21 يونيو 2012

عصر ليمون بتمنجي


تنسب مدرسة القراءة الفاحصة للنص نفسها إلى الشاعر الإنكليزي والناقد ت. س. إليوت، لكنّه يتبرأ منها بشدة، واصفاً إياها بأنها مدرسة "عصر الليمون". قد يكون إليوت مُحقاً في قوله - وإلى هذا أميل - غير أن هذا لا ينفي أن مدرسة القراءة الفاحصة لا تزال حية في تقاليد النقد الأدبي اليوم. ولعل أفضل وصفٍ لتقليد عصر الليمون هذا ما قاله زميلٌ لي في أحد الفصول الأدبية: "لو أن إحدى شخصيات فرجينيا وولف قد تناولت بيغل بالجبنة القشدية على الإفطار، لكُتِبَت أوراقٌ بحثية في تحليل هذه الحادثة وتفنيدها وشرحها". حظي الزميل بتأييد الأستاذ، وبتأييد بقية الزملاء، وكُنت وحدي من اعترض، إذ لا أميلُ كثيراً إلى عصر الليمون.
يترقب الكثيرون صدور فيلم قيامة فارس الظلام (٢٠١٢) بشغفٍ كبير مُنذ أُعلِنَ عنه، وبعد إصدار تريلر الفيلم، ارتفعت أعداد المنتظرين صدورَ الفيلم في صالات السينما كثيراً. ولأنني منهم، فقد يكون انتظار صدور الفيلم مناسبة لا تتكرر لممارسة بعض عصر الليمون مختلطاً بقليل من الرجم بالغيب.
لستُ من جمهور المخرج البريطاني كريستوفر نولن - الذي يجتذب طائفة أشياعٍ واسعة حوله - وهذا لا يعني إنكار براعته الحرفية الشديدة، وكونه مُخرج رؤى عظيماً من الطراز الذي تبني عليه هوليوود مجدها. فيلم فارس الظلام (٢٠٠٨) كان فيلماً شديد الفخامة، جعل سلسلة تِم بِرتُن الأصلية تشحُب مقابله. (كان فيلم باتمان (١٩٨٩) قد اتُهِم بأنّه فيلم ظلامي يخون السلسلة التلفازية الأصلية، وهو كذلك بالفعل، غير أن ظلامية نولّن تختلف عن ظلامية بِرتُن في ذلك الفيلم). فارس الظلام السببُ الأولُ في أنني أنتظر قيامة فارس الظلام، أمّا السبب الثاني لهذا فهو تريلر الفيلم الذي سيقع عليه الجزء الأكبر من عصر الليمون:


يُفتَتح الفيلم بأصواتِ هُتافٍ من ملعب كُرة قدمٍ أمريكية، في مُباراةٍ هامة - وأغلب الظن أنها مُباراة السوبر بول - وطفلٌ - أبيض - يُنشد النشيد الوطني الأمريكي بصوتٍ عذب، ثم يتراجع الصوت إلى الخلفية، ويبقى خلفية مُعظم التريلر. ثمة توتر وترقب. مشاهد لقصر بروس وين الهادئ، ومايكل كين يقول: "أنت غالٍ علّي كما كُنت على أمك وأبيك. أقسمت لهما أن أحميّك، ولم أفعل." كريستيان بيل ينظر إليه مشدوهاً، كأنّه يُعاني من نوبة اكتئابٍ عميق. (من شاهدوا فارس الظلام يعرفون لِمَ قد يكون بروس وين مكتئباً). يعود صوت الطفل إلى المقدمة مع مشهدٍ لغوثام (المدينة التي تُقابل نيويورك في الأدبيات الأمريكية): "حين خبا الشفق لآخر مرة". الناس مُحتشدة، ثم غاري أولدمان، وهناك تعليقات: "إنّه بطل". "إنّه بطل حرب، والآن وقت سِلم." كريستيان بيل يدخل إلى حفلة، وسؤال: "هل تظن أن هذا سيستمر؟" ثم آن هاثاواي مُقنّعَة تضمه، وتقول له: "ثمة عاصفة في الطريق يا سيد وين." هناك مشاهد جريمة، توتر، بين (مايكل هاردي) يدخل الكادر، ثم آن هاثاواي تتهيأ: "ينبغي أن تحتمي ورفاقك خلف البوابات". ويُرافق ذلك تفجير، وغاري أولدمان يختبئ وراء جدارٍٍ يُجاور باباً. ثم مشاهد دمارٍ منزلي مختلفة، بعدها تعود آن هاثاواي: "لأنك ستتعجب كيف أمكنّك أن تعيش بهذه الفخامة وتترك الفُتات لبقيتنا." 
ثم يكشف الفيلم قناعه كاملاً، المساجين يخرجون بملابس الإعدام، مسلحين. مشاهد دمار. تدخل الجيش. معارك. ملعب كرة القدم الأمريكية من جديد. سجن غوثام بسلالمه المثيرة للاهتمام. "إلى أين المآل؟" يأتي الجواب: "انهض". ثم مشهد التفجير الشهير، حين يهوي الملعب كله في حفرة، ولاعبٌ - أسود - يجري والهاوية وراءه. بين يظهر: "عندما تصير غوثام رماداً، سآذن لك بأن تموت."
مشهد من حياة بروس وين الساكنة، حبيبته تظهر، آن هاثاواي في محطة قطار، تبدو وكأنها إحدى سيدات الفيلم نوار. ثم الجيش، معارك، دبابات، أسلحة متطورة، بئر سحيق. لقد قامت قيامة غوثام، وسقطت عماراتها الشاهقة، والتهمتها كرة لهب بيضاء.
كريستوفر نولن مُخرج بريطاني، لكنّه يفهم العقلية اليمينية الأمريكية جيداً، ويُخاطبها دون غيرها في هذا التريلر - وفي الفيلم، غالباً، كما فعل في فيلم فارس الظلام: يبدأ التريلر بشيء عزيز على الأمريكان، النشيد الوطني وكرة القدم الأمريكية، ثم ينتقل إلى عرض حياة البطل الأمريكي الذي دخل في حالة موات إليوتية - إن جاز التعبير - مُنذ فارس الظلام، وافتدى غوثام بنفسه. الوقت سِلم، لكن اليمين المُتطرِف لا يُحِب السِلم. إنّه يُعيد اجترار هرمجدون بلا نهاية.
وهنا، يأتي التهديد المُرعِب لكُل يميني في العالم: اضربهم حيث يؤلمهم، في جيوبهم. الخطر الشيوعي. آن هاثاوي تُهدد الرأسمالي الأمريكي بأن العاصفة قادمة، المد الشيوعي قادم، والسِلم مُجرَد خُدعة. يعقُب ذلك رُعب كُل اليمينيين - رغم حُبهم للحرب: الانفلات الأمني، خروج المساجين، تدمير معلب كرة القدم الأمريكية، الحرب في ديارهم.
يترافق مع هذا خطابٌ ديني. يكاد التريلر يُشبه الأرض اليباب - قصيدة إليوت - إذ أنّه يدور بين جُمعة الصلب وأحد القيامة. لقد صلبت غوثام بطلها، واعتقدت أنها افتدت نفسها من الخطيئة، لكن غوثام ستدفع الثمن، حتى يقوم فارس الظلام، وتقوم قيامة غوثام.
كُنت أعتقد أن هذا إفراطٌ في تحليل النص، حتى ظهر تيزر شريط صوت الفيلم - من وضع هانز زيمر، كالعادة - وعضد هذه القراءة لتريلر الفيلم - التي يُفترض أن تجري على الفيلم نفسه حين يظهر.
عناوين المقطوعات: "أتمانُع في أن أقتطع لي نصيباً؟"، "جيش الأنفاق"، "لماذا نسقط؟"، "الموت بالمنفى"، "تخيّل النار"، "شرٌ لا بُد منه"، "قُم!"، "مولودٌ في الظُلمة"، "قيامة النار"، "لا شيء هناك"، "يأس"، "سيجدك الخوف"، "العاصفة قادمة"، "على جليدٍ هش"، "حساب غوثام".
"حساب غوثام" ما حسَم الأمر، فكلمة "حساب" كلمة ذات حملٍ ديني ثقيل، ولا تدع مجالاً للشك في أن غوثام ستقف للحساب جزاء ما فرطت في حق بطلها باتمان. هناك اليأس والخوف الذين يُصاحبان الأدبيات الإسخاتولوجية. ثمة جيش تحت الأرض يتأهب للفتك بالأحياء، ثمة نار، وشرٌ لا بد منه، وكثيرون طواهم الموت حتى خلت الأرض، والجليد الهش يفصل بين البشر وبين الهاوية تحته. لقد قامت قيامة غوثام بلا شك.
يلزمُ مُشاهدة الفيلم لمعرفة ما إذا كان - بالفعل - عبارة عن هذيان إسخاتولوجي مرتبط بفوبيا الشيوعية التي يُعانيها اليمين، لكنني لا أتوقع له إلا أن يكون كذلك - من هُنا يأتي عدم ميلي لنولن. فارِس الظلام كان - بالفعل - مانيفستو فاشياً، وما بعد هذا إلا هرمجدون الأمريكية.

03 أبريل 2012

بخير وسلامة

أتذكر دموعك منهمرة على خديك،
عندما قُلتُ إنني لن أُفلتِك أبداً،
حين كادت كُل تلك الظلال تقتل نورك.
أتذكر أنّك قُلتَ: لا تتركيني وحيداً.
غير أن كّل هذا قد رحل، قد مضى، قد انقضى الليلة.

أغمِض عينيك، فحسب،
فالشمس غاربة.
ستكون بخير،
فلا أحد يقدر على إيذائك الآن.
أقبل يا ضوء النهار،
أنت وأنا سنكون بخير وسلامة.

لا تجرؤن على النظر من نافذتك يا حبيبي!
كُل شيء يحترق.
الحرب تستعرُ خارج أبوابنا،
فتشبث بهذه التهويدة،
حتى عندما تنقضي الموسيقى، وتنقضي..

