20 يونيو 2008

في بروج: مسألة شرف!

سُفكت كلماتٌ كثيرة على مذبح فيلم مارتن مكدوناه الأول، قبل الانتهاء منه بعدة أشهر، ثم عند إطلاقه في فبراير من هذا العام، ولا تزال الكلمات تُسفك حتى الآن. حصل مكدوناه على أوسكار أفضل فيلمٍ قصير في 2006 عن فيلمه ست طلقات، ثم قرر صيد السمكة الأكبر، الأفلام الروائية، بادئاً بفيلم في بروج الذي هلل له النقاد قبل أن يعرض، لأن صاحبه مسرحي مرضيٌ عنه نقدياً. ليس مسرحياً فحسب، وإنما مسرحياً (إيرلندياً) وهذه هي النقطة الأهم، فكتاب المسرح الإيرلنديون حالة خاصة في الدراما الحديثة. غير أنه- كما يحدث عادة مع الأفلام المحتفى بها نقدياً - حين يُراجع المرء المقالات النقدية التي قرأها عن الفيلم بعد مشاهدته، سيكتشف أنه لا بد قد قرأ مقالاتٍ عن فيلمٍ آخر.
أول الغرابات النقدية، وصف الفيلم بأنه كوميدي. الفيلم ليس كذلك أبداً، فالقيمة التي يتركها عند مشاهدة حالة صدمة. أحداث الفيلم جنونية بعض الشيء، وحوارات الشخصيات عبثية، وهذه ليست كوميديا بل سخرية عالية النبرة تصبغ الفيلم بصبغة داكنة. قد يبتسم المرء في بعض المشاهد، لكن الضحك يحتاج إلى معدةٍ حديديةٍ وعقل أجوف. غير أن المرء ينبغي ألا يُسرف في لوم هؤلاء النقاد، فهم أحفاد من افتروا الفرية الكبرى وأصروا على أن تاجر البندقية مسرحية كوميدية. أجل، تاجر البندقية مسرحية كوميدية، في بروج فيلمٌ كوميدي، والمهاتما غاندي كان تركياً.
لفيلمه - الذي يفترض به أن يكون خارج إطار السينما التجارية - يحشد مكدوناه طاقم ممثلين جيداً، يُصدره بأسماء كولن فاريل (راي)، بريندان غليسون (كِن)، وريف فاينز (هاري)، ثم يضيف إليهم كليمنتين بويسي (كلوي) التي استطاعت أن تحظى بوقتٍ على الشاشة لتمثل فيه. (هذا التواجد الغامض لثلاثة ممثلين من سلسلة أفلام هاري بوتر في فيلمٍ واحدٍ كان أمراً لاحظه المعجبون فوراً، لكنه لا يدل على شيءٍ غير أن وورنر بروز وظفت كُل الممثلين الإنكليز في السلسلة). طاقم الممثلين نقطة القوة الرئيسية في الفيلم، فكلهم أدى دوره بشكلٍ طبيعي - قدر الإمكان، باعتبار أن جميع الشخصيات تعاني من خللٍ نفسي أو وظيفي باستثناء كن -. واحدة من الغرابات النقدية انتقاد ريف فاينز - الذي يظهر في الثلث الأخير من الفيلم - باعتباره ناسخاً أداءه من بن كنغسلي في Sexy Beast، بينما لم أستطع أن أتبين هذا النسخ. الصفة الوحيدة المسيطرة على هاري (فاينز) هي الغضب، وهي ما يحدد شخصيته، غير أن فاينز ينجح في تمرير لحظاتٍ تظهر فيها مشاعر غير الغضب على وجهه، دون أن يفقد انطباع وجهه وحركاته الكلي الذي يوحي برجلٌ على وشك الانفجار.
يحاول فيلم في بروج أن يجد له هوية، دون أن يفلح في ذلك كثيراً. فيلم عصاباتٍ أوروبي يحاول أن يبدو مضحكاً، وسخرية من المدينة القروسطية بروج التي تشبه الحكايات الخرافية. قاتلان محترفان أحدهما قتل طفلاً، ويفترض بالآخر أن يقتله لذلك، ممثل قزم يظهر في مشاهد الكوابيس - إشارة إلى فيلم لا تنظري الآن -، منتجة أفلام تتجر بالمخدرات وتسلب السياح بمساعدة صديقٍ لها، بائع أسلحةٍ مهووس بالكلمات الغريبة، سياح أمريكيون بدينون، موظف سياحي مزعج، زعيم عصابة سايكوباثي. جميعهم في خليطٍ يضيف مكدوناه إليه عباراتٍ دينية عن المطهر والفردوس والجحيم، وحواراتٍ عبثية طويلة، ومشاهد عنفٍ سافر، ثم يحرك الكاميرا ببرود وملل قبل أن ينفجر في التتابع النهائي للفيلم محاولاً تحميل الفيلم بدلالاتٍ ودلالاتٍ. الفيلم كُله مشحونٌ بالدلالات، تجوال راي وكٍن في بروج، نظرية صديقهما القزم والحرب الخيالية التي يفكر فيها بينما يتعاطون المخدرات، وقوف هاري وكِن على قمة المدينة، انتحار هاري لأجل مبادئه. هي مسألة شرف، الفيلم يدور حول "مسألة الشرف" العبثية هذه، ويتوه في فوضى من الدلالات ليصل المرء معه إلى أن الفيلم لا يدل على شيء.
"ربما يكون هذا هو الجحيم، الأبدية بكاملها في بروج".
هذه عبارة الفيلم الختامية التي تحاول تلخيص رؤية مكدوناه للأمر برمته، ومن المرجح أنه محق.

