25 ديسمبر 2015

خرافات وفوائد

الخُرافة: الحديث المُستملح من الكذب.
ثمّة خُرافة شائعة عن العربية، تقول إنّها أفضل لغةٍ في العالم لأن فيها أسماء كثيرة للسيف، وأسماء كثيرة للأسد، وأسماء كثيرة لأشياء كثيرة أخرى. ويُقال إن العربية لُغة الحب لأن بها أسماء كثيرة له. العربية أفضل لُغةٍ للعرب لأنّها لُغتهم، وليس عندهم سواها إن هُم فقدوها. أمّا الأسماء الكثيرة، ونحوها من الأمور، فلا هي خصائص تنفرد بها العربية، ولا هي سرُ جمالها.

المترادفات ليست متساويات
من أكثر الخُرافات البعيدة عن روح اللغة شيوعًا فكرة أن المترادفات كُلها لها نفس المعنى. حين كُنت في المدرسة، كانت تدرسنا مُدرسة تُحِب اللغة العربية في إحدى السنين الدراسية، وقد شرحت لنا حقيقة أنّ المترادفات لا تحمل المعنى نفسه بمثالٍ طريف لا زلتُ أتذكره إلى اليوم. قالت لنا المُدرسة إنّه كان ثمّة رجلٌ، وُلِدت لَهُ ابنتان، سمى إحداهما ديمة والأخرى بُعاق، فمن يُحب الرجل من ابنتيه؟ قُلنا ديمة، طبعًا، فقد أسماها اسمًا جميلًا. قالت إن الرجل يقول إنّه يُحب ابنتيه الاثنتين بنفس الدرجة، فقد سماهما اسمين لهما المعنى نفسه، إذ أنّ الديمة والبُعاق تعنيان المطر! لكن البُعاق بُعاق، والديمة ديمة!
والسحابة لا تعني ما تعنيه الغيمة بالضبط. والجمل والبعير لهما دلالتان مختلفتان. في الإنكليزية، يُسمى الفرق بين دلالات الكلمات connotation، إذ أن لكُل كلمة مستويين من المعنى: denotation أي المعنى المُباشر، و connotation أي دلالة الكلمة. معنى كلماتٍ مثل صعود وارتقاء وارتفاع متشابه، لكن دلالةِ كُل كلمةٍ منهما مختلفة. والصاحب والرفيق والصديق كلماتٌ ذاتُ معانٍ مُتشابهة، لكن اعتبارهما الشيء نفسه بلا تفريق يُجانب الدقة اللغوية.
كذلك، تأتي الكلمات المختلفة لتصف درجاتٍ من الموصوف، أو أطوارًا مختلفة، فالبدر والهلال والمحاق قمر، لكنّ كُل طورٍ من أطوار القمر يختلف. وكذلك قولهم: نخلة وجبارة ورقلة، فالنخلة اسم النوع، والجبارة النخلة التي تطول عن حدٍ مُعين، والرقلة النخلة الطويلة.
والجموع ليست مُتساوية: فجمع شاعرة على شاعرات يختلف عن جمعها على شواعِر. والحديث عن جموع القلة والكثرة ليس حذلقة نُحاة، بل خاصية من خصائص اللغة.
فائدة: البُعاق المطر الغزير المفاجئ، ومنه فعل انبعق المطر. والديمة المطر الذي لا رعد فيه ولا برق.
الجمع السالم مُقدمٌ على جمع التكسير دومًا
فإذا كان بالإمكان جمع كلمةٍ على جموعٍ عديدة، فإن أصحها الجمع السالم - مؤنثًا ومذكرًا. هذا الكلام غير دقيق، إذ أن الجمع المُلائم هو الجمع المناسب لأغراض النص. فجمع فاطمة على فاطماتٍ ليس أصح من جمعها على فواطم بحد ذاته، وإنما الفيصل دلالة الكلمة في الكلام. وكذلك القول في جمع كاتبٍ على كُتّاب وكاتبين. والجمع نوعان: سالم وتكسير. السالم مؤنث ومذكر، والتكسير ينقسم إلى جموع قلة، وجموع كثرة، ومنتهى الجموع (الذي يعتبره بعض النحاة مندرجًا تحت جموع الكثرة).
فائدة: يقول ابن قتيبة إن تسمية الجماعة المُسافرة برًا خارج ديارها قافلة غير دقيق، إذ أن القافلة لا تُسمى كذلك حتى ترجع (أو تقفل)، فقافلة الحج لا تُسمى كذلك إلّا حين يصدر الحجيج إلى بلادهم.
فائدة أخرى: تقفل راجعة تكرار، إذ أنّ تقفل بمفردها تفيد الرجوع. ومن هذا الباب قولهم: ثمةَ هُناك وثمَّ هُناك، فثمة وثمَّ وهناك لها المعنى نفسه.
الحُب لِمَن؟
من أشهر أبيات الشعر قول أبي تمام:
نَقِّل فؤادك حيث شئتَ مِن الهوى، ما الحُب إلّا للحبيب الأول
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى، وحنينه أبدًا لأول منزل
يُقتبّسُ البيتُ الأول - أو البيتان معًا، إن كان المُقتبس عارفًا بهما - دومًا للدلالة على أن كون الحُب للحبيب الأول حقيقة كونية. غير أنّ أبا هلالٍ العسكري يأتي بعدة أبياتٍ تُحاجج ضد هذا المبدأ في كتاب الصناعتين، فيذكر بيتين لشاعر لا يذكر اسمه يقولان:
أَعْلِقْ بآخر من كلفتَ بحبه، لا خير في حب الحبيب الأول
أتشك في أن النبي محمدًا، خير البرية وهو آخر مرسل
وينقل عن ديك الجن قوله:
نقل فؤادك حيث شئت فلن ترى، كهوى جديد أو كوصل مقبل
ما أن أحنّ إلى خراب مقفر، دَرَسَت معالمه كأن لم يؤهل
مِقَتي لمنزليَ الذي استحدثته، أمّا الذي ولّى فليس بمنزلي
وينقل عن شاعرٍ لا يذكر اسمه يحب التوفيق بين المتعارضين:
قلبي رهينٌ بالهوى المُقتَبِلِ، فالويل لي في الحُبِ إن لم أعدل
أنا مبتلى ببليتين من الهوى، شوقٌ إلى الثاني وذِكرُ الأول
فهما حياتي كالطعام المُشتهى، لا بد منه وكالشراب السلسل
قُسِمَ الفؤاد لحرمة وللذة، في الحب من ماضٍ ومن مستقبل
إنّي لأحفظ عهد أول منزلِ، أبدًا وآلفُ طيبَ آخر منزلِ
وعن شاعرٍ مجهول يُخالف الجميع ينقل العسكري هذا البيت:
الحُبُ للمحبوب ساعةَ حُبه، ما الحبُ فيه لآخرٍ ولأولِ
من دون إطنابٍ ولا إسهاب!

