13 أكتوبر 2016

القبعات

الشهر الماضي، حدثت زوبعة أدبية في العالم الناطق بالإنكليزية. ليونيل شرايفر - كاتبة أمريكية اشتُهِرَت برواية ينبغي أن نتحدّث عن كيفن (2003) التي تحولّت إلى فيلم بالاسم نفسه صدر في عام (2011) - ألقت خطاباً في افتتاح مهرجان بريزبان الأدبي، هاجمت فيه مفهوم الاستغلال الثقافي. كثيرون وجدوا خطاب شرايفر مُهيناً، وغادر بعضهم القاعة أثناء إلقائها إياه. واحدةٌ مِمَن غادروا كانت كاتبة أسترالية من أصل سوداني اسمها ياسمين عبد المجيد، وقد كتبت تدوينة غاضبة فور مُغادرتها عن الحدث، ونشرتها في مدونتها الخاصة. تواصلت معها صحيفة الغارديان البريطانية، وأعادت نشر التدوينة في موقعها. ثم حصلت الصحيفة على خطاب شرايفر، وأعادت نشره كذلك، فتوالت ردود الأفعال بين القطبين.

ليونيل شرايفر
مُلخص خطاب شرايفر كما يلي: لقد دُعيّت إلى المهرجان لتُلقي خطاباً حول المجتمع والانتماء، لكنّها ترى الموضوع مُملاً، وأن يطلُب منظمو المهرجان من مُحطمة أيقونات معروفة renowned iconoclast - الكلام لها - أن تتحدث عن موضوع كهذا كأن يطلبوا من قرشٍ أبيض عظيم موازنة كرة شاطئ على أنفه. بدلاً عن هذا، تريد شرايفر الحديث عن موضوع الاستغلال الثقافي cultural appropriation. شرايفر ترى أنّ الخوف من الاستغلال الثقافي قد تحول إلى حجة لقمع الكتاب ومنعهم من كتابة الشخصيات التي يريدونها، مما جعله شكلاً من أشكال الرقابة، وحولّه إلى هوسٍ اجتماعي ضار. تضرب مثالين رئيسيين: كاتبٌ أبيض استخدم شخصية فتاة نيجيرية في كتاباته، وانتُقِدَ لاستخدامه الشخصية من أجل الحبكة. والمثال الآخر حادثة في جامعة أمريكية، حيث أقام شُبانٌ بيض في أخوية حفلاً ارتدوا فيه قبعات السومبريرو المكسيكية وشربوا التكيلا، ونتَجَ عن ذلك توبيخ مجلس الطُلاب لهم، والمُناداة بإيقاف عضويتهم فيه. شرايفر ترى في هذا مثالاً صارخاً على القمع، فما المشكلة إن أقام الشبان حفلة تنكرية ووضعوا على رؤوسهم قبعات السومبريرو وشربوا التكيلا؟ هل يُحرمون من هذا لمجرد كونهم شباناً بيض؟ تتذكر شرايفر عندما كانت طفلة، وكان والداها يزوران المكسيك، ويعودان بقبعات سومبريرو لها ولأخيها، فيرتديانها ويفرحان بها. تذكُر شرايفر الكثير من الأمثلة المشابهة. وتتمنى أن يتحول الاستغلال الثقافي إلى صرعةٍ بائدة. تقول شرايفر إنّ عمل الكاتب أن يرتدي قُبعات الآخرين، وتُطبِق مجازها حرفياً، فتضع قبعة سومبريرو على رأسها فيما تتكلم. وتدعو من يشاء إلى أن يرتدي القبعات البافارية والسراويل الجلدية الألمانية ويشرب البيرة الألمانية، بحُكم أنّها أمريكية من أصل ألماني.

