15 سبتمبر 2016

ولولا بنياتٌ

قرأت مراجعة لإحدى كتابات توفيق الحكيم في أحد مواقع مراجعات الكُتب، وقد قالت صاحبة المُراجعة إنّها لا تفهم كيف احتل شخص سقيم التفكير، عقيم اللغة مثل الحكيم مثل هذه المكانة الهائلة في تاريخ الأدب العربي. مع هذه المراجعة، تذكرت فرع النصوص الذي كان جزءاً من مادة اللغة العربية في المدرسة الإعدادية والثانوية. كنت لا أطيق النصوص في المدرسة الإعدادية، وأراها عبئاً ثقيلاً، أحفظ منها ما ينبغي حفظه لأكتبه في الامتحان وأنساه بعدها كأنّه قد مُحي بفعل السحر. في السنتين الأوليين من الثانوية تغير الأمر، ووجدتني أحب النصوص، وأحفظ كثيراً منها، حتى تلك التي لم يكُن مُقرراً علينا حفظها، بل كُنت أحفظ من النصوص ما لم يكُن مقرراً علينا دراسته من الأساس، وكان يقبع في قسم (المحذوفات من المنهج). ثم عُدت في السنة الأخيرة من الثانوية إلى كُره النصوص، والمُعاناة من حفظها. لم يكُن الأمرُ متعلقاً بالضغط النفسي الذي تسببه الثانوية العامة، بل بطبيعة النصوص نفسها، حيث أنّ تدريس النصوص في الثانوية كان وفقاً للمراحل الزمنية. ومن نماذج الشعر الجاهلي والأموي والعباسي التي درسناها، كانت أشعارٌ جميلة المبنى حسنة المعنى، تستقر في النفس. ولعلّ الأمرُ يعود، بالإضافة إلى جودة المنتج الشعري في هذه العصور عامة، إلى حُسن اختيار القصائد المُقررة على الطُلاب، والشذرات التاريخية عنها، واختيار نماذج ممثلة للعصر، فنقائض جرير والفرزدق كانت علامة على العصر الأموي الذي استخدم الشعر أسوأ استخدام، وعادل النقائض نماذج حسنة من شعر الغزل، وأبيات قطري بن الفُجاءة في مواجهة الخوف من الموت، فيما كانت الاختلافات الجلية بين أبي تمام وأبي العتاهية وابن الرومي وعلي بن الجهم أدلة على تنوع العصر العباسي الأول وتقلب مجتمعه، وانفرد المتنبي بالعصر العباسي الثاني - انفراداً مُستحقاً. ثُم كانت الموشحات والقصائد الأندلسية قادمة من عالمٍ آخر، أكثر هدوءاً وطموحاً واندفاعاً، تحضر فيه الطبيعة حضوراً قوياً. وجاءت "لكل شيء إذا ما تم نُقصان" خاتمة موجعة لعصر من البهاء ولّى، مثل الفكرة بعد السكرة.
المشكلة في نصوص السنّة الأخيرة أنّها بدأت بعصور الانحطاط، وبنماذج من الشعر العثماني الكريه معنى ومبنى. وكان الشعر قد تحول من شكلٍ فني مرموق إلى هامش على الاحتفالات والمآدب، ومادة للتفكه والألغاز. ثم جاء الانتقال إلى الشعر الكلاسيكي العربي، الذي هو شعرٌ أجوف، يكاد يخلو من أي جمال، يستخدم من الألفاظ أجزلها، ويحد الأفكار الشعرية في بِركةٍ محدودةٍ من المواضيع الشعرية، كأنّه صدى للشعر الكلاسيكي الجديد الذي ابتلى الإنكليزية بواحدة من أكثر حُقبها جموداً. للأسف، كانت قصائد الشعر الكلاسيكي العربي من المحفوظات، على عكس قصائد الشعر العثماني، فكان علّي أن أتعذب في محاولة حفظ قصيدة لمحمود سامي البارودي، قالها عندما نُفي مع سعد زغلول وجماعة من القادة المصريين. لا أتذكر من القصيدة سوى البيت الوحيد الذي وجدتُ له صدى في نفسي، ويقول: "ولولا بُنياتٌ وشيبٌ عواطل/لما قرّعتُ نفسي على فائت سنّي". أتذكر أنّني حزنتُ على البارودي وعلى من نُفوا معه بسبب هذا البيت، أكثر من كُل الخطب الرنانة، والأبيات الجزلة التي تتحدث عن البطولة والفداء. فكم في هذا البيت من معانٍ رقيقة، وكم يستحضر من حنين إلى البيت والأهل والسنين المبذولة من أجل الوطن، ومن ثم المنفى، الذي هو واحدٌ من أبشع العقوبات التي عاقب بها الإنسان أخاه الإنسان.
لم تكُن الشذرة التاريخية كافية لشرح الظروف التاريخية التي أدّت إلى قرار النفي، فبقي غامضاً مستعصياً على الفهم، لكن بيت البارودي، في القصيدة الطويلة المليئة بالفخر والحكمة والألفاظ الجزلة القوية التي تتحدث فوق القارئ من على منبر، ولا تحدث القارئ بروحه، عَبَر الزمن إلى القلب، ليتحدث عن الظلم الذي تعرّض له البارودي وصحبه، وكُلفة حُب الوطن الباهضة، وفي ذلك فإن البيت يُذكرني بعتاب لوركا الرقيق لإسبانيا: "آه، الألم الذي يكُلفني إياه أن أحبك كما أحبك!"
ثمّة سؤال يثبُ إلى الذهن عندما يُفكر المرء في الأشعار الجامدة التي تبني بُنى لغوية فارغة، فهل نمتنع عن دراسة هذه الأشعار لرداءتها؟ وهل نحذف محمود سامي البارودي أو توفيق الحكيم أو غيرهم من التاريخ الأدبي؟ بطبيعة الحال، فإنّه ثمّة أدباء قد خرج أدبهم من التداول منذ عقود، فليس في يومنا هذا من يقرأ المنفلوطي أو المازني أو العقاد، إلّا من أُلزِم بذلك لدراسته، أو شعر بالفضول حيالهم وأراد بناء ثقافة كلاسيكية عربية. في زماننا هذا، فإن المتداول من الأدب إمّا الأدب الشائع مثل روايات الرعب والفانتازيا والتنمية البشرية، وزميلتها الأشعار الركيكة التي تدعي الثورية، أو الأدب المترفع الذي يُفترض به أنّه أدب النخبة، وفي كل الأحوال فقد تغيرت الأسماء، ورُبما تغيرّت الأحوال. لكن، هل يعني خروج الأدب من التداول إهماله؟ لقد مضى الزمان الذي كان فيه المتنبي الشاعر (النجم) في الأوساط الثقافية العربية، ولم تعد تصريحات المتنبي تثير الحروب الكلامية، ولم تعد أشعاره الجديدة تتسبب في زوابع فكرية ونقدية. لكن أدب المتنبي لم يمت ولم يُهمَل.
ثمّة من يرى أنّه حفاظاً على حُب الطُلاب للغة العربية، ينبغي حذف الأشعار الرديئة من مناهجها، بل وحذف حُقبٍ بكاملها إذا لزم الأمر. وثمّة من يرى أن تدريس الطُلاب أي نصوصٍ يعني القضاء على حُبهم للأدب، لما في التدريس من فرضٍ وإجبار. غير أنّ هذا الاتجاه يُغفل أهمية دراسة النصوص الأدبية في سياق دراسة اللغة العربية، فأي لُغة هذه التي تُدرَّس بلا نصوص مكتوبة بها؟ وهُنا تتشعب المسألة لتدخل في نطاق الذوق، إذ أنّني أتذكر حواراً مع إحدى زميلاتنا الأصغر سناً حول منهج النصوص، فذكرت لها نماذج من العصور التي أحببتها، وفاجأتني بالقول إنّ كل هذه الأشعار كريهة. فتحت كتاب النصوص - الذي كان قد تغير في السنة التي تلت سنتنا مباشرة - لأجد أنّ النصوص القديمة التي كُنا ندرسها قد استُبدِلت بنصوصٍ كريهة من الحُقب نفسها، فتغير منظور الطُلاب إلى هذه الحُقب، وكرهوا ما أحببناه، كما كرهوا ما كرهناه.
