06 أكتوبر 2017

كازو والعم نوبل المُتفجر

صعبٌ أن يفوز أحد كُتاب المرء المُفضلين بجائزة نوبل، فالمرء لا يُكِن للجائزة اعتباراً، ولا يعتبرها تشريفاً لكاتبