فعلاً، شهر رمضان يهلُ بالبركات، وكل عامٍ وأنتم بخير - ولو جاءت مُتأخرة.
مشكلة رمضان أن الجميع يحاولون إنجاز أعمالهم قبله، فيتراكم العملُ فوقَ العمل، ويتأجل كُلُ شيءٍ إلى الشهر الفضيل. ينتج عن ذلك زحام أشغالٍ قبل الشهرِ، وفي نصفهِ الأول، ثم يتحول جزءٌ من نصفه الأخير إلى سباقٍ مع الوقتِ لإنهاء ما يُمكن إنهاؤه قبل أن تدخل العاصمة في طورِ الموتِ العيدي الذي يتكرر مرتين في العام، ويُحوِلُ صنعاء إلى منطقة أشباح تفوق ما تخيله ت. س. إليوت في الأرض اليباب.
مع ذلك، فإن للعمل في رمضان مُميزاتٍ لا يُمكِنُ نكرانها.
بساط الريح يُستخدم لمرة واحدة فقط
عادةً، تستغرق المسافة من عملي إلى الجامعة نصفُ ساعةٍ تقريباً، أو يزيدُ عن ذلك قليلاً. في أوقاتِ الذروة، فإن الوصول إلى الجامعة يُعدُ ضرباً من المعجزات. هكذا، ركبتُ سيارة الأجرةِ بنفسٍ مُستسلمةٍ لقضاء الله وقدره، وأنا أجهزُ نفسي للبقاء في الاختناق المروري ساعةً أو أكثر. غير أنني فوجئتُ بأن الرحلة كانت سريعة كأنني ركبتُ بساط الريح، من عملي إلى الحرم الجامعي الجديد في سبع دقائق، مروراً بجسر الاختناقات المرورية الشهير، وبالحرم القديم، وفي الساعة الثانية عشرة ظهراً! فرحتُ بالمعجزة واستبشرت خيراً.
كان ذلك قبل دخول الحرم الجديد للجامعة، والجامعة - كما جاء في الأثر - مكانٌ داخله مفقود، والخارج منه مولود. هكذا وُلدت من جديد في الثالثة وروحي تكاد تزهق، لأفاجأ السيارات على مد البصر وقد توقفت تماماً عن الحركة - كأنها أمام المستشفى الجمهوري في ظهيرة يوم عادي. وصلتُ بسهولةٍ إلى سيارة أجرة - إذ أن كل السيارات متوقفة كأنها في معرض سيارات، وبدا لي أنني سأفطرُ فيها، فالاختناق المروري قد تطور إلى ما لا يُحمد عقباه، وصرنا في مواجهة موتٍ مروري. لكنني لم أضطر للفطر في الشارع - والحمد لله - إذ أن هناك التفافة جانبية وجدتُ منها الطريق إلى بيتنا بعد ساعةٍ فقط.
فوائد الموت المروري
غير أن ذلك لم يكن مصير الكثيرين من معارفي، إذ رُفِعَ أذان المغرب وهُم في الطرقات، فتعرضوا لقصفٍ مدفعي بالتمر من الأطفالِ والشباب الذين ينتظرون على حافات الطرقات ليقصفوا السيارات المارة بما تيسر طلباً للأجر. القصف الغذائي شكلٌ مفيدٌ جداً من أشكالِ التكافل الاجتماعي، خصوصاً وأن الميتات المرورية قرب أذان المغرب تستغرق عدة ساعاتٍ في الإنعاش لتتمكن السيارات من التقدم شبراً. ومع تنامي ظاهرة الرياء الاجتماعي و(الفشر)، فإن كل مفطري الصائمين يرغبون في الأجر من الرحمن وكسر عين الجيران معاً، لذلك يُلقون على رُكاب السياراتِ تمراً، وزجاجات ماءٍ وعصيراً، وعلباً مليئة بالشوربة والعتر والفلافل والقطايف والكنافة والرواني والشعوبيات وكل ما لذ وطاب من أصناف الطعام، حتى أن بعضهم يُلقي بعلب لحم حنيذ أو مظبي أو ما شابه.
ونستفيد من ذلك أن للموتِ المروري فوائده، كما أن للفشر فوائده.
ماراثون المسلسلات الهلالية
أما الناجون في بيوتهم، ممن لم تتقطع بهم السُبل في الطرقات، فقد وقعوا ضحيةً للتلفازِ في بيوتهم، مع قنواته الألف ومائتين التي تعرض مسلسلاتٍ من دون توقف. في ليلة رمضان، كنت أحاول إنجازِ بعض أعمالي قبل أن يبدأ الشهر رسمياً، وإذ بي أفاجأ بأخي يناديني: "بسرعة! بسرعة! جمال مروان حقق وعيده وفتح ميلودي دراما!" من باب الفضول، ذهبت لأشاهد ما يجري، فإذا بالحملة الإعلانية الشهيرة لميلودي دراما تؤتي أُكلها في صورة ماراثون مسلسلات يُريد السيد مروان إحراقها قبل عرضها على بقية القنوات. بدأ الماراثون بمجرد إعلان رؤية الهلال، وهُناك من يقول إن التلفزيون المصري كان صاحب (الريادة) في ماراثون المسلسلات بمجرد رؤية الهلال، وإن هذه المُمارسة شائعة منذ أعوام، لكنها اكتسبت زخماً جديداً مع حملة "ميلودي تتحدى قلة الأدب" الشهيرة.
كده أوفر يا عُلا!
كُنت أسمع دائماً كلمة "أوفر" تُقال في مواقف عديدة، وأعرف أنها تُستخدم لذم المبالغة، غير أنني لم أصادف موقفاً يُمكن أن أستخدم فيه كلمة "أوفر" من قبل، حتى شاهدت مسلسل عايزة أتجوز. كنت قد قرأت المدونة، وتحمست للكتاب، وشعرتُ بأن رحلة نجاح غادة عبد العال مُلهمةٌ للكثيرات - والكثيرين - وأن علّي أن أؤدي واجبي تجاه الساعين للنجاح بتشجيعهم ما استطعت. لهذه الأسباب، كان مسلسل عايزة أتجوز المسلسل الوحيد الذي انتظرته في رمضان وعزمت على مشاهدته، وزاد من عزمي اشتراك هند صبري وسوسن بدر في التمثيل.
قبل رمضان، قرأت تعليقاً من قارئة مجهولة على خبرٍ يتعلق بالمسلسل، يقول ما مفاده أن "إحنا مش ناقصين حد جديد يهزأنا"، واعتبرت ذلك نوعاً من الحكم المُسبق على عملٍ يبدو أنه كوميدي وظريف، ويجسد قصة نجاح من تقف وراءه. غير أنني الآن أتفق تماماً مع القارئة المجهولة. لقد كانت المدونة جيدة، والكتاب جيداً، أما المسلسل، فأعتقد أنه: "كده أوفر يا .....!"
في المدونة، كانت الأحداث تُروى من وجهة نظرٍ واحدة، ومع أن المسلسل بقي مُخلصاً لوجهة نظر الشخصية الرئيسية، عُلا عبد الصبور (هند صبري)، إلا أن طبيعة الدراما جعلت تفاعل الشخصية الرئيسية حتمياً مع الشخصيات المحيطة بها، وهُنا بان ما ستره السرد. عُلا عبد الصبور شخصية لا تصلح للتناول الدرامي: إنها أنانية، سطحية، تافهة، إلى آخر كم الصفات الذي يُمكن أن يُرصَ في جملةٍ واحدة.
السبب الوحيد - الظاهر للمشاهد - لرغبة عُلا في الزواج أن تُغيظ صديقاتها وصديقات أمها. إنها ليست مستعدة لأن تفرح لفرحة الآخرين، أو تحزن لما أصابهم، وكل ما يُهمها أن ترتدي الدبلة والطرحة وتغيظ من حولها. مشكلة عُلا أنها لا تتعظ من الورطات التي تقع فيها. عُلا لا تمتلك أي جانبٍ نبيل - بل إنها مستعدة للتسبب في طلاق أبويها ما دام طلاقهما سيجلب لها عريساً! ليس في القصةِ أي لمحةِ نُبل، والبحث عن عريس لا يصلح محوراً لصراعٍ درامي. كُل ما تمخضت عنه (هليلة) عايزة أتجوز لا يتجاوز مجموعة إسكتشات فارس تؤدي عكس المطلوب في كثيرٍ من الأحيان، فتكتم أنفاس المشاهدين غيظاً، لا ضحكاً.
كيف يُمكن التعاطف مع عُلا التي تُريد أن تتزوج ضابطاً لمجرد أن تُذِلَ الناس؟ أو طبيباً لمجرد أن تُغيظ صديقتها؟ صحيح أن هُناكَ شخصياتٍ كثيرةٍ في الحياة بهذا الشكل، لكن الدراما ليست الحياة اليومية، ويجب أن يكون للشخصية الدرامية ما يجعلها قابلةً لأن تُصدّق، وقابلةً لأن يتعاطف معها المُشاهِد. إن عُلا ليست الشخص الذي نتمنى أن نكونه ولا نستطيع لفرط فضيلته، وليست الشخص الذي نريد أن نكونه ونخشى العواقب، وليست الشخص الذي لا نريد أن نكونه لكنه يجذبنا بدوافعه الشخصية الخاصة، إنها ببساطة الشخص الذي لا نريد أن نكونه لأنه أتفه مما يُمكن احتماله. الدافع الدرامي الذي يُحرك الشخصية - والشخصيات المحيطة - غير مُقنع، ولا يُمكن قبوله. إنه ببساطة تهويمٌ ركيك مُبالغٌ فيه لا يسخر، وإنما يستهزئ.
مع ذلك، يحسب للعمل التمثيل الجيد فيه - خصوصاً سوسن بدر، وأسلوب المخرج المناسب للعرض، ووجهة نظر الشخصية الواحدة غير المعتادة في الدراما العربية. ما تبقى يبعد درجة واحدة - فقط - عن المهزلة.
المجد للقنوات الحكومية!
قناة نايل كوميدي حكومية، ومع ذلك فإنها تبدو أكثر القنوات قابلية للمشاهدة، ببرامجها الكوميدية العديدة التي قد تجذب أي متابعٍ يفهم اللهجة المصرية، ويعرف قليلاً عن الوضع في مصر. يدلنا هذا بوضوح على فائدة نسيان القنوات من قبل قادة ماسبيرو، فلولا أنهم نسوا نايل كوميدي - وأخواتها - لما أنتجت برنامج أسعد الله مساءكم بكل النقد السياسي والاجتماعي المبطن فيه. أسعد الله مساءكم يمتاز بثقل دم مقدمه سيد أبو حفيظة و(غلاسته) الشديدة التي جعلته يتقدم على البرامج في فئته. صحيح أن بعض حلقاته (غلسة) فعلاً، لكن البرنامج جيد إجمالاً.
كذلك، يُعرض على القناة مسلسل الكبير من بطولة أحمد مكي ودنيا سمير غانم - من دون ماجد الكدواني، عن شقيقين توأمين لأمٍ أمريكية وأبٍ صعيدي، أحدهما تربى في أمريكا والآخر في الصعيد. يبدو لي المسلسل - وشخصية الكبير خصوصاً - من نتائج القسم الثاني في فيلم طير انت، حين يصير أحمد مكي عمدة في الصعيد. المسلسل خفيف الدم، وفيه مبالغاتٌ، لكنها مبالغاتٌ كوميدية مقبولة، لا تشبه كوارث عايزة أتجوز. أغنية البداية في المسلسل أفضل ما فيه - تقريباً - خصوصاً وأنه يخلو من حبكةٍ متماسكة و(قصة) مثل مسلسل عايزة أتجوز، وأفلام أحمد مكي.
هناك برنامج صعيدي آخر على القناة اسمه صعايدة سات، وجدته ثقيل الدم. على أي حالٍ، صعايدة سات أهون من برنامج كل كلام فاضي معقول الذي لم أجد له معنى ولا فائدة ولا سبباً، حتى اهتديت إلى أن كمية التحريك فيه والشخصيات تؤدي عمل Demo Reel حي للقائمين على الغرافيكس والتحريك في القناة، إذ أنهم لن يمضوا بقية أعمارهم في قناةٍ حكومية، ومن دون شكٍ يُريدون أن تلتقطهم إستوديوهات مرموقة.
ليرقد أبو شهابٍ بسلام!
بعد انقطاعي عن مشاهدة باب الحارة في الجزئين السابقين، للأسباب المكتوبة هنا، عُدت هذا العام لأشاهد الجزء الأخير. ومع جل تقديري لمحبي الفقيد أبو شهاب، فإنني أعتقد اعتقاداً قوياً بأن حال المسلسل أفضل بكثير من دون عنتريات أبو شهاب وشواربه المبرومة. لحسن الحظ، فإنه قد قُتِل رسمياً في هذا الجزء ودُفِن - وإن كان أبو عصام سيعود للمسلسل كما يليق بأي فيلمٍ هندي.
دخول مأمون بيك (فايز قزق) إلى المسلسل جعله مثيراً للاهتمام، خصوصاً مع أداء قزق الممتاز. أما أم جوزيف (منى واصف) فتؤدي خدماتٍ ممتازةٍ لنساء حارة الضبع بعد أن ساعدت رجالها. المساحة الممنوحة للشخصيات المهملة في الأجزاء السابقة جعلت هذا الجزء أفضل بكثير من سابقه. كذلك فعلت الكاميرا التي أُطلِق سراحها لتتحرك بحرية أكبر في المساحات العمرانية وبين الشخصيات.
فقط، أتمنى أن يكون القائمون على المسلسل عند كلمتهم، وأن تنتهي المسألة في هذا الجزء.
المشاهدة بتصويت جماعي
ولأن المسلسلات المُشاهَدَة تُقرَر بتصويتٍ جماعي، فلم أستطع مشاهدة زُهرة وأزواجها الخمسة والجماعة الذين أسمع عنهما كثيراً. فيما يخص المسلسل الأخير، فلا يزال المرء بحاجة إلى مرارته. أما الأول، فكنت أريد مشاهدة حسن يوسف يعود إلى تمثيل المسلسلات العادية بعد (شوطة) المشيخة التي أصابته. أتساءل، هل يُشبه ظهوره في زُهرة ظهور محمود الجندي - الذي لا تعليق عليه - في عايزة أتجوز؟
نستنتج من ذلك أن أكثر من يُجعجع بشأن رداءة مستوى المسلسلات وخطرها على (القيم) يعود في أردأ الأدوار.
قالوا مجنون.......
الذي يتابع الإعلان، طبعاً!
كنت أشاهد التلفاز ببراءة في أحدِ الأيام، وإذ بيسرا تظهر علّي فجأة من الشاشة نائمة فوق بيانو - لا تعليق - وتغني، فتساءلت: "هل توقفت يُسرا عن إعلانات السيراميك لتعلن عن معاجين الأسنان؟" وإذا بأحمد عز يليها، مع أنه في (عز) شبابه. قبل أن أفيق من الصدمة، ظهرت هند صبري، ثم عزت أبو عوف، ثم دنيا سمير غانم. ولم تتوقف المسألة عند ذلك، فظهر أيضاً محمد منير، الفنان (المثقف). لقد انكشفت المسألة، فشركة اتصالات تُعلن للجمهور عن قدرتها على أن (تذله) بفلوسها، وتجمع كومة من النجوم في إعلانٍ واحد بالكيلو. لذلك أنتجت الشركة إعلاناً آخر حقيقياً من بطولة ماجد الكدواني، عن خدمة تقدمها. وما أستغربه حقاً المبالغ الهائلة التي تنفقها على إعلاناتها، بينما كان من الممكن أن تحسن خدماتها!
هناك إعلانٌ آخر - لا تعليق عليه - يظهر فيه أحمد حلمي ومنى زكي. هذا الإعلان علامة فارقة في عالم إعلانات السيارات، لأنه أول إعلانٌ لا يُركز على القوة والفخامة، أو السرعة والمظهر. لا أعرف حقاً من سيشتري السيارة في الإعلان، لكنه مثل الذي سيشترك في اتصالات ويعرف نفسه لأن أغنيتها خاطبته بصفته.
توجد مدرسة أخرى في الإعلان تسمى مدرسة الضرائب - نسبة إلى إعلانات مصلحة الضرائب - أو مدرسة دون كورليوني - نسبة إلى الأب الروحي - وإليها تنتمي إعلانات بنك مصر التهديدية التي تريك الهوائل، ثم تُختتم بالعبارة التهديدية: "عرض لازم تقبله"، وهذه عبارة لا تختلف عن عبارة الدون: "عرض لا تستطيع أن ترفضه".
بناء على ما تقدم، فقد تقرر تغيير خطاب مارتن لوثر كنغ الشهير، ليصير: "أحلم بعالمٍ يمكن لأطفالي فيه أن يشاهدوا التلفاز من دون التعرض لاضطهاد الإعلانات!"