في ذم المُنى
يقول عنتره:
ألا قاتل الله الطلول البواليا، وقاتل ذكراك السنين الخواليا
وقولك للشيء الذي لا تناله، إذا هويته النفس: يا ليت ذا ليا!
الإعراب
من أكثر الخُرافات شيوعًا حول العربية أنها تنفرد بالإعراب عن اللغات الأخرى - أو على الأقل، تنفرد به عن اللغات (المحسودة) كالإنكليزية والفرنسية والألمانية. والأمرُ غير صحيح، فالإعراب الذي يألفه الطلبة، من قبيل تمارين: أعرب الجملة التالية، موجودٌ في هذه اللغات. وفي الإنكليزية، فإن من يريدون التدليل على علو كعبهم في النحو يُعربون (parse) جُملًا من كُتابٍ مشهورين. غير أنّ هذه مسائل دقيقةٌ في اللغة، ولا يتعرض لها متعلم اللغة العادي - الذي يكفيه أن يضبط نهاية الفعل حسب زمنه، كما يكفي مُتعلم العربية أن يعلمَ أن المضارع مرفوع إلّا في حالاتٍ قليلة معروفة، وأنّ الماضي يُبنى على الفتحِ عادة، والأمرَ يُبنى على السكون، وأن لُكِل فعلٍ فاعلًا، ولكُل مبتدأ خبرًا.
أمّا نحو الفرنسية وإعرابها فإنّه من نَكِدِ الدُنيا على المرء! وللألمانية نحوها وبناؤها، وأسماؤها التي تُستخدم في الفاعل، وأسماؤها التي تُستخدم في المفعول. وما إلى ذلك. وللإسبانية مثلُ ذلك، وللروسية، ولليابانية، وللتركية، وللهندية. فلِمَ يُولوِلُ العربُ من نحوهِم ولولةَ المُبتلى الذي لا يصبر؟
فائدة: يُقالُ إنّه لا مُقابل لتعبير don’t panic الإنكليزي في العربية، وهذا القولُ غير دقيق، وقد يكون منشأه ترجمة panic بالذُعر أو الهلع حصرًا. في الواقع، ثمة تعبيرٌ يؤدي معنى don’t panic في العربية، وهو تعبير قديم: لا تجزع. إذ أنّ الجزع يُفيد معنى أن تطير النفس شُعاعًا عند حدوث مُصيبة.

ملك الإنكتار
أكتب اللغة الإنكليزية، والشعب الإنكليزي، وبلادهم إنكلترا؛ ولا أعترض على من يكتبونها إنجليزية وإنجليز وإنجلترا، غير أنّني أرى كتابتها إنغليزية وإنغليز وإنغلترا حذلقة. الفكرة في كتابة إنغلترا أنّ أسماء الدولِ التي تحتوي على صوت /g/  اللاتيني، قد صارت بالغين في العربية، فيُقال: البرتغال ويوغوسلافيا وغانا. ويميلُ المترجمون الشوّام عادةً إلى كتابة الأسماء بالغين، مثل: غوردن وغاندي. مع ذلك، ليس ثمة سببٌ يدعو إلى استحداث قاعدةٍ عجيبة توجب كتابة إنكلترا بالغين!
يُذكرني هذا بمقالٍ قرأته قديمًا، يتهم فيه الكاتب المُترجمين الشاميين بالخوف من إنكلترا التي كانت دولة عُظمى تحتل نصف العالم حين شرعوا في حركة الترجمة، لذلك لم يتجرأوا على كتابتها بالغين كما فعلوا مع بقية أسماء الدول. بطبيعة الحال، هذا الكلام غير دقيق، مع أنّه يُعبر عن مُعتقد شائع. ربما يكون أول اتصال مُباشر مُسجل بين المتحدثين بالعربية وقادمٍ من إنكلترا اصطدام العرب بريتشارد قلب الأسد، وحينها سموه ملك الإنكتار، أي أن الكاف لم تكن من بنات أفكار المترجمين  الشاميين في نهايات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بل كانت من صُنع مُعاصري صلاح الدين الأيوبي. ويُحمد لهؤلاء المُترجمين الشاميين أنّهم قد رجعوا إلى التراث حين شرعوا في ترجماتهم، ولم يُترجموا من لُغةٍ يُحبونها إلى لُغةٍ لا أساس لهم فيها كما يحدث في بعض الأحيان.
والواقع أنّه لا توجد قاعدة رياضية تحكم عملية نقل الأسماء من لغة إلى لغة، ولا حتى قاعدة مُقاربة الحروف حين تكون الأصوات مفقودة في اللغة المنقول إليها، ففي العربية سين، ومع ذلك فإن عاصمة البرتغال هي لشبونة وليست ليسبوا، والإسبان يُمكنهم نطق الباء لكنهم قد غيروا اسم بلد الوليد إلى فالادوليد. والبوسنة والهرسك في لغتها Bosna i Hercegovina فلماذا لم تصر بوسنا وهرسغوفينا؟ ولماذا تُسمى ألمانيا بذلك وهي تُسمي نفسها دويتشلاند Deutschland؟ وكيف صارت سويسرا كذلك؟ والصين؟ لماذا سُميت كذلك؟ وكيف نشأت هذه الفجوة بين لفظتي مصر وEgypt؟ ولماذا سمّى العرب Castillia قشتالة؟ وسمّى الإسبان شاطبة Xàtiva؟ الواقع أنّ هذه التسميات قد جاءت بالتواتر والتوافق، مثل العبارات والمبنيات التي تُثبت في النحو كما هي سماعًا عن العرب، من دون تقعيد. لذلك فإن محاولات التقعر في التسمية الجديدة تثير الاستغراب، كأن تُسمى إنكترا إنغلترا، وتُسمى بكين بيجين.
ومن هذا القبيل، الدعوة للامتناع عن كتابة الأسماء الفرنسية بالراء، فيكون لدينا: غولان بدلًا عن رولان، وفغانسوا بدلًا عن فرانسوا، ومغساي بدلًا عن مرسيليا، وباغي بدلًا عن باريس، ورُبما فغانس أو فغنسا بدلًا عن فرنسا!
على كُلٍ، التبديل بين الغين والـ G قديم، وليس من ابتكار المترجمين الشاميين، فغرناطة قد سُميت Granada قبلهم، لكن هذا لا يعني حظر تسمية Midgard وAsgard بمدكارد وأسكارد، لأن العرب بدلوها بالكاف أحيانًا وبالغين أخرى.

بيت المُتنبي
بُمناسبة الاحتفال بيوم العربية، شاع تداول بيتٍ شعري للمُتنبي يقول فيه:
أَلَمٌ أَلَمَّ أَلَمْ أُلِمَّ بِدَائِهِ، إِنْ آنَ آنٌ آنَ آنُ أَوَانِهِ
ولا بأسَ بالحديثِ عن البيت في معرض التدليل على أهمية التشكيل، لكنّ البيت ليس دليلًا على عظمة العربية، ولا هو دليلٌ على عظمة المُتنبي. رُبما يكون المُتنبي ضليعًا في العربية، ويُريد إثبات ذلك بهذا البيت وأمثاله، إلّا أنّ البيت نفسه سقيمٌ عاطلٌ عن القيمة الفنية والمعنى، وتسويقه للناس على أنّه من جيد الشعر ليس من حُسن الذوق.
على كُلِ حالٍ، فقدُ كُنتُ أفكر في أنّ اعتبار المُتنبي شاعِرَ العربيةِ الأول أمرٌ عجيب، إذ أنّه - رغم وجود بعض الحكمة في شعره، ورغم بعض التجديد الذي كان عنده - كان مثلَ غيره من الشُعراء. رُبما يكون طموح المُتنبي ما جعل شعره يحفل بالغامض والمُعتل والأبيات التي تضيق بالمعاني فتسقط، ورُبما يكون هذا الطموح ما صنع قصته اللتي يرويها التاريخ، لكِنَ الطموح وحده لا يصنع شاعر العربية الأول، ولا القصة العجيبة المليئة بالسفر والتنقل إلى نهايته العجيبة التي قيلَ إنّها بسبب قصيدةٍ بذيئة يهجو فيها أحدهم فيسُب أمّه.
قصائد المُتنبي مليئة بالعُنصرية، ورغم أنّه لا يصُح الحُكم على شعرٍ من زمانٍ ماضٍ بمقاييس مُعاصرة، إلّا أنّه من الصعب قراءة أوصاف المتنبي العُنصرية ضد كافور الإخشيدي من دون شعورٍ غامرٍ بالنفور، والأمرُ نفسه ينطبق على شتائمه لمخالفيه، وشتائمه لأمِ ضبّة. ثمّة شيء كريهٌ للغاية في هذا الشعر، يصعُب معه تقبُل فكرة أنّ هذا هو شاعر العربية الأول. هذا الشاعر الذي صاحب سيفَ الدولة زمنًا طويلًا، فما أنكّر عليه إلّا أن أهانه نحويٌ في مجلسه فلم يثأر له! وحين فر من كافور، فإنّه لم يُنكِر عليه إلّا أنّه كان عبدًا! شاعر العربية الأول ينبغي أن يكون شاعر شعبِ العربيةِ الأول، لا شاعر سلاطينها.

بين قوسين:

يتحدث حسن مؤنس في كتابه المساجد (يناير ١٩٨١) الصادر عن سلسلة عالم المعرفة عن المتنبي وطبقة الشعراء عمومًا - في معرض حديثه عن حالة العرب في العصور السالفة، وإهمالهم أسماء الصُنّاع المهرة ليحفظوا أسماء شُعراء السلاطين - فيقول:
والسبب في ذلك أنّ الأدب العربي اتجه دائمًا إلى أن يكون ملكًا لطبقة معينة من المثقفين الذين اتجهوا إلى البعد عن جمهور الناس، وجعلوا إنتاجهم الأدبي معرضًا لأفكار طائفتهم التي أنهكتها وامتصت حيويتها تطلعات أرستقراطية خادعة، وهبطت بها حاجة الشاعر أو الكاتب إلى أصحاب السلطان والمال ومن إليهم ممن يعيش في هامشهم، مما جعل الإنتاج الأدبي - في معظم الحالات - خادمًا لأطماع مادية جعلته دائمًا يدور في فلك أصحاب الجاه والمال، ومن هنا فقد جفت شجرة الابتكار الفكري سريعًا.
وقد حاول المتنبي أن يتخلص من ذلك الإطار فلم يستطع، لأن عالمه الفكري ظل طوال عمره مقتصرًا على أفلاك أهل السلطان، فظل يتنقل من فلك إلى فلك، حتى تحطم في النهاية على صخرة مطامعه ومطامع الطبقة التي عاش في إسارها. ولم يحس المتنبي أبدًا بأن هناك بشرًا خارج أفلاك أهل السلطان، ولو فطن إلى ذلك لتخلص من ذلك الذل الذي ظل طوال حياته يشكو منه دون أن يستطيع الفكاك منه، لأن عالم الفكر في تلك العصور كان عالمًا مترفعًا مقفلًا ماديًا جامدًا. (ص١٠٩-١١٠)