ملاحظة:
فيلم في بروج الدعائي واحدٌ من أفضل الأفلام الدعائية لهذه السنة، لكنه مضللٌ بشكلٌ كبير. مكدوناه يواصل التآمر على مشاهديه بحذاقة، ومن ثم يشتكي صانعو الأفلام المستقلة من مقت الجمهور لأفلامهم!

13 يونيو 2008

عن الكتابة

(مختارات من اقتباسات مائة سبب وسبب للتوقف عن الكتابة)

كلي تأييدٌ لإبعاد الأسلحة الخطيرة عن أيدي الحمقى. لنبدأ بالآلات الكاتبة.
سولومون شورت

هُناك طريقة واحدة لكسب المال من الكتابة، هي الزواج بابنة ناشر.

أحاول - حقاً - ألا أشجع الكتاب الشباب. أبقهم بعيدين وصامتين هو شعاري.

أعتقد أنه ينبغي ألا أن يكتب أحدٌ سيرته الذاتية حتى يموت.

الكتب لا تنتهي، بل تُهجَر فحسب.

في كل مكان أذهب إليه، أُسأل عما إذا كنت أعتقد أن الجامعات تخنق الكتاب. أرى أن الجامعات لا تخنق عدداً كافياً منهم. هناك العديد من الكتاب الذين يبيعون كثيراً كان بالإمكان منعهم إذا توفر لهم معلمٌ جيد.

مخطوطتك جيدة وأصيلة، لكن الجزء الجيد فيها ليس أصيلاً، والجزء الأصيل ليس جيداً.

السبب في كون الكتب الجيدة قليلة أن قليلين جداً ممن يستطيعون الكتابة عارفون بأي شيء.

بعض المحررين كتابٌ فاشلون، غير أن معظم الكتاب كذلك.
إذا لم تزعج أحداً، فلا فائدة من الكتابة.
كنغسلي آمس
تخبرنا الرواية الجيدة الحقيقة عن بطلها، بينما تخبرنا الرواية الرديئة الحقيقة عن كاتبها.
جي. كيه. تشسترتون
إذا أمكن لكاتبٍ شاب الإقلاع عن الكتابة، فينبغي عليه ألا يتردد في فعل ذلك.