مشكلة رمضان أن الجميع يحاولون إنجاز أعمالهم قبله، فيتراكم العملُ فوقَ العمل، ويتأجل كُلُ شيءٍ إلى الشهر الفضيل. ينتج عن ذلك زحام أشغالٍ قبل الشهرِ، وفي نصفهِ الأول، ثم يتحول جزءٌ من نصفه الأخير إلى سباقٍ مع الوقتِ لإنهاء ما يُمكن إنهاؤه قبل أن تدخل العاصمة في طورِ الموتِ العيدي الذي يتكرر مرتين في العام، ويُحوِلُ صنعاء إلى منطقة أشباح تفوق ما تخيله ت. س. إليوت في الأرض اليباب.
مع ذلك، فإن للعمل في رمضان مُميزاتٍ لا يُمكِنُ نكرانها.
بساط الريح يُستخدم لمرة واحدة فقط
عادةً، تستغرق المسافة من عملي إلى الجامعة نصفُ ساعةٍ تقريباً، أو يزيدُ عن ذلك قليلاً. في أوقاتِ الذروة، فإن الوصول إلى الجامعة يُعدُ ضرباً من المعجزات. هكذا، ركبتُ سيارة الأجرةِ بنفسٍ مُستسلمةٍ لقضاء الله وقدره، وأنا أجهزُ نفسي للبقاء في الاختناق المروري ساعةً أو أكثر. غير أنني فوجئتُ بأن الرحلة كانت سريعة كأنني ركبتُ بساط الريح، من عملي إلى الحرم الجامعي الجديد في سبع دقائق، مروراً بجسر الاختناقات المرورية الشهير، وبالحرم القديم، وفي الساعة الثانية عشرة ظهراً! فرحتُ بالمعجزة واستبشرت خيراً.
كان ذلك قبل دخول الحرم الجديد للجامعة، والجامعة - كما جاء في الأثر - مكانٌ داخله مفقود، والخارج منه مولود. هكذا وُلدت من جديد في الثالثة وروحي تكاد تزهق، لأفاجأ السيارات على مد البصر وقد توقفت تماماً عن الحركة - كأنها أمام المستشفى الجمهوري في ظهيرة يوم عادي. وصلتُ بسهولةٍ إلى سيارة أجرة - إذ أن كل السيارات متوقفة كأنها في معرض سيارات، وبدا لي أنني سأفطرُ فيها، فالاختناق المروري قد تطور إلى ما لا يُحمد عقباه، وصرنا في مواجهة موتٍ مروري. لكنني لم أضطر للفطر في الشارع - والحمد لله - إذ أن هناك التفافة جانبية وجدتُ منها الطريق إلى بيتنا بعد ساعةٍ فقط.
فوائد الموت المروري
غير أن ذلك لم يكن مصير الكثيرين من معارفي، إذ رُفِعَ أذان المغرب وهُم في الطرقات، فتعرضوا لقصفٍ مدفعي بالتمر من الأطفالِ والشباب الذين ينتظرون على حافات الطرقات ليقصفوا السيارات المارة بما تيسر طلباً للأجر. القصف الغذائي شكلٌ مفيدٌ جداً من أشكالِ التكافل الاجتماعي، خصوصاً وأن الميتات المرورية قرب أذان المغرب تستغرق عدة ساعاتٍ في الإنعاش لتتمكن السيارات من التقدم شبراً. ومع تنامي ظاهرة الرياء الاجتماعي و(الفشر)، فإن كل مفطري الصائمين يرغبون في الأجر من الرحمن وكسر عين الجيران معاً، لذلك يُلقون على رُكاب السياراتِ تمراً، وزجاجات ماءٍ وعصيراً، وعلباً مليئة بالشوربة والعتر والفلافل والقطايف والكنافة والرواني والشعوبيات وكل ما لذ وطاب من أصناف الطعام، حتى أن بعضهم يُلقي بعلب لحم حنيذ أو مظبي أو ما شابه.
ونستفيد من ذلك أن للموتِ المروري فوائده، كما أن للفشر فوائده.
