26 فبراير 2010

تيرا ليرا

(سيدة شالوت، سيدني متيارد)

ما أخرج سيدة شالوت من برجها الرمادي في جزيرة شالوت كان صوتاً، وما حبسها فيها كان صوتاً. فبالإضافة إلى الصور البصرية الجميلة فيها، تمتاز القصيدة بصورها الصوتية المتناسقة مع مشاهدها لتكوين التأثير الكلي الموحي بالقدر الذي يعصف بالفنان. بنية القصيدة الظاهرية رُباعية، حيث تنقسم إلى أربعة أقسام، كل قسمٍ فيها يضم مجموعاتٍ من أربعة أسطر تنتهي بكلمات: شالوت، كاميلوت، أو لانسلوت بشكلٍ يحافظ على إيقاع القصيدة الهامس في ترجماتها.
تصف بداية القصيدة جزيرة شالوت والطريق إلى كاميلوت كما يظهر في مرآة سيدة شالوت، لكنها لا تظهر نفسها إلا في آخر مقاطع القسم الأول، عندما يسمع الحصادون أغنيتها، ويعتقدونها جنية:
وَحْدَهُمِ الحَاصِدُون؛ الحَاصِدُونَ مُبْكِرَاً
عَبْرَ حُقُولِ الشَعِيْر سَمِعُوْا أُغْنِية
يتردد صداها بهيجاً واضحاً،
من النهر الملتف
مُتجهاً إلى كاميلوت.
وبحلول القمر، تهمس الحصادة
التي أنهكها جمع الحُزم في
الأكوام المعرضة للهواء، مصغية،
"هذه هي الجنية،
سيدة شالوت."
صوت سيدة شالوت - الذي لا يُمكن وزنه أو تحديد طوله وعرضه وارتفاعه - الدليل الوحيد على وجودها، لأن أحداً لم يرها من قبل. لكن الصوت الذي يتردد بشكلٍ غامض يُجردها من كيانها المادي ويحولها إلى جزء من السحر. وصوتٌ غامض لا تعرف مصدره - ولا تصرح به القصيدة - حبسها رهينة الظلال التي تنسجها ليلاً ونهاراً.
هناك تنسج في الليل والنهار
نسيجاً سحرياً بهيج الألوان.
سمعت همسة تقول؛
أن اللعنة ستحل عليها
إن هي أبداً نظرت إلى الأسفل
حيث كاميلوت.
لم تعرف أبداً ما قد تكونه اللعنة،
لذا استمرت تنسج بثبات وعناية،
سيدة شالوت.
بنفس المنطق الذي جعل سيدة شالوت جنية في خيال الحصادات لأنهن لم يرينها بل سمعن صوتها، أذعنت للصوت الذي همس لها بأن لعنة ستحل عليها إن هي نظرت من النافذة، رغم أنها لا تعرف مصدره، ولا تعرف ما قد تكونه اللعنة التي ستحل عليها. بقيت في جزيرتها الصامتة تنسج وتغني، الصوت الوحيد الذي تسمعه - عدا صوت اللعنة - صوتها الذي يصل إلى الحصادات، ولأنها لا تسمع غير صوتها، فإن كل الصور التي تعكسها المرآة تصير ظلالاً خالية من الروح، لأنها مشاهد صامتة.
والذي أخرج سيدة شالوت من الجزيرة لم يكن مرأى سير لانسلوت، بل صوته، فوصفه الذي يستغرق معظم القسم الثالث من القصيدة لا يلفت اهتمام سيدة شالوت، بل الصوت الذي ينبعث منه ويبدد صمت الجزيرة:
برق اللجام المرصع بالجواهر،
شبيهاً بفروع النجوم
المُعلقة في المجرة الذهبية.
دقت أجراس اللجام مرحة،
بينما ركب إلى كاميلوت.
شدهت أجراس اللجام سيدة شالوت، وربما لذلك صمتت ولم يسمعها سير لانسلوت. تستمر القصيدة في وصف مرآه الجميل:
كالغالب عبر الليل الأرجواني،
تحت عناقيد النجوم اللامعة،
بعض من شهاب مُتحدٍ، ضوء متثاقل
يتحرك فوق الساكنة شالوت.
اتقد جبينه العالي في نور الشمس،
على حوافره الصقيلة تقدم حصانه الحربي،
من تحت خوذته تدفقت
خصلات شعره الفاحمة بينما ركب؛
ركب إلى كاميلوت.