ياسمين عبد المجيد
خرجت ياسمين عبد المجيد في وسط الخطاب. ومُعظم مقالها وصفٌ للمشاعر التي أثارها هذا الخطاب في نفسها، وقد صُرِفَ الحديث عن المشاعر بوصفه ثانوياً، إلّا أنّ المشاعر هي أهم عُنصرٌ في المسألة: الشعور بالظلم والغضب الذي أثاره حديث امرأة بيضاء متقدمة في السن بمثل هذه الطريقة المستهينة عن مسألة الاستغلال الثقافي التي لم تُعانِ منها أبداً. ما أقلق كثيراً من أصحاب ردود الأفعال في مقال عبد المجيد كان فكرته الرئيسية: نعم، لا يحق لأي كاتبٍ أبيض أن يكتب عن شخصيات سوداء، أو من عرقٍ آخر. الكاتب الأبيض الذي يستغل فتاة نيجيرية من أجل حبكته يُنشَر كتابه، ويشتهر، ويحصل على قدرٍ من المال والثناء. في المقابل، لا تستطيع فتاة نيجرية في ظروفٍ تشبه ظروف الشخصية حتى أن تحصل على فرصة لنشر كتابها. لماذا يستمر العالم في مكافأة الكُتاب البيض الذين يستغلون الشخصيات من أعراقٍ وإثنيات مختلفة، فيما يحرم الأشخاص الحقيقيين من هذه الأعراق والإثنيات من حكاية قصصهم بأنفسهم؟

واشنطن بوست
كانت صحيفة واشنطن بوست قد نشرت مراجعة لرواية شرايفر الأخيرة آل مانديبل: عائلة ٢٠٢٩- ٢٠٤٧ رواية مستقبلية سوداوية تتحدث عن سقوط الولايات المتحدة الأمريكية - ذكر فيها كاتب المراجعة كِن كالفُس شخصية سوداء استخدمتها شرايفر في حبكتها: امرأة سوداء جميلة يتزوجها كبير آل مانديبل، ثم يكتشف أنّها تعاني من خرف الشيخوخة المبكر، وتُظهر الرواية حالتها المتدهورة عندما تنهار الولايات المتحدة الأمريكية، وتحولها إلى عبء على آل مانديبل البيض، الذين يقودونها بلجام كأنها حيوان من شارعٍ لآخر، وحين يتعبون منها، يطلقون عليها الرصاص. وحبّذ كاتب المراجعة ألّا تظهر هذه الصورة في مُلصق الفيلم، إذا صدر فيلم عن الرواية.
ثُمَ، بعد زوبعة خطاب شرايفر، عادت واشنطن بوست للحديث، فخطاب شرايفر جاء ردة فعلٍ على المراجعة، وعلى انتقادها بسبب مقابلة لها حول الرواية قالت فيها إنّها تخيلت شخصية المرأة السوداء الجميلة، لويلا، على أنّها انتقامٌ من كبير آل مانديبل، المثقف الليبرالي الذي يهجر أم أولاده ويتزوج امرأة سوداء جميلة لأنها ستكون حُلية جميلة لساعده، تُضيف إلى رصيده الليبرالي. لكن - والكلام لشرايفر - النكتة ترتد عليه، فالمرأة الجميلة التي تزوجها تعاني من الخرف المبكر، وتربطه إلى جوارها وهو يُشاهد تدهورها التدريجي. فنشرت واشنطن بوست مقالاً آخر لكالفُس نفسه يُظهِر فيه المزيد من الصور العنصرية في روايتها: تدهورت أمريكا في عهد أول رئيس وُلِد في المكسيك، وهو شخصٌ بغيض يتحدث بلكنة مكسيكية ثقيلة. الأشخاص المتعاطفون مع الفقراء في روايتها سُذجٌ يُسهمون في تدمير أمريكا بسذاجتهم. الشخصيات غير البيضاء القليلة المتناثرة تتحدث بلكنة واضحة، وإنكليزية غير سليمة. يُلاحظ كالفُس أنّه في الحياة اليومية، نادراً ما يُطبق أحدٌ قواعد اللغة الإنكليزية (الفُصحى) تطبيقاً تاماً، بغض النظر عن عرقه ومستوى تعليمه. وأنّ الكاتب غير المُغرض، إمّا يستخدم الإنكليزية السليمة لكل حوارات شخصياته، أو يستخدم الإنكليزية العامية وغير القياسية والخاطئة ليُحاكي حوار الناس على الطبيعة في كُل حوارات شخصياته. أمّا الكاتب الذي يستخدم الإنكليزية السليمة لحوارات الشخصية البيضاء، والإنكليزية المُحطمة لحوارات الشخصيات غير البيضاء فمُغرِض. ويقول إنّ المشكلة ليست في الاستغلال الثقافي، بل في ضيق أُفُق شرايفر.

نيويورك تايمز
تدخلت نيويورك تايمز على الخط، فنشرت قصة من داخل مهرجان بريزبان أرسلها لها رود نوردلاند، وفيها نقل حديثاً على لسان الصحفية والكاتبة الأمريكية-الكورية سوكي كِم أفضت إليه به في حديثٍ شخصي خاص، دار داخل استراحة الكُتاب المُغلقة على الكُتاب المُستضافين في المهرجان وحدهم، ولم يُبلغها بأنّه سينشره في نيويورك تايمز منسوباً إليها. وقد اعتذر مُحرر الشؤون العامة في الصحيفة في اليوم التالي، مُعترفاً بحق سوكي كِم في توقع الخصوصية إزاء كلامٍ قد قيل في مكانٍ خاص، ولكن نوردلاند - الذي كان في المهرجان بصفته كاتباً - قد ذكر أنّه صحفي، وسوكي كِم "تدعو نفسها صحفية".
بعدها، نشرت نيويورك تايمز مقالاً لشرايفر نفسها، تتهم فيه جيل الألفينات - بحساسيتهم المفرطة - بتدمير اليسار. وتتحسر على الأيام التي كان فيها اليسار مُدافعاً حتى عن حقوق العنصريين والنازيين الجُدد. أمّا جيل الألفينات الجديد فجيل متمحور حول ذاته، متمسك بهويته، يتوقع الإهانة من كُل جهة، ومستعدٌ لأن ينشب مخالبه في عنق كُل من يتحدث بكلامٍ لا يُعجبه. وهذا الشعور بالتفوق الأخلاقي الذاتي، والبحث في زلات كل شخص، سيُدمر اليسار.
ثُم، يبدو أنّ نيويورك تايمز قد وجدت نفسها في مكانٍ لا تُحِب أن يُحسَب عليها، فنشرت بعض المقالات التصالحية التي تشجب خطاب شرايفر في بريزبان، وفي الوقت نفسه تُنادي بإمساك العصا من المُنتصف، وتتحدث عن كون الخوف من الاستغلال الثقافي حاجزاً يمنع الكُتاب من الكتابة، ونوعاً من البُعبع الذي يتهدد أي كاتبٍ يتجرأ على الكتابة عن أشخاصٍ لا يشبهونه ويشبهون أُسرته ومُحيطه. في الوقت نفسه، فإن الكُتاب الذين يحصرون أنفسهم في دائرة اجتماعية واقتصادية ضيقة، يُنتقدون لافتقار أدبهم إلى الغنى والعُمق، ولتمحورهم حول ذواتهم.

سوكي كِم
ردّت سوكي كِم على نوردلاند، فذكرت تذمره هو نفسه من مراجعة دمرّت كتابه الحبيبان (2016)، ووصفه لِمَن راجعت الكتاب بأنّها "امرأة باكستانية غير مؤهلة". كتاب نوردلاند كان عن روميو وجولييت الأفغانيين، فتى من الهزارة وفتاة من الطاجيك، شيعي وسُنية. وقد راجعت الكتاب - لصحيفة نيويورك تايمز نفسها - رافيا زكريا مراجعة ممتازة، ذكرت فيها العُنصرية والنظرة الاستعمارية اللتين تظهران في الكتاب الذي يستغل قصة الزوجين ويعرّض حياتهما للخطر. تحدثت كِم كذلك عن وصف مُحرر نيويورك تايمز للشؤون العامة لها بأنّها: "تصف نفسها بأنّها صحفية"، مع أنّها صحفية استقصائية، وقد عملت في كوريا الشمالية متخفية على أنّها مُدرسة، وأصدرت كتاباً عن حياتها بين أبناء نُخبة قادة كوريا الشمالية، الذين يُتوقَع لهم أن يكونوا قادة البلد في المُستقبل. ما تقوله كِم، إنّها بالمقاييس الأمريكية للصحافة نفسها، صحفية من النخب الأول: تسللت وراء خطوط بلدٍ مُنغلق، بهوية مستعارة، وعاشت فيه لوقتٍ مُعتبر، سجلت أثناءه تفاصيل حية. ولكن مُحرر نيويورك تايمز، ارتأى أن يقول إنّها "تصف نفسها بأنها صحفية".
لم تقل كِم ذلك، لكن الطريف إنّه خلال الزوبعة، بانت التحزبات واضحة. محرر نيويورك تايمز قد قرر إنّ صحفية كورية لا تستحق لقب صحفية مباشرة، من دون تعليق بأنّها - المرأة المسكينة! - تعتقد نفسها كذلك. شرايفر نفسها، في مقالها في نيويورك تايمز، لم (تتنازل) لتصف ياسمين عبد المجيد بأنّها كاتبة، الاسم العام الذي يُطلَق على كُل من يشتغل بحرفة الكتابة، بل قررت إنّها memoirist، أي كاتبة مذكرات، لتضع مسافة بين الكُتاب - مثلها - وكُتاب المذكرات الذين هُم من عرقٍ أدنى. مما أعاد إلى الأذهان حديث توني موريسون، الكاتبة الأمريكية السوداء الشهيرة، قبل نحو عقدين، عن احتفاظ البيض تاريخياً بحق (تعريف) الآخر. مغزى كلام موريسون أن أوروبا البيضاء، ووريثتها أمريكا البيضاء، كانت من يُعرِف العالم على مر التاريخ وفقاً لرؤيتها الخاصة، ورغبتها التفضل بالإنعام على من شاءت، وحرمان من شاءت، ومحاولة المُنعَمِ عليهم والمحرومين أخذ حق التعريف بأيديهم، وصياغة كيوننتهم من دون الحاجة إلى اعترافٍ أبيض بها، يُقلق البيض، حتى المتنورين منهم، كما تفترض شرايفر نفسها.
تعود كِم للحديث، فتتذكر روايتها الأولى، التي ظهرت في قائمة مرموقة تُشيد بالروايات الأولى المهمة الصادرة كُل عام. وفي أول مهرجان أدبي تحضره مدعوة بعد روايتها الأولى، حُشِرَت في جلسة مُخصصة للكتاب (الملونين)، فتشاركت مع كاتبين للقصص الإباحية وأدب الفتيات الخفيف. فيما كان كُل المشاركين في جلسة الروائيين الذين نشروا رواياتهم الأولى ذلك العام من الذكور البيض، بل وسبق لواحدٍ منهم أن حضر المهرجان نفسه، مشاركاً في الجلسة نفسها للروائيين الذين ينشرون للمرة الأولى، العام السابق.
في مهرجان بريزبان نفسه، نظم المهرجان جلسة لحق الرد على شرايفر عُقدت في الوقت نفسه الذي كانت تجري فيه جلسة شرايفر الترويجية لروايتها الجديدة، آل مانديبل. وقد دُعيت كِم وعبد المجيد وآخرين للرد على كلام شرايفر. كِم لا ترى فارقاً بين جلسة مهرجان بريزبان - التي اعتبرتها شرايفر، ومناصروها ممارسة للرقابة على أفكارها واعتداء على حرية التعبير - وبين ما حدث في المهرجان الذي حشرها مع كُتابٍ لا يجمع بينها وبينهم شيء إلّا عامل كونهم جميعاً من غير البيض، وحرمها من المشاركة في جلسة ذات (برستيج) عالٍ كانت تملك الحق في المشاركة فيها. بمعنى أنّ المهرجانات الأدبية لا ترى في الأدباء غير كونهم من البيض أو من غيرهم، وتُصنفهم بناء على ذلك.