ماراثون المسلسلات الهلالية
أما الناجون في بيوتهم، ممن لم تتقطع بهم السُبل في الطرقات، فقد وقعوا ضحيةً للتلفازِ في بيوتهم، مع قنواته الألف ومائتين التي تعرض مسلسلاتٍ من دون توقف. في ليلة رمضان، كنت أحاول إنجازِ بعض أعمالي قبل أن يبدأ الشهر رسمياً، وإذ بي أفاجأ بأخي يناديني: "بسرعة! بسرعة! جمال مروان حقق وعيده وفتح ميلودي دراما!" من باب الفضول، ذهبت لأشاهد ما يجري، فإذا بالحملة الإعلانية الشهيرة لميلودي دراما تؤتي أُكلها في صورة ماراثون مسلسلات يُريد السيد مروان إحراقها قبل عرضها على بقية القنوات. بدأ الماراثون بمجرد إعلان رؤية الهلال، وهُناك من يقول إن التلفزيون المصري كان صاحب (الريادة) في ماراثون المسلسلات بمجرد رؤية الهلال، وإن هذه المُمارسة شائعة منذ أعوام، لكنها اكتسبت زخماً جديداً مع حملة "ميلودي تتحدى قلة الأدب" الشهيرة.
كده أوفر يا عُلا!
كُنت أسمع دائماً كلمة "أوفر" تُقال في مواقف عديدة، وأعرف أنها تُستخدم لذم المبالغة، غير أنني لم أصادف موقفاً يُمكن أن أستخدم فيه كلمة "أوفر" من قبل، حتى شاهدت مسلسل عايزة أتجوز. كنت قد قرأت المدونة، وتحمست للكتاب، وشعرتُ بأن رحلة نجاح غادة عبد العال مُلهمةٌ للكثيرات - والكثيرين - وأن علّي أن أؤدي واجبي تجاه الساعين للنجاح بتشجيعهم ما استطعت. لهذه الأسباب، كان مسلسل عايزة أتجوز المسلسل الوحيد الذي انتظرته في رمضان وعزمت على مشاهدته، وزاد من عزمي اشتراك هند صبري وسوسن بدر في التمثيل.
قبل رمضان، قرأت تعليقاً من قارئة مجهولة على خبرٍ يتعلق بالمسلسل، يقول ما مفاده أن "إحنا مش ناقصين حد جديد يهزأنا"، واعتبرت ذلك نوعاً من الحكم المُسبق على عملٍ يبدو أنه كوميدي وظريف، ويجسد قصة نجاح من تقف وراءه. غير أنني الآن أتفق تماماً مع القارئة المجهولة. لقد كانت المدونة جيدة، والكتاب جيداً، أما المسلسل، فأعتقد أنه: "كده أوفر يا .....!"
في المدونة، كانت الأحداث تُروى من وجهة نظرٍ واحدة، ومع أن المسلسل بقي مُخلصاً لوجهة نظر الشخصية الرئيسية، عُلا عبد الصبور (هند صبري)، إلا أن طبيعة الدراما جعلت تفاعل الشخصية الرئيسية حتمياً مع الشخصيات المحيطة بها، وهُنا بان ما ستره السرد. عُلا عبد الصبور شخصية لا تصلح للتناول الدرامي: إنها أنانية، سطحية، تافهة، إلى آخر كم الصفات الذي يُمكن أن يُرصَ في جملةٍ واحدة.
السبب الوحيد - الظاهر للمشاهد - لرغبة عُلا في الزواج أن تُغيظ صديقاتها وصديقات أمها. إنها ليست مستعدة لأن تفرح لفرحة الآخرين، أو تحزن لما أصابهم، وكل ما يُهمها أن ترتدي الدبلة والطرحة وتغيظ من حولها. مشكلة عُلا أنها لا تتعظ من الورطات التي تقع فيها. عُلا لا تمتلك أي جانبٍ نبيل - بل إنها مستعدة للتسبب في طلاق أبويها ما دام طلاقهما سيجلب لها عريساً! ليس في القصةِ أي لمحةِ نُبل، والبحث عن عريس لا يصلح محوراً لصراعٍ درامي. كُل ما تمخضت عنه (هليلة) عايزة أتجوز لا يتجاوز مجموعة إسكتشات فارس تؤدي عكس المطلوب في كثيرٍ من الأحيان، فتكتم أنفاس المشاهدين غيظاً، لا ضحكاً.
كيف يُمكن التعاطف مع عُلا التي تُريد أن تتزوج ضابطاً لمجرد أن تُذِلَ الناس؟ أو طبيباً لمجرد أن تُغيظ صديقتها؟ صحيح أن هُناكَ شخصياتٍ كثيرةٍ في الحياة بهذا الشكل، لكن الدراما ليست الحياة اليومية، ويجب أن يكون للشخصية الدرامية ما يجعلها قابلةً لأن تُصدّق، وقابلةً لأن يتعاطف معها المُشاهِد. إن عُلا ليست الشخص الذي نتمنى أن نكونه ولا نستطيع لفرط فضيلته، وليست الشخص الذي نريد أن نكونه ونخشى العواقب، وليست الشخص الذي لا نريد أن نكونه لكنه يجذبنا بدوافعه الشخصية الخاصة، إنها ببساطة الشخص الذي لا نريد أن نكونه لأنه أتفه مما يُمكن احتماله. الدافع الدرامي الذي يُحرك الشخصية - والشخصيات المحيطة - غير مُقنع، ولا يُمكن قبوله. إنه ببساطة تهويمٌ ركيك مُبالغٌ فيه لا يسخر، وإنما يستهزئ.
مع ذلك، يحسب للعمل التمثيل الجيد فيه - خصوصاً سوسن بدر، وأسلوب المخرج المناسب للعرض، ووجهة نظر الشخصية الواحدة غير المعتادة في الدراما العربية. ما تبقى يبعد درجة واحدة - فقط - عن المهزلة.
المجد للقنوات الحكومية!
قناة نايل كوميدي حكومية، ومع ذلك فإنها تبدو أكثر القنوات قابلية للمشاهدة، ببرامجها الكوميدية العديدة التي قد تجذب أي متابعٍ يفهم اللهجة المصرية، ويعرف قليلاً عن الوضع في مصر. يدلنا هذا بوضوح على فائدة نسيان القنوات من قبل قادة ماسبيرو، فلولا أنهم نسوا نايل كوميدي - وأخواتها - لما أنتجت برنامج أسعد الله مساءكم بكل النقد السياسي والاجتماعي المبطن فيه. أسعد الله مساءكم يمتاز بثقل دم مقدمه سيد أبو حفيظة و(غلاسته) الشديدة التي جعلته يتقدم على البرامج في فئته. صحيح أن بعض حلقاته (غلسة) فعلاً، لكن البرنامج جيد إجمالاً.
كذلك، يُعرض على القناة مسلسل الكبير من بطولة أحمد مكي ودنيا سمير غانم - من دون ماجد الكدواني، عن شقيقين توأمين لأمٍ أمريكية وأبٍ صعيدي، أحدهما تربى في أمريكا والآخر في الصعيد. يبدو لي المسلسل - وشخصية الكبير خصوصاً - من نتائج القسم الثاني في فيلم طير انت، حين يصير أحمد مكي عمدة في الصعيد. المسلسل خفيف الدم، وفيه مبالغاتٌ، لكنها مبالغاتٌ كوميدية مقبولة، لا تشبه كوارث عايزة أتجوز. أغنية البداية في المسلسل أفضل ما فيه - تقريباً - خصوصاً وأنه يخلو من حبكةٍ متماسكة و(قصة) مثل مسلسل عايزة أتجوز، وأفلام أحمد مكي.
هناك برنامج صعيدي آخر على القناة اسمه صعايدة سات، وجدته ثقيل الدم. على أي حالٍ، صعايدة سات أهون من برنامج كل كلام فاضي معقول الذي لم أجد له معنى ولا فائدة ولا سبباً، حتى اهتديت إلى أن كمية التحريك فيه والشخصيات تؤدي عمل Demo Reel حي للقائمين على الغرافيكس والتحريك في القناة، إذ أنهم لن يمضوا بقية أعمارهم في قناةٍ حكومية، ومن دون شكٍ يُريدون أن تلتقطهم إستوديوهات مرموقة.
ليرقد أبو شهابٍ بسلام!
بعد انقطاعي عن مشاهدة باب الحارة في الجزئين السابقين، للأسباب المكتوبة هنا، عُدت هذا العام لأشاهد الجزء الأخير. ومع جل تقديري لمحبي الفقيد أبو شهاب، فإنني أعتقد اعتقاداً قوياً بأن حال المسلسل أفضل بكثير من دون عنتريات أبو شهاب وشواربه المبرومة. لحسن الحظ، فإنه قد قُتِل رسمياً في هذا الجزء ودُفِن - وإن كان أبو عصام سيعود للمسلسل كما يليق بأي فيلمٍ هندي.