شتائم جرير والفرزدق
وهل كان الفرزدق غير قردٍ، أصابته الصواعق فاستدارا
ليس هذا البيتُ مفهومًا، إلّا في معرض الشتيمة المحضة: لقد أراد جرير أن يقول إن الفرزدق قردٌ فحسب، إذ أنّ الشطر الثاني من البيت لا يُفيد معنى. (إلّا إذا استُنتج منه أنّ الفرزدق قد تحول إلى آدمي بتأثير صاعقة أصابته، وفي هذا دليل على وجود بوادر خيال علمي في الشعر الأموي، الأمر الذي يدخل في باب الشطط الهزلي). هذا البيت الطريف - الذي كُنا، معشر التلامذة، نردده أيامَ كُنا في المدرسة - نموذجٌ (مُهذب) من شتائم جرير والفرزدق. جريرٌ بالذات لهُ شتائم هجائية مريرة، لعل أشهرها أقبح بيتين في الهجاء في تاريخ الشعر العربي - كما يُقال - ومطلعهما: "قومٌ إذا استنبح الأضياف كلبهم".
نقائض جرير والفرزدق من أشهر مواضيع الأدب العربي في العصر الأموي، ولا يكادُ المرءُ يقدر على تسمية نفسه دارسًا للأدب العربي ما لم يكُن مُلمًا بطرفٍ منها. من وجهة نظرٍ اجتماعية بحتة، فإن هذه كانت تسلية عامة، مثلما يجتمع العامة لمُتابعة وصلة dissing بين اثنين من مُغنّي الراب، أو يُتابعوا صراعًا بين شخصيتين مشهورتين في برامج الثرثرة، أو على صفحات الجرائد، أو يُتابعوا معارك مواقع التواصل الاجتماعي. الفكرةُ، فحسب، أن جريرًا والفرزدق كانا يأتيان بشتائمهما في ثوبٍ لغوي حسن الحياكة.
بطبيعة الحال، لجرير مؤيدوه، وللفرزدق أنصاره، ورُبما كان هُناك من يتحزب للأخطل - ولو أنّه لم يكُن بشهرة صاحبيه، وكان الكثيرون يتحرّجون من التحزب له لهجائه الأنصار، أو يكرهونه صراحة لذلك. مع أنّ المشتغلين بالكتابة والشعر قد انتصروا في معظمهم لجرير، وقيل إنّ الفرزدق والأخطل نفسيهما قد اعترفا لجرير بعلّو الكعب في الشعر، وقيل إن ابن الأخطل قد وصف جريرًا بأنّه يغرف من بحر، والفرزدق بأنّه ينحت من جبل.
ويُقال إن جريرًا كان يقول إنّه لو تُرِكَ لشأنّه، ولم يكُن عليه التفرّغ لمشاتمة - "مشاتمة" من عندي - صاحبيه، لتفرّغ للغزل. غزليات جريرٍ القليلة من عيون شعره، ولعلّه لو كان ترك شتم الناس، وتفرّغ لأغراض الشعر الأخرى، أو حتى تخصص في الغزل والمدح، لوجدنا وجهًا آخر للشعر العربي، لكن لو تفتح عمل الشيطان.

Mediocre
هذه الكلمة تعني متوسط الجودة، لا هو بالممتاز ولا هو بالرديء. أو متوسط الموهبة، الذي ليس لامعًا ولا منطفئًا. الشيء العادي. وقد شاع استخدامها في السنين الأخيرة لوصف العديد من الأعمال الفنية متوسطة الجودة، وشاع مع ذلك مُعتقد أن كلمة وسط العربية لا تصلح لإيصال المعنى نفسه الذي لكلمة mediocre، فصار صعبًا إفهام المعنى من دون استخدام اللفظة الإنكليزية. الطريف أن العرب قد اشتكوا من الوسط مُنذ قرون، وهذا الجاحظ يكتب في البيان والتبيين عن الوسط، وفوائد أخرى:
وأنا أقول [الجاحظ]: إنّه ليس في الأرض كلامٌ هو أمتع ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد التصاقًا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجودُ تقويمًا للسان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء، والعلماء البلغاء. وقد أصاب القوم في عامة ما وصفوا، إلّا أنني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني. وقد يُحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الفخم من الألفاظ، والشريف الكريم من المعاني. كما أن النادرة الباردة جدًا قد تكون أطيب من النادرة الحارة جدًا. وإنما الكرب الذي يختم على القلوب، ويأخذ بالأنفاس، النادرة الفاترة التي لا هي حارة ولا باردة، وكذلك الشعر الوسط والغناء الوسط، وإنما الشأن في الحار جدًا والبارد جدًا.
وقد كان محمد بن عباد بن كاسب يقول: والله لفلان أثقل من مغنٍ وسط وأبغض من ظريف وسط.

الولولة
يُخيل لي أن المهتمين بشأن العربية ينقسمون إلى جماعتين: جماعة تجتمع حول القديم، وتهز رؤوسها مستحسنة كُل بيتٍ من الشعر أو قولٍ مر عليه الدهر، وتردده بحماسة، وتعيد بعد كُل قول؛ أَلَمٌ أَلَمَّ أَلَمْ أُلِمَّ بِدَائِهِ: دائهِ. إِنْ آنَ آنٌ آنَ آنُ أَوَانِهِ: أوانِه. والأخرى تولول بلا انقطاع: في العربية إعراب! وا مصيبتاه! لا يوجد في العربية مقابل لكلمة facepalm! أُفٍ لها من لغة بئيسة! لا يوجد في العربية بناء سهل مثل friend and unfriend! يالها من لغة بائدة! وما فائدة اسم الفاعل في العربية؟ يا للهول! بطبيعة الحال، ثمّة أناسٌ معتدلون كثيرون، لكن هذين المعسكرين يشتطان في تعاملهما مع اللغة.
مُشكلة جماعة المولولين أنّهم يُريدون تفصيل اللغة العربية على مقاسِ لغةٍ أخرى، ولتكن الإنكليزية مثلًا: فإذا لم تكّن الترجمة حرفية، كلمةً بكلمة، فإنّ هذا يعني قُصور اللغة العربية. وإذا لم يكُن لكُل كلمةٍ إنكليزية مُعادِل في العربية، يُفيد نفس المعنى بالضبط، بدينوتيشنه وكونوتيشنه وكافة ملحقاته، فإنّ العربية لُغةٌ عاجزة ينبغي إحالتها للتقاعد، والبحث عن لغة أخرى تستوعب أبنائها. والأمرُ نفسه بالنسبة للغات الأخرى، فهُناك من يُريد أن تكون للعربية نفس خصائص الألمانية من حيث القُدرة على ضم المفردات لتوليد كلماتٍ جديدة، أو أن تكون مثل الفرنسية في تعبيراتها. مع أنّه، وفقًا لهذا المنطق نفسه، يُمكِن اتهام اللغات الأخرى بالقصور، فهل ثمة مُعادِل لكلمة المُلك كما في قوله تعالى: "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى"؟ لا يُمكن ترجمة "ملك لا يبلى" ترجمة مباشرة، بمعادل مباشرٍ لكُل لفظة، بطبيعة الحال، فالقرآن معجزة. غير أنّ لفظة المُلك بذاتها لا تُلِم بدلالاتها كلمات kingship أو kinghood أو sovereignty أو monarchy. فهل نُطالِب بإهمال الإنكليزية؟ ماذا عن كلمةٍ بسيطة مثل دَرَسَ (كما في دَرَسَت الآثار)؟ هل ثمةُ لفظةٌ مُباشرة تؤدي معناها ودلالاتها تمامًا كما هي في العربية في الإنكليزية؟ ليس هذا عارًا على الإنكليزية. كُل لُغة لها حياتها الخاصة، وتكوينها الخاص، ولا يمنع عدم تشابه الألفاظ بين أي لُغتين الترجمة بينهما، بتقريب المعنى قدر الإمكان. من دون الالتزام بالحرف ذاته. فطلبُ الالتزام بالترجمة كلمةً كلمة وحرفًا حرفًا تعسُفٌ لا يدلُ على فهمٍ لطبيعة اللغة - أي لغة. ولا يمنع الأمرُ تنقل الكلمات بين اللغات، ففي كل لغة حصيلة كلماتٍ مستعارة من لغات أخرى.
لا بأس بالعربية. هي لُغةٌ جميلة، تشبه غيرها من اللغات وتختلف عنها، فلا داعي لمُعاملتها وكأنها عاهة وراثية - في الحالتين: الولولة والطنطنة.

متفرقات
- ثمة موقعٌ ممتاز لتعلّم اللغات اسمه دوولينغو، ويُمكِن تعلّم الإنكليزية عن طريقه لمتحدّثي العربية. يُقال إن العربية للمتحدثين بالإنكليزية قادمةٌ قريبًا إليه. كما يجري العمل على مساقات تعليم الفرنسية للعرب، وكذلك الألمانية. من يُجيد العربية ولغة أخرى معها يُمكِنه أن يتطوع ويُساهم في إنجاز هذه المشاريع وإخراجها إلى النور، عن طريق التقديم في موقع حاضنة دوولينغو. (لا أعرف شيئًا عن نظام عمل دوولينغو، لكن هذا ما يقوله الموقع نفسه).
- بالحديث عن دوولينغو، سيكون رائعًا لو أنّ هناك من أنشأ تطبيقًا مُشابهًا لتعلّم قواعد النحو العربي أو ما شابه. أو رُبما يكون من الأفضل استخدام نموذج مشابه لنموذج كود أكاديمي. ورُبما كان بالإمكان تطوير نموذج جديدٍ مختلف عن سواه بشكلٍ جذري. يحتاج الأمر إلى تعاون خبراء لغويين مع خبراء برمجة مع خبراء في طرق التدريس ووضع المناهج. يبدو هذا صعبًا، لكن، من يدري؟ رُبما يكون ثمّة فريقٌ نشيط وطموح يبحث عن مشروع تخرّج أو مشروع دراساتٍ عُليا متميز ومفيد؟
- العِلم بالتعلّم، تقول الحكمة العربية، كما أنّ الطبع بالتطبّع. وحذقُ اللغة العربية لن يتأتى للمرء من دون القراءة المستمرة للكتب الجيدة.
- قرأت مرة نصيحة بالإنكليزية تقول إنّ المُعلم الأكبر للأديب - بالإضافة إلى الحياة - ليس أديبًا آخر ولا نحويًا ولا آدميًا أصلًا، بل القاموس. هذه النصيحة مُفيدة بالإنكليزية وبالعربية، ومفيدة حتى عند استخدام القواميس ثنائية اللغة الجيدة. الإطلاع على معاني الكلمات في القواميس اللغوية الجيدة - لا المختصرة والمبتسرة - يؤدي إلى زيادة الحصيلة اللغوية، وفهم الفروق بين المترادفات، واستيعاب المعاني الغامضة، ومن ثم استخدام اللغة بشكلٍ أفضل.

20 ديسمبر 2015

أسطورة الأدب الرفيع

يرى علي الوردي في كتابه: أسطورة الأدب الرفيع (1957، ط2 1994) أن ما اصطُلِحَ على كونه أدب العربية الرفيع من نثرٍ وشعرٍ قديمين بعيدٌ عن أن يكون أدبًا رفيعًا، ويحسُن بالعرب إهماله - أو غربلته - إن هُم أرادوا مواكبة الأزمنة الحديثة. وكما ينبغي مراجعة الأدب العربي، ينبغي كذلك مراجعة اللغة العربية نحوًا وإملاءً، إذ أنها بحالتها الراهنة - أو بحالتها في منتصف القرن العشرين - لا تصلح لأن تكون وسيلة إفهام. 
تبدو دعوة الوردي مألوفة، ولا تكاد تمر فترة من الزمن حتى تظهر دعوة مشابهة تقول إن العربية عاجزة عن استيعاب العلوم الحديثة مما يوجب إهمال ترجمة العلوم إليها والاستعاضة عن الترجمة بتعلّم العلوم بالإنكليزية - أو الفرنسية أو الألمانية، حسب اللغة الأجنبية التي يُجيدها الداعي. أو تظهر دعوة لنبذ العربية والاستعاضة عنها بلغة ميتة كالديموطيقية أو الفينيقية، أو استبدالها باللغات العامية المتفرعة منها في الأصل. وغير ذلك من الدعوات التي يذهب أصحابها مذاهب تشتط في عدائها للعربية لأسبابٍ خرافية، فيما الباعث على هذه الدعوات في الأصل - أو جزء منه - ناتج عن العداء الثقافي - أو الاستلاب الثقافي - أكثر مما هو ناتج عن خصائص أصيلة في اللغة العربية تجعل منها كيانًا متحجرًا ينبغي التخلص منه.
دعوة الوردي ليست من هذا النوع، ومع ذلك، فقد قيل عنه إنّه يُريد استبدال الفصحى بالعامية، واتُهِم بالجهل والتغريب. وفي المقالات الخمس التي يُفتتح بها الكتاب، وكتبها عبد الرزاق محيي الدين، اتهاماتٌ - صريحة ومبطنة - للوردي تُجمل مآخذ مهاجميه عليه، واتهاماتهم له. في مقالات محيي الدين - أيضًا - ردود على دعوات الوردي المناهضة للأدب القديم والنحو. وكان الوردي قد أثار بعضًا من مسائل الكتاب في الصحافة، ثم ارتأى توضيح موقفه في هذا الكتاب بعد الزوبعة التي ثارت ضده، فشرح مآخذه على أدب العربية القديم في اثنتين وثلاثين مقالة تلت مقالات محيي الدين الخمس.
ويمكن إجمال دعوى الوردي على العربية وآدابها في هذه النقاط: أنها لغة إعرابية، والإعراب يفتح مجالًا لأن تتحول اللغة إلى وسيلة إبهام لا إفهام، وأنها تمتلئ بالحشو الذي لا يخدم المعنى إذ أن جُلَ اهتمامها ينصب على اللفظ على حساب المعنى، ويتصل هذا بمآخذه على الشعر العربي مدحًا وهجاء، فالمدح يُكال بغير استحقاق للممدوح، والهجاء ليس إلّا رص شتائم لا يتحرى الهاجي أن تكون حقيقية، ولا تذم المهجو بصفات كالظلم والمسارعة إلى الأذى، إذ أن العرب يعتبرون هذه الصفات - على ما فيها من مجافاة لخلق الإسلام - صفاتٍ حسنة. أمّا أهم مآخذ الوردي على العربية فكونها قد استُخدمت لفترة طويلة من تاريخها بوصفها وسيلة للهيمنة الطبقية - رغم أنّه لا يستخدم هذا المصطلح تحديدًا.

