31 ديسمبر 2009

الخالد

يُرهقني بقائي هنا
تخنقني مخاوفي الطفولية.
إذا كان عليك الرحيل،
ليتك ترحل فقط!
لأن حضورك لا يزال متلبثاً هنا،
ولن يتركني وشأني.
هذه الجروح لن تشفى،
وهذا الألم حقيقي أكثر مما ينبغي،
وهناك الكثير مما لا يُمكن للزمن محوه.

عندما بكيت، مسحت دموعك
كلها.
عندما صرخت، صارعت مخاوفك
كلها.
وأمسكت بيدك لنعبر هذه السنين
كلها.
وأنت لا تزال تملك نفسي...
كلها.

كنت تأسرني بنورك الوهاج
والآن يُقيدني النور الذي خلفته
وجهك يسكن أحلامي التي كانت هانئة
وصوتك يطرد كُل عقلٍ
بقي لي.

حاولت جاهدة أن أقنع نفسي بأنك رحلت
لكنني – رغم أنك لا تزال معي –
بقيت وحيدة ووحيدة.
فهذه الجروح لن تُشفى،
وهذا الألم حقيقي أكثر مما ينبغي،
وهناك الكثير مما لا يُمكن للزمن محوه.

20 أكتوبر 2009

فاينز - 2

فاينز في دور براند(فاينز في دور براند)

مقابل صبيانية لورد فولدمورت وهملت، يأخذ براند ومارك أنتوني وأوديب الأمور بجدية شديدة. هدوء براند الغريب، وخطابة مارك أنتوني المتفجرة، وثقة أوديب المتغطرسة تقود هذه الشخصيات إلى سقوطها المأساوي المُحتَم - رُبما باستثناء مارك أنتوني الذي لن يسقط حتى مسرحية أنتوني وكليوباترا.
حين لا يُطابق حساب الفرد حساب العالم

في سعيه إلى الرب، يُضحي براند بكُل شخصٍ قد يكون قريباً إليه. ويصعد منحدراً مستقيماً إلى الأعلى، لكنه ينتهي في القاع مُحطماً بعد أن دمرته الشياطين التي سكنته. يعتقد براند نفسه مُخلصِاً، ويؤمن بأنه يسعى لخلاص روحه ومن حوله، لكنه إذ يُجاهد ليُعتق روحه من النار، يُعتقها من الإنسانية. مُقترب فاينز لأداء شخصية براند المُعقدة والعاصفة هادئ هدوء الثلج الذي يُحيط ببراند، لكنه هدوء مُخيف ومُظلم. جنون براند واضحٌ في هدوئه، وفي خضوعه المُطلق لما يعتقد أنه القوة العُليا. ما كان يُفترض ببراند إبسن أن ينطقه بقوةٍ وحسم، ينطقه براند فاينز بخضوع غريب. في خطاباته العاصفة حرارةٌ مبعثها اقتناع براند الراسخ. براند ليس مجرد قسٍ كالفني متطرف في زُهده، بل إنه مُلهَمٌ - أو مجنون - يرى خلاصه وخلاص العالم مُرتبطاً بالانعتاق من كُل نيرٍ دنيوي.

هدوء فاينز العنيف في براند، وجنونه الدموي المُظلم يتحول خطابة عنيفة وحيوية ومُتفجرة في أداءه لدور مارك أنتوني في الإنتاج الملحمي المُعاصر لمسرحية شكسبير الشهيرة يوليوس قيصر. في البداية، ليس مارك أنتوني أكثر من مجرد سكير يُبقيه يوليوس قيصر في حاشيته لأنه يُسليه - يُمضي فاينز مُعظم المسرحية قبل مقتل قيصر مرتدياً قميصه الداخلي وسروالاً أبيض -، ثم يتحول إلى خطيبٍ عنيفٍ ومُتفجر بعد مقتل قيصر. يُشير أنتوني للجريمة والمجرمين، ويقود بخطابته بروتوس والمتآمرين إلى موتهم. انفجار مارك أنتوني العنيف وخُطبه العصماء لا تُناسب مُهرج قيصر الذي يُلقي به السُكر في كُل مكانٍ حول القصر. لكن عربدة أنتوني العنيفة، وولاءه لقيصر يُبرران تحوله الدرامي. في أداءه، يختار فاينز إظهار جانب أنتوني العنيف في رقصه على المسرح أثناء سكره، وفي اشتراكه في مُسابقة رياضية بناء على طلب قيصر، حركاته متوترة، متشنجة، عنيفة، وتوحي بأن مارك أنتوني أكثر بكثير مما يظنه فيه من حوله.

يقترب مارك أنتوني من جثة قيصر الدامية، ويتحقق من موته، ليُشير بوضوحٍ إلى القتيل وإلى قتلته، ويبدأ انفجاره العنيف مُطالباً بالثأر لقيصر، وبالعدالة له. لولا خطابة مارك أنتوني وصرامة شخصيته، والعُنف الذي توحي به حركاته، لكان بإمكان مارك بروتوس النجاة من غائلة مؤامرة قتل يوليوس قيصر، ولرُبما كتب التاريخ أن قيصر كان طاغية، وكان قتلته أبطالاً. شخصية مارك أنتوني الحادة تُشير بوضوح إلى أنه سيسقط سقوطاً مأساوياً قادماً، لأنه لا يزنُ عواطفه، ولا يعرفُ غير أن يُلقي بنفسه في وسط النيران.

في أوديب، يُقدم فاينز أوديب واثقاً من نفسه إلى حد الغطرسة. أوديب يهزأ بالعراف الأعمى، وبالكورس الذي يُخبره الحقيقة. أوديب الذي يلعن نفسه دون أن يعرف، حارماً نفسه من قطرة ماء تسقيه إياها الشفقة لأنه جلب اللعنة على طيبة. خطابُ أوديب عن جالب اللعنة مُخيف، ليس فقط في مُفارقة أن أوديب يُلقي قدره هو، بل في التشفي الكامن في كلمات أوديب. أوديب مُصمم على تعذيب جالب اللعنة بهدوء تام، وهو مستعدٌ لإلحاق الأذى به من دون التفكير في أي رحمةٍ قد يستحقها جالب اللعنة الغافل. غطرسته تأتي من كونه ملك طيبة المتوج الذي لا يُنازعه أحدٌ سلطته. ثقته لأنه قد قتل لايوس وتزوج امرأته يوكاستا، وامتلك بذلك الدولة والفراش، غير مُدركٍ للعبة الآلهة، ولكون لايوس أباه ويوكاستا أمه. في مسرحية مليئة بالمُفارقات، تتحول خطوات أوديب من غطرسة الملك إلى تذلل طالب الرحمة. أوديب يبكي بناته اللائي لن يُريدهن أحدٌ، فأبوهن أخوهن، وأمهن جدتهن. وفجأة يجد نفسه ابناً عاقاً، وأباً عاجزاً عن حماية أبنائه، وملكاً معزولاً. الخلل في شخصية أوديب يكمن في غروره وإيمانه بعلوه، ويقوده هذا الخلل إلى القاع زاحفاً على الأرض مُضرجاً بالدماء بعد أن فقأ عينيه يسأل الخلاص من قضاءٍ أنزله بنفسه غير عالم. - والدُماء تلوث براند، ومارك أنتوني، وأوديب قُرب نهايات المسرحيات الثلاث -.

في التراجيديات الثلاث، تُحاول الشخصيات الثلاث فرض رؤيتها على العالم، لكن هذه الرؤى - التي قد تكون نبيلة المقاصد - تنتهي إلى سقوط دموي فاجع - قد لا يتحقق تماماً في يوليوس قيصر -، وفي أداء فاينز المُميز لهذه الشخصيات الثلاث، يقترب منها بهدوء موحياً بما سيلي من سقوط مُثل براند إلى هاوية الجنون، وصعود مارك أنتوني العنيف، واكتشاف أوديب لحقيقته المُروعة التي تهز كُل حصون ثقته المُستعارة وتُزلزله هاويةً به إلى قاع الخراب. يُدرك فاينز أن الخلل في هذه الشخصيات يكمن في أن العالم لا يسير وفق ما تتوقعه، وأن هذا الاختلاف سيولد حركاتٍ درامية عنيفة، فيُضيف عُمقاً درامياً وعُنفاً بمقتربه الهادئ الذي يُطمئن المُشاهد الغافل ليأخذه معه في رحلاتٍ عاصفة إلى الجانب المُظلم من الحياة.

14 أكتوبر 2009

فاينز - 1

فاينز في دور هاملت
طريقة الممثل البريطاني ريف فاينز في الحوار أنيقة، أفكاره عميقة، تشبيهاته أدبية، ولغته راقية. موضوعه الأثير التمثيل، وأقرب إليه منه الشخصيات المُعذّبة والمضطربة التي يُجسدها في الأفلام وعلى خشبة المسرح. يُحاول فاينز فهم شخصياته وإضافة شيء من روحه إليها، وينتج عن محاولاته تأملاتٌ عميقة في طبيعة البشر والشر في العالم.
تأملات فاينز في طبائع الخلق تجعل أدواره صعبة النسيان، وخياراته في تجسيد شخصياته مغامرة تبدو غريبة وحادة المذاق أحياناً، غير أنها آسرة بشكلٍ ما. فأفكار فاينز، وتقمصه للشخصيات، وطريقته في الإلقاء مزيج من الفكر والثقافة والموهبة والإلهام.

صبيٌ صغير شديد الأذى

رُبما كان دور لورد فولدمورت - الذي قدم فاينز لجمهور هاري بوتر العريض - أقل أدواره قُرباً إلى نفسه، لكنه يُحاول من حينٍ لآخر التصالح مع الدور، والحديث عن طبيعة فولدمورت المشطوبة باليُتم والحرمان ورُهاب الموت والجنون المُبكر. مع ذلك، يبدو واضحاً في الأفلام أنه يتسلى بالدور متجولاً بعباءة سوداء قديمة - رُبما كان سكروج مكداك قريب أكلة الموت، لذا لا يشعرون بحرج وهم يبخلون على زعيمهم بعباءة جديدة -، ومتلوياً ومزمجراً في موقع التصوير كما يحلو له. ليس الأمر أنه يستخف بالدور، لكنه أدرك أن لورد فولدمورت قد وصل مرحلة بعيدة من الجنون تجعله مرحاً بشكل سوداوي، ومبتهجاً بالمعارك والتسلل إلى الوزارة. أفعال فولدمورت جدية ونتائجها مأساوية، لكن فولدمورت لا يحملها على محمل الجد أبداً، ويرتكبها بمرحٍ وخفة. حتى في مُلاحقته المحمومة لهاري، فإنه لا يستطيع إلا أن يكون ساخراً وطريفاً لأنه محمي بحصنه العقلي الذي يفصله عمن حوله عاطفياً وفكرياً، ويفصله عن الواقع - وقد يكون ذلك لأنه يتجول في موقع التصوير بعباءة شديدة التهوية. مشكلة فولدمورت أنه أذكى من اللازم، وأكثر رُهاباً من اللازم، لذلك لا يحمل الدمار على محمل الجد - كالأشرار الآخرين الذين يكادون ينفجرون لفرط إحساسهم بأهمية ذواتهم وما يفعلونه، وهو في ذلك أكثر إخافة ممن عداه، لأنه يجد بهجة صبيانية في الأذى، ولا يستطيع أن يتحمل مسؤولية أفعاله الأخلاقية، أو أن يُدرك الأذى الذي يُلحقه بالأرواح. الأذى بالنسبة إليه مُبهج، لذا يقوم به.

خيار فاينز في أداء الدور بهذا الشكل صعب لأنه قد لا يُرضي نسبة كبيرة من المشاهدين كانت تتوقع فولدمورت أكثر جدية وصرامة، وأقل مرحاً وطيشاً. فولدمورت صبياني بطريقة فاينز، وصبيانيته خطيرة، فشرير آخر أكثر جدية كان ليعامل أعدائه برحمة أكبر.

قبل دوره في هاري بوتر بسنواتٍ، فاز فاينز بجائزة توني لأفضل ممثل مسرحي في دور رئيسي عن دور هملت الذي يراه واحداً من أقرب أدواره إلى نفسه - ليكون أول ممثل يحصل على جائزة عن هذا الدور. أداء فاينز للدور الشهير لم يأخذ هملت على محمل الجد، ولم يُحاول أن يُضفي عليه الكبرياء والعظمة التي يحاول الممثلون الآخرون إضفاءها عليه. فقدم هملت أميراً مدللاً يركض على المسرح حافياً طوال الوقت، ويتحدث بالألغاز في محاولة لجذب انتباه أمه التي أحنقه أنها تزوجت وانصرف اهتمامها عنه - فرانشيسكا آنيس التي (سيخرب) بيته بسببها. قدم هملت الطفل المشاغب الذي يتسبب في مآسٍ مروعة - والجميع يموت في هذه المسرحية - رؤية مُغايرة للمأساة التي يُفتَرض أنها تعبيرٌ عن محنة المثقف في مُجتمع لا يستوعب معضلته العقلية، بينما هاملت فاينز ليس مثقفاً بل قارئ كتبٍ نهم -وبينهما فرقٌ بين. هملت - هنا - شيطانٌ صغير يرتكب مختلف الشقاوات ليُزعج أمه وعمه وأوفيليا وسكان القصر، ويُرهقهم بجنونه المُصطنع الذي تزيده حدة صبيانيته الشديدة وولعه بالمشاغبة. هلاوس هملت وأشباحه وسؤال كينونته وهواجسه عن الانتقام كانت كُلها نواتج خيالاته الطفولية الجامحة، وأفكاره الصبيانية الشيطانية.

خيارات فاينز في هذين الدورين قد لا تروق للكثيرين، لكنها تطرح وجهاتٍ نظر جديدة حول الشخصية، وبنيتها العقلية والنفسية، وتفسيراً مغايراً للتفسيرات السائدة للأدب. وفي هذه الخيارات جرأة محمودة تنقض أنماط التلقي القائمة، وتقدم وجوهاً أخرى للحقيقة لم يُبحَث عنها - كما ينبغي - من قبل.

26 سبتمبر 2009

المنامة المقلمة

ملصق فيلم الصبي في المنامة المقلمةفيلم الصبي في المنامة المقلمة The Boy in the Striped Pyjamas واحدٌ من الأفلام التي ظُلمت لأسباب غير فنية، إذ أن الفيلم يحظى بكل ما يُمكن أن يجعل منه فيلماً ناجحاً للغاية، ومحبوباً من النقاد والجمهور. مع ذلك، فلم يُرشح الفيلم لأي من الجوائز الكُبرى - الأوسكار، الغولدن غلوب، وجوائز نقابة الممثلين - ولم يحظ بأي مكافأة لتكامل عناصره الفنية - وشأنه في ذلك شأن فيلم الحب في زمن الكوليرا، وإن كان الصبي في المنامة المُقلمة أكثر إحكاماً من ناحية السيناريو - وفوق ذلك، فالفيلم واحدٌ من الأفلام التي اصطلح على تسميتها "أفلام المحرقة" مثله مثل أفلام: قائمة شندلر، والحياة حلوة، ومنذ فترة قريبة القارئ، وجميعها أفلامٌ تحظى بانتشارٍ واسع وقبول عامٍ بين النقاد. ومع أن فيلم الصبي في المنامة المقلمة يتفوق على فيلم القارئ كثيراً، إلا أن الأخير نال الكثير من الثناء النقدي وحصل على عددٍ كبيرٍ من الجوائز، منها جائزة أوسكار أفضل ممثلة لكيت وينسلت.
مع ذلك، فالأفلام الجيدة لا تصنعها الجوائز، وفيلم الصبي في المنامة المقلمة واحدٌ من الأفلام التي تدل على أن العصر الحالي للسينما عصرٌ زاهٍ قادرٌ على إنتاج أفلامٍ جميلة مشغولة بحرفيةٍ عالية، كما أنه فيلمٌ ذو قيمة إنسانية عالية. وإن كانت ثيمة (المحرقة) التي يدور حولها عاملاً يصد عنه النقاد، أولئك الذين يؤمنون بالمحرقة كأنها دين، وأولئك الذين ينكرون حدوثها على حدٍ سواء. والواقع أن لادعاءات كلا الطرفين أساس: فمن يُنكر المحرقة - أو يراها في أحسن الأحوال ذريعة يهودية لابتزاز العالم - سيرفض الفيلم كإضافة جديدة إلى تراث الابتزاز اليهودي عن طريق الأفلام، ومن يؤمن بها يراه عرضاً لمأساة أسرةٍ نازية "يُصادر المحرقة ويحولها إلى قصةٍ عن النازية وطفلها الجميل كالدمية" كما فعلت مانولا دارجِس، ناقدة الأفلام في جريدة "نيويورك تايمز".
الفيلم مأخوذ عن رواية جيمس بوين بالعنوان ذاته، وله العمق الذي يُميز الأفلام المأخوذة عن أعمالٍ أدبية. ويعمل فيه المخرج مارك هرمان - الذي كتب السيناريو أيضاً - على تقديم فيلمٍ مشدود الأطراف، مع الاحتفاظ بكاميرا مُحلقة تتبع طفلاً صغيراً كثير الحركة. يحكي الفيلم قصة صبي في الثامنة من عُمره يُسمى برونو، يحب الاستكشاف والمغامرة ويريد أن يُصبح مستكشفاً، أبوه ضابطٌ نازي عالي الرتبة، وأمه ربة بيت لطيفة، وشقيقته الكبرى فتاة عادية تحب الدُمى. تتغير حياة برونو وأسرته حينما ينال أبوه ترقية وتنتقل أسرته إلى منطقة ريفية معزولة حيث لا أصدقاء هُناك، بل جنودٌ نازيون مخيفون. من نافذته، يرى برونو مزرعة غريبة حيث المزارعون يرتدون (مناماتٍ مقلمة) ويُخبر أمه بذلك، ليتضح أن أباه انتقل ليُدير معسكر اعتقالٍ نازي وأن المزارعين ذوي المنامات المقلمة ليسوا إلا السجناء اليهود في المعسكر. لا يُخبر أحدٌ برونو بالحقيقة، بل يتركونه يعتقد أن المعسكر البعيد مزرعة فعلاً. غير أن الصبي كثير الحركة يتسلل لاستكشاف الغابة وما وراءها ليصل إلى أسوار المعسكر، حيث يقابل صبياً في مثل سنه يُسمى شمو. ومع الوقت، يُصبح برونو وشمو صديقين من خلال أسوار السياج، ويظل برونو يعتقد أن المنامات المقلمة والأرقام التي عليها لعبة يلعبها شمو ورفاقه في المعسكر.
غير أن حياة برونو تتعقد أكثر بمعاملة الملازم كوتلر - مرافق العائلة - للعامل اليهودي في المنزل، وبإصرار معلمه وأخته وأبيه على أن اليهود هم العدو. ويزداد الأمر سوءاً حين تكتشف أمه بالصدفة سر الرائحة الكريهة التي تنتشر في المكان، فتتسمم علاقاتها بأبيه. ثم يُصدم برونو في أبيه حينما يتغاضى أبوه عن قيام الملازم كوتلر بضرب العامل اليهودي حتى الموت. يتحول اندفاع برونو الطفولي إلى خوفٍ ممن حوله، وشعورٍ بالذنب لصداقته لشمو الذي يُفترض أن يكون عدوه. حتى يجد شمو في منزله مكان العامل السابق، فيقدم إليه بعض الحلوى ببراءة ويخبره عما تقوله أخته عن اليهود ويقوله المعلم. يدخل الملازم كوتلر ويتهم شمو بسرقة الطعام، فيدافع شمو عن نفسه بأن صديقه برونو أعطاه أياه. ويُنكر برونو الخائف أن يكون قد عرف شمو من قبل، ليسقط الطفل هو الآخر في مهلكة الإنكار والذنب.
يحاول برونو الاعتذار من شمو - الذي يتعرض لضربٍ مبرح يختفي على إثره فترة طويلة - ويعودان صديقين. ثم تقرر أم برونو أنها يجب أن تعود بطفليها من المعسكر قبل أن تخسرهما، فابنتها غريتل قد بدأت تتحول إلى نازية نموذجية، وابنها برونو محاصر بالذنب والإنكار. يذهب برونو لوداع شمو، لكنه يُقرر أن يُساعده في إيجاد والده أولاً ليعوضه عن إنكاره إياه من قبل، ويرفع عن نفسه شعوره بالذنب.
الفيلم مبني على التفاصيل الصغيرة في علاقة برونو بشمو، والشر الذي يدور في المكان الجميل والهادئ ينكشف تدريجياً من دون أن يُدركه الطفل الذي يُحب الاستكشاف، غير أن براءته لا تحميه من الشعور بالخوف والذنب. والأسرة النازية في الفيلم أسرة عادية ومحبة، لا يتميز أيٌ من أفرادها بأي شرٍ ظاهر. غير أن الأب يسقط في قبوله للممارسات النازية وتعطيله لضميره بدعوى أن هذا واجبه الوطني، ويسقط في سكوته عن قتل كوتلر للعامل اليهودي في بيته، ويسقط عندما يبلغ بكوتلر نفسه لأن كوتلر لم يشِ بأبيه المعارض للحزب النازي. ويأتي سقوط الأب الأكبر، حين يقتنع برونو - من مشاهدته لفيلمٍ عن المعسكرات النازية - أن المساجين مثل شمو ينعمون بحياةٍ جميلة تغريه باستكشافها.
رغم بساطة الفيلم الظاهرية، فإنه يدور على مستوياتٍ عديدة، وطبقاته كثيرة التعقيد. فالفيلم عن البراءة التي تعيش قرب الشر الذي يبتلعها في النهاية، والفيلم عن التوحش الإنساني الذي يبلغ مبلغاً يجعل الإنسان ينزع الإنسانية عن الآخرين ليعذبهم. لا توجد شخصية نازية أحادية البعد في الفيلم - باستثناء المعلم هر ليتس - ولعل ذلك ما أحنق النقاد اليهود، بينما الشخصيات اليهودية غائبة، أو أحادية البعد. فرولف - قمندان المعسكر - أبٌ وزوجٌ مُحب، وليس مجرد ضابطٍ نازي بلا روح. والملازم كوتلر النازي العدواني إنسانٌ بطريقته، فبسبب رفضه الوشاية بأبيه يُرسل إلى الجبهة، ورغم معاملته الكريهة لشمو فإنه يحب برونو - على طريقته. وإلسا - الأم - امرأة لطيفة ومُحبة، وأمٌ عظيمة. وغريتل التي تتحول من فتاة مُحبة للدمى إلى فتاة مخلصة للنازية ضحية للبروباغندا التي تشيع في البيت.
فيلم الصبي في المنامة المقلمة ليس عن المحرقة التي تقضي على اليهود فحسب، وإنما عن المحرقة التي تلتهم الأسرة النازية. فالصبي في المنامة المقلمة برونو كما هو شمو. (ما يُذكر بانتقال الأدوار في فيلم ابنة بولين الأخرى، ففي البداية تكون الأخرى ماري بولين، ثم تصبح آن بولين). والمحرقة آذت اليهود، لكنها سلبت روح ألمانيا أيضاً. والناتج، فيلمٌ يُقدم رؤية إنسانية للنازيين واليهود، ولألمانيا التي مزقتها المحرقة. كما أنه يُقدم رؤية للكيفية التي يبيع بها الإنسان روحه تدريجياً للشر بسبب ضعفه، والأكاذيب التي ينسجها لنفسه، أو ينسجها الآخرون حوله.
أداء الممثلين في الفيلم آسر، بحيث يصعُب أن ينأى المشاهد بنفسه عن الشخصيات، ويجد نفسه متعاطفاً معها إلى النهاية. كما أن الإخراج وتصوير بنوي ديلوم في غاية الجمال، حيث تصبح الكاميرا أداة للتعبير، فتحلق مع برونو حينما ينطلق ليستكشف العالم، وتدور معه مندهشة من عالم الكبار، وتخاف من الجنود معه. ثم تتحول إلى شاهدةٍ عليه حين يُنكر صديقه، وحين يتسلل ليشاهد كيف تُقدم النازية حياة الجنود. تواجه الكاميرا الأب في النهاية، وتتعاطف مع الأم. لكنها تنتهي شاهدة محايدة. أما موسيقى جيمس هورنر المصاحبة للفيلم فترافق الكاميرا منذ المشهد الأول لتحلق مع برونو في مقطوعاتٍ جميلةٍ متفردة تدخل في نسيج الفيلم، وتخدمه. الفيلمُ من إنتاجٍ بريطاني ساهمت فيه هيئة الإذاعة البريطانية BBC وشركة ميراماكس، وأنتجه ديفد هيمان، مُنتج سلسلة أفلام هاري بوتر الشهير.