أغمَض عينيك، فحسب، 
فالشمس غاربة.
ستكون بخير،
فلا أحد يقدر على إيذائك الآن.
أقبل يا ضوء النهار،
أنت وأنا سنكون بخيرِ وسلامة.
تايلر سويفت
من فيلم ألعاب الجوع (٢٠١٢)

11 مارس 2012

V

بينما كان الكابيتان فيدال يركض في المتاهة باحثاً عن أوفيليا، تذكرتُ لورد فولدمورت. ثمة مفاتيح بصرية قوية تربط بين مشهد الكابيتان فيدال في المتاهة، وبين لورد فولدمورت. فكرة المتاهة ذاتها، وعودة لورد فولدمورت بعد رحلة في متاهة، فولدمورت في وزارة السحر، فولدمورت يرأس اجتماع أكلة الموت. ثمة تشابه في الثيمات اللونية بين متاهة بان (٢٠٠٦) وأفلام هاري بوتر - بالذات، في مشهد الكابيتان داخل المتاهة. ثَمَ أيضاً المخلوقات الخرافية التي تُذكِر بفولدمورت ذي الشكل الغريب.
كان واضحاً أن الأمور ستنتهي نهاية بغيضة. هذه تركيبة الفيلم، وأي نهاية مختلفة مجرد غش. من الواضح أيضاً أن ثمة فرقاً كبيراً بين فيلمٍ بديع مثل متاهة بان، وبين أفلامٍ تجارية مثل سلسلة أفلام هاري بوتر، بحيث تصير المقارنة غير مُمكنة. مع ذلك، لا زال الموضوع يشغل بالي. الفيلم الأخير من سلسلة أفلام هاري بوتر، هاري بوتر وآثار الموت - ٢ (٢٠١١) فيلم ممتاز - لولا المشهد الأخير في محطة القطار - ويصلح للحديث عنه مع متاهة بان - رغم أن الأخير يظل تحفة سينمائية. في الواقع، فإن تركيباته اللونية ما تذكرتها عند مشاهدة متاهة بان.
ثمة شريران واضحان في الفيلمين: الكابيتان فيدال في متاهة بان، ولورد فولدمورت في آثار الموت - ٢، وتدمير هذين الشريرين الحل الوحيد لوقف الكارثة، طوفان القتل. ولو أنّ الأمر يتخذ في متاهة بان - بحُكم أنّه عملٌ أكثر نضجاً - شكل النهاية الحتمية لمأساة لاتينية - تختلف عن المأساة الإغريقية.
ثمة أوجه شبه بين الاثنين، صحيحٌ أن مشهد المطاردة في المتاهة ما ذكرني بلورد فولدمورت، لكن مشهداً سابقاً في الفيلم للكابيتان ورجاله وهم يتسلقون عبر الغابة الجبلية ويطلقون الرصاص على الثوار جعلني أفكر في أن الكابيتان ورجاله مجرد صبية يلعبون "عسكر وحرامية"، مثلما كُنا نفعل صغاراً، لكنهم خطرون لأنهم أكثر تنظيماً، ولأن الزي الموحد الذي يرتدونه يجعلهم يتعرفون على بعضهم البعض بوصفهم أعضاء في نظامٍ جامع. البزات العسكرية - الشبيهة ببزات النازيين - والمُسدسات جعلت الأمر لُعبة مؤذية لا معنى لها. أتباع لورد فولدمورت، أكلة الموت، يرتدون أقنعة ولديهم عصي، ويتحركون مثل الصبية الذين يلعبون "عسكر وحرامية"، ويتسببون في أذىً صبياني لا معنى له إلا أن الآخر ليس عضواً في جماعتهم، ولا يلبس مثلهم.
أيكون ذلك لأن عُنف الكابيتان فيدال حقيقي، بينما عُنف لورد فولدمورت خيالي؟
واحدٌ من مشاهِد الفيلم الأكثر إرعاباً، المشهد الذي يقتل فيه الكابيتان فيدال فلاحين جبليين عثر عليهما رجاله صُدفة. هذا المشهد المُبكر في الفيلم واحدٌ من المشاهد التي لا يُمكِن نسيانها، وتجعل الكابيتان أكثر وحشٍ مُثير للرعب في الفيلم. في المُقابل، لورد فولدمورت يقتل أيضاً، ويقتل بطُرقٍ بشعة. فولدمورت يقتل الناس لمُجرد أنهم عبروا طريقه، وقائمة ضحاياه لا تستثني أحداً، حتى أتباعه المُخلصين. الكابيتان فيدال يقتل الفلاحين الإسبان، الثوار، والأطفال الصغار. السحرة - الذين يقتلهم فولدمورت - غير حقيقيون، ولا يُمكِن أن يوجَدوا، مما يجعل عُنف فولدمورت خيالياً. (في الواقع، فإنّه يذبح حُراس بنك غرينغوتس، وهم حراسٌ - المفترض - من غير السحرة).
غير أنّ العُنف في الحالين خيالي: عُنف الكابيتان فيدال عُنفٌ موجود داخل الفيلم، كما أن عُنف لورد فولدمورت موجود داخل الفيلم. إنّه ليس عُنفاً توثيقياً، ولا عُنفاً تاريخياً، ورغم أنّه يدور خلال الحرب الأهلية الإسبانية، فإنّه لا يدعي أنّه يوثق. الكابيتان فيدال فاشي - بل إنّه يبدو أقرب إلى النازية - بينما يُفترض أن لورد فولدمورت التجسد الأكبر للفاشية، وانبعاثه انبعاث النازية الجديدة في أوروبا. كُلا الشخصيتين دالٌ على موجودٍ خارج فضاء الفيلم، على عُنفٍ مُستمر، معنوي كما هو بدني.
ثمة ما يُقال بهذا الشأن، حتى بفرض أن (فنية) عُنف الكابيتان فيدال تُلغي (تاريخانيته) فإنّه يبقى حاضراً خارج فضاء الفيلم بشكلٍ لا يقدر عليه عُنف فولدمورت: إن الكابيتان عسكري يرتدي زياً عسكرياً موحداً ولديه مُسدس. هذه صورة كونية، تتجاوز المكان والزمان، العسكر هُم العسكر، وطبيعتهم لا تتبدل، في إسبانيا أو في جُزر واق الواق، والفاشية أداة العسكر، وهم صنيعتها وصانعها في الآن ذاته. فولدمورت - في المقابل - رجلٌ بلا أنف يرتدي عباءة ولديه عصا، بل إنّه حافي القدمين مُعظم الوقت، ولا يُذكِر أحداً بالوقعِ الثقيل للحذاء العسكري. الكابيتان فيدال، بمُجرِد هيئته، شخصية يتعرف عليها الجميع، مما يجعل أعمال العُنف الصادرة عنه تهديداً مُباشراً للمُتلقي. فولدمورت - في المُقابل - (رمز) لشرور الفاشية.
لكن، أليس تمرد فولدمورت بحد ذاته عملاً ضد المؤسسة أو السُلطة؟
قد يؤخذ تمرد فولدمورت على أنّه (كاونتر-ناراتِف counter narrative) أو خطابٌ مُضاد للمؤسسة السحرية (وزارة السحر، مدرسة هوغوورتس، ...) وسردياتها الكُبرى، لكن ما يفعله فولدمورت - في واقع الأمر - لا يتعدى بعثٍ سردية كُبرى فاشية - أقرب للنازية، طلباً للدقة - أقدم. إذ يبعث أساطير قديمة عن نقاء الدم السحري، ويستخدمها أداة للسُلطة. إن فولدمورت ثوري ضد المؤسسة بقدر أي عنصري يأتي اليوم مُطالباً بإعادة استعباد السود لأنهم من نسل حام الذي حُكِم عليه بأن يكون عبداً لأخويه سام ويافث.
فولدمورت يستخدم هذه الأساطير لجمع الأتباع حوله، مستخدماً العُنصرية الكامنة في المُجتمع لمصلحته الذاتية. من الواضح أنّه يؤمن بهذه الأساطير، لأنّه يتطوع لقتل مُعلمة كانت تُعلم أطفال السحرة عن غير السحرة. (ويُمكِن القول إنّه لا يحتاج إلى سببٍ ليقتلها، لأن فولدمورت يقتل وفقاً لنوبات مزاجه). إن مُشكلة فولدمورت الأساسية نفسه، ورُهاب الموت الذي يُعانيه، ولا تُمثل له المؤسسة التي يُعاديها، والمؤسسة التي يُحاول بعثها إلا أدواتٍ يؤكد بها على قهره للموت، وتغلبه على كُل سلطةٍ معه. فولدمورت ابن المؤسسة النجيب، وتفكيره يأتي من داخلها دائماً، ويصب في إطار حفظها بشكلٍ أو بآخر.
الكابيتان فيدال ابنٌ نجيب للمؤسسة - كذلك - لكنّه ليس ابن المؤسسة الأكاديمية مثل فولدمورت، وإنما ابن المؤسسة العسكرية، الذراع الباطشة للفاشية التي يراها الجميع. وخلافاً للفاشية التقليدية، فإن الكابيتان فيدال يرفض اجترار الأساطير والحكايات، فيسخِف من حكاية زوجته للكيفية التي التقيا بها - ويسخر من فكرة القدر - كما أنّه يصرف الحكايات التي يحكونها له عن شجاعة أبيه الجنرال فيدال، وعن ساعته التي هشمها عند موته ليعرف ابنه الساعة والدقيقة التي مات فيها.
الكابيتان فيدال يرفض الحكايات من مُنطلق اعتزازه الشخصي بنفسه، ورفضه لأن يكون (مُحتوى) داخل قفص، أو في إطارٍ فكري مُعين يسمح للآخرين بأن يُصنفوه ويحللوه نفسياً. الكابيتان فيدال يرفض الاستماع إلى حكاية أبيه لسببٍ مُركَب: أنّه شديد الاعتزاز بها، إذ تُمثل جزءاً من عقيدته في الحياة، والثانية أنّه يهدف إلى محو أبيه واستبدال أسطورته بأسطورته الشخصية. مُنذ ظهوره، يُركز الكابيتان فيدال على الوقت، وينظر في ساعته متأففاً من التأخير، كما أنّه يحاول إصلاح ساعة أبيه باستمرار ليُكمل أسطورته الذاتية.
هل خوف لورد فولدمورت من الموت يُعطيه بُعداً بشرياً يجعلّه شخصية يُمكن التعاطف معها بينما استعداد الكابيتان فيدال للموت يجعله شخصية مُصمتة بلا مشاعر ولا يُمكِن التعاطف معها؟
في هاري بوتر وآثار الموت - ٢ مشهدٌ بديع يُصور فولدمورت يسير حافي القدمين بين جثث من قتلهم في غرينغتس، تتلطخ قدماه بالدم شيئاً فشيئاً، بينما تعقبه حيته. المشهد مُرعب، ويُجسِد الهول الذي بقيت سلسلة هاري بوتر تدور حوله من دون أن تصل إليه. إن فولدمورت لم يتجاوز الثامنة، شعورياً، ولا يزال هو الطفل نفسه الذي يُعاني من البارانويا في الميتم. إنها حالة مُتطرفة من الوحشة التامة، الهجران. لقد تفتت روح لورد فولدمورت داخله من شدّة اليباس، حتى قبل أن يبدأ في قتل من هم حوله، وفي تقسيم روحه ليعيش إلى الأبد. رُهاب الموت الذي يُعانيه لورد فولدمورت قد يعود إلى أصلين: نفسي ومعرفي. أصلٌ نفسي من حيث أنّ موت أمه وبؤسه اللاحق جعلاه يهاب الموت، وضاعف الأمر البارانويا التي يُعانيها، واختلطت بجنون العظمة - كما تتطور الحالات المشابهة لحالته. أمّا الأصل المعرفي لرُهاب لورد فولدمورت فيعود إلى المؤسسة الأكاديمية التي لا تملك ما تتعامل به مع الموت. إنّ الموت حالة فناء، والأكاديميا لا تُقدم حلاً قاطعاً لما وراءه، أو لفائدته، وفي الآن ذاته، فإنها تُشجع على الخلود عن طريق الكُتب والأساطير التي تُروى عن الموتى. لورد فولدمورت، الأكاديمي الأستاذ، يُقرر استخدام المعرفة لتحطيم حاجز الموت، فيُحقق خلوداً فعلياً، لا خلوداً مجازياً. لورد فولدمورت - هُنا - أشبه بفاوستس الذي لم تُرضه البُنى المعرفية العقلية، وقرر عبور الحاجز لرؤية شيء يختلف عن المفاهيم المجردة التي تتحدث عنها الأكاديميا، فحُبِسَ في جحيمٍ من صُنع عقله. في المُقابل، عاش فولدمورت الكابوس الأكبر - وفقاً للأكاديميا - لقد صار قاتلاً مجنوناً. فولدمورت، عاش في كابوسٍ آخر مُشابه لكابوس فاوستس، له طبيعة أكاديمية، لقد تحول في مرحلةٍ ما من حياته إلى "إرادة محضة"، ولم يعد أكثر من مجرد فكرةٍ مُجردة عن الإرادة، لقد صار الظاهرة ذاتها، وكان ذلك المنفى أقسى تجربة عاشها، وساهمت في زيادة جنونه في فترة عودته القصيرة. إنّه لا يُريد أن يكون فكرة. الفكرة كابوس الأكاديميا المحض.
لكن، يبقى فولدمورت ابن الأكاديميا، وتبقى تصرفاته قادمة منها، ومرجعيته إليها. هو يزدري ما تزدريه الأكاديميا، ولا يحترم إلا ما تحترمه الأكاديمية: القوة، السُلطة، النفوذ، الفِكر. لذلك، يفصل - فصلاً تعسفياً - بين الخرافات الفاشية التي يؤمن بها - أو يُرددها من دون إيمان، وبين خرافاتٍ أخرى تزدريها الأكاديميا لأنها لم تحصل على اعتمادٍ أكاديمي، ولم تأتِ في هيئة فرضياتٍ وبحوثٍ ومقالاتٍ.
الكابيتان فيدال ليس مثقفاً، وأغلب الظن أنّه يُبغض الأكاديميا وكُل أفرادها، لكنّه يتقرب منهم ويقربهم إليه، كما تفعل النُظم الفاشية، إذ لا يستقيم نظامٌ فاشي بالعسكر وحدهم، لكن رغبته الأكيدة في الموت ليست ناشئة عن أمنية الموت التي يتحدث عنها فرويد، وإنما عن إدراكٍ لأنّه لن يفر منه، وأن نهايته ستكون القتل. تشبُع الكابيتان فيدال بأساطير الفاشية يجعله يرى الموت في سبيل إسبانيا الفاشية السبيل الأوحد لتحقيق مجده الشخصي، وهو متماهٍ مع ما يصفه نيتشه بأنّه "أخلاق السادة"، إذ أنّه مُستعدٌ للموت في سبيل فكرة، شرفٍ محض: النظام الطبقي، السُلم الطبيعي للمخلوقات الذي يُحدد مكان كُل مخلوق مُنذ ولادته ولا يُمكِن كسره. يجب أن يكون ثمة سادة وعبيد، يجب أن تكون ثمة طبقاتٍ اجتماعية متباينة، حدودها معروفة، وإلا انتهى العالم. موت الكابيتان فيدال - وأمثاله - يحفظ هذا النظام، لهذا مات أبو الكابيتان، ولهذا يموت، ولهذا يُهيء ابنه ليموت من بعده.
لورد فولدمورت والكابيتان فيدال يحتقران الحكايات، لكنهما طقوسيان متطيران. لورد فولدمورت يحترم طقوس النبؤات القديمة ويسعى إلى تحقيقها عن طريق اعترافه بها، بينما يسعى الكابيتان فيدال لإصلاح ساعة أبيه ولإعادة إنتاج نفسه في هيئة ابنه. مُطاردة فيدال لأوفيليا في المتاهة ليست مُطاردة أبٍ مفجوع، وإنما مُطاردة وحشٍ يحتاجُ إلى قطعةٍ أخيرة لإكمال طقسه. لذلك يقتل أوفيليا، بنفس منطق لورد فولدمورت الذي يقتل القطع التي لا يحتاجها لإتمام طقوسه - عندما يقتل سيدريك ديغوري ويُبقي على هاري بوتر، مثلاً.
لهذا أمكَن القضاء على الوحشين: لقد قتل فولدمورت نفسه بنفسه بطقوسيته الشديدة التي مكنّت هاري بوتر ورفاقه من كسر الأحجية التي استخدمها لإبقاء نفسه. (عمّر فولدمورت ستين عاماً ونيف، قضى ثلاثة عشر عاماً منها في المنفى عبارةً عن "إرادة" محضة، وأحد عشر عاماً في ميتم، وثلاثين عاماً من غُربةٍ إلى منفى إلى مخبأ، في صفقة خاسرة مثل صفقة فاوستس الذي قايض الأبدية بأربعةٍ وعشرين عاماً من الوهم - ومثل صفقة أي أكاديمي). وأُبيد الكابيتان فيدال، ليس فقط بقتله هو شخصياً، وإنما بكسر العود الأبدي للفاشية التي يحرسها: "ابنك لن يعرف اسمك حتى!"
 مُشاهدة الدمار النهائي لكُلٍ من لورد فولدمورت والكابيتان فيدال ليس فقط لحظة (كاثارسز) للمُتلقي، وخاتمة ضرورية للمأساة اللاتينية - في حالة الكابيتان فيدال - وحالة اضطراب العالم التوراتية  - في حالة لورد فولدمورت - وإنما أملاً بإمكانية التغلب على الفاشية، مهما كان الطريق طويلاً وشاقاً ويقتضي مجالدة عسيرة للنفس.