وبعد،
من المعلوم إنّ المجاز مِلحٌ أدبي، والإفراط فيه يقود إلى كلامِ مجانين. وهذا ما قالته شرايفر، ومن أيدوها. لقد أرادوا استخدام التعبير المجازي - ارتداء قبعات الآخرين، بمعنى التفكير في الأمور من وجهة نظرهم والتعاطف معهم - بشكلٍ حرفي: ارتداء قبعات الآخرين. الكاتب الذي لا يُفرِق بين القبعات التي يجلبها والداه من المكسيك وتُباع للسياح، وبين الاستغلال الثقافي والتنميط الذي يتعرض له المكسيكيون - من ضمن شعوب وأعراق وإثنيات وثقافات أخرى - ليس عنده ما ينبغي قراءته أو الاستماع إليه. لكن، ما يبدو غائباً في الردود على شرايفر، أنّها تُنمِط الثقافة الألمانية وتختزلها في سروال جلدي وقبعة وقدحٍ من البيرة. بطبيعة الحال، شرايفر ليست ممثلة الثقافة الألمانية، والأمريكيون من أصلٍ ألماني فئة من ذوي النفوذ في المجتمع الأمريكي، لدرجة أنّ المهزلة التي يقودها ترمب لم تؤثر بشيء على سُمعتهم. مع ذلك، فإن تجربة الأمريكيين من أصلٍ ألماني مختلفة ومتعددة، وثقافتهم متنوعة، بشكلٍ لا يُمكِن اختزاله في صورة تبسيطية. ولا يُمكِن لهذه الصورة أن تعبر عن الثقافة الألمانية الأوروبية. لا يستطيع كاتبٌ - حتى لو كان من أصلٍ ألماني - أن يكتُب عن شخصية ألمانية ما لم يكُن بوسعه أن يُحِس بحرج طالبٍ ألماني يُقدمه أحدهم إلى مجموعة طُلابٍ أمريكيين، فيعرضون عليه فوراً شريطاً ساخراً لهتلر، أو أذى طالبةٍ ألمانية يصف أحدهم لغتها الإنكليزية ذات اللكنة الجرمانية الثقيلة بأنّها مثل كلام حُراس المعسكرات النازية، أو انزعاج شابٍ أو شابةٍ ألمانيين من إيقاف شخص مُسنٍ إياهم لـ(يوعيهم) عن الهولوكست، واضطرارهما للوقوف والاستماع بأدب لمحاضرة عن أمرٍ لا يد لأي منهما فيه. أو حيرة موظفٍ ألماني في هيئة أوروبية أوكِل إليه تنظيم مؤتمر ما، وقرر زملاؤه الأوروبيون المثقفون أنّ اسمه الألماني عصّي على النطق من دون حتى أن يحاولوا تجربة نطقه، فقرروا تسميته بنسخةٍ إنكليزية من الاسم، ولم يكُن له إلّا أن يُحدِّق مذهولاً، وينظر حوله، فيبصر زميلاً يونانياً يُعاني من العذاب ذاته، فيرفع يده بوهنٍ مُحيياً، وعلى شفتيه شبه ابتسامة ذاهلة، لأن التكشير يُلصِق بِه تهمة النازية بلا شك. كما أنّه لا يوجد نمطٌ واحدٌ يُعبر عمّا هو ألماني: هُناك من يُريد محو حُقبة النازية برُمتها، وهُناك من يُريد الاحتفاظ بها عبرة، وهُناك من يُريد استعادتها، وهُناك من يُريد شيئاً آخر. هُناك من يُحِب الشعوب الأخرى، وهُناك من يتحفظ ضدهم. هُناك الإنسان الطيب، وهُناك العُنصري، وهُناك اللا مُبالي. وهُناك الذي يصرخ: "ارحمونا، ثمّة أشياء في ألمانيا غير النازية!"
وقِس على هذا كُل شعوب الدُنيا: من يكتُب عن أمريكي من أصلٍ أفريقي من دون أن يفهم وصمة العبودية، والنظرة التي تورثها، السُخرة، التحقير، اللوم، التبخيس، والاستغلال الثقافي لتمجيد الرجل الأبيض مُحرر العبيد، والحاجة إلى إثبات الذات، والتهديد الذي يُسببه منظر رجلٍ أسود ضخم الجثة، ويجعل الكثير من البيض يتعاطفون مع رجالِ الشرطة المتوحشين الذين يقتلون السود العُزل، يستغل هذا البؤس. ماذا عن الأسود الوحيد في الشلة البيضاء الذين يستخدمونه جميعاً ليظهروا بمظهر غير العُنصريين؟ والمُبدع الأسود المحبوس في خانة الفن العرقي، الذي يُثير التساؤل إذا حاول أن يُحاور الأصول الإغريقية واللاتينية للثقافة الغربية كما يفعل زميله الأبيض؟ ماذا عن المرأة السوداء التي تُبخَس بكُل شكل مُمكِن؟ ومن ذلك استخدام شرايفر لها لمُعاقبة رجلٍ أبيض على تركه لأم أولاده البيضاء.