الصبي في المنامة المقلمة (2008) - مارك هرمان (إخراج وسيناريو) - تمثيل: آسا بترفيلد (برونو)، جاك سكانلون (شمو)، فيرا فارميغا (الأم)، ديفد ثويلز (الأب)، آمبر بيتي (غريتل)، روبرت فريند (الملازم كوتلر) - ديفد هيمان (منتج) - بنوي ديلوم (تصوير) - جاك هورنر (موسيقى) - BBC وHeyday (إنتاج) - ميراماكس (توزيع)

شريط الصبي في المنامة المقلمة الصوتي - موسيقى: جاك هورنر - من موقع يوتيوب

28 يونيو 2009

وقت للأفلام - 1

الحرب العالمية الثانية
أُنتجت أفلامٌ كثيرة كانت الحرب العالمية الثانية في خلفية أحداثها، وكثيرٌ منها يستحق المُشاهدة، غير أنني أتذكر اثنين منها بشكلٍ خاص: المريض الإنكليزي والكفارة. كِلا الفيلمين مُكيفٌ عن روايةٍ بنفس الاسم. المريض الإنكليزي عن رواية مايكل أونداتجي الحاصلة على جائزة بوكر، والكفارة عن رواية إيوان مكيوان التي يعتبرها البعض أفضل رواياته قاطبة. لا يتوقف التشابه بين الفيلمين عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى ثيمة الحب الذي لا يتحقق الموجودة في كلا الفيلمين، وموقع الحدث الذي لا يتعلق بالجنود والقتال بقدر ما يتعلق بالأفراد الذين اعترضت الحرب حيواتهم. تشابه آخر بين الفيلمين يكمن في اقتحام الحرب للحصون البعيدة التي تحتمي بها الشخصيات، الصحراء في المريض الإنكليزي، ودارة آل تالس في الكفارة.
غير التشابه في الثيمات والمُعالجات، يتشابه الفيلمان في عدد الترشيحات لجوائز الأوسكار، وتقريباً، فقد ترشح الفيلمان في نفس الفئات. يختلف الفيلمان فقط في أن عدد الجوائز التي فاز بها المريض الإنكليزي تزيد عن عدد تلك التي فاز بها الكفارة.
على أن تشابه الفيلمين لا يُقلل من قيمة أيٍ منهما الفنية كعملٍ مستقلٍ، فخصائص الفيلمين الأسلوبية مميزة، ومساراتهما الحكائية مختلفة، كما أن المعمار الفيلمي يختلف في الفيلمين الذين يقدمان قراءتين مختلفتين للحرب العالمية الثانية تشتركان في عرضهما للمعضلة الأخلاقية التي تعاني منها شخصيات وجدت نفسها في خضم حربٍ طاحنةٍ.

ملصق فيلم المريض الإنكليزيالمريض الإنكليزي
المريض الإنكليزي The English Patient واحدٌ من أكثر الأفلام التي حُط من قدرها في تاريخ السينما، ومع ذلك نالت ثناء نقدياً ودخلت سجل الأوسكار بعددٍ كبيرٍ من الجوائز. أقدم ذكرياتي عن هذا الفيلم تعود إلى الموجة الساخرة التي اجتاحت برامج التلفاز والأفلام التي سخرت من المريض الإنكليزي، وفي طفولتي اعتقدت أن المريض الإنكليزي فيلمٌ عن شخصٍ مريضٍ بمرضٍ لا علاج له. أخيراً شاهدت الفيلم ووجدته مكتمل العناصر الفنية، بحيث كانت السخريات الكثيرة منه مجحفة.
يدور الفيلم في الصحراء العربية خلال الحرب العالمية الثانية. عقدته الأساسية علاقة حبٍ تنشأ بين كاثرين كليفتون المستكشفة البريطانية وزوجة أحد عملاء المخابرات البريطانية وبين زميلها في الحملة الجغرافية لاستكشاف الصحراء المغربية الكونت المجري لازلو دو ألماشي. تنشأ علاقة الحُب في الصحراء، وتعيش كاثرين علاقة محرمة مع ألماشي في القاهرة أثناء غياب زوجها جيوفري الذي يؤدي مُهماتٍ للمخابرات البريطانية. تنفجر الحرب وتأخذ المجر جانب ألمانيا في دول المحور، فيصبح ألماشي العدو. تستمر ثيمة العدو في السيطرة على علاقة ألماشي برفاقه السابقين - وكاثرين - حتى تصل ذروتها في مشهد اعتقاله من قبل من جاء يطلب منهم العون، ثم خيانته الكلية.
تُروى قصة كاثرين وألماشي عن طريق استعادة تشبه الحلم، فعقدة الفيلم تبدأ بقيام بعض القبائل الصحراوية بتسليم طيارٍ متفحم للقوات البريطانية التي تفشل في معرفة أي شيء عن هويته، فتلقبه بالمريض الإنكليزي وتُسلمه للأطباء الذين يأخذونه معهم في رحلتهم عائدين إلى بريطانيا. تقرر ممرضة كندية اسمها هانا البقاء معه في ديرٍ إيطالي يتعرض للقصف بعد أن عانت خسارة المقربين إليها، وبعد أن أصبح المريض الإنكليزي عبئاً على الفريق الطبي. في الدير الإيطالي ينضم إليهم عميل مخابرات كندي يتعرف على ألماشي من كتاب التواريخ لهيردوت الذي يحمله معه دائماً، وينوي قتله لأنه فقد أصابعه بسبب تواطؤ ألماشي مع القوات الألمانية. يظهر أن ألماشي عميلٌ ألماني مطلوب من قبل الحلفاء، لكن ألماشي لا يؤكد شيئاً في استعادته لقصته مع كاثرين. ينضم إلى المقيمين في الدير ضابط سيخي من وحدة نزع الألغام يقع في حب هانا، ويعقد صحبة مع المريض الإنكليزي والعميل الكندي لتتشابك قصص الأربعة وتقدم خلفية إنسانية غنية لأحداث الحرب العالمية الثانية. في النهاية، تتفرق الصحبة بعد أن تحرر الجميع من عبء الحرب.
إخراج أنتوني منغيلا - الذي كتب السيناريو كذلك - للفيلم رائع، فجميع عناصره متآلفة في نسيج جميل لتخلق صورة مليئة بالتفاصيل الدقيقة والحية للحرب العالمية الثانية وتدخلاتها القدرية في حياة البشر، ووقوع أشخاصٍ عاديين ضحايا لمؤامرات دولية لا علاقة لهم بها، ومن ثم محاولة التعافي من حالة الدمار الإنساني التي سببتها الحرب. لا تظهر مشاهد الحرب الفعلية من إطلاق رصاصٍ وقصف بالقنابل إلا في بداية الفيلم، ولا تظهر الحشود العسكرية إلا في لقطاتٍ محدودة، غير أن الحرب حاضرة في كُل مكان حضوراً كُلياً. ولا يكاد يُفلت من الحرب غير الصحراء الساكنة مترامية الأطراف، قبل أن تصبح الصحراء نفسها مسرحاً للحرب والخراب الذي يُصيب النفوس.
في فيلم المريض الإنكليزي تضافرت عوامل الإخراج والتصوير والتمثيل لتُنتج فيلماً مُكتمل العناصر الفنية. فريق التمثيل قدم شخصياتٍ لا تُنسى من لحمٍ ودم، وقدم التصوير السينمائي مشهدية بصرية غنية تُصبح فيها الصحراء وزخرفة معمار القاهرة القديمة أجزاء من صورة بصرية شديدة الغنى في الشكل وفي الرموز الجمالية. الكاميرا في فيلم المريض الإنكليزي لا تُثرثر أبداً، بل تأخذ موقفاً من السرد وتدخل في نسيج الفيلم.
يظهر العرب في الفيلم في خلفيات باهتة وقليلة التأثير، فهم شخصيات شبحية، إما تخدم الأوروبيين، أو تُنقذ واحداً منهم لأسبابٍ غير مفهومة. تأثير الحرب على العرب لا يظهر، لأنهم آخر خارج المُعادلة، لكن الفيلم لا يروي قصة عربية، بل يروي قصة الضمير الأوروبي الذي مزقته الحرب العالمية الثانية، بعد أن أثقل تاريخه الاستعماري كاهله.

