11 مارس 2012

V

بينما كان الكابيتان فيدال يركض في المتاهة باحثاً عن أوفيليا، تذكرتُ لورد فولدمورت. ثمة مفاتيح بصرية قوية تربط بين مشهد الكابيتان فيدال في المتاهة، وبين لورد فولدمورت. فكرة المتاهة ذاتها، وعودة لورد فولدمورت بعد رحلة في متاهة، فولدمورت في وزارة السحر، فولدمورت يرأس اجتماع أكلة الموت. ثمة تشابه في الثيمات اللونية بين متاهة بان (٢٠٠٦) وأفلام هاري بوتر - بالذات، في مشهد الكابيتان داخل المتاهة. ثَمَ أيضاً المخلوقات الخرافية التي تُذكِر بفولدمورت ذي الشكل الغريب.
كان واضحاً أن الأمور ستنتهي نهاية بغيضة. هذه تركيبة الفيلم، وأي نهاية مختلفة مجرد غش. من الواضح أيضاً أن ثمة فرقاً كبيراً بين فيلمٍ بديع مثل متاهة بان، وبين أفلامٍ تجارية مثل سلسلة أفلام هاري بوتر، بحيث تصير المقارنة غير مُمكنة. مع ذلك، لا زال الموضوع يشغل بالي. الفيلم الأخير من سلسلة أفلام هاري بوتر، هاري بوتر وآثار الموت - ٢ (٢٠١١) فيلم ممتاز - لولا المشهد الأخير في محطة القطار - ويصلح للحديث عنه مع متاهة بان - رغم أن الأخير يظل تحفة سينمائية. في الواقع، فإن تركيباته اللونية ما تذكرتها عند مشاهدة متاهة بان.
ثمة شريران واضحان في الفيلمين: الكابيتان فيدال في متاهة بان، ولورد فولدمورت في آثار الموت - ٢، وتدمير هذين الشريرين الحل الوحيد لوقف الكارثة، طوفان القتل. ولو أنّ الأمر يتخذ في متاهة بان - بحُكم أنّه عملٌ أكثر نضجاً - شكل النهاية الحتمية لمأساة لاتينية - تختلف عن المأساة الإغريقية.
ثمة أوجه شبه بين الاثنين، صحيحٌ أن مشهد المطاردة في المتاهة ما ذكرني بلورد فولدمورت، لكن مشهداً سابقاً في الفيلم للكابيتان ورجاله وهم يتسلقون عبر الغابة الجبلية ويطلقون الرصاص على الثوار جعلني أفكر في أن الكابيتان ورجاله مجرد صبية يلعبون "عسكر وحرامية"، مثلما كُنا نفعل صغاراً، لكنهم خطرون لأنهم أكثر تنظيماً، ولأن الزي الموحد الذي يرتدونه يجعلهم يتعرفون على بعضهم البعض بوصفهم أعضاء في نظامٍ جامع. البزات العسكرية - الشبيهة ببزات النازيين - والمُسدسات جعلت الأمر لُعبة مؤذية لا معنى لها. أتباع لورد فولدمورت، أكلة الموت، يرتدون أقنعة ولديهم عصي، ويتحركون مثل الصبية الذين يلعبون "عسكر وحرامية"، ويتسببون في أذىً صبياني لا معنى له إلا أن الآخر ليس عضواً في جماعتهم، ولا يلبس مثلهم.
أيكون ذلك لأن عُنف الكابيتان فيدال حقيقي، بينما عُنف لورد فولدمورت خيالي؟
واحدٌ من مشاهِد الفيلم الأكثر إرعاباً، المشهد الذي يقتل فيه الكابيتان فيدال فلاحين جبليين عثر عليهما رجاله صُدفة. هذا المشهد المُبكر في الفيلم واحدٌ من المشاهد التي لا يُمكِن نسيانها، وتجعل الكابيتان أكثر وحشٍ مُثير للرعب في الفيلم. في المُقابل، لورد فولدمورت يقتل أيضاً، ويقتل بطُرقٍ بشعة. فولدمورت يقتل الناس لمُجرد أنهم عبروا طريقه، وقائمة ضحاياه لا تستثني أحداً، حتى أتباعه المُخلصين. الكابيتان فيدال يقتل الفلاحين الإسبان، الثوار، والأطفال الصغار. السحرة - الذين يقتلهم فولدمورت - غير حقيقيون، ولا يُمكِن أن يوجَدوا، مما يجعل عُنف فولدمورت خيالياً. (في الواقع، فإنّه يذبح حُراس بنك غرينغوتس، وهم حراسٌ - المفترض - من غير السحرة).