ثمّة مُناصرون لشرايفر يرون أنّه وفقاً لمنطق الاستغلال الثقافي، فلا يُمكِن كتابة كتابٍ مثل هكلبري فِن اليوم. كتاب مارك تواين الشهير كان مُميزاً في القرن التاسع عشر لأنّه قدّم، للمرة الأولى، شخصية عبدٍ أسود يُثير التعاطف. لكِن الكاتب الأبيض الذي يُريد كتابة الزنجي جِم من جديد في القرن الحادي والعشرين، شخصٌ عُنصري قبيح مكانه كوابيس الماضي. والمُقلق أنّ الكثيرين يعتبرون أنّه من الطبيعي النظر إلى هذه الشخصية بوصفها قدوة في الكتابة العرقية، مما قد يُبرر رغبة البعض في نشر نُسخة مُنقحة جديدة من رواية هكلبري فِن، تخلو من الإشارات العُنصرية. هذا لا يصُح، لأنّه إعادة كتابة للتاريخ، وفي الوقت نفسه، فالمرء يُدرِك أن بقاء الماضي من دون تنقيح، والاحتفاء به، يجعل الكثيرين من الكُتاب مُنخدعين به، مُعتبرين إياه قدوة ينبغي اتباعها. ما يجهله أنصار الاقتداء بمارك توين في كتابته لشخصية الزنجي جِم إنّه لم يكُن في زمن مارك توين شخصية سوداء ذات حيثية في المجتمع والثقافة بحيث تُبين العُنصرية في عمله، وتُقارعه الحجة بالحجة.
وهذا هو لُب المسألة: لقد أصبحت مُعظم الفئات المُهمشة في الماضي تمتلك حق الرد، وتستطيع إيصال صوتها. إذا كتبت كتاباً يُهين الهنود الحُمر، فهناك ناشطون من الهُنود الحُمر سينتقدونك، بل ومن غيرهم كذلك، حيث أنّ الكثير من الناس - والحمد لله - قد صاروا ينفرون من العُنصرية بكُل أشكالها. وكذلك، الكتابة بشكلٍ مُهين عن كُل الفئات التي كان التنمر عليها سهلاً في الماضي. تذكرت كاتباً عربياً اشتكى مرة على مواقع التواصل الاجتماعي من أنّ الناس قد أصبحت في غاية الحساسية، فلم يعد بإمكانه أن يُلقي نُكتة حول أي فئة من الناس، إلّا وجاءه فردٌ منها ليلومه. الناس لم تُصبح في غاية الحساسية، ولم تتحول إلى وحوش ترفض حُرية التعبير. الناس تنزعج مُنذ قديم الأزمان، لكنّها الآن تستطيع جعل انزعاجها مسموعاً.
مُشكلة أخرى، هي الخلط بين المُتنمرين، وبين أصحاب الحق. بمعنى، إنّ أي كاتبٍ قد جرّب مواقع التواصل الاجتماعي، قد تعرّض إلى قدرٍ كبيرٍ من التنمر. هُناك جماعات تتكالب على المرء وتهاجمه وتُهينه، وهُناك شللٌ تتفنن في تأليف الإهانات الموجهة إليه، لمُجرد التعبير عن رأي مُختلف، ليس في السياسة، بل في عملٍ فني أو مُنتجٍ فكري. وكثيرٌ من المُتنمرين المُتكالبين مِمَن يُحسَبُون مِنَ المُثقفين، ويعتبرون عملهم هذا كشفاً عن "الزيف" الذي يعتري الحياة الفكرية، وليسوا أكثر من عصابة عالية الصوت. يحدث هذا بالعربية والإنكليزية، وبكُل لغةٍ تقريباً. النساء يتعرّضن إلى أضعاف، أضعاف التنمر والتكالب الذي يتعرّض له الرجال، لأسبابٍ واضحة.