المسألة النحوية
نالت هذه المسألة نصيبًا كبيرًا من النقاش، حيث أن الدعوة لإلغاء النحو العربي برُمته صادمة، فيما الدعوة لتبسيطه شبه متفق عليها. يعرض الوردي عدة نظريات بخصوص نشأة النحو العربي، ويستقر على أن نشأته قد جاءت استجابة لمشكلة اجتماعية نشأت عن التمييز ضد الموالي بناء على أسس لغوية، وما نتج عن ذلك من "عُقد نفسية". ثم يعرض إلى اشتغال الموالي بالنحو، وصعوبة النحو العربي. نظرية تصعيب النحو العربي بسبب حقدٍ - واعٍ أو غير واعٍ - من الموالي على العرب نظريةٌ معروفة، يُمكِن أن تُعد تنويعًا طريفًا على نظريات المؤامرة، وليس لها سندٌ تاريخي قوي. الوردي نفسه يأتي بنقيض هذه النظرية حين يتحدث - في مقالاتٍ لاحقة - عن المدرستين الكوفية والبصرية وأثرهما على قواعد النحو العربي. ومُقتضى الحال أنّ النحو كان لا بُد ناشئًا في مرحلةٍ ما من مراحل تطور الحضارة الإسلامية، لتسهيل تعليم اللغة ونشرها، خصوصًا مع الانتقال إلى مُدنٍ جديدة مع انتشار رقعة الحضارة الإسلامية. بالإضافة إلى ذلك، ثمة حاجة إلى صيغة قياسية (للنحو) الذي يتكلم عليه الناس، ويُكتب وفقًا له الأدب. ثمة نحو تلقائي ينشأ من الكيفية التي يتعارف الناس على الحديث بها، ومن ثم يُقعَّد النحو، ويُحوَلُ إلى صيغٍ قياسية. ثمة نحوٌ تلقائي في كُل لغة يتحدث بها الناس، حتى العامية، وإلّا لما كانت ثمة ألسنة مُميزة لكل جماعة من الناس. و"نحو" الكلام ما يتعلمه أي وافدٌ على أي لغة، حتى لو لم يكُن ضليعًا في علم النحو.
يُناقش الوردي الخلافات بين المدرستين الكوفية والبصرية، وأسباب اختلاف المدرستين، ثم التوفيق بينهما، ونتائج هذا على النحو العربي. نظرية الوردي جديرة بالاعتبار، حيث أنّه يرى أن التوفيق بين مدرستين مختلفتين قد أدى إلى بلبلة علم النحو، وتشعُب قواعده وتناقضها فيما بينها البين. مشكلة تشعب النحو وتناقض قواعده أحيانًا مشكلة قديمة، وقد حاول ابن هشام حلها قبل قرون في كتابه: مُغني اللبيب عن كُتب الأعاريب، وفيه يُفسر لا الوظيفة اللغوية البحتة للكلام، ولكن وظيفته الدلالية - إن صح التعبير، فقد يتغير الإعراب بتغير الوظيفة الدلالية للكلمات، خصوصًا الأدوات الثابتة مثل: ما، إذا، لو، قط، قد... مجهود ابن هشام نال التقدير في زمانه، وما زال يلقى التقدير في هذه الأيام. وثمة جهود تُبنى على عمله، لكنها جهود فردية - مثلما كان جهد ابن هشام في زمانه - وكثيرٌ منها لا يحظى بالانتشار.
مسألة الإعراب ليست حكرًا على العربية، وليست - في حد ذاتها - سببًا للإبهام - إلّا إذا قصد الكاتب ذلك. بل إن الإعراب يُقصد به الإفهام ويُفيده في حالاتٍ كثيرة. إذ أن الإعراب معناه الإبانة. أمّا اقتراح استبدال الإعراب بتغييراتٍ في كيفية بناء الجملة، فمسألة فردية تعود إلى اختيار كُل كاتبٍ وإلى مقاصد نصه.

