَفعَى، أي صار مثل الأفعى في الشر. وذُكِر في بعض المصادر أنّه يُطلَق على من لم يكُن شريرًا من قبل.
الأَصَل في علم الحيوان الحيّات الكبيرة العاصرة، غير أنّها في اللغة مختلفة: فقيل إنّها حية قصيرة لها رجل واحدة تقوم عليها وتُساور الإنسان وتنفخ فلا تصيب شيئًا بنفختها إلّا أهلكته. وقيل هي مثل الرحى، ولا تمس شجرة ولا عودًا إلّا سمته. وقيل هي حية صغيرة تكون في الرمال. وقيل الأَصَلة الحية العظيمة، وجمعها أَصَل. وورد في الصحاح أنها جنسٌ من الحيات وهي أخبثها. وقيل إنها تثب على الفارس فتقتله.
لا بأس بتحريك أَصَلة لتقابل الـ boa، إذ أنّ الوفرة اللغوية لا فائدة منها إذا لم تتحرك المفردات لتؤدي المعاني التي يحتاجها العالم المُعاصِر. من أسماء الحيّات أيضًا: شُجاع وخشاش، لكن هذه الأسماء لم تَعُد مُستخدمة في اللغة العادية لوصف الحيات. ونادرًا ما قد يُصادف أحد لفظة خِشاش، إلّا في بعض حصص اللغة العربية، حين يكون على الطلبة تفسير بيتٍ مثل: "خشاش كرأس الحية المتوقد". ورُبما يجد علماء الحيوان استخدامًا لكلمة خِشاش لوصفِ صنفٍ جديد من الحيات.
وفرةُ المصطلحات التي تصفُ هذه المخلوقات البغيضة في العربية تقابلها وفرةٌ في الإنكليزية كذلك، ففيها snake, serpent, adder, viber, boa... والمصطلح العلمي - اللاتيني - الذي يضُم هذه الحيّات معًا: ophidian. وثمّة ملاحظة بخصوص serpent الإنكليزية، حيث أنّها تعني ثُعبانًا كبيرًا، ولها ثقلٌ دلالي، إذ أنّها الكلمة التي تُستخدم لوصف الشيطان حين تسلل إلى الجنّة. فيما يبدو أنّ serpent الفرنسية تعني حيةً فحسب، مثل كلمة snake الإنكليزية.

حريم السلطان

يبدو لي أن الإنكليزية الفخمة هي فرنسية عادية في أحوالٍ كثيرة، فعبارة مثل tête-a-tête الفرنسية لا تعني شيئًا في الفرنسية سوى رأسًا لرأس - أي الحديث بين شخصين مباشرة (راس براس، كما في العامية) - فيما هي في الإنكليزية عبارة يستخدمها المتعلمون للتعبير عن معنى محادثة خاصة private conversation. عبارة rendez-vous الفرنسية التي تعني موعدًا (عاديًا) صارت كلمة بالإنكليزية rendezvous معناها موعد عادة ما يكون بين شخصين. وثمّة خلافٌ حولها، إذ يُقال إنها يُمكن أن تُستخدم لتأدية معنى appointment أو meeting من دون أي إيحاء إضافي، فيما يرى آخرون أنها لا تصلح إلّا للمواعيد السرّية أو الغرامية. في بعض لهجاتِ العربية، رانديفو تعني موعدًا - وأحيانًا غرامي - مثلها بالإنكليزية، غير أنّ استخدام رانديفو لا يُعد من قبيل الفُصحى، فيما يُعد إنكليزية (فُصحى). (Rendez-vous الفرنسية عبارةٌ طريفة، إذ تعني حرفيًا: قدّم نفسك! (أو سلِّم نفسك!) وهي من عجائب الفرنسية، كما في قولهم Je m’appelle Jean. أي أدعو نفسي جان - حرفيًا - وليس: اسمي جان.)
وكما أنّ الإنكليزية تضمُ تعبيراتٍ فرنسية تُعتبر جزءًا من اللغة، فإنّ العربية قد أثّرَت في لغاتٍ مجاورة لها مثل الفارسية والتركية والكردية. الأتراك يُسمون عيد الأضحى عيد القربان. القربان كلمةٌ عربية معناها ما يُتقَرَب بهِ - في سياقٍ ديني، عادةً - لكن العرب لا يستخدمون كلمة قرابين لوصف ذبائحهم يوم العيد، بل يسمونها الأضاحي. تسمية عيد الأضحى بعيد القربان ستسبب صدمة ثقافية لمعظم العرب، ولا ينفعُ من يُسميه كذلك - في اللغة العربية - القول إن كلمة قربان هي كلمة عربية حقة. هذه الكلمةُ لا تُستخدم في العربية لوصفِ العيد الذي يأتي بعد موسم الحج، لكنها كذلك في التركية.
ثمة مُسلسلٌ تركي مدبلج شهير يُسمى حريم السلطان بالعربية. المُسلسل يُسمى بالتركية Muhteşem Yüzyıl (محتشم يوزيل)، أي القرن العظيم - أو، (حرفيًا)، المائة سنة العظيمة. كلمة محتشم عربية، وتُستخدم غالبًا لوصف اللباس، فيُقال عن اللباس الذي يسترُ الجسد - أو معظمه - إنّه لباسٌ محتشم. ويُقال عن الحياء في المجال العام إنّه حِشمَة. وفي اللغة، فإن الحِشمة هي الحياء والانقباض، والحشمة الانقباض عن أخيك في المطعم وطلب الحاجة. كما أن لها معاني أخرى، فأحشَم الرجل إذ أغضبه، وحَشَمَهُ إذ أخجله.  ثمة استخدام آخر لاشتقاقٍ للكلمة: حشَم، كما في خدم وحشم لوصف الرفاهية والهيلمان. الحشم هُم خاصة الرجل من أهل وجيرة وخدم وعبيد ممن يغضبون له - كما في لسان العرب. وليس في هذ الاشتقاقات ما يؤدي معنى العظمة بشكلٍ مباشر - ولو إنّه يُمكِن اعتبار كلمة حشم مصدرًا لهذا، باعتبارها من آيات التفخيم.

الببور والنسور

العرب لم تَعرِف الحيوان الذي يُسمى tiger بالإنكليزية، إلّا عندما خرجت من حدود جزيرة العرب، لذلك استعارت له كلمة بَبْر التي يُعرفها لسان العرب على أنها: واحد البُبور، وهو الفُرانِق الذي يُعادي الأسد. غيره: البَبر ضرب من السباع. أعجمي مُعرب. والحيوان الذي عرفته العرب وكان مُنتشرًا في الجزيرة العرب - وقد انقرض اليوم أو كاد - هو النمر، leopard، وسُمي بذلك لأن جلده أنمر، أي أرقط، ويختلف عن السنّور الأرقط الآخر، الفهد. حاليًا، يُسمى الببرُ النمرَ، والنمرُ الفهدَ، والفهدُ الفهدَ الصياد. وإذا كتَبَ المرء عن حيوانٍ أنّه بَبْر من باب الدقة، فهل سيفهم قُراء العربية المقصود؟
ومن ذلك الجدل حول النسر، فهل النسر الذي نعرفه اليوم هو ما عرفته العرب وبجلته؟ ما يُسمى بالإنكليزية Eagle؟ المُترجمون المُخضرمون يقولون إنّ العرب قد بجلّت العُقاب، وإنّ العُقاب هو الحيوان المُسمى Eagle بالإنكليزية، أمّا النسر ففصيلةٌ من ضعاف الجوارح، وثبَ على قِمةِ المجد واحتل مكان العُقاب في غفلةٍ من الزمن.
غير أنّ هُناك من يردُ بالقول إنّ النسر من الحيوانات المُحترمة عند العرب، وإنّه هو الـ eagle نفسه. والعرب قد احترمت العُقاب والنسر والصقر والشاهين والبازي، وكلها فصائل من جوارِح الطير. وبين الفريقين يضيع المعنى، فمن من هذه الطيور الطائر الذي بجلته العرب حقًا؟ ومن منها الذي اختصته بأكل الجثث بعد المعركة؟ وهل يعني هذا أنّ الاستخدام الحالي لهذه الكلمات فاسد لغويًا؟
ينتج عن البحث في لسانِ العرب نتائج طريفة، فالعُقاب تجمع على عِقبان، وجمع الجمع عَقابين. غير أنّ بعض علماء اللغة يرّون أن العُقاب أنثى، وهي الغالبة على جنس الطير المُسمى بالعُقبان، وعليه فإن الجمع الأصح للعُقاب أعقُب. (ومن هذا بيتُ المتنبي الدقيق لغويًا: يهز الجيش حولك جانبيه، كما نفضت جناحيها العُقاب). ويختلفون في ذَكر العُقاب، إذ يرى البعض أن اليعقوب هو ذكر العُقاب، وليس ذكر الحجل كما ذهب إلى ذلك بعض اللغويين - من ضمنهم ابن قتيبة - فاليحبور ذكر الحبارى، وعليه يجوز القياس بأن اليعقوب ذكر العُقاب، ووافق لفظه لفظ اسم النبي يعقوب، الذي يُعدُ اسمًا أعجمي.
أمّا النسور، فيبدو أنّها طيورٌ محترمة، تُجمع على نسور وأنسر - جمع تقليل. وجاء في المثل: استنسر البغاث، أي استقوى الضعيف أو الجبان، ويُقابل هذا المثل القول استأسد الكلب، وإن كان مثل استنسر البغاث عربيًا فصيحًا وقديمًا، فيما استأسد الكلب محاولة لترجمة المثل إلى لغةٍ (عصرية). وليس ثمة ما يدلُ على التقليل من قدر النسور في لسان العرب، أو على كونها طيورًا مستقبحة ضعيفة. أمّا أكل الجيف، فيُنسب للعقبان والنسور وغيرها من الكواسر التي تجتمع على أرضِ المعركة.
هذه الأنواع من الجدل تجعل القارئ والكاتب في حالةِ حيرة، فما الصحيح وما الخاطئ؟ وكيف يكتب المرء بطريقة مفهومة وسليمة لغويًا وعلميًا؟ وكيف يُمكِن أن يتفاهم الكاتب مع القارئ بشكلٍ كُلي حيّال أسماء المخلوقات؟
ولو تحدثنا عن الصفات. يُمكِننا القول إنّه ثمةُ حيةٌ متحوية، لكِن، رُبما سيقرأها القارئ على أنّها خطأ إملائي، والمقصود حيةٌ متحولة، وبهذا نكون قد انزلقنا إلى الخيال العلمي من جديد. وتفاديًا للبس، يُمكِن أن يُكتَب: حيةٌ مُلتفة على نفسها، فيؤدى المعنى نفسه بكلماتٍ أكثر تُناقض مبدأ الاقتصاد في اللغة، ويفقدُ الكاتب إيحاء الفحيح في حية متحوية. (الفحيح الصوت الذي تطلقه الحية، والكشيش هو صوت حركتها، كما جاء في لسان العرب).
ثمةَ أفعالٌ  مثل انبعق - المذكور سابقًا، وانثعب، وجزع بمعنى قطع الوادي أو الطريق، وإن كانت موجودة في العامية في اليمن، وموجودة في الفصحى بمعناها الآخر، أصابه الذعر وطاش صوابه. وطلا: أي صار عذبًا. ورجَل شعره إذ مشطه. وغير ذلك من الأفعال التي تكادُ تكون مفقودة من العربية اليوم.
إذ ذاك، ماذا بوسع الكاتب أن يفعل؟ يُقال للكاتب، اكتب ما تشاء. غير أنّ الكاتب لا يكتُب في فضاء وحده، وإذا كان لا يضرُ الكاتب أن يُقال إنّ أدبه صعب بل قد يفخَرُ بذلك، فإنّه لا يوجد كاتبٌ يُريد أن يُعامله القُراء مُعاملة العاوي في الصحراء، وهذا ما قد يفعله القراء بكاتب رواية (البعقة) الافتراضي.

ما يُفترض أن يعرفه القارئ

في واحدة من محاضرات أمبرتو إيكو المجموعة في كتاب ست نزهات في غابة السرد، "الحالة الغريبة لشارع سرفاندوني"، يتحدّث إمبرتو إيكو عن المُعجم المعرفي الذي يُفترض وجوده لدى القارئ. حيثُ يدرسُ إيكو محل إقامة أراميس - أحد الفُرسان الثلاثة - الذي يقول ألكساندر دوما إنّه يقطن شارع سرفاندوني، ويخلصُ إلى نتيجة مفادها أنّه لم يوجد شارع اسمه شارع سرفاندوني في زمن الفرسان الثلاثة في القرن السابع عشر، بل إنّ شارع سرفاندوني - الذي سُمي بذلك الاسم في زمن لاحق - هو نفسه شارع الفوسيور الذي يُفترض أنّ دارتانيان يُقيم فيه. وعليه، فبما إن الرواية تقول إنّ دراتانيان وأراميس لا يسكنان في الشارع نفسه، فإنّ واحدًا منهما فقط هو الذي يُمكِن أن يسكن في الشارع.
لكن إيكو يعود إلى القول إنّ القارئ لا يُفترض به أن يعرف أنّ شارع سرفاندوني لم يكن موجودًا في زمن الأحداث، فالكاتب نفسه، ألكساندر دوما، لم يكُن يعرف ذلك، وعليه أن يتقبل وجود شارع اسمه سرفاندوني وشارع اسمه الفوسيور في عالم الرواية على أنّه وجود واقعي. مع ذلك، يقول إيكو إنّه من غير المُمكِن أن يُسمي دوما شارعًا باسم شارع نابليون، مثلًا، لأن القراء يعرفون أنّ نابليون بونابارت لم يكُن موجودًا في زمن الفرسان الثلاثة، بل جاء بعدهم. هذه واحدةٌ من القضايا التي تشغل إيكو في محاضراته: حدود الحقيقة في العالم السردي، وما ينبغي أن يعرفه القارئ النموذجي.
أحيانًا، ليتغلب الكاتب على رفض القارئ النموذجي تصديق ما يُروى له، فإنّه قد يشرع في كتابه بتنحية اعتراضات القارئ المتوقعة عن طريق حيلة سردية، مثل (تذكير) القارئ بما كان عليه الحال من قبل، أو تقديم منظور مُعين لوضع القارئ فيه منذ البداية. وفي كُل رواية، فإنّه ثمة حقل معرفي ينبغي على القارئ أن يُدرِكه ليستطيع التعامل مع الرواية.
إيكو لا يتعامل مع بُنية الرواية اللغوية، لكن أفكاره عن الحقل المعرفي الذي ينبغي للقارئ امتلاكه ليتعامل مع النص بشكلٍ (نموذجي) تصلح مدخلًا للتفكير: كيف تُنشئ الرواية حقلها اللغوي؟ هل عن طريق وضع مسردٍ بالكلمات الصعبة، مثلًا، في الهوامش، أو في آخر الرواية؟ وكيف تُحَدَد هذه الكلمات الصعبة؟ من الذي يُحِدد مدى صعوبة كلمة، أو غرابة استخدامٍ لغوي في نصٍ وحاجته للتفسير؟ إذ أنّ القُراء يختلفون فيما بينهم البين، وفيما لا يجد قارئ صعوبةً تُذكَر في فِهم تعبيرٍ مثل: "أشطان بئرٍ في لبان الأدهم"، يجد قارئ آخر صعوبة في فهم تعبيرٍ من قبيل: "اكفهر وجهه". فما الفيصل؟
بشكلٍ عام، من الممكن الرجوع إلى القاموس في حالةِ صعوبة بعض التعابير، لَكِن، ثمّة رُهابٌ من القراءة يدفع الكثير من القراء إلى التوقف عن قراءة رواية إذا كانت لغتها صعبةً بعض الشيء، عِوَض استشارة قاموس وفهم كلماتها. الأمرُ لا علاقة له بالقدرة على امتلاك القواميس، لأن لسان العرب متوفر على شبكة الإنترنت، وغيره من معاجم اللغة العربية، كما أنّ الكثير من القُراء يُنزلون ما يقرأونه عن شبكة الإنترنت، ويقرأونه على أجهزة إلكترونية.