لكن ذروة المشهد لم تأتِ إلا حين غنى سير لانسلوت نفسه، فوميضه في المرآة لم يُحرك سير لانسلوت، بقدر ما حركتها أغنيته:
من الضفة ومن النهر
ومض في المرآة البلورية،
"تيرا ليرا"، قرب النهر
غنى سير لانسلوت.
صوت سير لانسلوت الصوت الوحيد الذي سمعته سيدة شالوت بعد صوت اللعنة، لذا كانت لأغنيته المرحة قوة تعادل قوة اللعنة جعلتها تترك المغزل والنسيج، وتعبر الغرفة لتطل من نافذتها مباشرة:
تركت النسيج، وتركت المغزل،
عبرت ثلاث خطوات عبر الغرفة،
رأت زنابق الماء تُزهِر،
رأت الخوذة والريشة،
ونظرت هناك إلى كاميلوت.
لم ترَ سيدة شالوت سير لانسلوت، بل خوذة وريشة، لكنها نظرت إلى كاميلوت التي لم ترَ من قبل غير أبراجها العالية في مرآتها. جاء صوت سير لانسلوت نداء للخروج يُلغي الصوت الذي حبسها في الجزيرة، ويجبرها على النظر إلى المكان الذي ينبغي أن تكون فيه.
تطاير النسيج عائماً في الهواء،
تصدعت المرآة من طرف إلى طرف،
"حلت علي اللعنة!"
صاحت سيدة شالوت.
تطاير النسيج في كل مكان لأن عالم سيدة شالوت القديم قد انقلب، وتصدعت مرآتها من طرفها إلى طرفها الآخر دلالة على انكسار السحر إلى الأبد، لقد حلت اللعنة على سيدة شالوت، وطُردت من جنة الظلال الصامتة إلى العالم الحقيقي حيث ينبغي أن تذهب إلى كاميلوت وتكشف للعالم عن وجودها وتجابهه.
حين تعثر سيدة شالوت على مركب، فإن أول ما تفعله أن تكتب اسمها على مقدمته ليعرف العالم من تكون. ثم تخرج في النهر تتلاعب بها الريح التي تحمل أغنيتها الأخيرة إلى كاميلوت المشغولة بمباهج الحياة فيها عن مأساة سيدة شالوت التي غادرت جزيرتها الصامتة. تموت سيدة شالوت في أغنيتها، وتصل إلى كاميلوت ميتة فتنطفئ كل أصوات البهجة، ويخاف الفرسان والسيدات والسادة من دخول سيدة شالوت الميتة في قاربها، ويصطفون على ضفة النهر كأنهم يُلقون النظرة الأخيرة على جثمان ملكة عظيمة. ثم تأتي الخاتمة باعتراف سير لانسلوت بوجود سيدة شالوت، وبالبهاء الذي منحها الله إياه.
يُمثل سير لانسلوت في هذه الحكاية الشخص المتمتع بمباهج الحياة، الشخص الحقيقي الذي يُريد الفنان الوصول إليه، ويُمثل كل ما يفتقده في سجنه المنسوج من الظلال. كاميلوت - التي تصلها سيدة شالوت ميتة - الحياة التي تؤثر فيها بأغنيتها وبحضورها النهائي المؤتلق بحيث يصير وصولها حدثاً تتوقف عنده كاميلوت بأكملها، بعد أن تردد صدى أغنيتها. ما يختتم القصيدة صوتٌ أيضاً: اعتراف لانسلوت:
وحده لانسلوت من أطرق هنيهة،
قال: "إن لها وجهاً جميلاً،
وهبه الله من رحمته البهاء،
سيدة شالوت."
الصوت مثل الاسم، حضورٌ مجرد يبقى بعد زوال المجسد من لحمٍ ودم، مثل الريح التي قال بريشت إنها وحدها ما يبقى من المدن التي عبرتها. شيء لا يُمكن أن يقبضه أحدٌ، كالأحلام التي يُطاردها الفنان طوال حياته. ما بقي يشهد على مرور سيدة شالوت ليس سوى صدى صوتٍ وظلالٍ واسم.

لورينا مكنيت تغني القصيدة من يوتيوب.
عرض للوحات جون ويليام ووترهاوس، وفي الخلفية كورال فرانشيسكو لانديني: "وداعاً، أيتها السيدة الجميلة! وداعاً!".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق