07 يونيو 2010

أفندية وفلاحون

مُنذ أيامٍ شاهدتُ فيلم عمارة يعقوبيان بالمصادفة، وكُنت قد عزفتُ عن مشاهدته من قبل لكمية الدعاية المهولة التي أحاطت به، فالكثير من الدعاية يضر من مبدأ أن كل ما زاد عن حده انقلب ضده. وجدتُ الفيلم جيداً - بمقاييس الصنعة - فعناصره حاضرة من سيناريو وتمثيلٍ وإخراج وتصوير ومونتاج على خلافِ السائد في السينما المصرية حالياً. صحيحٌ أن في الفيلم سقطاتٍ مروعة مثل يُسرا - والدور الذي فصله وحيد حامد على مقاسها ومن أقنعوها بأنها تستطيع أن تغني، إلا أن طاقم التمثيل - بشكلٍ عام - كان ممتازاً، والسيناريو كان مترابطاً. ورغم أن مروان حامد قد ضيع فرصة تصوير مشاهد مهمةٍ مثل المظاهرة بشكلٍ جيد، ونسي الكاميرا في بعض الأحيان، إلا أن عمله في الفيلم كان جيداً؛ باستثناء تكوينٍ فني لا يُمكن (ابتلاعه) أبداً، فعندما يقتل طه الضابط الذي اعتدى عليه، ويقتله الضابط، يسقط الاثنان معاً مضرجين بدمائهما: الضابط يسقط فاتحاً ذراعيه في وضعية المصلوب – أو تحليق النسر – التي توحي بالاستشهاد البطولي والانعتاق والاستعداد لمعانقة السماء، بينما يسقط طه مكوماً تحت إبط الضابط، مكتف اليدين. المُفترض في الفيلم أن الضحية طه، لذلك فإن التكوين كان ينبغي أن يكون معكوساً، فيفتح ذراعيه بينما يتكوم الضابط (الجلاد) على نفسه. لم أستطع قبول هذا التكوين ولا بأي منطق، وعكر ذلك متابعتي للفيلم.
يفضح الفيلم النفاق المستشري في حياتنا كلها، فمجلس الشعب المصري قد أثار ضجةً هائلة حول شخصية الصحفي الشاذ حاتم رشيد (خالد الصاوي)، حتى خُيِّلَ إلّي أن الفيلم صار الإصدار المصري من جبل بروكباك - رغم أنني قد قرأتُ الرواية من قبل. بينما لم يُقدم الفيلم شخصية حاتم رشيد بأيِ أسلوبٍ متعاطف، إذ أنه يتحول إلى عظةٍ وعبرةٍ للشخصيات في الفيلم، ويوفر وسيلة للضابط لتهديد الصبي طه: سنجعل منك حاتم رشيد. هُناك تتابعٌ مشوش في الفيلم حولَ طفولته نفهم منه أنه عاشَ طفولةً تعيسة في بيتٍ متفسخٍ أخلاقياً، وتعرض لاعتداءات من الخدم أدخلته في زمرة المرضى النفسيين. الفيلمُ لم يُقدم أيَ تصورٌ للشخصية يُمكنه أن يُحنق مجلس الشعب الذي يُخيل لي أحياناً أنه قد نسي كُل مشاكل البلد وتفرغ للسينما والتلفزيون. (في إشارة ذكيةٍ، يتحدث محمد عزام (نور الشريف) في أول ظهورٍ له في مجلس الشعب عن التلفزيون وإباحيته التي تدخل البيوت). كما أنه ينتهي قتيلاً، وفي هذا عبرةٌ أخلاقية تردع كُل من تسولُ له نفسه سلوك هذا الطريق.
شخصيةُ حاتم رشيد لم تكن مؤثرة بالصورةِ التي أرادَ لها المهللون أن تكون، لكن هُناكَ عنصراً مثيراً للاهتمام في علاقته بالمجند الشاب عبد ربه (باسم سمرة) يُذكِرُ بشخصية أشرف عبد الباقي في فيلم الإرهاب والكباب. أشرف عبد الباقي فلاحٌ يُجَنَدُ لخدمة وطنه، وفي القاهرة يتحولُ إلى خادمٍ عند أحد (الباشاوات) الجُدد من ضباط القاهرة. باسم سمرة فلاحٌ - أيضاً - يُجند لخدمة وطنه، وفي القاهرة يلتقطه أحد (البكوات) ويحوله إلى خادمٍ عنده خالعاً عنه كُلَ ما يؤمن به. الفلاحان فقيران في بلدٍ كبيرة، جاهلان برطانة الأفندية، والثورة قد أفرغت من معناها، فلا يزالُ أفندية القاهرة متربصين بالفلاحين الذين يرونهم أقل منهم، ولا يزال كل لصٍ متجبر يحمل ألقاباً مثل "بك" و"باشا".
لا يزالُ الفلاحون يُساقون إلى أقدارٍ مجهولةٍ، وكأن الزمن الذي يتغير لا يطالهم، فكلُ لصٍ قاهري يضطهدهم بشكلٍ ما: إن أشرف عبد الباقي لا يعني شيئاً لمضطهده سوى عامل سخرة، بينما يظن خالد الصاوي أنه اشترى باسم سمرة بماله - وإن كان يُنفق عليه الفُتات من باب أن المجند المسكين أفقر من حشرة، وأقل منه لأنه لا يفهم (رطانة) الأفندية بالفرنسية، والتواءاتهم في تفسيرِ ما يؤمن به. صحيحٌ أن الفلاحين يتمردون آخر الأمر، لكن هذا لا يمنع الأفندية من استغلال أولِ فلاحٍ يرونه في القاهرة، ولا يمنعهم من تهجير الفلاحين من أرضهم بالقوة، وتركها للبوار، ولا يمنعهم من العبث بحيواتهم بمنطقٍ عنصري أبغض ما فيه أن الجميع يراه طبيعياً.
بالعودة إلى التكوين الفني الذي رأيته (خاطئاً) في بداية التدوينة، فإنه الآن واضح: الضابط "بك" جديد من "بكوات" القاهرة، والعاملون في الفيلم من أفنديتها، بينما الضحية (طه الشاذلي) واحدٌ ممن سحقتهم عربة الثراء القاهرية، وقد يكون ابن فلاحٍ جاء إلى القاهرة ليعمل حارس عقار. لا يوجد خللٌ إطلاقاً في صنعة المخرج المتقنة المخلصة لطبقته.
هكذا، يبدو التساؤل عن سر تجاهل السينمائيين المصريين لمجزرة دنشواي غير مبررٍ، فلا أحد يُمكنه أن يُطالب النازيين بتصويرٍ فيلم عن الذين قضوا في معسكرات اعتقالهم!