11 يونيو 2008

ابنة بولين الأخرى

فيلم ابنة بولين الأخرى The Other Boleyn Girl من الأفلام التي انتُظرت هذه السنة، وأثارت جدلاً كبيراً بين من يعتقد أن الفيلم تحفة فنية، ومن يعتقد أن الفيلم فشلٌ ذريع، وإهدارٌ لميزانية كبيرة في قصةٍ سخيفة بإخراجٍ رديء، وتمثيل أكثر رداءة. آخرون - بريطانيون - يعتقدون أن الفيلم فشل لأن ممثليه الرئيسيين الثلاثة غير بريطانيين: ناتالي بورتمان (آن بولينسكارليت جوهانسون (ماري بولين)، وإريك بانا (هنري تيودور)، وهذا ادعاء شوفيني لا تأثير له من الناحية الفنية في هذا الفيلم.
الفيلم مأخوذ من رواية تاريخية بذات العنوان للمؤلفة البريطانية فليبا غريغوري التي عملت كمستشارة في الفيلم، ما يسقط حق المطالبة بالدقة التاريخية للفيلم، فالرواية لا تتسع لتقديم شرحٍ تاريخي دقيق، والفيلم دراما ينبغي أن تأخذ منظوراً لتستطيع من خلاله إعادة تمثيل الأحداث وفق رؤية صانعي الفيلم. حاول صانعو الفيلم الالتزام بالخط الزمني للأحداث كما وردت تاريخياً، وتصرفوا في الأحداث ذاتها وفق رؤيتهم الدرامية، على أنني أرى أن فترة انفصال كنيسة إنكلترا عن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية واحدةٌ من أكثر فترات التاريخ الإنكليزي امتلاء بالأحداث والوقائع التي لا تحتاج إلى أدنى معالجةٍ فنية لتنسج رواية فخمة النسيج.
قصة فيلم ابنة بولين الأخرى مقبضة ومظلمة، فلا مكان للفضيلة أو الشرف أو الكرامة في بلاط هنري الثامن، ملك إنكلترا سيء السمعة. والقصة عن واحدةٍ من أكثر الأسر تدنيساً في التاريخ، أسرة بولين التي حل بها البلاء بعد أن كانت آن بولين ملكة ذاتَ يوم. توماس بولين وصهره توماس هاورد يتاجران بماري وآن كسلعتين تضمنان مزيداً من النفوذ لهما، ويرتقيان على حساب ماري - أولاً - التي تحولت إلى بغي، ثم على حساب آن التي كانت أكثر طموحاً من أختها، وأرادت أن تكون ملكة. لا يسلم جورج بولين كذلك، وإن كان ما يتعرض له من حيفٍ أقل مما يلحق بشقيقتيه، فيُجبر على الزواج من جين باركر التي ستقوده إلى حتفه مع شقيقته آن لاحقاً.
ابنة بولين الأخرى كانت ماري في البداية، لأن الأب والخال قررا أن آن الطموحة ستسعى لأن تكون عشيقة الملك، غير أن الرياح هبت في اتجاه ماري، لتنزوي آن في الظل باعتبارها ابنة بولين الأخرى، ثم تُنفى إلى فرنسا عقب فضيحة زواجها السري من هنري برسي، دوق نورثمبرلاند.
يُعيد توماس بولين وتوماس هاورد آن إلى لندن بعد أن تراجعت حظوظ ماري بسبب حملها المهدد بالإسقاط، فتبدأ انتقامها من شقيقتها التي أقصتها، مستحوذة على كل اهتمام هنري الثامن، لينفذ رغباتها ويجعلها ملكة، الأمر الذي ينقلب عليها في النهاية. لتنتهي مغامرة صعود آل بولين غير المشرفة نهاية مريعة بإعدام آن وجورج بولين، ونفي ماري بولين في الريف مع رجلٍ تحبه. ثم موت توماس وإليزابث بولين بعد عامين من مقتل طفليهما. وإعدام ثلاثة أجيال من أبناء توماس هاورد الذي صدق على إعدام ابني أخته.
بولين وهاورد يفتقدان الشرف، إليزابث هاورد بولين عاجزة عن حماية أبنائها، أبناء بولين الثلاثة لا يملكون ذرة شجاعةٍ تجعلهم ينجون بأنفسهم من الإنحطاط الذي وصلوا إليه بتشجيع من يُفترض أن يحثوهم على الفضيلة، غير أن الوحش الأكبر ليس سوى هنري الثامن نفسه، الذي حاول صانعو الفيلم تقديمه باعتباره شخصاً معتدل الطباع، وملكاً جيداً. هنري الثامن مخادع، جبان، متسلط، يفتقر إلى الشرف بقدر افتقار بولين وهاورد إليه. أداء إريك بانا للدور جاء باهتاً جداً، فلم يكن للملك الحضور المفترض لشخصية متسلطة بهذا القدر، بل بدا زائداً وضائعاً في الثياب الفاخرة التي يكتسيها. سعيداً بأن (يتموضع) للتصوير مرتدياً كل تلك الأكوام من القماش بحيث نسي أن يمثل. ناتالي بورتمان بالغت في أدائها حتى كاد يتحول إلى مهزلة، والشخص الوحيد الذي بذل جهداً ليمثل حقاً كان سكارليت جوهانسون، لكنها لم تنقذ الفيلم الذي تفنن جستن تشادويك في تحويله إلى مجموعة مشاهد سطحية، لا شفيع لها. فحتى حركات الكاميرا في الفيلم كانت غير محسوبة وكأن المخرج قرر أن يترك كل شيء للفنيين لينصبوا كاميراتهم حيث شاءوا.
فيلم ابنة بولين الأخرى خدعةٌ محضة. كان يمكن له أن يكون فيلماً عميقاً، لكنه تحول إلى مجموعة صورٍ متحركةٍ لشخصياتٍ لا عمق لها، وقصةٍ عنيفةٍ وصاخبةٍ تخلو من المعنى.