الذوق مسألة شخصية، لكن، في الذوق ما يجعل بعضه أفضل من بعض عند انتقاء ما ينبغي تدريسه. الذوق السيء لا يولد إلّا ذوقاً سيئاً، ورداءة الذوق وفجاجته تفيض على كُل شيء، وتُحَوِل القُبح إلى شيء مُستساغ، بل مُستحسن. خروج الذوق من النطاق الشخصي: "أنا أحب اللون الأزرق، أنا ألبس اللون الأزرق." إلى النطاق العام: "أنا أحب اللون الأزرق، كل الطُلاب سيلبسون اللون الأزرق." يحوله إلى وسيلة قمعية أثرها معروف في تشكيل وعي الشعوب في كُل العالم، سواء المُضطَهَد أم المُضطَهِد، وأثر هذا القمع قديمٌ مُذ عرّفت روما نفسها على أنّها الحضارة، وعرّفت ما حولها على أنّه البربرية، فصارت كلمة البربرية تعني نقيض الحضارة، وضاعت منّا حضارات البرابرة وآدابهم، في أوروبا وإفريقيا والجزيرة العربية، وصار ذوق روما القانون في روما وفي خارجها. القانون الكلاسيكي كذلك استُخدم في إيجاد "مقياس" موحد للثقافة، بحيث فرض مجموعة من المفكرين ذوقهم العام على الآخرين، فضاع الكثير من تنوع الأدب والفكر وتجمّد وفقاً لمقياس من الذوق باعد بين الثقافة (الرفيعة) والثقافة (الشعبية) أشد المُباعدة.
وبالعودة إلى تدريس الأدب العربي، فإن انتقاء النماذج الشعرية الجميلة يُحبب الطلاب في الأدب العربي، حتى من الحُقب التي لم تشتهر بالجودة بشكلٍ عام. وبغض النظر عن آراء واضعي المناهج الشخصية، فإنّه ينبغي الإحاطة بكل مراحل الأدب العربي واتجاهاته، بقدر الإمكان، وتقديمها للطلاب، ليحكموا بأنفسهم، ويقرروا ما يحبونه ويكرهونه، من دون أن يتأثروا بآراء واضعي المنهج. ولعلّ هذه هي المشكلة في المحفوظات، لا مبدأ الحفظ نفسه، الذي يُفترض أن يُنمي قريحة الطُلاب اللغوية وينمي عقولهم ويُدربهم على استحضار المعلومات عند الحاجة. فلو كان يُسمح للطلاب بحفظ ما يُحبونه من قصائد فحسب، لرُبما تحسنت علاقتهم بالآداب العربية. ورُبما، ينبغي تغيير طُرق تلقي الأدب في المراحل الدراسية العُليا، فيُسمح للطُلاب بمُناقشة ما وجدوه جميلاً وما لم يلمسهم، وتُوفر لهم خلفية تاريخية مُصاحبة لكُل حُقبة يدرسونها، ومنهجاً تحليلياً يستعينون به على قراءة القصائد واستيعابها بمُفردهم، وقراءة الأشكال الأدبية الأخرى وتذوقها، وتشجيعهم على استكشاف أدب أُدباء من الحُقب المُختلفة لم يتعرض لهم المنهج الدراسي.
هكذا، يرتقي الذوق العام، وتتجدد الآراء، فلا يرث الناس أفكاراً جاهزة عمّن يكون أديباً عظيماً، ومن يكون غير ذلك، من دون أن يغمطوا أحداً حقه، ومن دون أن يحكموا على شيء بغير قراءة. وبذلك تتفاعل الأفكار والآراء، ولا تحدث قطيعة فكرية بين مراحل الأدب العربي المختلفة.