غير أنّ العُنف في الحالين خيالي: عُنف الكابيتان فيدال عُنفٌ موجود داخل الفيلم، كما أن عُنف لورد فولدمورت موجود داخل الفيلم. إنّه ليس عُنفاً توثيقياً، ولا عُنفاً تاريخياً، ورغم أنّه يدور خلال الحرب الأهلية الإسبانية، فإنّه لا يدعي أنّه يوثق. الكابيتان فيدال فاشي - بل إنّه يبدو أقرب إلى النازية - بينما يُفترض أن لورد فولدمورت التجسد الأكبر للفاشية، وانبعاثه انبعاث النازية الجديدة في أوروبا. كُلا الشخصيتين دالٌ على موجودٍ خارج فضاء الفيلم، على عُنفٍ مُستمر، معنوي كما هو بدني.
ثمة ما يُقال بهذا الشأن، حتى بفرض أن (فنية) عُنف الكابيتان فيدال تُلغي (تاريخانيته) فإنّه يبقى حاضراً خارج فضاء الفيلم بشكلٍ لا يقدر عليه عُنف فولدمورت: إن الكابيتان عسكري يرتدي زياً عسكرياً موحداً ولديه مُسدس. هذه صورة كونية، تتجاوز المكان والزمان، العسكر هُم العسكر، وطبيعتهم لا تتبدل، في إسبانيا أو في جُزر واق الواق، والفاشية أداة العسكر، وهم صنيعتها وصانعها في الآن ذاته. فولدمورت - في المقابل - رجلٌ بلا أنف يرتدي عباءة ولديه عصا، بل إنّه حافي القدمين مُعظم الوقت، ولا يُذكِر أحداً بالوقعِ الثقيل للحذاء العسكري. الكابيتان فيدال، بمُجرِد هيئته، شخصية يتعرف عليها الجميع، مما يجعل أعمال العُنف الصادرة عنه تهديداً مُباشراً للمُتلقي. فولدمورت - في المُقابل - (رمز) لشرور الفاشية.
لكن، أليس تمرد فولدمورت بحد ذاته عملاً ضد المؤسسة أو السُلطة؟
قد يؤخذ تمرد فولدمورت على أنّه (كاونتر-ناراتِف counter narrative) أو خطابٌ مُضاد للمؤسسة السحرية (وزارة السحر، مدرسة هوغوورتس، ...) وسردياتها الكُبرى، لكن ما يفعله فولدمورت - في واقع الأمر - لا يتعدى بعثٍ سردية كُبرى فاشية - أقرب للنازية، طلباً للدقة - أقدم. إذ يبعث أساطير قديمة عن نقاء الدم السحري، ويستخدمها أداة للسُلطة. إن فولدمورت ثوري ضد المؤسسة بقدر أي عنصري يأتي اليوم مُطالباً بإعادة استعباد السود لأنهم من نسل حام الذي حُكِم عليه بأن يكون عبداً لأخويه سام ويافث.
فولدمورت يستخدم هذه الأساطير لجمع الأتباع حوله، مستخدماً العُنصرية الكامنة في المُجتمع لمصلحته الذاتية. من الواضح أنّه يؤمن بهذه الأساطير، لأنّه يتطوع لقتل مُعلمة كانت تُعلم أطفال السحرة عن غير السحرة. (ويُمكِن القول إنّه لا يحتاج إلى سببٍ ليقتلها، لأن فولدمورت يقتل وفقاً لنوبات مزاجه). إن مُشكلة فولدمورت الأساسية نفسه، ورُهاب الموت الذي يُعانيه، ولا تُمثل له المؤسسة التي يُعاديها، والمؤسسة التي يُحاول بعثها إلا أدواتٍ يؤكد بها على قهره للموت، وتغلبه على كُل سلطةٍ معه. فولدمورت ابن المؤسسة النجيب، وتفكيره يأتي من داخلها دائماً، ويصب في إطار حفظها بشكلٍ أو بآخر.