دخول مأمون بيك (فايز قزق) إلى المسلسل جعله مثيراً للاهتمام، خصوصاً مع أداء قزق الممتاز. أما أم جوزيف (منى واصف) فتؤدي خدماتٍ ممتازةٍ لنساء حارة الضبع بعد أن ساعدت رجالها. المساحة الممنوحة للشخصيات المهملة في الأجزاء السابقة جعلت هذا الجزء أفضل بكثير من سابقه. كذلك فعلت الكاميرا التي أُطلِق سراحها لتتحرك بحرية أكبر في المساحات العمرانية وبين الشخصيات.
فقط، أتمنى أن يكون القائمون على المسلسل عند كلمتهم، وأن تنتهي المسألة في هذا الجزء.
المشاهدة بتصويت جماعي
ولأن المسلسلات المُشاهَدَة تُقرَر بتصويتٍ جماعي، فلم أستطع مشاهدة زُهرة وأزواجها الخمسة والجماعة الذين أسمع عنهما كثيراً. فيما يخص المسلسل الأخير، فلا يزال المرء بحاجة إلى مرارته. أما الأول، فكنت أريد مشاهدة حسن يوسف يعود إلى تمثيل المسلسلات العادية بعد (شوطة) المشيخة التي أصابته. أتساءل، هل يُشبه ظهوره في زُهرة ظهور محمود الجندي - الذي لا تعليق عليه - في عايزة أتجوز؟
نستنتج من ذلك أن أكثر من يُجعجع بشأن رداءة مستوى المسلسلات وخطرها على (القيم) يعود في أردأ الأدوار.
قالوا مجنون.......
الذي يتابع الإعلان، طبعاً!
كنت أشاهد التلفاز ببراءة في أحدِ الأيام، وإذ بيسرا تظهر علّي فجأة من الشاشة نائمة فوق بيانو - لا تعليق - وتغني، فتساءلت: "هل توقفت يُسرا عن إعلانات السيراميك لتعلن عن معاجين الأسنان؟" وإذا بأحمد عز يليها، مع أنه في (عز) شبابه. قبل أن أفيق من الصدمة، ظهرت هند صبري، ثم عزت أبو عوف، ثم دنيا سمير غانم. ولم تتوقف المسألة عند ذلك، فظهر أيضاً محمد منير، الفنان (المثقف). لقد انكشفت المسألة، فشركة اتصالات تُعلن للجمهور عن قدرتها على أن (تذله) بفلوسها، وتجمع كومة من النجوم في إعلانٍ واحد بالكيلو. لذلك أنتجت الشركة إعلاناً آخر حقيقياً من بطولة ماجد الكدواني، عن خدمة تقدمها. وما أستغربه حقاً المبالغ الهائلة التي تنفقها على إعلاناتها، بينما كان من الممكن أن تحسن خدماتها!
هناك إعلانٌ آخر - لا تعليق عليه - يظهر فيه أحمد حلمي ومنى زكي. هذا الإعلان علامة فارقة في عالم إعلانات السيارات، لأنه أول إعلانٌ لا يُركز على القوة والفخامة، أو السرعة والمظهر. لا أعرف حقاً من سيشتري السيارة في الإعلان، لكنه مثل الذي سيشترك في اتصالات ويعرف نفسه لأن أغنيتها خاطبته بصفته.
توجد مدرسة أخرى في الإعلان تسمى مدرسة الضرائب - نسبة إلى إعلانات مصلحة الضرائب - أو مدرسة دون كورليوني - نسبة إلى الأب الروحي - وإليها تنتمي إعلانات بنك مصر التهديدية التي تريك الهوائل، ثم تُختتم بالعبارة التهديدية: "عرض لازم تقبله"، وهذه عبارة لا تختلف عن عبارة الدون: "عرض لا تستطيع أن ترفضه".
بناء على ما تقدم، فقد تقرر تغيير خطاب مارتن لوثر كنغ الشهير، ليصير: "أحلم بعالمٍ يمكن لأطفالي فيه أن يشاهدوا التلفاز من دون التعرض لاضطهاد الإعلانات!"