المريض الإنكليزي (1996) - أنتوني منغيلا (سيناريو وإخراج) - تمثيل: ريف فاينز (لازلو دو ألماشي)، كريستين سكوت توماس (كاثرين كليفتون)، جولييت بينوش (هانا) - ميراماكس (إنتاج)

ملصق فيلم الكفارةالكفارة
الحُب أيضاً محورٌ في فيلم الكفارة Atonement، لكن الفيلم الذي يرصد تجربة الحرب العالمية الثانية المروعة في إنكلترا يدور حول ثيمة أخرى أكثر سيطرة هي ثيمة النُضج. الطفولة والانتقال إلى مرحلة المُراهقة أمرٌ صعب، ولينضج الإنسان لا بُد من كفارةٍ ينبغي دفعها. كذلك، فإن بعض الأخطاء المُرتكبة في تشوش الطفولة مُدمرة إلى الحد الذي يجعلها تتطلب كفارة تستمر حتى نهاية العمر.
تدور أحداث فيلم الكفارة خلال الحرب العالمية الثانية، وتكشف تأثيراً يمتد حتى زمنٍ قريب. ويُروى بطريقتين: واحدة مُحايدة تروي الأحداث كما هي، والأخرى تروي الأحداث ذاتها من وجهة نظر فتاة عمرها ثلاثة عشر عاماً هي براوني تالس التي ترى العالم – على أعتاب الحرب العالمية الثانية – مشوشاً وغامضاً، وتحاول في هذا التشوش تفسير ما تراه أمامها، لكن تفسيراتها تسبب تعقيداتٍ كثيرة.
شقيقة براوني الكُبرى، سيسليا، تحب روبي ترنر ابن مدبرة منزلهم الذي يطلب من براوني توصيل رسالة إلى أختها. يُرسل روبي بالخطأ رسالة تحتوي على كلماتٍ بذيئة تقرؤها براوني وتُقرر مع ابنة عمها لولا أن روبي مهووس، وأنه لا شك سيؤذي سيسيليا. تُسيء براوني تفسيرٌ أمورٍ أخرى تجري بين شقيقتها وبين روبي. وحين يُكتشف أن لولا قد اغتُصِبت في حديقة دار تالِس، تتهم براوني – الشاهدة الوحيدة – روبي وتُكرر اتهامها، فيُقبض عليه ويُرسل إلى الجبهة في فرنسا.
تنفصل سيسليا عن أسرتها التي لم تصدق براءة روبي، وتتصدع الصلات العائلية التي تربط آل تالس. بعد خمس سنوات، تتطوع براوني كممرضة لتمرض الجنود الجرحى، وتحاول التكفير عن جزء من ذنبها تجاه روبي وسيسليا، بينما يتبادل الاثنان الرسائل على خلفية المعارك التي يخوضها روبي في الجبهة.
آخر الفيلم تظهر براوني تالس روائية في السبعين من عمرها، ويُجري معا مذيع – المخرج أنتوني منغيلا في آخر ظهور له قبل وفاته – مقابلة ليسألها فيها عن عملها الأخير الكفارة، فتخبره بأنها روت في روايتها الأخيرة قصتها مع شقيقتها وحبيب شقيقتها في محاولة للتكفير عن الذنب الذي ارتكتبه بحقهما منذ ما يقرب من ستين عاماً.
يُصور المُخرج جو رايت فيلم الكفارة من وجهتي نظر مختلفتين، هما وجهة نظر براوني وما حدث حقاً، وفي معظم الفيلم تتداخل وجهتا النظر، فلا يعود مُمكناً التفريق بينما حدث حقاً، وبين ما تعتقد براوني أنه قد حدث، بالإضافة إلى تداخل مشاهد الحرب العالمية خصوصاً موقعة دنكرك حيث يبدو أن العالم كُله قد تداخل بحيث صار مُتعذراً معرفة ما حدث حقاً، أو لماذا حدث.
تُرافق أحداث الفيلم موسيقى داريو مارينيلي – الحائز على جائزة أوسكار أفضل موسيقى أصلية (2008) – لتزيد من عُمق الفيلم، فمارينيلي يوظف صوت الآلة الكاتبة الذي يُشكل خلفية أحداث الفيلم المفصلية ويُحوله إلى موسيقى سريعة خاطفة متوترة، كأنها ضربات القدر تكتب حيوات الشخصيات. بعيداً عن الآلة الكاتبة التي تكتب القدر، تُرافق موسيقى مارينيلي المعنونة "مرثاة دنكرك" مشاهد وصول جنود الحلفاء إلى دنكرك، وتُضيف إلى الشعور الحلمي الذي يحيط بها. مشاهد الجنود في دنكرك مرثاة لعبثية الحرب وعدم يقينية الحياة في ظلها. ومع تقدم أحداث الفيلم، يتضح الدور الهام الذي تلعبه مقطوعات داريو مارينيلي في الأحداث كأداة فيلمية تُستخدم لتحقيق الأثر الدرامي المطلوب، كالحوار والحدث والصورة.
تصوير شيموس مكغارفي يدخل ضمن نسيج الفيلم ليُكمل بقية عناصره الفنية، فالكاميرا عنصرٌ فيلمي رئيسي تُشارك في إظهار اختلاط الحقائق وتشوش وجهات النظر. تقف الكاميرا أحياناً موقفاً مُحايداً لتُشاهد من بعيد، لكنها في طريقة تقديمها للمشهد تأخذ دوماً موقع الرائي، ويتحول موقع الرائي إلى موقع المُتهِم في المشهد الذي تكشف فيه براوني الحقيقة بشأن المُعتدي الحقيقي على ابنة عمها، إذ تفاجئها الكاميرا كمن قُبض عليه يرتكب ذنباً.
الكفارة التي أمضت براوني تالس حياتها تدفعها، شبيهة بكفارة أوروبا تجاه الحرب العالمية الثانية التي أعادت تشكيل الشخصية الأوروبية من جديد. ومحاولتها تلطيف الوقائع التي عاشتها لتجعل الذكرى أكثر قابلية للاحتمال شبيهٌ بمحاولات إعادة رواية تاريخ الحرب بطريقة تستبعد عبثيتها وهمجيتها في محاولة لحمل ما تبقى من الضمير الإنساني على السُبات.

الكفارة (2007) – جو رايت (إخراج) – كريستوفر همبتون (سيناريو) – داريو مارينيلي (موسيقى) – تمثيل: سيرشيه رونن (براوني في سن الثالثة عشرة)، كيرا نايتلي (سيسليا) ، جيمس مكفوي (روبي) – يونيفرسال (إنتاج)

تدوينة سابقة عن فيلم الكفارة.

14 مايو 2009

أوبئة موسمية!

قائمة من منظمة الصحة اللغوية ببعض الأوبئة اللغوية الموسمية المنتشرة في الفضائين السبراني والطباعي:

عن البقدونس نرغي
ينتشر مرض أنفلونزا شبه الجملة المقدمة على الجملة الفعلية في المواقع على الشبكة انتشاراً وبائياً يفوق انتشار أنفلونزا الخنازير في العالم الواقعي، فتجد الجميع يكتب: عن الحياة نتكلم، عن الثقافة نتحدث، عن الطب نتحاور.... بشكلٍ يجعل استخدام بناء الجملة القديم والصحيح: نتكلم عن شيء ما حيث الجملة الفعلية من الفعل والفاعل تسبق شبه الجملة من حرف الجر والمجرور شيئاً ما قبل تاريخياً كالمستحاثات، بحيث صار استخدام التعبير الصحيح أمراً (غير) أدبي، ومن الضرورة بمكان تحاشيه كما يتحاشى الصحيحُ الأجربَ، بينما يُقدم شبه الجُملة على مُبتدأ نكرة، لا على جملة فعلية، كقولهم: في البئر قطة.
أصول الوباء: يُشتبه في أن منبع الوباء قد جاء من سلسلة روايات مصرية للجيب، غير أن هذا الاشتباه غير مدعومٍ بأدلة قاطعة، وعليه فإن منظمة الصحة اللغوية توصي بالتحفظ في وضع السلسلة في الحجر اللغوي.

مائعاً جاء الزبادي
النطاق الجغرافي لانتشار متلازمة تقديم الحال على الجملة أقل اتساعاً من النطاق الجغرافي لانتشار أنفلونزا شبه الجملة المقدمة على الجملة الفعلية، لكن نسبة انتشاره الحالية تدعو إلى اتخاذ تدابير احترازية لمنع تفشي الوباء بشكلٍ كارثي يتعذر إصلاحه. موقع الحال الأصلي في الجملة يلي الفعل والفاعل، ولا يجوز تقديمه إلا في حالاتٍ محدودة بالدلالة المُبتغاة من التحويل، فقلب الجملة الأصلية: جاء الرجل غاضباً إلى غاضباً، جاء الرجل يضع التأكيد على حال الغضب، ويقلب غرض الجملة من الإعلام عن مجيء الرجل غاضباً إلى الإعلان عن غضب الرجل. لا يُعقل - بطبيعة الحال - أن يكون الحال مُقدماً في كُل الجمل التي تحتويه لأن امتهان تقديم الحال بهذه الطريقة نزع عنه دلالته.
أصول الوباء: لا تُعرف أصول الوباء على وجه الضبط أو التقريب، غير أن ثمة من يتكهن بكون مصدر الوباء مجموعة من الكتابات (الأدبية) الجديدة التي خدمت كحاضن مثالي للفيروس. وعليه، توصي منظمة الصحة اللغوية بالتزام الحذر التام، وباستخدام الفاصلة (،) بعد الحال في حالة الاضطرار إلى تقديمه.

فليأت الحساء
في فترةٍ ما كان النطاق الجغرافي لانتشار داء الفلأله أكثر اتساعاً من نطاق انتشار أنفلونزا شبه الجملة المقدمة على الجملة الفعلية ومتلازمة تقديم الحال على الجملة معاً، غير أن داء الفلألة آخذٌ في الانحسار بعد أن خسر مناطق نفوذه لأوبئة أخرى. الفاء حرف عطفٍ غالباً، غير أنها قد تقترن بجواب الشرط في الجُمل الشرطية المجزومة بشروطٍ معينة، وقد تكون فاء سببية كأن يقول أحدهم: ألا تحل عندي فأطعمك الحساء؟ وقد تسبق اللام في حالات أخرى غير شائعة - تكون فيها الفاء سببية أيضاً - فيقول أحدهم: أيدّعون ذلك! ويحهم! فليأتوا بحسائهم فنتذوقه! حيث الفاء سببية تُجيب على استنكارٍ وتحدٍ. ظهور داء الفلألة عند الأمر المُجرد غير المسبوق بما يستدعي حضور الفاء السببية علامة خطيرة على تفسخ البنية اللغوية تستدعي تدخل منظمة الصحة اللغوية.
أصول الوباء: لا تُعرف أصول هذا الوباء أيضاً، لا على وجه الضبط ولا على التقريب، غير أن منظمة الصحة اللغوية تُحذر من منتديات الشبكة العنكبوتية (المتأدبة) وبعض المدونات المتصفة بهذه الصفة كذلك بوصفها حاضنات مثالية للداء. وتوصي بالتزام الحذر التام عند استخدام الفاء واللام قبل الفعل المضارع بقصد الأمر.

إن عصيدتنا لخيرٌ من عصيدتكم!
ينتشر الوسواس التوكيدي القهري انتشاراً مزمناً، إذ أنه أحد أعراض البارانويا العربية المستفحلة. ويُعلن هذا الوسواس عن نفسه في هيئة العبارات المؤكدة كأن أحداً يُعارض المتكلم على طول الخط. الجملة - في اللغة العربية، إحدى اللغات الحية والعهدة على ويكيبيديا - تبدأ خبرية هكذا: سعيد بائس، فإذا توسم القائل في المستمع عدم تصديق أكدها بقوله: إن سعيداً بائسٌ، فإذا استمر المستمع في إنكاره لما قيل جاءته الجملة شديدة التوكيد: إن سعيداً لبائس! غير أن المتكلم (الذي لا نعلم حالته العقلية) يرى أن المستمع (الذي لا نعلم حالته العقلية كذلك) يكذبه قبل أن يتكلم، فيأتي كلامه كله مؤكداً: إن عصيدتنا لخيرٌ من عصيدتكم فإننا قد قمنا بإضافة الدقيق الفاخر إليها، وإن دقيقنا ليأتي من سوبر ماركت المدينة، وإن الدقيق الفاخر لعلامة على جودة العصيدة كما يعلم أي محب حقيقي للعصيدة، وإننا لمحبون للعصيدة!
أصول الوباء: ترى منظمة الصحة اللغوية أن أصل الوباء كامن في جنون الاضطهاد الذي يسم العقلية العربية منذ قرون، فالمتحدث يفترض دوماً أن المستمع يفترض فيه الكذب وسوء الطوية، ويأخذ أقواله على محمل الاستخفاف. توصي منظمة الصحة اللغوية المصابين بوسواس التوكيد القهري باللجوء إلى أساليب المعالجة النفسية المطولة المستخدمة في علاج أمراض الوسواس القهري، وتوصيهم باستشارة طبيب نفسي مؤهل لأن هذه المشكلة لا تُحل بكتب التنمية الذاتية التي تساهم في تدهور حالة المصابين بالوسواس التوكيدي القهري.

لـــــــــــــــ البـ ، طـ ا طس ــــذيـــــــــ المـ ، قلية ــــــــــذة
بدأ مرض جذام الجمل يتفشى في الفضاء السبراني بشكلٍ يستدعي اتخاذ تدابير عاجلة وحازمة للحد من التأثيرات المؤسفة لتشوه الجمل العربية بالجذام الذي يحولها إلى كتل خالية من المعنى يعافها النظر، ويؤدي إلى تدهور القدرات الإدراكية والسلوكية لدى المتعاملين بها. يتفشى الجذام الجملي في العناوين بشكلٍ رئيسي ، كما تظهر أعراضه على قصائد الشعر السبراني التي ترى منظمة الصحة اللغوية وجوب الحجر عليها منعاً لانتشار الوباء. تحذر منظمة الصحة اللغوية من هذا الوباء المعدي، وتدعو جميع المضطرين إلى التعامل مع الفضاءات السبرانية إلى التزام الحيطة والحذر عند الاقتراب من الجمل المجذومة.
أصول الوباء: تعتقد منظمة الصحة اللغوية أن أصل الوباء صناعي، وأنه قد جاء نتيجة لتجارب مباءات التخريب اللغوي التي تعرف بنفسها على أنها جماعات الشباب على الموضة، أو جماعات التجديد اللغوي، أو جماعات الدلع والغنج. وتُهيب بكل من يقترب من إحدى هذه البؤر سرعة الابتعاد عنها، وإبلاغ المنظمة والسلطات المحلية عنها.

ترجو لكم منظمة الصحة اللغوية السلامة من كل داء.

11 مايو 2009

ربة القدر

يا ربة القدر
يا مثيلة القمر
سنتك التحول
زمانك بدرٌ
وإما محاق.
الحياة مقيتة،
تغمينها،
ثم تريحينها
حين يقبضها الوهم.
الضعف والقوة
تذيبينهما كالثلج.

القدر: وحشي
وخالٍ،
عجلتك الدائرة شريرة
الوجود عدم
يتلاشى إلى لا شيء
متشحاً ظلالاً وأقنعة
تبتلينني الآن بلعبتك
تحنين ظهري العاري
لشرك.

القدر: في الرخاء والفضيلة
عدوي، يقتادني، يُثقلني،
يستعبدني دوماً.
لذا، الآن،
أعزف على الأوتار المهتزة
ولأن القدر يُهلك القوي،
ينتحب الجميع معي!

أندب جروح ربة القدر
بعينين دامعتين،
فكل ما وهبتني إياه،
سلبتني إياه.
حقيقة ما كُتب عن شعرها الجميل،
لكنها حين تحل لتقتنص سانحة،
صلعاء.

على عرشها كنت أجلس منتصباً
متوجاً بزهور الرغد كثيرة الألوان
مزهراً، سعيداً، ومباركاً.
الآن أهوي من حالقٍ،
محروماً من كل مجدِ.

تدور عجلة القدر،
أهوي مُحتقَراً،
يصعد آخر شاهقاً،
ليخش الهلاك!
لأنه قد كُتبِ على المحور:
الملكة هيكوبا.

03 مايو 2009

فوضى الغرباء

للغرباء دوماً فوضى ينثرونها
لكنني تعلمت محوها بطقطقة أصابعي
لا يمكنهم المشي ميلاً بحذائي إيف سان لوران
فأحكم ربطه، وأسير متخلصة منهم

جعلتهم يقولون: لا أصدق أنها فعلتها!
لم تفعلها!
جُنوا بطبيعتي الوحشية،
صاروا يقولون: نعم، فعلتها!
غير أنني لا أصدق أنها فعلتها!

حتى إذا حاولوا
ليس بإمكانهم السير ميلاً بهذا الحذاء
لا يمكنهم حتى ارتداؤه بشكل صحيح
حذاء السهرة أكبر من قدرتهم
فعشرة ملايين رجلٍ لا يمكنهم السير ميلاً بهذا الحذاء

أتبختر بضراوة
- حتى أن ستيفن قد استاء مني
ضاحكاً وساخراً مني وراء ظهري
لكنهم لن يحصلوا أبداً على أفضل ما عندي -
أراهم يرقصون رقصتي
وأسمعهم يغنون أغنيتي
أتفوق على الكل
لأنني نشأت هكذا

أمشي بفخر، لا أدع كراهيتهم تنالني
يتندمون حسرة
رؤوسهم تعلوا الماء ومع ذلك لا يمكنهم التنفس
تقعقع قدماي على الأرض بينما أخطو واثقة
وأتحداهم أن يسيروا ميلاً في حذائي

فحتى إذا حاولوا
ليس بإمكانهم السير ميلاً بهذا الحذاء
لا يمكنهم حتى ارتداؤه بشكل صحيح
حذاء السهرة أكبر من قدرتهم
فعشرة ملايين رجلٍ لا يمكنهم السير ميلاً بهذا الحذاء

01 مايو 2009

خضراء بلا لون

رغم أن الجميع - في المستعمرة - في حالة نكران للهوة التي تفصل بين جيلنا والأجيال السابقة، إلا أن مناسبة جديدة تحدث كل يوم - تقريباً - لتُذكرنا بأننا مختلفون - تماماً - حتى في تفسيرنا لأبسط العبارات. واحدة من هذه المناسبات - التي ظهرت فيها الفجوة الهائلة بين جيلنا وجيل أساتذتنا - كانت عندما قرر كبير المستعمرة الذي علمها السحر أن يُقدم إلينا عبارة نعوم تشومسكي الشهيرة التي فتنت جيله كمثال على العبارات السليمة لغوياً والتي لا تحمل أي معنى - كُنا نعرفها من قبل، بطبيعة الحال، لكنه أجبرنا على الإقرار بأننا لم نسمع بها:
الأفكار الخضراء بلا لونٍ تنام غاضبة.
Colourless green ideas sleep furiously.
مضى الدكتور في شرحه عن لا منطقية العبارة ولا جدواها رغم أنها سليمة من الناحية اللغوية، واصفاً إياها بأنه نوع من الكلام الفارغ الذي لا يُفسر ولا قيمة له، غير أنه قوطع مراراً حتى رضخ للأمر الواقع وسمح لنا بالتكلم لنعارض وجهة نظره تماماً. في الواقع، هذه العبارة واضحة ومفهومة ويمكن أن يكتبها أي صحفي مبتدئ في أي جريدة على وجه الأرض.
لكن، كيف ذلك؟ كيف تكون الأفكار خضراء وتكون بلا لونٍ في الوقت نفسه؟ كيف تكون الأفكار ملونة؟ كيف تنام؟ كيف تنام غاضبة؟
المسألة وما فيه أن هذا مجاز شائع الاستعمال حتى صار مستهلكاً وصار بديلاً للكلمات الأصلية. الجميع يعرف الطيف السياسي، المجاز صار العبارة الدالة على كنه الشيء. ماذا عن الأفكار الخضراء؟ هذا أكثر المجازات شيوعاً في الزمن الحاضر، الأفكار الخضراء المعتقدات البيئية. العبارة التي فتنت أجيالاً سابقة بلا معقوليتها تعني ببساطة:
أُحبِطَت التوجهات البيئية غير المُجيرة سياسياً مما أحنق الناشطين البيئيين.
بعد مناقشات ومناوشات، أقر الدكتور بأن في تفسيرنا للعبارة وجاهة، لكننا عدنا لنعترض، فالمسألة ليست تفسيراً وإنما المعنى الحرفي للعبارة فيما لو وُجدت مكتوبة على غلاف نيووزيك مثلاً! لا أحد سيُفكر في أي تفاسير أخرى - لا أحد من جيلنا على الأقل.
في مرحلة ما، حدث انقلاب في المعايير اللغوية والدلالية جعل ما فتن الأجيال الماضية صيغة مستهلكة من البلاغة الصحفية اليوم، وما أحنقهم الأمس محل تقدير اليوم. سنة الخلق.