29 يناير 2012

الشقا

وأشقى حتى أتعب،
يقولون: أنت لا تشقى حتى تتعب،
فأشقى مفتحاً عيوني، 
باحثاً عن طريقٍ في النهار،
عن حياةٍ في الليل.
يا ربي!
أخذت حيوات كثيرين من ناسي
لكني أسأل، بس، ليش ما أخذت حياتي؟
صدق، بجهنم، إيش الصح في حياتي؟

أخرجني من حي كأنه سجن الولاية!
أخرجني من الحي في نعشٍ أو بنتلي.
خذني بعيداً كأنني تعاطيت جرعة كوكايين زائدة.
خذني بعيداً مثل رصاصة من انتحار كرت كوبين.
أنا من مدينة الريح، حيث تفعل أو تموت،
من حيٍ قريب من المكان الذي صلبوا فيه بيغي،
كان يسوع بروكلين، وقتلوه من غير أي سبب!
هل تعرف الآن لماذا يرتدي كانييه قطعاً من يسوع؟
لأن هذا يسوع يا ناس، وغيم النِد،
مكروهاً ومكروهاً، لأن آلام المسيح يحتاج إلى جزء ثانٍ..
ييه، مثلما احتاجت روكافيلا إلى سيغل،
مثلما احتجتُ أبي، لكنه كان يحتاج إلى إبرة.

أحتاج لبعض التأمل حتى أترك ناسي
يسألون، يسألون "لماذا ترك جون لينُن البيتلز؟"
ولماذا كل زنجي من الحي يرضع الشر؟
أجب عن سؤالي قبل أن تغادر الرصاصة هذا الديزرت إيغل!***

وأشقى حتى أتعب،
يقولون: أنت لا تشقى حتى تتعب،
فأشقى مفتحاً عيوني، 
باحثاً عن طريقٍ في النهار،
عن حياةٍ في الليل.
يا ربي!
أخذت حيوات كثيرين من ناسي
لكني أسأل، بس، ليش ما أخذت حياتي؟
صدق، بجهنم، إيش الصح في حياتي؟

نحن لسنا متشابهين، أنا وصلت التجلي.
لذا اقترب من سيارتي الشبح بحذر.
شفت "التوينتي فور" تِلِف؟* حقي!
ولا أعظ، فاسمع مني إرِك سِرمُن.^

إذن، كُل هذه الموسيقى السوداء وقل لي كيف طعمها، الآن!
وطز في جيسي جاكسُن لأنها مش مسألة عرق، الآن!
وأحياناً، أفكر في حياتي ووجهي للنازل،
وأفكر في أولادي، فابتسم مثل كانييه.
الملعون! أمه فرحانة وأعرف!
ولأنك ساعدتني أبيع حلمي، تعال أقاسمك أمي الآن!
وعلى رأي إم.جيه.بي، "كفاية أفلام هابطة!"
وعايشين حياة كويسة، أنا وكومون في أرضٍ ما بيننا.