الكابيتان فيدال ابنٌ نجيب للمؤسسة - كذلك - لكنّه ليس ابن المؤسسة الأكاديمية مثل فولدمورت، وإنما ابن المؤسسة العسكرية، الذراع الباطشة للفاشية التي يراها الجميع. وخلافاً للفاشية التقليدية، فإن الكابيتان فيدال يرفض اجترار الأساطير والحكايات، فيسخِف من حكاية زوجته للكيفية التي التقيا بها - ويسخر من فكرة القدر - كما أنّه يصرف الحكايات التي يحكونها له عن شجاعة أبيه الجنرال فيدال، وعن ساعته التي هشمها عند موته ليعرف ابنه الساعة والدقيقة التي مات فيها.
الكابيتان فيدال يرفض الحكايات من مُنطلق اعتزازه الشخصي بنفسه، ورفضه لأن يكون (مُحتوى) داخل قفص، أو في إطارٍ فكري مُعين يسمح للآخرين بأن يُصنفوه ويحللوه نفسياً. الكابيتان فيدال يرفض الاستماع إلى حكاية أبيه لسببٍ مُركَب: أنّه شديد الاعتزاز بها، إذ تُمثل جزءاً من عقيدته في الحياة، والثانية أنّه يهدف إلى محو أبيه واستبدال أسطورته بأسطورته الشخصية. مُنذ ظهوره، يُركز الكابيتان فيدال على الوقت، وينظر في ساعته متأففاً من التأخير، كما أنّه يحاول إصلاح ساعة أبيه باستمرار ليُكمل أسطورته الذاتية.
هل خوف لورد فولدمورت من الموت يُعطيه بُعداً بشرياً يجعلّه شخصية يُمكن التعاطف معها بينما استعداد الكابيتان فيدال للموت يجعله شخصية مُصمتة بلا مشاعر ولا يُمكِن التعاطف معها؟
في هاري بوتر وآثار الموت - ٢ مشهدٌ بديع يُصور فولدمورت يسير حافي القدمين بين جثث من قتلهم في غرينغتس، تتلطخ قدماه بالدم شيئاً فشيئاً، بينما تعقبه حيته. المشهد مُرعب، ويُجسِد الهول الذي بقيت سلسلة هاري بوتر تدور حوله من دون أن تصل إليه. إن فولدمورت لم يتجاوز الثامنة، شعورياً، ولا يزال هو الطفل نفسه الذي يُعاني من البارانويا في الميتم. إنها حالة مُتطرفة من الوحشة التامة، الهجران. لقد تفتت روح لورد فولدمورت داخله من شدّة اليباس، حتى قبل أن يبدأ في قتل من هم حوله، وفي تقسيم روحه ليعيش إلى الأبد. رُهاب الموت الذي يُعانيه لورد فولدمورت قد يعود إلى أصلين: نفسي ومعرفي. أصلٌ نفسي من حيث أنّ موت أمه وبؤسه اللاحق جعلاه يهاب الموت، وضاعف الأمر البارانويا التي يُعانيها، واختلطت بجنون العظمة - كما تتطور الحالات المشابهة لحالته. أمّا الأصل المعرفي لرُهاب لورد فولدمورت فيعود إلى المؤسسة الأكاديمية التي لا تملك ما تتعامل به مع الموت. إنّ الموت حالة فناء، والأكاديميا لا تُقدم حلاً قاطعاً لما وراءه، أو لفائدته، وفي الآن ذاته، فإنها تُشجع على الخلود عن طريق الكُتب والأساطير التي تُروى عن الموتى. لورد فولدمورت، الأكاديمي الأستاذ، يُقرر استخدام المعرفة لتحطيم حاجز الموت، فيُحقق خلوداً فعلياً، لا خلوداً مجازياً. لورد فولدمورت - هُنا - أشبه بفاوستس الذي لم تُرضه البُنى المعرفية العقلية، وقرر عبور الحاجز لرؤية شيء يختلف عن المفاهيم المجردة التي تتحدث عنها الأكاديميا، فحُبِسَ في جحيمٍ من صُنع عقله. في المُقابل، عاش فولدمورت الكابوس الأكبر - وفقاً للأكاديميا - لقد صار قاتلاً مجنوناً. فولدمورت، عاش في كابوسٍ آخر مُشابه لكابوس فاوستس، له طبيعة أكاديمية، لقد تحول في مرحلةٍ ما من حياته إلى "إرادة محضة"، ولم يعد أكثر من مجرد فكرةٍ مُجردة عن الإرادة، لقد صار الظاهرة ذاتها، وكان ذلك المنفى أقسى تجربة عاشها، وساهمت في زيادة جنونه في فترة عودته القصيرة. إنّه لا يُريد أن يكون فكرة. الفكرة كابوس الأكاديميا المحض.