07 أبريل 2009

أطفال بِرتُن

تِمْ بِرتُن في حفل استقبال جوائز مجلة إمباير وجيمسون/ تصوير: غارِث غاي، وكالة ألفا(تِمْ بِرتُن في حفل استقبال جوائز مجلة إمباير وجيمسون
تصوير: غارِث غاي، وكالة ألفا)

ليس مُستغرباً أن يُصدر المخرج الأمريكي الشهير تِمْ بِرتُن مجموعةً شعرية في 1996 عن دار فيبر وفيبر الشهيرة - ناشرة مجموعات ت. س. إليوت الشعرية، ومن بينها: كتاب الجُرذ العجوز عن القطط العملية - عنوانها: موت صبي المحارة الحزين، ومضمونها قصائد ورسومات عن أطفالٍ منبوذين بسبب هيئتهم وأقدارهم المحزنة، فهُناك "الفتاة التي تحولت إلى سرير"، و"الفتى الروبوت"، و"دمية الفودو"، و"الصبي العصا الذي يحب الفتاة عود الكبريت"، و"الفتاة كثيرة العيون" من بين قصائد أخرى كلها حول أطفالٍ مشوهين أو غريبي الخلقة بشكلٍ يتعذر معه قبولهم في المجتمع، ويجعل المجموعة تقترب من الرعب أحياناً. رسومات بِرتُن الطفولية ذات الطابع المُميز تحول الرُعب في الكتاب إلى تصويرٍ مُبالغٍ فيه يتعذر معه أن يكون حقيقياً، لكنه يبقى مرعباً وغريباً ومُنتمياً إلى عالمٍ آخر.
في أعمال تِمْ بِرتُن جانبٌ مُظلم مُخيف يمتزج بالكوميديا أحياناً، لكنه يبقى مُظلماً ومُرعباً. موضوعه المُفضل المنبوذون يظهر في كل أفلامه، حتى في الفيلم الذي صنع شهرته: باتمان (1989). أثار فيلم باتمان - الذي أعقب فيلمين (برتنيين) هما مغامرة بي-وي الكُبرى، وعصير الخنفساء - جدلاً كبيراً لأجوائه المُظلمة التي تختلف تماماً عن أجواء سلسلة باتمان المفرحة في السبعينيات، وأغضب بعض من كانت لهم علاقة بالسلسلة الأصلية. إعادة بِرتُن لاختراع باتمان وفق مفهومه الخاص أثبت كونه مُربحاً، رغم أنه مُظلم، وسمح لبِرتُن بتقديم رؤيته الخاصة عن شخصية الجوكر المشوهة (جاك نيكلسن) وعن ظُلمة غوثام المُقبضة. ثم أعقبه فيلم عودة باتمان ليُقدم نموذجاً أوضح عن الطفل البرتني المنبوذ: البطريق (داني ديفيتو) - واحدة من قصائد موت صبي المحارة الحزين تحمل عنوان "جيمي، الصبي البطريق البشع". كانت أجواء الفيلم الثاني أكثر ظلمة وكآبة من الفيلم الأول بكثير، وقد غابت عنها سخرية الجوكر وحسه السوداوي بالفكاهة، لتُستبدل بحقد البطريق وتشوهه الذي يعكس تشوهاً في أعماق غوثام. بعدها، توقف برتن عن العمل في سلسلة باتمان، وتراجعت جودة أفلام باتمان اللاحقة إذ أنها حاولت الحفاظ على الخط البرتني من دون أن تُفلح في تقديم نمط شخصياته بطريقة مُقنعة. - قبل أن ينهض كريس نولان بالسلسلة من جديد مُعطياً إياها روحاً جديدة لم تتخلَ تماماً عن أطفال بِرتُن المنبوذين وإن استبدلت المناخ النفسي الهائل لتشوه الشخصيات بانفجار في الحركة. -
الشخصية الرئيسية في فيلم إدوارد سيزرهاندز واحدٌ من أطفال بِرتُن المفضلين (يلعب الدور جوني ديب، الممثل المفضل عند بِرتُن)، طفلٌ اخترعه مخترعٌ غريب الأطوار توفي قبل أن يُتم صياغة يدي إدوارد، ليبقى إدوارد بيدين كالمقصات. يعيش إدوارد في ضاحية هادئة لا تتقبله، لكن أفرادها يحاولون التعرف عليه بغرض الرياء الاجتماعي، ويستغله كُلٌ منهم لأغراضه الخاصة. يرى جوني ديب وفنسنت برايس أن إدوارد سيزرهاندز سيرة ذاتية لطفولة تِمْ بِرتُن في ضواحي كاليفورنيا الراقية، حيث لم ينسجم ولم ينتمِ لأنه كان مختلفاً.
يُقدم تِمْ بِرتُن في فيلمي إد وود والمريخ يُهاجم! آيةَ تقديرٍ ساخرة لأفلام الخيال العلمي الرخيصة التي كان يُشاهدها في طفولته، فيُحيي في الفيلم الأول المخرج إد وود الابن الذي وُصف مرةً بأنه "أسوأ مُخرج في العالم"، وفي الثاني صُناع أفلام الكوارث وتُراث الرُعب الأرضي من المخلوقات القادمة من المريخ لتهاجمنا. يأخذ فيلم المريخ يُهاجم! كثيراً من ثيمات حرب العوالم لهربرت ج. ويلز بطريقةٍ ساخرة، ويجمع مجموعة متنافرة من الشخصيات في حبكةٍ ساخرةٍ تنتهي نهاية هزلية.
بعد كوميديا مرعبة ومُقبضة في المريخ يهاجم! قدم بِرتُن فيلماً مُقبضاً آخر: سليبي هولو الذي يتبع أسلوب الرعب القوطي - بروحٍ برتنية - ويتحدث عن طفلٍ برتني آخر فقد رأسه فاندفع يحتز رؤوس الآخرين ليجد رأسه. تقديم بِرتُن لأسطورة سليبي هولو كان مرعباً إلى حدٍ جعل الكثيرين يحتجون على كمية العنف الزائدة فيه. مع ذلك، حظي الفيلم بثناء نقدي لا بأس به، وكان علامةً على خروج بِرتُن عن خطه السوداوي ونمطه في الإخراج المُعتمد بكثافة على الظلمة والظلال.
في 2000، قدم بِرتُن فيلم كوكب القردة الذي قلل مُعظم النقاد من شأنه بوصفه نسخة فشارٍ عن الفيلم الأصلي، وغضب عليه كثيرون من معجبي تِمْ بِرتُن لخروجه التام عن البرتنية إلى الحد الذي وُصف معه دور بِرتُن في الفيلم بأنه الدور الذي يؤديه عامل يومية مأجور. مع ذلك، حقق كوكب القردة نجاحاً مادياً كبيراً في شباك التذاكر الأمريكي.
عاد تِمْ بِرتُن لمُبالغاته الفنية الساخرة في التصوير والتشخيص مع فيلم السمكة الكبيرة في 2003، ورُشح فيلمه هذا لعدة جوائز غولدن غلوب من دون أن يفوز بواحدة - وهي عادة بِرتُن مع الأوسكار والغولدن غلوب.
في تشارلي ومصنع الشكولاتة عاد بِرتُن من جديد إلى عوالمه الفانتازية المُقبضة، متحدثاً عن طفلٍ منبوذ - ويلي وونكا - يحاول الانتقام من أطفالٍ منبوذين آخرين. أعجب الفيلم النقاد كثيراً، وكان بالإضافة إلى نجاحه النقدي نجاحاً كبيراً في شُباك التذاكر الأمريكي.
بعد أن أثبتت البِرتُنية أنها تربح كثيراً - باتمان، سليبي هولو، تشارلي ومصنع الشكولاتة، وإلى حدٍ ما كوكب القردة - أصبحت لبِرتُن دالةٌ على شركات الإنتاج، ونفوذ كبيرٌ في هوليوود يجعله واحداً من قلةٍ يُمكنهم أن يفعلوا ما يحلوا لهم في أفلامهم من دون أن يجرؤ أي مديرٍ تنفيذي في إستوديوهات هوليوود على اعتراض طريقهم. خياراتُ بِرتُن كانت مُكلفة إنتاجياً، وغريبة الأطوار فنياً، وغير مؤكدة النجاح جماهيرياً، لكن ثقل اسم بِرتُن سمح له بتقديم فيلمه المُتحرك العروس الجثة الذي كان أكثر كآبة وإفزاعاً من أن يتوجه لجمهور الأطفال. في العروس الجثة يعود بِرتُن إلى أطفاله المنبوذين وعوالمه التي لا يُمكن أن تتلاقى، وطريقته المميزة في الرسم والتحريك، وألعاب الظُلمة التي يُجيدها. وبه أثبت أن البرتنية تحظى بالرضا النقدي، وبالقبول الجماهيري العريض. طريقة بِرتُن في فيلم العروس الجُثة الذي صُور بأسلوب التحريك والتوقيف أثرت في أفلامٍ كثيرةٍ لاحقة أحدثها كورالين.
مشروع بِرتُن الأكثر طموحاً في سنواتٍ عديدة كان تقديمه لمسرحية ستيفن سوندايم الشهيرة سويني تود: حلاق شارع فليت الشيطان. وفيه تعاون مع شريكة حياته هيلينا بونام كارتر وصديقه جوني ديب من جديد ليُقدم أول فيلمٍ موسيقي له يتميز بأجواء بِرتُن المُقبضة، وطريقته في التلوين واختياراته في طرق التصوير، وشخصياته المنبوذة المشوهة نفسياً بشكلٍ يستحيل معه إصلاحها. كمية العُنف والدماء في الفيلم أثارت اعتراضات بعض النقاد الذين استغرب بعضهم عدم اعتراض الرقابة على كميات الذبح في الفيلم، وانزعج بعض المشاهدون من توالى مشاهد الذبح وتقطيع اللحم على خلفياتٍ موسيقية. مع ذلك، فإن فيلم سويني تود واحدٌ من العلامات البرتنية المهمة، ويمتاز بتقديمه لجماليات أسلوب الإخراج البرتني، والأجواء البرتنية التي تجمع عوالم لا يُمكن جمعها، وتُقدم الشرير والمشوه والمُريع كجُزء من الحياة التي تكتسي ظلالاً مُهيمنة كتعبير عن هيمنة الشر.
بعد فيلم سويني تود قرر بِرتُن الانضمام إلى روبرت زيميكس ومجموعة المخرجين الذين قرروا ركوب قطار التصوير الحاسوبي ثلاثي الأبعاد السريع مع فيلمه المُقبل أليس في بلاد العجائب. ليستعين بأحدث تقنيات هوليوود في إحياء رواية لويس كارول على الطريقة البرتنية.
في كُل مشاريع تِمْ بِرتُن أطفالٌ منبوذون مشوهون أرواحهم هشة وحضورهم مُسيطر، هُناك ظُلمةٌ مهيمنة على المشهد، ومزج ألوانٌ بطريقة تعبيرية خاصة تُميز أعمال بِرتُن عن سواها. قد يكون أطفال بِرتُن الفنان الذي لا يُمكنه أن ينسجم في مجتمعه أبداً، وقد يكونون تعبيراً عن عملاق الحضارة الذي داس على كُل الضعفاء في طريقه. أطفالُ برتن جانب الحياة الذي تخفيه الظلال ولا نراه غالباً.

26 مارس 2009

حلم الصوفي

حلم ضبابي في ليلة دنيوية معلقة بهلالٍ:
أغنية مهموسة في ضوء أزلي
تغني عند انبلاج الفجر.
طيور محلقة تدعو
حيث يحرك القلبُ الحجارةَ.
هناك، يتوق قلبي.
وكلٌ في سبيل حبك.

لوحة معلقة على حائط لبلاب تؤويه الطحالب الزمردية:
تُعلن العينان هدنة ثقة
ثم تجذبانني بعيداً
حيث يذوب الرمل في بحيرات السماء
عميقاً في شفق الصحراء
وتلقي الظلمة عباءتها القرمزية
مصابيحك داعيتي إلى البيت.