أتفل كراك**، والزنوج يوزعونه خارج المدينة
وعايش في حالة كرِس بول، وكل الوقت مُقيّد
حياتي كانت فارغة مثل الكلُك بلا مشط
والآن مليانة مثل التشوبر بألف مِشَك.***

وأشقى حتى أتعب،
يقولون: أنت لا تشقى حتى تتعب،
فأشقى مفتحاً عيوني، 
باحثاً عن طريقٍ في النهار،
عن حياةٍ في الليل.
يا ربي!
أخذت حيوات كثيرين من ناسي
لكنني أسأل، بس، ليش ما أخذت حياتي؟
صدق، بجهنم، إيش الصح في حياتي؟

أمشي عبر بوابات جهنم وأرى سيارتي الأمبالا مركونة هناك.
وأشعة مصوبة علينا، وأنا والشيطان نجر بلنطات****،
نسمع ألبوم الكرونِك، شغال بالمقلوب،
ونهدّف رصاص على صور دون آيمُس.^^

وراسي مخبوط فأغطيه بقبعة رايدر،
أنا من المدينة اللي خلتكم - يا عيال الجبانة - تخافوا من شوغ!
(كومبتُن)
خليت جدتي تدعي دايماً،
وعمري ما خليتها تفرح، لكن المرسيدس الجديدة تفرحها أكيد.

لا توجد قضبان، لكن لا يوجد من يستطيع أن يهرب من الحي.
أخذوا الكثيرين من أصحابي الزنوج، والمفروض أن أكره الحي.
لكن الزنوج الصدق مثلي هم الذين يصنعون الحي.
راكبين سيارات الفانتوم فيه ببطء، مثلما أفعل بسيارتي،
وسقف السيارة مرفوع، ولابس قبعة السوكس.^^^
ودافع ثمن كل شيء بالكامل، الزنجي ألبو^^^^ لم يستطع منعي.
وحتى لو أحيوا الزنجي باك من جديد،
أقدر أرجع ابن الجبانة هذا مدفون.

وأشقى حتى أتعب،
يقولون: أنت لا تشقى حتى تتعب،
فأشقى مفتحاً عيوني، 
باحثاً عن طريقٍ في النهار،
عن حياةٍ في الليل.
يا ربي!
أخذت حيوات كثيرين من ناسي
لكنني أسأل، بس، ليش ما أخذت حياتي؟
صدق، بجهنم، إيش الصح في حياتي؟

ذا غيم (مع لِل وين)
(نسخة منزوعة البذاءات)

مُصطلحات:
* إطارات سيارة قُطرها أربعة وعشرون مليمتر، تُطلى بالكروم، دليل على الثراء.
** مخدرات، بقيت بالعامية الزنجية.
*** الديزرت إيغل والكلُك نوعان من المسدسات، والتشوبر رشاش AK-47. مِشط: عبوة رصاص صغيرة الحجم. (عامية). مِشَك: شريط رصاصات متصل ببعضه. (عامية).
****البلنط سيكار مُفرغ من التبغ محشو بالماريغوانا. نجر بلنطات: نُدخن الماريغوانا معاً.

توضيحات:
^ الاسم الأخير للمُغني يعني "موعظة" بالإنكليزية.
^^ دون آيمُس مُذيع أمريكي أبيض عنصري علّق تعليقات مُخزية على لاعبات كرة سلة سوداواتٍ، واصفاً إياهن بإنهن مجرد "زنجيات ذوات شعرٍ أكرت" وبالغ في الإهانات العنصرية.
^^^ الجوارب الحُمر، من أشهر فرق البيسبول الأمريكية. فريق بوسطن، ماساتشوستس. فريقٌ للأثرياء، غالباً.
^^^^ على الأرجح، يقصد ألبو مارتينيز، لكنّه لم يُحقق ما يكفي من النجاح ليُصبح لديه صفحة ويكيبيديا، ولا توجد صفحة معلومات شاملة عنه في مواقع أخرى.

13 يناير 2012

ما وراء الطبيعة ١٠١

كتبتُ العديد من التدوينات عن سلسلة ما وراء الطبيعة، بدءاً بالتدوينة ذات الاسم (الأسطوري): "في عالم ما وراء الطبيعة: سينما، سينما، نوستالجيا، نوستالجيا" (٢٠٠٧) وانتهاء بالتدوينة ذات الاسم الأخف: "لوسيفر" (٢٠١٠). ولعله من العدل أن تنتهي جولتي في عالم ما وراء الطبيعة بتدوينة عن التفضيلات الشخصية في السلسلة، تشمل الأفضل، الأكثر إرعاباً، والأسوأ - من وجهة نظرٍ شخصية.

الأفضل
بشكلٍ عام، فإن أفضل قصص السلسلة القصص التي تدور في مصر. (أو في ليبيا، فأسطورة حارس الكهف تلي الأساطير في هذه القائمة مباشرة). رُبما بسبب عوامل الألفة مع المكان والجو، ورُبما لأن نقل الرُعب إلى البيئة المعهودة للمرء ينطوي على براعة كبيرة، ورُبما كان هذا ناجماً عن تشبعٍ بالتراث الغربي للرعب إلى حدِ رفضه، ورُبما - ببساطة - لأن القصص التي تحدث في مصر أفضل القصص. مع ذلك، ثمة قصتان لم تحدثا في مصر ضمن قائمة أفضل القصص: أسطورة الفصيلة السادسة، وأسطورة الرجال الذين لم يعودوا كذلك. لم تدخل أسطورة الفصيلة السادسة القائمة بسبب احتواء القائمة على على سبع مراتب فحسب، لكنها في المرتبة التاسعة - بعد حارس الكهف - في قائمة من عشر مراتب.

٧. أسطورة الرجال الذين لم يعودوا كذلك
كابوس حشراتي ينطوي على كمٍ كبيرٍ من الأشياء الباعثة على التقزز. (ليس بقدر أسطوة الشيء، لكن، بما يكفي لأن يُذهب رغبة المرء في العشاء). تناولت السلسلة موضوع الكوابيس الحشراتية من قبل في إحدى قصص حلقة الرعب، وفي القصة التي تُمهِد لأسطورة الرجال الذين لم يعودوا كذلك، أسطورة ملك الذُباب. ملك الذُباب من القصص الجيدة في السلسلة، والطريقة التي رُبِطَت بها مع مصر جميلة. ثم تأتي قصة الرجال الذين لم يعودوا كذلك، وتقع على مرمى حجر من المكسيك الجديدة (ضمن الحدود الطبيعية للمكسيك)، في الأراضي الأمريكية. رفعت إسماعيل، هاري شِلدون، وكابوس انمساخ يدور في الجنوب الأمريكي. يحتوي كل هذا العدد على كُل ما يصنع فيلم هوليوود سخيفاً من أفلام الفئة ب، لكنه - في الواقع - عددٌ ممتاز. القيظ الشديد في الصيف الهندي، شخصية المكان، القلق الذي يُسيطر على البلدة، حالة الانتظار المستمرة لنهاية العالم، المسخ، والكيفية التي يُحَلُ بها الأمر.
٦. أسطورة بيت الأشباح
العلامات الدامية، الرجال الذين لم يعودوا كذلك، بيت الأشباح ونادي الغيلان تؤشر على أخصب مراحِل السلسلة، حينَ كان كُل إصدارٍ لا يقلُ جودةً عن سابقه، بل يفوقه. تدور بيت الأشباح حول رجلٍ يُمارِس السحر في قبو بيته. قصةٌ مألوفة، لا بُد وأن كثيرين قد سمعوها همساً في الطفولة، لكن أحمد خالد توفيق يأخذ كوابيس الطفولة المتعلقة بالأشباح في القبو إلى مستوى جديد من الجودة. رفعت إسماعيل في حالةٍ طيبة هنا، رُبما من أفضل حالاته في السلسلة، ودعابته مُسلية من دون فظاظة أو جرح - وهذا مُستغربٌ منه. وإذا كان المرء - في طفولته - من الذين يخافون القبو، ويؤمنون بأن ما فيه ميتافيزيقي، وقادر على مد الأذى إلى الخارج، فإن هذه القصة لا تُقرأ إلا في رابعة النهار، لأنها ستذكره بكُل ما ترك وراءه مع الطفولة.
٥. أسطورة الجاثوم
أسطورة الجاثوم وآخر الليل عملٌ واحد في واقع الأمر، ويراه البعض أفضل أعمال السلسلة. أسطورة الجاثوم من الأفضل، بالطبع، ومن أكثر الأعداد إرعاباً. يرتبط هذا العدد بالطفولة، وينطوي على قدرٍ كبيرٍ من الرُعب، غير أن الرُعب ليس ما يجعل هذه المغامرة على قدرٍ كبيرٍ من الجودة - وإن كان يُساعِد كثيراً - وإنما الجو الذي تدور فيه الأحداث، والكيفية التي تترتب بها مؤامرة الجاثوم. بطلُ المغامرة مُدرس رياضيات يرمز لاسمه بحرف (هـ)، يتغلب على رفعت في سلاطة اللسان والوقاحة، ويقع في مشكلة كبيرة مع كوابيسه. مشاهِد قصر الإقطاعي من أفضل المشاهِد في السلسلة قاطبة، مع المفارقة الظاهرة في خطاب (هـ) عن أجداده الفلاحين في وجه إقطاعي تركي متغطرس. شخصية الأب المُهيمن في القصر توازي شخصية الجاثوم نفسها. الأمرُ عبارة عن مسرحية، والكُل قد اتخذ دوره فيها استعداداً للفصل الأخير، الفصل المهول.
٤. حلقة الرُعب
أولى حلقاتِ الرُعب، وأكثرها بعثاً على الرعب والدفء في الوقتِ نفسه. تدور في شتاء الإسكندرية الماطر، وتضُم صُحبة من أقرب الشخصيات إلى قلبي في السلسلة، المحلل النفسي سامي فهيم وزوجته ثُريا، والشرطي عادل توفيق وزوجته سهام، وهويدا - خطيبة رفعت إسماعيل السابقة، وكاتب رُعب طباعه بغيضة كطباع رفعت إسماعيل. ثمة قصصٌ هي عبارة عن "تمصير" لقصصٍ من أفلام معروفة، لكن الجو العام للكتيب العاشر جميلٌ، حميمي، ودافئ. والنهاية الملتوية كانت مفاجأة جيدة. الخشونة في هذه الحلقة تجعلها أقرب إلى القلب من حلقات أخرى أكثر (صقلاً) مثل وراء الباب المغلق.
٣. أسطورة الكلمات السبع
هذه الأسطورة متأثرة للغاية بقصة إدغار ألان بو "قناع الموت الأحمر"، لكن هذا التأثر لا يعني أنها رديئة. بالعكس، أسطورة الكلمات السبع من أفضل قصص السلسلة قاطبة. قد يرى البعض أنها تقل عن الجاثوم، لكنها تفضلها لأن راويها - رفعت إسماعيل، هذه المرة - لا يُبالغ في أهمية ذاته، وليس على القدر ذاته من السايكوباثية الذي ينطوي عليه راوي الجاثوم. واحدٌ من أكثر مشاهِد الكتيب رُعباً، دخول رفعت إسماعيل إلى المكان الذي كان الموت ينتظره فيه - والمسافر يتخذ هيئة الحاصد الجَهِم. كذلك، فإن إلحاح المسافر مُثير لكوامن البارانويا في النفس. البداية في إسكتلندا مخيفة، لكن القصة الحقيقية تحدث في مصر. والنصيحة التي تُوجَه لـ"الإخوة السفاحين الإسكتلنديين" واحدة من (طلعات) رفعت الأصيلة.
٢. أسطورة العلامات الدامية
لو كُنت سأصنع فيلماً من السلسلة، فإنه سيكون مأخوذاً من أسطورة العلامات الدامية. الكتيب يحتوي على كُل ما يصنع فيلماً جيداً: حبكة جيدة، هدفٌ واضح للشخصيات، قدرٌ وافر من الرُعب، تعددٌ في الأمكنة والأزمنة، ونسيج درامي ثري. العلامات الدامية - بغض النظر عن عنوانها - مشوقة منذ الصفحة الأولى. وتنطوي على رُعبٍ ميتافيزيقي يتعدى المكان والزمان. تورط رفعت إسماعيل في القصة يجيء بسبب خلفيته الميتافيزيقية، رغم أنّه لم يكن معنياً بها من البداية. ثمة كتاب، وثمة جامعون لهذا الكتاب، وثمة قوة تمنعهم من جمع الكتاب. الكتاب نفسه ملعون، وواشٍ. وفي النهاية، فإن الرواية تُشعل الذُعر المُتعلق بحدود المعرفة، وما إذا كانت المعرفة ترتبط بزوال الأمن. الرواية تستمدُ فكرتها الأصلية من كون هوارد فيلِبس لفكرافت الخيالي، وتظل وفية للفكرة المسيطرة عليه: المعرفة التي تقود إلى فقدان الأمن، وإلى البارانويا.
١. أسطورتنا
هذا ليس كُتيباً مُرعباً، بل يصحُ أن يُقال إنّه رومانتيكي. تدور القصة في بيئة ريفية مصرية فلاحية تخلو من حذلقات الأفندية مثل رفعت إسماعيل. الشخصية التي تروي القصة جزء من بيئتها، وتحبها. ليست غريبة عنها مثل رفعت، ولا تُحبها حُباً كولونياليا مثل حبه لكفر بدر. صحيح أنّه يتدخل بين حين وآخر لتوضيح أفكارها بلغة الأفندية، لكنه - في المجمل - غائب عن الكُتيب. القصة قصة أسرة، ترويها إحدى بناتها، وهذه جاذبيتها. الأمرُ لا يتعلق بالرعب، ولا بالغرابة، بل بالأسرة، بالبيت الذي يجري فيه الزمن بشكلٍ مُختلف. البيت ذاته ميتافيزيقي، ويمتد أثره إلى (جغرافيات غريبة) مثل القاهرة. العلامات الدامية تحتاج إلى مُخرجِ قوي الشكيمة، يحافظ على خطها الإنساني، ويحميها من التحول إلى فيلم أكشن، بينما تحتاج أسطورتنا إلى مخرج حساس يُسِلَم نفسه لجوها، ولا يفرض عليها أياً من الأفكار الأفندية المُسبقة عن الريف. (وقوي الشكيمة، أيضاً، لئلا يحولها إلى كتلة لزجة). هذه القصة أخطر قصص ما وراء الطبيعة، قاطبة، لأنها تتعامل مع التوق البشري للبقاء، ومع الاختلاف. من السهل وصف الأسرة بأنها "مختلة"، لكنها ليست كذلك. إنها خارج السياق المجتمعي، لكنها "طبيعية في ذاتها". هذا يطرح تساؤلات كثيرة عمّا هو طبيعي، وما هو غريب، مختل، أو مرفوض.


الأكثر إرعاباً
٧. أسطورة البيت
ينطوي هذا الكُتيِب على لُعبة نفسية: مواجهة مخاوف الطُفولة و(جرائمها) الصغيرة. هذا الكُتيب واحدٌ من أكثر قصص السلسلة جودة وبراعة، كما أنّه من أكثرها بعثاً على الرعب، إذ يكفي مشهدُ شيراز في صالة بيت ابن خال رفعت وحده ليضمن لهذا الكتاب مكانه في القائمة. غير أن أكثر ما يبعث على الرُعب في الأمر أن ألعاب الطفولة البريئة تلحق بالمرء بشكلٍ لا يُمكِن الفكاك منه. الأمرُ كُله يتعلق بفضولٍ طفولي، ثم اضطر الأطفال إلى هجر البيت وصديقة طفولتهم تحت ضغط الكبار، ثم عادت صديقتهم المهجورة لتنتقم. جزءٌ من الأمر يتعلق بالطفل المنبوذ، وجزءٌ منه يتعلق باكتشاف المرء أن جزءاً كبيراً من طفولته كان وهماً. هذا الكُتيّب واحدٌ من القصص الشاعرية القليلة في السلسلة، وواحداً من أكثرها بعثاً على الرُعب.
٦. أسطورة المينوتور/أسطورة الطوطم
كلتا الأسطورتين تتشاركان شيئاً مُهماً: أنهما تدوران حول مسخ يقف على قدمين مثل الإنسان، لكن جذعه جذع وحش. ثمة شيء مُرعب بشأن هذا النوع من المسخ، أكثر من الفكرة الشائعة عن القنطور - مثلاً - ذي الجذع الإنساني والأقدام الحصانية. أسطورة المينوتور تشبه في قصتها فيلماً نسيت عنوانه (لو أن ثمة من يُمكِن يتصفح مُلحق حبكات أفلام الرعب في كتاب السينما الخيالية الذي ترجمه مدحت محفوظ ويزودنا بعنوان الفيلم!) لكنها مُرعبة مع ذلك، وفيها مشاهد من الصعب نسيانها، مثل تحديق المينوتور بالزوجة من وراء زجاج النافذة. الطوطم تحتوي على مشهدٍ يصعب نسيانه كذلك، خروج الطوطم من مكانه وتدميره لشقة رفعت إسماعيل. الرُعب المرتبط بإمكانية تعرضه للوحش، وبتدنيس حرمة البيت، الذي يعتبره المرء ملاذه وحصنه الطبيعي. مع ذلك، فإن للمرء تحفظاتٍ كثيرة على الطوطم: أولها استغلالها الكولونيالي لتراث الهنود الحمر. استغلال هوليوود للهنود الحمر بالشكل الذي نراه حالياً لا يُبيح للعرب فعل الشيء نفسه، لأن العرب شعوبٌ ترزخ تحت الاستعمار البشع ذاته الذي ترزخ تحته الشعوب الهندية الحمراء. واستغلال أساطير بعض الأمم الهندية بهذا الشكل الكولونيالي نوعٌ من أكل المرء لحم أخيه في الاضطهاد.
٥. أسطورة رجل بكين
هذه أسطورة مُرعبة، تحتوي على قدرٍ كبير من الأشلاء والأشياء الباعثة على التقزز، ومُخلفات الحرب العالمية الثانية. في العنوان لعبة، فالأسطورة ليست عن رجل بكين، وإنما عمّا فتك برجل بكين، وعاد إلى الحياة. مشهد الصناديق في قعر السفينة ثم في القطار يُذكر بمشهد التوابيت في قعر السفينة في رواية دراكيولا بكُل ما يبعثه من قشعريرة وتشاؤم. ثمة شيء طريف بشأن هِن-تشو-كان، صديق رفعت إسماعيل المسافر عبر الأزمنة: المسوخ التي يتعرض لها مسوخٌ حقيقية، رجل الثلج ورجل بكين، لكنه يستطيع التصرف بشأنها. يُفترَض أنّه قد تم الخلاص من (الشيء) وأنّه لن يعود ثانية، لكن بقاء هذا الشيء آلاف السنين، وقصة تنقله بين الأمريكيين واليابانيين، ومذبحة القطار، وجو القصة الكئيب الذي يدور في اليابان يجعلها من أكثر قصص السلسلة (هولاً) وبعثاً على الكآبة والقشعريرة. بالنسبة لي، ليس هذا بالكُتيِب الذي تُعاد قراءته للمتعة.
٤. أسطورة لعنة الفرعون
رفعت إسماعيل يحتقر الثقافة الفرعونية، وقد يكون هذا فعلاً ثورياً لأن التراث الفرعوني جزء من الطريقة التي يُحَوِلُ بها الغرب - هوليوود خصوصاً - مصر إلى أغربة، أو إلى "نكتة فلكلورية". غير أن رفعت يحتقر الثقافة الفرعونية من منطلق احتقاره لكل الثقافات الوثنية، ويستوي عنده في ذلك التراث الفرعوني مع الإغريقي مع الهندي الأحمر. لذلك، فإن التعارض بين خوف علماء المصريات من اللعنة، وبين استخفاف رفعت بما يحدث حوله يسمح بحدوث قصةٍ كارثية تحتوي على قدرٍ وافرٍ من الرُعب. في الواقع، يتطلب الأمرُ قدراً من البراعة لكتابة قصةٍ مُرعبة حول لعنة الفراعنة بعد أن استنفد المستعمرون كل الحبكات المتعلقة بالمسألة. المشهد الذي يفتح فيه (الشيء) النافذة وحده كفيلٌ بأن يجعل هذه الرواية واحدةً من الأكثر رُعباً في السلسلة.
٣. أسطورة الجاثوم
الجاثوم مسخ، لكن الرُعب فيها ليس رُعب مُسوخٍ بسيطاً مثل ذاك الذي في المينوتور والطوطم ورجل بكين ولعنة الفرعون وحارس الكهف. رُعب الجاثوم متعلقٌ بالحدود بين الحُلم والواقع، وانهيار الحدود بين الواقعي والخيالي. من المُمتع أن يتخيل المرء وجود الجاثوم، لكن خروج الجاثوم من أحلامه فزعٌ لا مَفَرَ منه. انهيار الحواجز، مع احتفاظ المرء بحسه بالواقع، أكثر رُعباً من الجنون ومن البارانويا. إنّه أمرٌ لا يُمكِن التعامل معه إلّا بأن يكون المرء جزءاً منه.
٢. أسطورة العلامات الدامية
هذه ثاني أسطورة في قائمة الأفضل تدخل قائمة الأكثر رُعباً. يُمكِن القول بإن الجاثوم تفوقها رُعباً وجودة، لكن الجاثوم كانت "غائية" في رُعبها. أي أن للجاثوم هدفاً مُحدداً، والطريقة المسرحية التي يترتب بها الأمر تختلف عن الكيفية التي تترتب بها مذابح كتاب العزيف. في هذه الرواية، مُعظم المشاركين في جمع كتاب العزيف لا يؤمنون بأنه يملك أي نوعٍ من القوة، وهم يفعلون ذلك مجاملة لزميلٍ لهم أراد مجاملة أستاذه الإنكليزي. (هذه النُقطة بالذات تجعل هذه القصة ومضة تجلٍ خالص بإشارتها الواضحة إلى الكولونيالية). الرُعب بحد ذاته أمرُ ميتافيزيقي، والرُعب المعرفي بعدُ آخر من الميتافيزيقية. الخوفُ الحقيقي ليس من العشرين شيطاناً، وإنما من (المعرفة) بهم. الرُعب من العزيف رُعبٌ من المعرفة التي يجلبها الكتاب. ولذلك يُسبب مُلخص "العشرين شيطاناً" رُعباً آخر. إنّه ينطوي على معرفة. ولذلك كان كُل ضحايا الكتاب من أصحاب المعرفة. رفعت لم يذهب ضحية للكتاب لأنه رفض المعرفة - أكثر من كونه قد تلقى معونة من صديقه الساحر اليهودي. كذلك، لا يخلو هذا العدد من رُعبٍ مسوخي يتفوق على الرعب الذي يمثله الجاثوم والطوطم والمينوتور وحارس الكهف مجتمعين.
١. أسطورة حارس الكهف 
الإمكانيات السينمائية للسلسلة أمرٌ يتحدّث عنه الكثيرون مُنذ بدءها. ومن المُمكِن أن يُجادِل المرء بأنها قد كُتِبَت للتناول الدرامي، فمُعظم قصصها تصنع أفلاماً جيدة من الفئة ب. لكن - في تقديري الشخصي - فإنّه يُمكِن للمرء أن يصنع ثلاثة أفلام عظيمة بناء على (العلامات الدامية، أسطورتنا، وحارس الكهف). ثمة أخطاء جغرافية بالجُملة في الكتاب، الأمرُ الذي يبعث على قليلٍ من الحرج، لكن هذا ليس مُهماً، لأنها رواية وليست كتاب جغرافيا. (نعم، نعم، الخلل في تحديد موقع كهوف الطاسيلي أصلاً يهزم غرض القصة، لكن هذا أمرٌ قابل للإصلاح في الفيلم. المهم أن القصة جيدة).
يُمكِن أن توصف هذه القصة بأنها قصة رُعبٍ مسوخي عادي، لكن جانباً كبيراً من الرُعب فيها يأتي من البعثة نفسها التي خرجت للاستطلاع: رفعت إسماعيل العصبي الذي يشتبك دائماً مع الإيطالي المجنون باولو جيرالدي، أحمد ومحمود الليبيان الذان يذهبان ضحية لجنون الإيطالي، الطوارق الذين يعيشون في المكان لكنهم لا يملكونه، وتُعكر صفو حياتهم أفعال المستجدين عليه. الصحراء بحد ذاتها مخيفة وكئيبة، ويُضاف إليها الثقل الميتافيزيقي للجنون، واعتقاد باولو جيرالدي أن ميراثه الاستعماري يُخوله التحكم بأهل البلد، ثم فتح البوابة. إنها الجانب المُظلم من المغامرة: قد تقود المغامرات إلى ثرواتٍ طائلة مثل ثروات المايا والإنكا، وقد تقود إلى إخراجِ رُعبٍ دفين. ثم إن هذا الرُعب متجددٌ لا ينقضي، إن ذهب واحد، ثمة آخرون. مسوخ، جنون، صحراء، وحشة، ورُعبٌ معرفي. حارس الكهف أكثر قصص السلسلة رُعباً على الإطلاق، وتُبطن كُل ثيماتها اللاحقة.
(المونتاج لمشهد سقوط الطائرة جيد، لكنه ليس ما كُنت لأفعله. إنّه أكثر "هوليوودية" مما ينبغي من قصةٍ صحراوية. ينبغي احترامُ الصحراء، خصوصاً في المونتاج).

الأسوأ
يُمكِن القولُ  إن كُل الكُتيبات الصادرة بعد أسطورة الطوطم تصلُح للدخول في قائمة أسوأ الأساطير الصادرة، غير أن هناك درجاتٍ للسوء بينها، تتربع على قمته أسطورتا الطفيل والفتاة الزرقاء، وكلتاهما تزيحان قصصاً مثل أسطورة معرض الرعب خارج قائمة الأسوأ. بينما تتوزع بقية القصص في قائمة الأسوأ على تاريخ السلسلة. في الغالب، فإن السلسلة لا تُبلي حسناً مع الخيال العلمي وقصص الفضاء، وقد يعود هذا إلى أن الخيال العربي ما زال يرى الفضاء بعيداً وغير مسكون، (أو - ببساطة - إلى تفضيل شخصي). كان يُفترض بثُلاثية إيجور أن تكون ضمن القائمة، لكن اقتصارها على سبِع مراتب جعلها لا تظهر. ثُلاثية إيجور تحتل المرتبة الثامنة في قائمة الأسوأ، منفردة بين جميع روايات السلسلة بطولها المُبالغ فيه.
٧. أسطورة الطفيل
في السلسلة العديد من المزحات، وكانت أسطورة الطفيل تحظى بلقب أسمج مزحة، حتى انتزعته منها أسطورة الفتاة الزرقاء. رِفعت إسماعيل وهِن تشو كان في مول مُغلق، تحاصرهما (أمهات) من الطين، يطلعن عليهم من "البالوعة". مزيجٌ من رُعب الجسد، الميزوجينيا، ومفارقة بين احترام عقيدة هِن تشو كان، وبين "مسخرة" الإلقاء بكتاب النافاراي في المجارير. خليطٌ مضطرب ومشوش، ينتج عنه كُتيبٌ أقرب إلى الاشتغالة.
٦. أسطورة العراف
(كوكتيل) خيال علمي: فيروس مدمر، سفر عبر الزمن، سيناريوهات "ماذا لو" متعددة. حُلَت مُشكلة عدم العِلم بالغيب بالسفر عبر الأزمان، لكن المُسافِر عبر الأزمان يُسافِر ليُغير من قدره في الأصل. وهذا يدخل في نطاق "منع القدر": لقد عرف مصيره، وهو الآن يُحاول منع منبعه. أي أن منطق العمل يبقى يأكل بعضه بعضاً. ثمة نواحٍ لا بأس بها في القصة، لكن العمل كُله أطول مما يُحتمل، والأشعار فيه خطرٌ على الصحة العامة.
٥. أسطورة الدمية
لا حرج في عدم الإيفاء ببعض الوعود، خصوصاً لو كان الإيفاء الناتج أسطورة الدمية. هاري شيلدون، صديق رفعت إسماعيل الأمريكي المولع بالنساء، يقع تحت استحواذ ساحرة فودو إفريقية، بينما يحاول استرداد دمية زوجته. مزيجٌ من الفودو، البحث عن الغرين كارد، وبعض الهوكس بوكس. الفكرة عن الفودو في السلسلة قد ينطبق عليها مفهوم "الاستشراق" الذي تتذمر منه السلسلة نفسها في وصف المجلس (العربي) في حكايات التاروت.
٤. أسطورة الفتاة الزرقاء
لا توجد فتاة زرقاء في القصة، ولا معنى للاسم أو دلالة. هذه واحدة من مزحات السلسلة، لكنها - حتى الساعة - أشد مزحاتها سماجة. ثمة أشياء معقولة في القصة، وفيها يعود رمزي حبيب الغائب عن السلسلة مُنذ أسطورة صندوق بندورا، لكنها عودة باهتة، تكاد تخلو من أي قيمة. يظهر أن هذه القصة جسرٌ بين المغامرات المُسلسلة في بعض المواقع، وبين السلسلة نفسها.
٣. أسطورة المنزل رقم ٥
لا بُد أن تظهر قصة خيالٍ علمي في السلسلة بين حين وآخر. (في الواقع، يُمكِن القول إن كُل قصص السلسلة قصص خيالٍ علمي بشكلٍ أو بآخر، لكن الخيال العلمي هنا محصور بقصص الفضاء الخارجي، والقصص التي تحتوي على مختبرات وتحاليل وتفسيرٍ "علمي" على نحوٍ ما). قصص الفضائيين واضحة: فضائيون يتنكرون بثياب الأرضيين، ويأتون إلى الأرض في مهمة. أول قصص "إنهم بيننا" في السلسلة كانت "اشتغالة" من لوسيفر لرفعت ضمن حكايات التاروت - بعد استثناء أسطورة الغرباء، التي اتضح أنها كابوس برد. "اشتغالة" لوسيفر طريفة، مُقارنة بحكاية المنزل رقم ٥. رفعت إسماعيل يجد نفسه في منزلٍ في أستراليا ليس إلّا سفينة فضائية ستعيد الفضائيين إلى كوكبهم. الفكرة طريفة، لكنها ليست ميتافيزيقية، وليست مُرعبة، وليس فيها تجديد في مسألة الفضائيين، وليس فيها خيط أحداث مثير للاهتمام.
٢. أسطورة الغرباء
يُقال أن ثمة نادياً لكارهي أسطورة الغرباء. إذا كان موجوداً بالفعل، فسأنضم إليه. ثمة قسمان لهذه القصة: قسمٌ يُروى عن طريق قصاصات الصُحف والمذكرات، وقسمٌ يحكي فيه رفعت قصة كابوس فضائي سويسري. (من السهل أن يحزر المرء القسم الجيد فيهما.) بشكلٍ عام، فإن كُل القصص التي تحدث في سويسرا مملة وكئيبة، رُبما بسبب عُنصر الإزاحة المكانية. غير أن عُنصَر الإزاحة المكانية موجودٌ أيضاً في قصصٍ كثيرة من السلسلة، وتبقى قصصاً جيدة. سويسرا بلدٌ ثقيل الدم.  هناك استحواذٌ فضائي. وقصةٌ مأخوذة عن فيلم. وفي النهاية، فإن رفعت لم يتغطَ جيداً قبل أن ينام. (رفعت يستطيع أن يغلب سويسرا في ثقل الدم).
١. أسطورة (###099)
فضائي في مُهمة يعجز عن العودة إلى كوكبه. العنوان يقول كُل شيء. المُلام من يقرأ كتاباً عنوانه أسطورة ###099، ويتوقع منه أن يكون معقولاً.