الهيمنة الطبقية
أهم طروحات الكتاب تأكيده المستمر على أن اللغة العربية قد استُخدمت وسيلة للهيمنة الطبقية منذ الجاهلية، فقد كان أشراف العرب وأغنياؤهم يُرسلون أولادهم إلى البادية لتفصح ألسنتهم، وتستقيم لغتهم من غير لحنٍ، فيما لم يكن ذلك في إمكان الضعفاء والفقراء، خصوصًا في الحواضر مثل مكة، فاختلطت لغتهم بلغة الموالي والعبيد وضعفت. ويذكر الوردي قصصًا عن التفاوت اللغوي الذي كان قائمًا في الجاهلية. ثم يقول إن الطبقية اللغوية قد عادت مع الدولة الأموية، فالأمويون قد اهتموا بالشعر اهتمامًا شديدًا، وقد شجعوا الناس على الاشتغال به وروايته وتداوله، وأحيوا به النعرّات. وكانت لهم القدرة على إرسال أولادهم إلى البادية كما كانت لهم في الجاهلية، فكان بإمكانهم مفاضلة الناس بناء على اللغة.
ويذكر الكتاب - أسطورة الأدب الرفيع - قصة تُروى عن عبد الملك بن مروان في هذا السياق، حيث يُقال إن شيخًا قد دخل عليه وهو يلعب الشطرنج مع غلامه، فوضع عبد الملك بن مروان الرقعة جانبًا وغطاها احترامًا له، ثم ما إن تكلّم الرجل حتى لحن في كلامه، فأمر عبد الملك غلامه بأن يرفع الغطاء عن الشطرنج، إذ لا حُرمة للاحن. بالطبع، يذكر الكتاب أن ولد عبد الملك، الوليد، كان لحّانًا. لكن الكتاب لا يذكر أن الوليد كان محميًا بطبقته الاجتماعية، ومنصبه بوصفه وليًا للعهد ثم خليفة، فلم ينله سوى مضايقاتٍ بسيطة - جُلها من بني عمومته المكافئين له في الحسب والمنافسين له على السلطان - حول لحنه، فيما عنى اللحن والعي وعيوب الكلام مآسي لمن لم يحظوا بامتيازاتٍ مشابهة.
لم يذكر الكتاب هذه النقطة، غير أن قراءة الكُتب التراثية، خصوصًا الكُتب عن الأدب، مثل البيان والتبيين، تُظهر مجتمعًا طبقيًا أشدُ أدواتِه قمعًا اللغة، ولا يستثني هذا المجتمع من قمعه من يُعانون من عيوبٍ في النطق والكلام. ويذكر الجاحظ أمثلة على تحاشي البعض ظهور عيوب نطقهم باختيار كلماتٍ لا تظهر فيها الحروف التي لا يستطيعون نُطقها، إذ أن عيوب النطق والخطأ في مخارج الحروف كان مما يُذهب هيبة الرجل ويُنقص قدره بين الناس. كذلك كان العجز عن الرد في المجالس، والافتقار إلى البلاغة وسرعة البديهة. وكم من قصة يذكرها الجاحظ تبعث على الأسى، إذ تُظهر كيف يفقد أناسٌ مراكزهم بسبب ردٍ غير موفق، أو عي في الكلام، فتضيع مكانتهم بين الناس، ويصير بعضهم مشردًا يهيم على وجهه، وتُروى هذه القصص للتفكه!
الملاحظة الغائبة حول النحو العربي، في هذا السياق، أنّه كان نوعًا من نشر التعليم، وتمكين الفئات التي لا حظ لها في امتياز البادية من توفير تعليم لغوي لأبنائها، كما أنّه قد مكّن الموالي من تعلّم العربية بشكلٍ جيد. انتشار النحو وفّر لأبناء التجار وكبار أصحاب المهن حظًا من التعليم، رُبما لم يكن قادرًا على كسر القيود الاجتماعية وتوفير فُرصٍ كثيرة للترقي الطبقي، إلّا أنّه كان يكفل لعددٍ كبير من الناس أمان الخروج من طبقة "الدهماء" و"الهمج"، ووسيلة لتجنب الاتهام بالحمق.