ذلك أن حق ثنائي – هناك – يتشبث بسكون الليل.
والآن أحس بك تتحرك،
وكل نَفَسٍ منك بدر.
ذلك أن حق ثنائي – هناك – يتشبث بسكون الليل.
حتى البعد يغدو قرباً،
وكلٌ في سبيل حبك.


21 مارس 2009

الأدغال

مشهد غابة غرائبي، هنري روسو(مشهد غابة غرائبي، هنري روسو)

وطأة الأدغال في قلب الظلام ثقيلة كوطأة التعمق في ضميرٍ سودته الخطايا. الأدغال المظلمة المنسية في وجودٍ بدائي لأرضٍ بلا قانون أو رب مكانٌ للتجرد من كل خرق الرياء الإنساني للاعتراف بالخطايا التي أدانها الخاطئ بين الناس، وارتكبها في غفلةٍ عنهم. الأدغال هوةٌ كهوة جهنم، ليس فيها من يعود ليشهد على الخاطئ بين البشر، فتجعله يقر بإثم قلبه كما فعل غويدو حين اعترف بخطاياه التي ألقته في جهنم لدانتي:
لو حسبت سائلي عائداً إلى الدُنيا، ما أجبت
غير أن حياً لم يعد من هذه الهوة،

لذا أجيبُ بغير خشيةٍ من عار


في اختراقه لقلب الظلمة، يلمح مارلو أشكالاً في الأدغال بين الأشجار. أشكال غير بشرية، لكنها توحي بقرابة مخيفة بين المتمدنين والبدائيين. لغة أشباح الأدغال كانت مجهولة، أهي لعنة، صلاة، ترحيب، طرد. غير أن الأدغال المسحورة المكان الذي تسقط فيه كل الخرق التي تستر سوأة الإنسان المتمدن لتكشف همجيته. الآخر، شبح الأدغال، ليس إلا أنا ينظر إلّي.
في لوحات الرسام الفرنسي هنري روسو تحضر الأدغال حضوراً مشابهاً لحضورها في أعمال
جوزيف كونراد. الأدغال البدائية المسحورة مليئة بوجوهٍ مجهولةٍ ترقب من قلب الظلام، ولا يعرف الرائي كُنهها أو ما قد تحمله له. هناك خطرٌ في كل خطوة، وخوفٌ يُحركه كل شبحٍ يطل من وراء أغصان الأشجار المتشابكة. خوفٌ من الآخر البدائي، الآخر الحيواني. خوفٌ يخفي خوفاً أعظم: أن يكون الشبح البهيمي في الأدغال أنفسنا تنتظرنا لتواجهنا بكل قبحها في هوةٍ لا عودة منها.

19 مارس 2009

مرحباً جدي!

مرحباً جدي،
يا صديقي القديم!

يومك الحافل قارب النهاية.

مآثرك محزنة ومملة،

وما ترويه لا يستحق الحكاية.


عندما تكون وحيداً،

سيردد الصدى كلمات قصتك

في ردهة دار المسنين

لأنه لا يوجد من يطيق
صوتك
يا جدي!


صوت الجد
أغنية ساخرة من سلسلة آل سمبسون

17 مارس 2009

أخلاق

في حصة علم الأخلاق – قبل سنين كثيرةٍ –
سأل معلمنا السؤال ذاته كل خريف:
لو شبت نارٌ في متحف
ماذا تنقذون: لوحة لرامبرانت،
أم عجوزاً ما كان ليطول بها العيش؟
قلقين على مقاعد صلبة،
غير آبهين بالصور أو الشيخوخة
كنا نختار الحياة عاماً، وفي تاليه الفن
ودوماً، بغير حماسة.
أحياناً،
كانت العجوز تستعير وجه جدتي
مغادرة مطبخها المعتاد لتتجول
في مسودة متحف شبه مُتخيلٍ.
ذات عامٍ – شاعرة بذكائي – أجبت:
لم لا نترك العجوز تُقرر بنفسها؟
قال المُعلم:
لِندا تتجنب أعباء المسؤولية.
هذا الخريف وقفت في متحف حقيقي
أمام لوحة رامبرانت حقيقية، وعجوز
– أو شبه عجوز –، أنا.
ألوان هذا الإطار أحلك من الخريف،
أحلك من الشتاء حتى. التراب داكن
كأن أشد عناصر الأرض إشعاعاً تحترق
في قماش اللوحة.
أعرف الآن أن المرأة واللوحة والفصل
واحد. تقريباً.
وكلهم يتعذر على الأطفال إنقاذه.

14 مارس 2009

السابع: النشر يحتضر!

في 2004، تتبعت مؤسسة نايلسن بوك سكان مبيعات مليون ومائتي ألف كتاب في الولايات المتحدة، وهذا ما وجدته:
  • من هذه الكتب التي يبلغ عددها مليوناً ومائتي ألف، تسعمائة وخمسون ألفاً باعت أقل من تسعة وتسعين نسخة
  • مائتا ألفٍ أخرى باعت أقل من ألف نسخة
  • فقط، خمسة وعشرون ألف كتاباً باع أكثر من خمسة آلاف نسخة
  • أقل من خمسمائة كتاب باع أكثر من مائة ألف نسخة
  • فقط، عشرة كتب باعت مليون نسخة
  • الكتاب المتوسط يبيع خمسمائة نسخة في الولايات المتحدة
إذا كنت تقرأ هذه النقاط - خصوصاً الأخيرة - وتُفكر: "خمسمائة نسخة فقط! ما فائدة المحاولة؟" عندها أقول:
برافو! توقف عن الكتابة وسيكون لديك المزيد من الوقت لتقرأ كُتباً كتبها آخرون يكتبون خيراً منك.

هُناك أسبابٌ عديدة تجعل من هذه الأرقام إحصائيات لا تُمثل الصناعة بمجملها. فالمؤسسة تتعقب أرقام ISBN (ردمك) وليس عناوين الكتب، مما يجعل المُحتسب 70% من سوق التجزئة فقط. كما أن عدد المليون ومائتي ألف يضم القوائم والمطبوعات الصغيرة والكتب المطبوعة حسب الطلب وحتى التقاويم، بينما لا يضم أمازون أو وال مارت، حيث أنه يغطي سوق الولايات المتحدة فقط.

ومع ذلك، بناء على هذه الأرقام، فإن تقارير موت صناعة النشر مُبالغٌ فيها إلى حدٍ كبير. هُناك خمسة وعشرون ألف كتابٍ باع - على الأقل - مائة وثمانين مليون نسخة بمتوسط حسابي قدره سبعة آلاف ومائتا نسخة.

هل تعتقد أن هُناك خمسة وعشرين ألف كتابٍ في العالم يستحق القراءة؟ وإذا لم تكن قد حاولت قراءة الكتب التي تستحق القراءة بعد، ألا ينبغي أن تأسف على نفسك؟

شون لندسي، 13 نوفمبر 2006
Reason #7: Publishing Is Dying


تعليق: كان يحتضر، وسيظل يحتضر
كُتبت هذه التدوينة قبل عامين تقريباً. وقتها، لم تكن الأزمة الاقتصادية العالمية قد استشرت. في 2009، يقول كثير من الوكلاء الأدبيين – أندرو لوني على سبيل المثال – أن عدد الكُتب المُباعة لدور النشر لم ينخفض نتيجة للأزمة المالية، ما انخفض بسببها كان المبالغ التي تدفعها دور النشر لشراء الكُتب.
في العالم كله، وعبر التاريخ الأدبي منذ اختراع الطباعة، كان الكُتاب يتذمرون من احتضار النشر، وكل مرحلة تُعلن أن النشر بات يحتضر. كان النشر يحتضر في القرن العشرين، وقبله احتضر في التاسع عشر والثامن عشر والسابع عشر والسادس عشر، وسيواصل احتضاره في القرن الحادي والعشرين، ورُبما سيعبر إلى القرن الثاني والعشرين محتضراً. عملية النشر بطيئة عموماً، خصوصاً للذين ينشرون للمرة الأولى، أو الذين لا ينالون اهتماماً إعلامياً كافياً، غير أن عجلة النشر مستمرة في الدوران رغم تذمر الناشرين من رداءة طباع الكتاب وانحسار الاهتمام بالقراءة. وسوق الكتب تدر مالاً، قد يقل وقد يكثر، لكنه مالٌ آخر الأمر، خصوصاً وأن الكتاب قد تحول إلى سلعة كمالية في ظل المعايير الثقافية التي تسود العالم هذه الأيام.
في البلاد العربية – بوصفها جزءاً من العالم -، النشر يحتضر منذ فترة، وكل مرة يطول احتضاره من دون أن يعلن أحدٌ وفاته حتى الآن. سوق النشر بالعربية أقل بكثير منه بلغاتٍ أخرى، لكن هذا لا يعني أنه احتضر، فكثيرٌ من الكُتب يُنشر، ونسبة لا بأس بها منها تستحق القراءة. قد تزيد نسبة الكتب المطبوعة وقد تنخفض من وقتٍ لآخر، لكن معدل النشر يبقى فوق مستوى الاحتضار، وإن كان دون مستويات النشر في بقاعٍ أخرى كثيرة من العالم.

22 فبراير 2009

نمورُ العمةِ جِنِفَرْ

تتبختر نمور العمة جِنِفَرْ عبر ستارةٍ
ياقوتاً ساطعاً يقطن عالماً من خضرةٍ
لا تخشى الرجال تحت الشجرة
تخطو بيقينٍ فروسي أنيق.

ترتعش أصابع العمة جِنِفَرْ في صوفها
غير قادرةٍ حتى على سحب إبرتها العاجية
ثقلُ طوقِ زواجِ العم
يجثم فوق يد العمة جِنِفَرْ.

إذا ماتت العمة جِنِفَرْ، سترقد يداها المرتعبتان
متختمتين بالمحن التي حكمتها
النمور في اللوحة التي صنعتها
ستمضي متبخترة، فخورة، وجسورة.

04 فبراير 2009

مدام سُسُتْرِسْ

مدام سُسُتْرِسْ، العرافة الشهيرة،
أصيبت بنزلة برد، مع ذلك
تُعْرَفُ بكونها أحكم امرأة في أوروبا،
بمجموعة ورقٍ لا تُضَاهَى. هذه ورقتك،
قالت: البحار الفينيقي الغريق،
(هذه لآلئ كانت عينيه. انظري!)
هذه بيلادونا، سيدة الصخور،
سيدة الأمكنة.
هذا صاحب العصي الثلاث، وهذه العجلة،
وهذا التاجر ذو العين الواحدة، وهذه الورقة
شيء يحمله على ظهره محظورٌ علّي
رؤيته. لا أجد المشنوق. خافي الموت قرب الماء.
أرى حشود أناسٍ يسيرون في حلقة.
شكراً لك. إذا رأيت السيدة إكواتُن العزيزة،
قولي لها إنني سأحضر خريطة الأبراج بنفسي.
ينبغي أن يكون المرء حذراً هذه الأيام.

19 يناير 2009

كلٌ شيطان!