ومن ثم؟
هذه ثلاث قوائم شخصية للأفضل، الأكثر رُعباً، والأسوأ في السلسلة، وبلا شك، فإن التفضيلاتِ الشخصية تختلفُ من شخصٍ لآخر. واحدٌ من أسباب وضع هذه القائمة شعورٌ بالفضول إزاء التفضيلات الشخصية للآخرين: ما الذي تعتقدونه الأفضل؟ الأكثر إرعاباً؟ أو الأسوأ؟
يتبقى من السلسلة كتابان، أسطورة حامل الضياء - التي يُفترض أنها تدور حول لوسيفر - والكُتيب الأخير. وسيكون خيراً للجميع لو تأخر صدور هذين الكتابين أطول وقتٍ مُمكِن. الرُباعية الجيدة في السلسلة (العلامات الدامية، الرجال الذين لم يعودوا كذلك، بيت الأشباح، ونادي الغيلان) جاءت بعد فترةٍ ما من الانقطاع، وفيها كان رفعت في أحسن حالاته، كما أن المادة الأدبية لهذه الكُتيبات كانت دسمة، حتى صح أن تُسمى روايات.
ثمة ثيماتٌ بعينها حضرت في السلسلة، وقد يكون تحليلها عملاً ذا وجاهة، غير أن المُشكلة أنّه لا يوجد كثيرون ممن يأخذونها على محمل الجد لقراءتها بشكلٍ جدّي. قد يكون هذا رفعت ذاته يجني حصائد أعماله، بعد أن ظل ينشر مقته للثقافة (النخبوية) المتعلقة بـ(تاريخ المسرح العالمي) - وهذا كتابٌ مثيرٌ للاهتمام، بالمناسبة - وللنقد الأدبي المنهجي - خلافاً للنقد الانطباعي الذي يمارسه طوال الوقت، ويُقدّم حلولاً فكرية سهلة: قوالِب ومصطلحات يحفظها المرء ويُلقيها هنا وهناك، تصلح لأن تُسمى "كيف تصير متثاقفاً في خمسة كُتيبات".
مع ذلك، ثمة أمل. ألسنا على أعتابِ ما يُمكِن أن يكون "شفاء عين المُبتلى"؟

05 يناير 2012

إكو الكويلهي

سأل سائلٌ في 2010: من هو المقابل العربي لباولو كويلهو؟ تعليقاً على تدوينةٍ كتبتها في 2008، ولمّا كُنتُ قد نسيتُ الموضوع بُرَمتِه - لأن 2010 تختلف اختلافاً جذرياً عن 2008 - فقد اضطررتُ لإعادة قراءة التدوينة، ومن ثم استحضار ظروف كتابتها، لأتذكر من كان المُقابل العربي لباولو كويلهو، ولأن 2010 تختلفُ عن 2008، فقد جاءت الإجابة على هيئةِ قائمةٍ بالخصائص المُميزَةِ للكتاب الكويلهيين، إذ أن عامين من القراءة ومعاركة الحياة يصنعان فرقاً كبيراً. ثم زادت خبرتي - بمرور الزمن - فاتسعت قائمة الخصائص ونُقِحَت، ونشأت عنها أسئلة جديدة:


الكُتاب الكويلهيون: كيف تعرفهم
(إصدار جديد مُنقَح)
ما يفعله الكُتاب الكويلهيون لتكريس أنفسهم:
1- يعتمد الكتاب الكويلهيون على العلاقات العامة والدعاية لتسويق أعمالهم أكثر من اعتمادهم على قيمة المُنتج الذي يقدمونه (العمل المكتوب).
2- يمقت الكويلهيون النقاد لأنهم لا ينظرون إلى أعمالهم جدياً، مع ذلك، فإنهم يُمارسون النقد الانطباعي من دون توقف.
3- يهاجم الكويلهيون أعمالهم الخاصة لقطع الطريق على أيِ ناقدٍ رصين، راسمين بذلك دائرةً سحريةً حول أنفسهم تحميهم من النقد الدقيق والرصين.
يأتي هذا نتيجة لإدراكهم ما يلي:
4- يفتقر الكويلهيون إلى الأصالة. ورغم أن لديهم بعض الجودة، فإنهم يستنزفونها بسرعة، ليأتي كُل عملٍ جديد لهم أسوأ من سابقه.
5- يجهلُ الكويلهيون كيفية الوصول بأعمالهم إلى خاتمة منطقية، لذلك فإنهم يبتكرون مذاهب أدبية جديدة تغطي سوآتهم الكتابية.
6- يستخدم الكويلهيون أعمالهم لإثبات آرائهم الفردية، ولمواصلة سجالاتهم الفكرية، وللنيل من خصومهم.
7- يعيشُ الكويلهيون وهم التقنية من دون أن يدركوها، لذلك فإنهم يستخدمون أعمالهم الأدبية في أغراضٍ تفي بها خدماتٌ مثل تويتر، مثل سب مخالفيهم، ومجاملة أصدقائهم، ونشر اقتباساتهم المفضلة.
8- يعتاش الكويلهيون على أمجاد الفنانين الآخرين.
لذلك فإنهم يلجأون إلى وسائل تُدّعِم وجودهم:
9- يكتب الكويلهيون للصحافة من حينٍ لآخر عارضين روعتهم على الملأ، ليكره القارئ حياته البائسة، ويتيقن من أنهم قد خُلِقوا من طينة مختلفة.
10- يُقدم الكويلهيون أنفسهم بوصفهم أشخاصاً رائعين يسهل الاقتراب منهم، والدوران في هالتهم الاجتماعية، لذلك فإنهم يجتذبون حولهم طائفة من المهووسين.
11- يعتمد الكويلهيون على قاعدة معجبيهم الواسعة لفرض هيمنتهم الأدبية بالقوة (غير) الفكرية.
قائمة أسماء الكُتاب التي ستنتج عن هذا الدليلُ طويلةٌ جداً، وتضمُ أسماء لامعة، إذ لا يُشترط أن تنطبق كُل صفاتِ الدليل على الكاتب ليدخل الطائفة الكويلهية. وبطبيعة الحال، فإن القوائم ستختلفُ من شخصٍ لآخر، وستظهرُ حالاتٌ جدلية قد تستدعي نقاشاتٍ فلسفية. كُل هذا حسنٌ، فالنقاش يولِد الأفكار، ويصحح المسارات الخادعة للعقل.

هل أمبرتو إِكو كاتبٌ كويلهي؟
أُمبرتو إكو عالم لسانيات، متخصص في السيميائية (الدلالية)، وقروسطي، أكاديمي بدأ بأطروحة عنوانها "فلسفة الجمال عند توما الأكويني"، ثم أخذ يكتب روايات. أولى رواياته أشهرها، اسم الوردة. لكنه - رغم أنّه لم يستطع أن يكتب شيئاً جيداً مثلها - لا يزال اسماً يبيع، ولهُ وزن في سوق النشر، كما أن خلفيته الأكاديمية تمنحه هيبة لا يملكها كاتبٌ كويلهي مثل باولو كويلهو أو (ضع اسم كاتبك  الكويلهي المفضل في مكان هذه العبارة). غيرَ أنّه - في حقيقة الأمر - من أخطر الكُتاب الكويلهيين طراً.
نشأ التساؤل حول كويلهية إكو من قراءةِ بعض رواياته، واستنتاج بعض القرائن على كويلهيته منها. ولإقامة الحُجة بقرائن أكثر إحاطة وشمولية، فقد طُلِبَ العون من صاحب الأغاني، الضليع في المسألة الإكوية، وقد أغاثنا بمعلومات من داخل البيت الإكوي، فله جزيلُ الشكر والامتنان على ما قدم من إضاءاتٍ حول المسألة الإكوية.

3- يهاجم الكويلهيون أعمالهم الخاصة لقطع الطريق على أيِ ناقدٍ رصين، راسمين بذلك دائرةً سحريةً حول أنفسهم تحميهم من النقد الدقيق والرصين.
يدعي إكو دائماً أنّه "يكتب بيده اليُسرى" كناية عن كونه كاتباً رديئاً ليقطع الطريق على كُل من يُشير إلى هذه الحقيقة. ثم إن الطبعة الثانية - وما بعدها - من اسم الوردة مُذيلة بهامش كتبه بنفسه (هذا الهامش موجودٌ في المقدمة في بعض الترجمات)، ينتقد فيه الرواية بنفسه، ليرد على النقد الموجه لها، وليظهر أنّه شخصٌ عظيم. إكو يُقِرُ بوجود هفواتٍ في أعماله، لكنه يصرِفُ الأمر بُرمته ببعض البراعة، الحذاقة، و(الفهلوة)، مثل لاعب ورقاتٍ ثلاث يستخف دمه، فيُميّع النقد الجاد لأعماله، ويُقدم نفسه هو بوصفه نصاً موازياً لعمله. يتضح هذا في مُقابلاته - كذلك.