كثرة الهوامش في نصٍ أدبي تُفقده التدفق والتماسك. مع ذلك، ينبغي أن يتدارك الكاتب نفسه، فإنّه إذا ملأ كتاباته بكلماتٍ عويصة، صار صعبًا فهم نصه الإجمالي، واستشكل ذلك على خواصِ القُراء وعمومهم، وعليه إذ ذاك أن يمُدَ لهم يدَ العون بنفسه في الهوامش.

فقعسة

يبدو لي تنقيب إيكو في شوارع باريس عام ١٦٢٥ نوعًا من (الفقعسة)، والفقعسة لفظة عامية معناها التدقيق والتحذلق في أمورٍ لا داعي لها من باب الإزعاج أو استعراض الثقافة أو التفلسف في ما لا طائل منه في محاولة لتلميع شخصية (الفقعوس) وإظهاره خيرًا مِمَن حوله. من يهتم بأسماء الشوارع في عام ١٦٢٥ ومدى مُطابقتها للواقع إلّا قارئ فقعوس؟ والطريف أن إيكو نفسه يتذمر من قارئ فقعوس أرسل له رسالة بخصوص روايته بندول فوكو، يقول فيها إنّ حريقًا كبيرًا قد وقع في ليلةِ مرور كاسوبون - الشخصية الرئيسية - في الشوارع الباريسية التي يصفها إيكو في الرواية، وإنّه كان من المُستحيل ألّا يرى كاسوبون الحريق، فلماذا لم يذكره في النص؟ بطبيعة الحال، مهما كان الباحث دقيقًا تاريخيًا، فإنّ أشياء ستفوته - بلا شك - عندما يكتب رواية - حتى لو كتبها بفقعسة شديدة. إيكو نفسه حاول أن يستظرف على القارئ في رده، قائلًا إنّ كاسوبون لم يُخبره بذلك. ويرى إيكو أنّ قارئه قد يكون مُقتنعًا بأنّ إهمال الحريق نتيجة لمؤامرة ماسونية من المؤامرات التي تذكرها الرواية. إيكو يُقر بأن عالم روايته يؤيد هذا الافتراض، فهو يبني عالمًا من المؤامرات والدسائس والأسرار ويحاول إلباسه لباسًا واقعيًا شديدًا.
مُعظم الأدباء يُحبون الفقعسة عند التنظير للأعمال الأدبية، فالحديث عن الكون الروائي وحدود القراءة والقارئ النموذجي في الحكاية والأدب الحقيقي وإرهاقهم الشديد لبناء عالمٍ روائي متين ومُحكم يختلف عن العوالم الفقيرة التي يبنيها مُعاصروهم، كُل هذا سهلٌ وممتع. لكن، تجيء لحظة الحقيقة، ويجد الكاتب أنّ قارئه الفقعوس - هو أيضًا - قد اكتشف تناقضًا في عمله، أو نقطةً غفل عنها، أو تشابهًا بين كتاباته وكتاباتِ أحد ألدِ أعدائه من الكتاب. فماذا يفعل الكاتب؟ غالبًا يكون الرد نوعًا من الاستظراف. وهذه ظاهرة كونية، يشترك فيها كبار الأدباء وصغارهم، في مشارق الأرض ومغاربها. ويشملُ ذلك الأكاديميين وكتاب الكُتب غير الخيالية.
استقصاء مصدر فقعسة في لسان العرب لا يخرج إلّا بأن فقعس اسم شخص، ولا يوجد للاسم اشتقاقات. لا توجد أي معلومات تُذكر عن فقعس، وعن شخصيته. غير أنّ كلمة فقعسة مُفيدة، وليس بالضرورة أن تكون مشتقة من فقعس، أو أن يكون مصدرها، كما أنّ أفعى لا علاقة لها بفعا ولا بأفعاء. المشكلة في هذه الكلمة المفيدة أنها من ضمن الكلمات التي ينبغي تجنب استخدامها في الأدب، لأنّها تتوجه إلى جمهورٍ ضيق ممن يفهمون اللهجة - وحتى هم قد يختلفون في تفسيرها فيما بينهم البين.