هذا شرٌ، بطبيعة الحال، ولا يُمكِن الدفاع عنه. لكن الخلط بينه وبين لفت الانتباه إلى العُنصرية والتعصّب خلطٌ مُغرِض، يهدف إلى تشويه المعادين للعنصرية. أن يُعبر أحدهُم عن اعتقاده بوجود صورٍ عنصرية في عملٍ ما، يختلف تماماً عن أن يسب أحدهم كاتباً، ويُهينه ويهدده ويُحرض عليه، ليجعله عُرضة لكُل مُختل، وهذه مُمارسات قد شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي مراراً. لكن الكثير من المُنتفعين يخلطون الأوراق خلطاً بيناً، ويرفضون الاعتراف بالتقصير، أو بالتحيز الضمني، أو حتى تجاهل النقد ومواصلة الكتابة كما يُريدون.
لا أحد منع شرايفر - أو غيرها - من الكتابة، أو طالب الناشرين بعدم النشر لها، أو دعا إلى مُقاطعتها، أو تظاهر أمام مكتبة تبيع كُتبها لتمتنع عن ذلك، أو قاضاها في محكمة. كُلٌ يُمكِنه أن يكتب ما يشاء. لكن شرايفر، تتحدث في خطابها عن النقد الموجه لها قائلة:
هكذا، فإنّ على كُتاب الخيال أن يحترسوا في عالمٍ من سياسات الهوية. إذا اخترنا أن نستورد ممثلين عن الجماعات المحمية، فعلينا تطبيق قواعد خاصة. إذا حدث أن كانت الشخصية سوداء، فإن عليها أن تُعامل باستخدام قفازات الأطفال، ولا توضع في مشاهد يُمكِن، عندما تؤخذ خارج سياقها، أن تبدو مُسيئة. ولكن، ليست هذه طريقة للكتابة. العبء ثقيل للغاية، واختبار الذات يبعث على الشلل. النتيجة الطبيعية لهذا النوع من النقد الذي تُمارسه [واشنطن] بوست أنّه في المرة القادمة، لن أستخدم أي شخصية سوداء، خوفاً من أن تفعل أو تقول أي شيء غير باعثٍ على الإعجاب أو محبباً.
في الواقع، لقد ذُكرت برسالة تلقيتها بخصوص روايتي السابعة من شخص أرمني-أمريكي معترضاً: لماذا كان علّي أن أجعل راوية ينبغي أن نتكلم عن كيفن أرمنية؟ لم يُحب راويتي، وشعر بأنّ قوميتها قد أساءت لمجتمعه. وقد بذلت جهداً كبيراً لأشرح له أنّني أعرف شيئاً ما عن التراث الأرمني، لأن أعز صديقاتي في الولايات المتحدة أرمنية، كما أنّني اعتقدت أنّه ثمّة شيء مُظلم وساخط في ثقافة الشتات الأرمني كان مُلائماً لأجواء الكتاب. وكذلك، فقد يئست، لكُل شخصٍ في الولايات المتحدة خلفية عرقية ما، وكان على الشخصية أن تكون شيئاً ما!
ذكرني تذمُر شرايفر بكاتب عربي آخر، يمنع قراءه من النقاش فيما يكتبه بحُجة أنّ لغطهم يُمرضه. شرايفر تتعمد تجاهل الاعتراضات الموجهة للصور العُنصرية التي تتضمنها كتاباتها، وتُصِر على أنّ نُقادها يُطالبونها بتقديم شخصيات سوداء ملائكية، وهذا حرفٌ مُتعمد للكلام كُله. ليت أنّ لويلا، المرأة السوداء المسكينة، قد فعلت شيئاً، ولو حتى سيئاً، في روايتها، لكن لويلا لا تعقل لتفعل أو تقول. لويلا مجرورة بحبل ومقتولة.