4- يفتقر الكويلهيون إلى الأصالة. ورغم أن لديهم بعض الجودة، فإنهم يستنزفونها بسرعة، ليأتي كُل عملٍ جديد لهم أسوأ من سابقه.
استغرق كتابة اسم الوردة عشر سنواتٍ، وكانت عملاً جيداً أفاد كثيراً من قروسطية إكو، ومعرفته الدقيقة بتفاصيل الحياة في القرن الثالث عشر، وظروفه الفكرية والسياسية والاجتماعية. غير أن الرواية لم تكن أصيلة في ثيماتها ولا شخصياتها: ثيمة الرواية عبارة عن رواية لأغاثا كريستي لو أمضت كريستي ثلاثين سنة في الأكاديميا، أمّا شخصياتها، فغوليالمو دا باسكرفِل ليس إلّا شِرلُك هولمز في القرن الثالث عشر، وشرير الرواية، يورغ، فإيماءة إلى خورخي لويس بورخِس (يورغ، خورخي، وجورج الاسم نفسه بلغاتٍ مختلفة). فكرة شرير الرواية الألماني نفسها إيماءة إلى النازية في طريقة تعاملها مع المعرفة البشرية.
ثم بعدها، كرّت السبحة. وظل إكو يكتب ويكتب، بناء على نفس (القالب) - مما يجعله في نفس التصنيف مع كاتب كويلهي آخر هو دان براون: موضوع قروسطي إبستمولوجي، مؤامرة إجرامية من نوعٍ ما، إيطالي تائه يُغير مسار التاريخ. (الإيطالي دائماً "جدع"، دمه خفيف، وفوضوي، ولا يُمكِن إلا أن يُحبه من حوله. مثلما يرى إكو نفسه). مع مرور الزمن، تغدو قراءة إكو مهمة انتحارية.

5- يجهلُ الكويلهيون كيفية الوصول بأعمالهم إلى خاتمة منطقية، لذلك فإنهم يبتكرون مذاهب أدبية جديدة تغطي سوآتهم الكتابية.
من الصعب إثباتُ هذه النقطة في حالة إكو، لأن من يصلُ إلى خاتمة باودولينو أو جزيرة اليومِ السابق أو غيرها يُهمه أن ينجو فحسب، وينتهي من الكتاب الذي بين يديه. 

6- يستخدم الكويلهيون أعمالهم لإثبات آرائهم الفردية، ولمواصلة سجالاتهم الفكرية، وللنيل من خصومهم.
يُجيب القارئ الشعبي عن هذه النقطة بإيجازٍ مفيد.

7- يعيشُ الكويلهيون وهم التقنية من دون أن يدركوها، لذلك فإنهم يستخدمون أعمالهم الأدبية في أغراضٍ تفي بها خدماتٌ مثل تويتر، مثل سب مخالفيهم، ومجاملة أصدقائهم، ونشر اقتباساتهم المفضلة.
لم يدخل إكو تويتر - حتى ساعة كتابة التدوينة - لكنّه يعتقد أن المكتبات الإنترنتية ستُدمّر المكتبات التقليدية، وهو سعيدٌ بهذا، ولأنّه لا يخشى في الحق لومة لائم، لم يتحرّج من قول هذا في مكتبة الإسكندرية.

8- يعتاش الكويلهيون على أمجاد الفنانين الآخرين.
لقد امتصَ إكو توما الأكويني وآرثر كونان دويل وأغاثا كريستي والأدب البوليسي حتى نُخاع العظم، وأعاد تكرار ألغازهم في أعماله.

10- يُقدم الكويلهيون أنفسهم بوصفهم أشخاصاً رائعين يسهل الاقتراب منهم، والدوران في هالتهم الاجتماعية، لذلك فإنهم يجتذبون حولهم طائفة من المهووسين.
في مُقابلاته، يستظرف إكو دائماً، ويحاول أن يُقدم نفسه بوصفه "غريب أطوارٍ، مجنوناً، ومتفرداً" وتسهل مصادقته. وهو يُلقي بنظرياتً غريبة، ويُعيد تكرارها من دون دليلٍ، معتمداً على كونه "إكو".

ثمة اقتراحٌ من صاحِب الأغاني بإضافة بندٍ إلى قائمة خصائص الكُتاب الكويلهيين، يصفُ المرحلة القصوى التي يُمكِن أن يصل إليها أي كاتبٌ كويلهي:
"١٢- يصل الكاتب الكويلهي إلى مرحلةٍ يكتُب فيها خصيصاً لتكون كتبه "زينة" في المكتبات."
من الصعب إنكار أن كُتباُ مثل شعلة الملكة ليونا بغلافها المُجلد، قد طُبِعَت لأغراضِ الزينة. إنها أطول من أن تكون معقولة، وأكثر تكراراً من أن تكون مقبولة، وأكثر إملالاً من أن تكون مقروءة، وأغلى ثمناً من أن تُستخدم لغرضٍ مفيد مثل تثبيت الباب في يومٍ شديد الريح.
ورغم أنّه يُمكِن المُجادلة بأن باولو كويلهو يكتب لمجرد أن ينشر، إلا أنّه لم يصل بعد إلى مرحلة "الزينة". يعودُ ذلك لعدة أسباب، لعلَ أهمها أنّه مُجرد كاتب أغانٍ من البرازيل، لا علاقة له بالقارة الأوروبية، ولا بالأكاديميا. "هيبة" إكو الأكاديمية تؤثر في قوته السوقية، إذ أنّه من الصعب "تسخيفه"، بينما هذا مُمكنٌ مع كويلهو. للتأكد من ذلك، يُمكِن القيام بالتجربة العملية التالية:
الأدوات:
١- صالة مُغلقة
٢- أكبرُ عددٍ مُمكِن من المشتغلين بالنقد الأدبي
٣- حفنة حجارة
الخطوات:
١- اجمع كُل النقاد في الصالة المغلقة.
٢- ألقِ حجراً عشوائياً.
٣- اسأل كُلَ من يقع على رأسه الحجر عن باولو كويلهو.
٤- كرر الخطوات السابقة.
٥- كرر الخطوات ١، ٢.
٦- اسأل كُل من يقع على رأسه الحجر عن أمبرتو إكو.
المشاهدات:
١- مُعظم من يقع على رؤوسهم الحجارة في حالة باولو كويلهو لن يترددوا في القول فوراً بأنّه إمّا دجال، أو دَعّي. وفي حالاتٍ نادرة، سيُقال إنّه "خفيف.
٢- مُعظم من يقع على رؤوسهم الحجارة في حالة أمبرتو إكو سيترددون بشدة قبل أن يُعطوا رأياً، ولن يُعطوا رأياً قاطعاً آخر الأمر. هم لا يريدون القول إنّه كاتب كويلهي، وفي الوقت نفسه يمنعهم ضميرهم - أو ذائقتهم الأدبية - من وصفه بأنّه كاتبٌ عظيم.
الاستنتاج:
"الهيبة تلعب دور".
 التمرينات:
١- كيف تعرف الكاتب الكويلهي؟
٢- طبق هذه الخطوات على كاتبٍ من اختيارك، وبيّن كويلهيته من عدمها.

01 يناير 2012

مدينة القمر

كُل عامٍ وأنتم جميعاً بخير!
كُنتُ أفكر في طريقةٍ للاحتفال بعام ألفين واثني عشر، ولم أجد خيراً من هدية أهديها لكُل مُتابعي تصدّعت المرآة وقُرائها، من كُل قلبي. ولمّا كانت الكتابة خير ما أحسب أنني أحسن عمله، فقد قررتُ أن تكون الهدية رواية قصيرة كتبتها، عنوانها مدينة القمر.
تحكي هذه الرواية مُغامرة لورد إنكليزي اسمه رِكس رويستون في عدن، في آخر سنةٍ من سنين الاستعمار البريطاني للجنوب اليمني. فيها بعض الثيمات المُخيفة، وتحتوي على أشياء تجعلها غير آمنةٍ للصغار دون الثالثة عشرة. هذه المُغامرة الأولى في سُباعية عبد الملك اللسانات، التي تُشكِلُ في مجموعها سيرة رِكس رويستون.
أُحِبُ هذا العمل لأسبابٍ كثيرة، لعل أهمها حُبي لشخصية رِكس رويستون. ثمةَ أشياء أرغبُ في قولها بشأنِه، إذ أن أولَ مرةٍ فكرتُ فيها في مُغامراتِ رِكس رويستون كانت حين كُنتُ في الرابعة عشرة، لكنني - لسببٍ ما - لم أجد في نفسي ما يجعلني أكتبها. في تلك السن أيضاً، خرجتُ بشخصية أخرى - تظهر في الرواية - اسمها فضل تاج العارفين، وشرعتُ - بحماسةٍ طفولية - في كتابة سيرته، سيرة فضل تاج العارفين. لكن الكتابات التي تحتوي على عُنصرٍ ميتافيزيقي لم تكُن تحظى بأي احترامٍ في مُحيطي - ولا تزال. ثم، فقدتُ الخيط الروائي، ولم أعد أستطيعُ تجميع كُل الحكايات المُبعثرة في عملٍ روائي معقول.
شيئاً فشيئاً، اتسعت الدائرة. أُضيفت شخصياتٌ أخرى. وتكون ما يُشبه الكون الخيالي الذي يحتوي على شخصياته الخاصة وتواريخه وأحداثه التي تتداخل مع بعضها البعض. ثم، في آخر ٢٠١٠، قررتُ أن أكتب رواية بالإنكليزية، عنوانها - حتى الآن - قعقعة العظام، ورغم أنها تدور في الحاضر، إلا أنها مُتصلةٌ بهذا العالم الخيالي. بطلة الرواية، ريجينا رويستون، ابنة رِكس رويستون.
هذه الأعمالُ المُتداخلة تُشكِلُ سِيّرَ هذا الكون الخيالي، وتاريخه. لا أعرفُ طريقي جيداً في هذه الأرجاء، ولا أعرفُ كيف ستكون عاقبة هذا الأمر - التي أرجو أن تكون خيراً. غير أن قراري الوحيد لعام ٢٠١٢ أن أمضي في هذا الطريق حتى آخره.
أرجو أن تروق هذه المُغامرة لكم، وأن تتشاركوها مع أصدقائكُم - لو رغبتِم في ذلك. آراؤكم، وأفكاركم، وتعليقاتكم وانتقاداتكم كُلها تسرني، وسيملأني حبوراً وتواضعاً أن تتشاركوها معي، بأي وسيلةٍ تروق لكم، بالتعليق على هذه التدوينة، بالكتابة في صفحة المدونة على فيسبُك، بتوجيه الخطاب إلى حسابي الشخصي على تويتر، بالبريد الإلكتروني، أو بالكتابة في أي مكانٍ يروقكم، وعرض الرابط علّي - لو شئتم.
عامٌ جديدٌ، سعيدٌ، مُثمرٌ، مليء بتحقيق الأماني لنا جميعاً!