شكا أبو الطيب المتنبي:
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه
أني بما أنا شاكٍ منه محسود
وعادت إلّي شكواه ذات تأملٌ في حال نظامنا التعليمي. يقولون دوماً إن النظام التعليمي العربي في الحضيض، وإن جامعتنا - وكليتنا، ومستعمرتنا على وجه الخصوص - تقبع في ذيل سلم التعليم العالمي، فنحن لا ندرس شيئاً ذا بالٍ، ولا يُمكن أن نفيد أو نستفيد. قد يكون هذا القول واقعاً، لكنه أكثر تشاؤماً مما أحتمل. بعض من يقولون إن التعليم متدهور يحاولون وقف تدهوره، ورفعه إلى مستويات مقبولة، فيعتمدون على ما يسمونه (المنهج الأمريكي) في التدريس والتعامل مع الطُلاب، وأساس هذا المنهج إطلاق منافسة قاطعة للرقاب بين الطلاب تجعلهم يكرهون أحشاء بعضهم البعض - كما في التعبير الإنكليزي -، وتمحو كُل أثرٍ لهويتهم الفردية. آثار هذا التعليم واضحة في بعض دكاترة المستعمرة ممن يتكلمون في نفس المواضيع، ويستخدمون نفس المفردات المعجمية، ويناقشون نفس الثيمات، ولديهم إطارٌ محدود من الأفكار يطبقونه على كُل موضوع يعترض طريقهم، فإذا خرج النقاش عما تدربوا عليه تاهوا، وإذا حُدِثوا بأمرٍ لم يُصادفوه في مناهجهم صُعقوا كأنما وُجِه إليهم الكلام باللاتينية.
بعد عدة سنين من الوقوع في شرك هذا النظام الاستعبادي، أستطيع أن أقول إن الرأسمالية لا تُناسبني، فالرأسمالية تفعل ما تتهم الشيوعية بفعله، أي أنها تحول الناس إلى قطعان مسلوبة الإرادة. وفوق هذا فإنها منافقة تقول ما لا تفعل، ولصة تسرق قوت يومي وروحي، وتحاول دون هوادة تحويلي إلى خروفٍ آخر في القطيع. فوق هذا كُله، فإنها عبارة عن منافسة محمومة مسعورة للحصول على أكثر ما يمكن من أقل الأشياء قيمة في الحياة.
المنافسة أمرٌ خطير، فمن يُنافس للحصول على أعلى الدرجات تُصبح حياته مُعلقة بالحصول على النسبة الأعلى، وحين يحصل سواه عليها، فإن هذا يعني هزيمته ودماره. الأمر ذاته ينطبق على من يتنافس مع الآخرين في كل ناحية من نواحي الحياة: لا بُد من أن يظهر شخصٌ ما يمكنه أن يفوز بالمنافسة بسهولة من دون أن يبذل مجهوداً، لا لحظٍ أو وساطةٍ، بل لخصلة فيه قد يكرهها بينما يحسده عليها آخرون كما في بيت المتنبي الشاكي.
واحدٌ من الأمثلة المخيفة عن خطر المنافسة يُمكن أن يوجد في قصة الشيطان والعابد، فالعابد خسر إذ تنافس في العبادة مع الشيطان الذي غلبه من دون تعب، فلو أن العابد قنع بما يستطيعه، ولم يُحاول أن يُنافس الشيطان، لما كانت عاقبة أمره غير محمودة. لقد غلبه الشيطان فيما يُجيده أكثر، وبذلك حطم روحه وهزمه فصار مسلوب الإرادة. في القصة تنكر الشيطان في هيئة رجلٍ مسن - والشيطان يتنكر دائماً في القصص - غير أن تنكره هُنا يُشير إلى أن الشيطان ليس بالضرورة المخلوق الذي طُرِدَ من الجِنة، بل إنه قد يكون كل امرئ. فكما لكلٍ شيطانه، فإن كُلاً شيطانٌ لغيره، يملك ما لا يملكه سواه، ويتوق إلى ما يملكه سواه.

10 يناير 2009

ووردزوورث

عرف ويليام ووردزوورث الشعر بأنه: "تدفق عفوي للعواطف المُستعادة في لحظة سكينة"، وأعلن مع صديقه صامويل تايلر كولريدج انتهاء العهد ويليام ووردزوورثالكلاسيكي الجديد في الشعر الإنكليزي بديوانهما أناشيد غنائية Lyrical Ballads في 1798، ليقودا الحركة الرومانتيكية في الشعر الإنكليزي. بقي ووردزوورث مُخلصاً لتعريفه للشعر، وتدفقت في قصائده عواطف جامحة وصلت حد "الرقص مع النرجس" كما في قصيدة الشهيرة: "النرجس" أو "تجولت وحيداً كسحابة". ورغم أنه أحد شُعراء البُحيرة الذين مجدوا الطبيعة، إلا أنه في قصيدته: "مقطوعة أُلفت على جسر ويستمنستر" مجد جمال مدينة لندن بشكلٍ غير مسبوق في الأدب الرومانتيكي الذي اعتبر المدينة - خصوصاً لندن في الشعر الإنكليزي - مصدر كُل الشرور ومباءة كُل الرذائل. في العام نفسه كتب قصيدته: "لندن 1802" التي يستدعي فيها الشاعر الإنكليزي البيورتاني الشهير جون ميلتون، ليُعيد الروح الإنكليزية التي ضاعت في خضم المدنية الحديثة، ويعترف له: "نحن أنانيون"، مما جعل الكثيرين يستغربون نزعات مزاجه الحادة والغريبة، وتأرجحه بين وصف جمال الطبيعة والمدينة، وبين وصفه لإنكلترا بأنها "مُستنقع راكد".
ورغم أن ووردزوورث كان شاعر البلاط في زمانه، وأديباً مُحتفى به، إلا أن النقاد - ومنهم صديقه كولريدج - قد اشتكوا من مزاجه المتطرف، وتعبيراته اللغوية التي تقدم - رغم بساطتها - مشاهد غريبة، كالرقص مع النرجس أو الاحتفاء بقوس قزح أو الحديث عن الأطفال الأشباح. المشاهد التي يُرجعها ووردزوورث نفسه إلى كونه رجلاً سعيداً، ويقول في سعادته إن أحداً لم يفهم إلى أي حدٍ كان سعيداً - ولا حتى صديقه كولريدج -. لم تكن سعادة ووردزوورث مبنية على الممتلكات المادية - حتى سنٍ متأخرة لم يجنِ أكثر من عشرة جنيهات في السنة -، ولا على رأي الآخرين فيه. بل كانت مبنية على تحرره من كُل قيدٍ مادي أو معنوي، وعلى تأقلمه مع طباعه الغريبة، فلم يحاول أن يُغير طباعه الحادة، أو أن يتواصل مع الآخرين بشكلٍ يختلف عن تواصله الذي أحنق مالك نزلٍ أقام فيه مع أسرته، وجعله يصفه بأنه مخلوقٌ غريب لا يتبادل الكلام مع أفراد أسرته، ويتصرف كأنه يعيش وحده - يقول النقاد إن شقيقته دوروثي كانت معه عندما تجول في حقل النرجس الذي ألهمه قصيدته "تجولت وحيداً كسحابة"، وكتبت عن هذه الجولة، لكن ووردزوورث كان وحيداً في تجواله حقاً لأنه لا يلقي بالاً إلى العالم خارج ذاته -. لم تكن أسرته قادرة على فهم سعادته، ولم يكن يستطيع أن يتواصل معه سوى شقيقته دوروثي، وابنته دورا التي أحبها بجنون وفضلها على بقية أبنائه، لكنه إذ أحبها فإنه قد خنق موهبتها الأدبية بمطالباته الكثيرة، وباعتماده الدائم عليها، فشخصٌ مثل ووردزوورث يعيش حياته داخل ذاته، ويستمد سعادته من ذاته، يصبح عصبياً ومتطلباً وشبه عاجزٍ حين يضطر إلى التعامل مع العالم الخارجي، وغالباً ما يحتاج إلى وسيطٍ يُمكنه أن يتحمل نوبات مزاجه العاصفة. وسيطتا ووردزوورث كانتا شقيقته دوروثي وابنته دورا - التي أسماها على اسم شقيقته -.
شهد ووردزوورث وفاة اثنين من أبنائه، توماس وكاثرين، في العام نفسه، 1812. لكن سعادته لم تبد وكأنها قد اهتزت، ولا تغيرت نزعات مزاجه إلا حين عارض بشدة زواج ابنته دورا من الشاعر إدوارد كويلينان خوفاً من فقدانها، ليضطر في النهاية إلى الإذعان لهذه الزيجة لئلا يُحنقها عليه. ورغم أن كويلينان كان مُخلصاً لووردزوورث ومدافعاً دائماً عنه، إلا أنه لم يغفر له زواجه من ابنته المفضلة، وهو زواجٌ لم يُعمر طويلاً لأن دورا توفيت بعد خمس سنواتٍ منه.
لم يؤثر شيء في سعادة ووردزوورث الداخلية أبداً، لا الفقر، ولا تجاهل النقاد الطويل لموهبته وهجومهم المستمر عليه، ولا رأي الآخرين في غرابة أطواره، ولا فقدانه لاثنين من أبنائه الخمسة، حتى شاخ وهو لم يزل ووردزوورث السعيد المغرم بالنحقل دورا في قرية ريدالرجس على نحوٍ غريب - رغم أن الشعراء الرومانسيين الإنكليز امتازوا بقصر عمرٍ مذهل -، لكن وفاة دورا جلبت هلاكه. فقد ووردزوورث تماسكه، واهتزت أسس روحه التي أبقته في صحة نفسية وجسدية ممتازة طوال حياته، لم يعد يستطيع أن يُباهي بأنه سعيدٌ إلى حدٍ لا يستطيع أحدٌ إدراكه، فكُل سعادة أحس بها في حياته قد سُلبت منه في لحظة غادرة. فجأة، خسر دورا التي ألهمته واحدة من أجمل قصائده: "إلى ابنتي الرضيعة". في نوبة جنون حادة كنزعات مزاجه، أخذ ووردزوورث يزرع حقلاً كان يملكه قرب كنيسة قرية ريدال بالنرجس، وسخر كل وقته وطاقته لزراعة الحقل الذي أسماه "حقل دورا". مضى ووردزوورث يزرع أزهار النرجس التي أحبها طوال حياته لذكرى ابنته الوحيدة الناجية التي أحبها طوال حياته، حتى أصيب بذات الرئة وتوفي.
رغم أن سعادة ووردزوورث انقلبت شر منقلبٍ آخر أيامه، إلا أن روحه لم تنكسر، ففي ألمه العظيم تمكن من أن يُغني أغنية بجمال قصائده في حقل دورا المزروع بآماله ومخاوفه وأحلامه ورؤاه ونزعاته ومزاجه وحدته وجموحه وعذوبته. ووردزوورث Wordsworth بالإنكليزية اسمٌ يُمكن أن يُفك إلى كلمتين معناهما: الجدير بالكلمات. وووردزوورث لم يكن جديراً بالكلمات فحسب، بل جديراً بكل الجمال الذي زرعه في العالم حتى في حزنه.