مسألة الأدب
لَعِب الأدب القديم، الشعر خصوصًا، دورًا في ترسيخ هيمنة طبقاتٍ بعينها، وتوطيد نظم اجتماعية مُعينة.  ويلوم الكتاب - أسطورة الأدب الرفيع - الشعر العربي بوصفه سببًا من أسباب تجمد اللغة العربية. يذم الكتاب الشعر كله: مدحًا وهجاء وغزلًا: فالمديح يُكال بغير حسابٍ للمدوح، والشعراء يمدحون الظالمين دومًا فيعينونهم على ظلمهم، والهجاء ليس إلّا شتائم مرصوصة لا تفيد أي معنى يتجاوز السب البذيء المباشر الذي يُفترض أن يُعاقِب عليه القانون، أمّا الغزل، فيرى الكتاب أن شيوع ضمير المُذكر في الغزل دليلٌ على مشكلةٍ اجتماعية عميقة نشأت عن تهميش دور المرأة في المجتمع. كذلك، لَعِب الاشتغال بالشعر دور المخدر للأمة، فالناس قد انشغلت برواية الشعر وحفظه، والمفاضلة بين الشعراء، ونقائض جرير والفرزدق وما شابهها، فلم تنتبه إلى أحوالها كما ينبغي.
قول الكتاب في المديح والهجاء لا يحتاج إلى بيانٍ وتفصيل، إذ أنّه واضح، غير أنّه ثمة مُلاحظة ينبغي ذكرها لتأكيد الدور اللا عقلاني الذي لعبه الشعر في السيطرة والتحكم الاجتماعي، حيث أنّ الشعر كان يرفع قبائل ويحُطها. (يُذكر ذلك - غالبًا - في معرض التفاخر للتدليل على أهمية الشعر العربي). ولجرير قصتان مشهورتان، رفع في إحداهما قبيلة وحط أخرى، حيث أنّه مدح بني أنف الناقة بقوله:
قومٌ هُم الأنفُ والأذناب غيرهم، ومن يُسوي بأنف الناقةِ الذنبا
فشمخ بنو أنفِ الناقةِ بأنفسهم، بعد أن كانوا حيًا مغمورًا من أحياء العرب.
وحط من نمير بقوله:
فغُضَ الطرفَ إنّك من نميرٍ، فلا كعبًا بلغت ولا كِلابًا
 الأمر الذي جعل المنتسبين إلى نمير - وقد كانوا متفاخرين بنسبتهم إليها - يهربون من النسبة إليها، إذ انحطّت مكانتها بين العرب.
ليس ثمة منطقٌ معقول يُبرر أن يتسبب بيتٌ من الشعر أو بيتان - من دون قيمة فنية  - في رفعِ قبيلة أو حطها، وإنمّا الناس بأعمالهم. غير أنّ هذا مثالٌ واضح على الاعتباطية التي كانت ترفع أقوامًا وتحُط أقوامًا من دون سببٍ يُذكر، والطريقة التي يُستخدم فيها الشعر بوصفه وسيلة للتحكّم الاجتماعي والهيمنة.
وفي عهد أبي العباس السفاح، قيل إنّه قد أمّن سليمان بن هشام بن عبد الملك، وأجلسه في مجلسه، فدخل عليه سديف بن ميمون، وأنشدّه:
لا يغُرَنّك ما ترى من رجالٍ، إن تحت الضلوع داء دويًا
فضع السيف وارفع السوط حتى، لا ترى فوق ظهرها أمويًا
فقال سليمان: "مالي ومالك أيها الشيخ؟ قتلتني قتلّك الله!" وتختلف الروايات في طريقة مقتل سليمان، لكن النتيجة أنّه قُتل ببيتين من الشعر!
وتُروى القصة بطريقة أخرى، فتقول إن العباس قد أمّن جماعة من بني أمية وأجلسهم في مجلسه، فدخل عليه سديف بن ميمون - نفسه - وأنشد قصيدة متوسطة الطول فيها أبياتٌ قاتلة:
لا تقيلن عبد شمس عثارًا، واقطعن كُل رقلة وأواسي
ذلها أظهر التودد منها، وبها منكم كحز المواسي
فأمّر العباس بمن في المجلس، فقُتِلوا.
إنّ دورَ الشِعر - في ضوء أمثال هذه القصص -  بشعٌ مُخيف، يُحرِض على الأذى، ويبعث النعرّات، ويقود الناس إلى مقاتلِهِم. ولا يُمكِن أن يُنتظَرَ مِن الشِعر - إذ ذاك - أن يُساند الفقراء والمحتاجين، وأن يُخاطِب الطبقات المسحوقة أو يتحدث باسمها، أو حتى أن يتحدّث عن حياة الناس بما فيها من أتراحٍ وأفراح، إذ أن الشاعر حين يخرج عن ذاته، فإنّه يُعبِر عن الطبقة المُهيمنة.
في هذا الجو المُسمم، تظهر شخصيات مثل أبي الطيب المُتنبي، الذي اراد الوصول بشعره إلى طموحاته، فاصطدم بأن الشاعر ما هو إلّا بوق. لقد تحدّدت وظيفة الشاعر قبل قرون، والمُتنبي لم يتحداها، فشعره لم يخرج في أغراضه عمّن سبقوه، واستخدم شعره فيما استخدموه فيه، إلّا أنّه كان أكثر طموحًا من غيره، ومن هنا جاء خروج المتنبي من حلب إلى مصر، ومن ثم هروبه من مصر. قصيدته الشهيرة "عيدٌ بأية حالٍ عُدت يا عيد" لا تخلو من جمالٍ، غير أنها مليئة بالعبارات العُنصرية التي تُعبر - بلا مورابة - عن وجهة النظر السائدة لدى الطبقات المُهيمنة، التي تشربتها الطبقات التابعة: فاللون الأسود لونٌ مكروه ولو كان لون الشخص نفسه، لأن التابع قد تعلّم من المتبوع أن اللون الأسود مكروه.
المُتنبي لم يعتزل بشعره مجالس الكُبراء، ولم يُخالِط بشعره الناس. لقد أراد التوصل بشعره إلى الخروج من طبقته الاجتماعية، لكنّه اصطدم بنظامٍ مُحكم قد ساهم في تشييده شُعراء من قبله. ومثله في ذلك مثل أبي حيان التوحيدي - الذي يمدحه كتاب أسطورة الأدب الرفيع. أبو حيّان التوحيدي (صاحب أخبار)، وهذه مهنة معروفة في العصور القديمة، حيث أن أصحاب الأخبار هُم من الأدباء الذين يجمعون الحكايات والحِكَم وأشعار العرب وأخبارهم، وينسجون منها محادثات تؤانس المستمعين في المجالس وتمتعهم، ويضيفون إليها ويحذفون منها، ويخرجون منها بأفكارهم الخاصة حول الدُنيا وما فيها.
أصحاب الأخبار، في آخر الأمر، يلعبون دورًا مشابهًا لدور الشًعراء، فهُم حُلية اجتماعية للمجالس العُليا. وأبو حيان قد وجد نفسه في موقفٍ مُشابه لموقف المتنبي، حيث أنّه وجد قد وجد نفسه منبوذًا من مجالس الوزراء - وكان ذلك عصر الوزيرين: الصاحب بن عباد وابن العميد - وكان يكره مُخالطة العامة. انتقم أبو حيّان التوحيدي من الوزيرين بتأليف كتابٍ يُسمى مثالِب الوزيرين، ملأه بنقائص الوزيرين وأهل مجالسهما، وفيه من كشف السوءات والشتائم والرقاعة الكثير. يُعطي مثالِب الوزيرين فكرة عن الجو المسموم الذي كان يعيش فيه الأدباء والشعراء في زمنٍ من الأزمنة، ويجعل المرء يتساءل: لماذا أراد أبو حيّان أن يكون جزءًا من هذا المجتمع المريض؟ إذ أنّ أبا حيّان يقول بوضوح إنّه قد ألّف الكتاب لينتقم من الوزيرين بعدما حرماه من الهبات والعطايا وأجرياها على غيره. أي أنّ أبا حيّان لو كان قد حاز على الرضا، لسكت عمّا فضحه في كتابه. وفي استخدامه الأدب للتشهير بالناس امتهانٌ للأدب قل مثيله! ثم أحرّق أبو حيان كُتبه انتقامًا من الناس الذين رأى أنهم لا يستحقون قراءة ما كتبه. مأساة أبي حيّان تُقدم عادة على أنها مأساة المُثقف الذي عاداه الناس عن جهل، وأُغلِقت دونه الأبواب لجهلٍ بمقامه. ما حدث للتوحيدي مأساة، لكنّه مأساة ناجمة عن امتهان الأدب في خدمة طبقة بعينها، وليس للناس ذنب فيما حل به، لأن أبا حيانٍ لم يكن مدافعًا عن العوام. لقد كانت تلك خلافاتٍ مُترفة بعيدة عن حياة الناس المليئة بالحرمان وقلة الأمان.
في أسطورة الأدب الرفيع، يقول الوردي إن أبا نواس وجرير والفرزدق لو عاشوا في أيامنا هذه لأصدروا المجلات البذيئة الخالية من القيمة. معنى كلام الوردي إنّ النظر إلى الأدب القديم يأتي - غالبًا - عن طريق عدساتٍ وردية تُجمل كُل شيء، حتى القبيح والفاحش والرديء والخبيث واللا منطقي، وتتغاضى عن الدور الذي لعبه الأدب ضد الناس العاديين، الشعوب، بشكلٍ عام. لقد حاول الأدب العربي القديم تكريس قيمٍ اجتماعية وفكرية مُعينة، وهذه القيم الاجتماعية والفكرية ضارة في زماننا هذا إذا أُخِذت على علاتها.
ليس معنى هذا إهمال الأدب القديم برُمته، وإسقاطه من الحساب. ولا التمترس وراء مواقف معممة من قبيل مُقاطعة الأدب العربي كله لأنّه أدب شحاذين، وإنمّا التوسط: فهم الأدب القديم لما كان عليه، من دون تقديس، ومن دون تحويله إلى أدبٍ رفيع لمُجرد أنّه أدبٌ قديم، أو لمجرد أن كاتبه هو جرير أو المتنبي أو الملك الضلّيل.