ثمّة تعبيران في هذه القطعة من خطاب شرايفر يدُلان بوضوح على الموقف الفكري الذي تتخذه: "إذا اخترنا أن نستورد ممثلين عن الجماعات المحمية" "If we do choose to import representatives of protected groups" الذي تستخدم فيه مصطلح "استيراد" الذي يوحي بالاغتراب والاختلاف، و"ممثلين" بمعنى أنّها تعتقد حقاً أنّ الشخصيات التي تُقدمها مُمثلة عن المجموعات التي تنتمي إليها، وليست مُجرد شخصيات تخيلتها من دون أن يكون لها صلةٌ مُباشرة بجماعة حقيقية، و"الجماعات المحمية"، الذي يوحي بأنّها تعتقد أنّ أي جماعة ذات صوتٍ يُمكنها من الاعتراض على استيراد مُمثلين بشكلٍ عُنصري عنها، هي جماعة محمية، مثل الحيوانات المُهددة بالانقراض.
التعبير الآخر: "كما أنّني اعتقدت أنّه ثمّة شيء مظلم وساخط في ثقافة الشتات الأرمني كان مُلائماً لذلك الكتاب." "and I also thought there was something dark and aggrieved in the culture of the Armenian diaspora that was atmospherically germane to that book." الأمر الذي يجعل رواية ينبغي أن نتحدث عن كيفن عُنصرية بأثرٍ رجعي، بعد أن مرّت أرمنية الأُم على أنّها خلفية إثنية مختلفة عن السائد، فحسب. شرايفر ترى أنّ الشتات الأرمني يحوي على عُنصر مُظلم وساخط، مما يخدم كتابها، الأمر الذي يجعله كتاباً يُمارس الاستغلال الثقافي بأقدم صوره وأبشعها، فمثلها مثل كُتاب القرن التاسع عشر الذين كانوا يستحضرون الهنود الحمر والصينيين والسود لإضفاء عُنصر من الظلام والخطر والغموض والترقب على أعمالهم. كما أنّه يُحول طبيعة كيفن الغامضة وغير المفهومة إلى تجسد لشيء ما مظلم وساخط في ثقافة لم تشتهر بإنتاج سفّاحين على المستوى الذي يُمثله كيفن، الفتى الأمريكي الذي يرتكب مذبحة بحق زملائه من الطلبة.
جِس رو، وهو كاتبٌ أبيض، كتب في صحيفة نيو ريبوبلك، إنّ الكُتاب البيض مثل شرايفر - التي قارن بين موقفها وموقف كاتبٍ أمريكي أبيض آخر هو جوناثان فرانزن الذي يرفض كتابة أي شخصية من مُحيط خارج مُحيطه الشخصي - يعتقدون أنّهم في حُلمٍ ذاتي. لا أحد يُحِب أن يحلم حُلماً جميلاً ثم يستيقظ منه فجأة وهو لم يُكمل أحداثه، أو تتدخل مؤثراتٌ خارجية وتجعله يتلاشى أو يتغير. يخلق هذا شعوراً بالإنزعاج. يرى روس أنّ هؤلاء الكُتاب يرون النقد تهديداً لهم، لأنّه يُقاطع العالم الذي يتخيلونه، ويخلو دوماً من الأصوات المُضادة والأفكار المُخالفة لهم.
وهذه خُلاصة الزوبعة: ما يُطالب به هؤلا الكُتاب ليس حُريتهم في التعبير - التي لم تُمس - بل حصانة من النقد والاختلاف، وهذا، بحد ذاته، مُصادرةٌ لحق قُراء كُتبهم في التعبير عن آرائهم الخاصة في ما يقرأونه، وتحجيم لأفكارهم وردود أفعالهم. ما يُريده الكُتاب الذين يُفكرون بهذه الطريقة أن يقتدوا بالقرون الماضية، ويُنتجوا كتابات عُنصرية، ويحظوا بالشهرة والمديح، وتُسبغ عليهم الألقاب من قبيل "ضمير الأمة" و"المُدافع عن حقوق المقهورين" كما كانت تُسبغ على الكُتاب البيض الذين كانوا يتفضلون بتقديم شخصية من الفئات المقهورة بشكلٍ شِبه آدمي. لكن المقهورين لم يعودوا عبيد إحسان أحد.