لكن، يبقى فولدمورت ابن الأكاديميا، وتبقى تصرفاته قادمة منها، ومرجعيته إليها. هو يزدري ما تزدريه الأكاديميا، ولا يحترم إلا ما تحترمه الأكاديمية: القوة، السُلطة، النفوذ، الفِكر. لذلك، يفصل - فصلاً تعسفياً - بين الخرافات الفاشية التي يؤمن بها - أو يُرددها من دون إيمان، وبين خرافاتٍ أخرى تزدريها الأكاديميا لأنها لم تحصل على اعتمادٍ أكاديمي، ولم تأتِ في هيئة فرضياتٍ وبحوثٍ ومقالاتٍ.
الكابيتان فيدال ليس مثقفاً، وأغلب الظن أنّه يُبغض الأكاديميا وكُل أفرادها، لكنّه يتقرب منهم ويقربهم إليه، كما تفعل النُظم الفاشية، إذ لا يستقيم نظامٌ فاشي بالعسكر وحدهم، لكن رغبته الأكيدة في الموت ليست ناشئة عن أمنية الموت التي يتحدث عنها فرويد، وإنما عن إدراكٍ لأنّه لن يفر منه، وأن نهايته ستكون القتل. تشبُع الكابيتان فيدال بأساطير الفاشية يجعله يرى الموت في سبيل إسبانيا الفاشية السبيل الأوحد لتحقيق مجده الشخصي، وهو متماهٍ مع ما يصفه نيتشه بأنّه "أخلاق السادة"، إذ أنّه مُستعدٌ للموت في سبيل فكرة، شرفٍ محض: النظام الطبقي، السُلم الطبيعي للمخلوقات الذي يُحدد مكان كُل مخلوق مُنذ ولادته ولا يُمكِن كسره. يجب أن يكون ثمة سادة وعبيد، يجب أن تكون ثمة طبقاتٍ اجتماعية متباينة، حدودها معروفة، وإلا انتهى العالم. موت الكابيتان فيدال - وأمثاله - يحفظ هذا النظام، لهذا مات أبو الكابيتان، ولهذا يموت، ولهذا يُهيء ابنه ليموت من بعده.
لورد فولدمورت والكابيتان فيدال يحتقران الحكايات، لكنهما طقوسيان متطيران. لورد فولدمورت يحترم طقوس النبؤات القديمة ويسعى إلى تحقيقها عن طريق اعترافه بها، بينما يسعى الكابيتان فيدال لإصلاح ساعة أبيه ولإعادة إنتاج نفسه في هيئة ابنه. مُطاردة فيدال لأوفيليا في المتاهة ليست مُطاردة أبٍ مفجوع، وإنما مُطاردة وحشٍ يحتاجُ إلى قطعةٍ أخيرة لإكمال طقسه. لذلك يقتل أوفيليا، بنفس منطق لورد فولدمورت الذي يقتل القطع التي لا يحتاجها لإتمام طقوسه - عندما يقتل سيدريك ديغوري ويُبقي على هاري بوتر، مثلاً.
لهذا أمكَن القضاء على الوحشين: لقد قتل فولدمورت نفسه بنفسه بطقوسيته الشديدة التي مكنّت هاري بوتر ورفاقه من كسر الأحجية التي استخدمها لإبقاء نفسه. (عمّر فولدمورت ستين عاماً ونيف، قضى ثلاثة عشر عاماً منها في المنفى عبارةً عن "إرادة" محضة، وأحد عشر عاماً في ميتم، وثلاثين عاماً من غُربةٍ إلى منفى إلى مخبأ، في صفقة خاسرة مثل صفقة فاوستس الذي قايض الأبدية بأربعةٍ وعشرين عاماً من الوهم - ومثل صفقة أي أكاديمي). وأُبيد الكابيتان فيدال، ليس فقط بقتله هو شخصياً، وإنما بكسر العود الأبدي للفاشية التي يحرسها: "ابنك لن يعرف اسمك حتى!"
 مُشاهدة الدمار النهائي لكُلٍ من لورد فولدمورت والكابيتان فيدال ليس فقط لحظة (كاثارسز) للمُتلقي، وخاتمة ضرورية للمأساة اللاتينية - في حالة الكابيتان فيدال - وحالة اضطراب العالم التوراتية  - في حالة لورد فولدمورت - وإنما أملاً بإمكانية التغلب على الفاشية، مهما كان الطريق طويلاً وشاقاً ويقتضي مجالدة عسيرة للنفس.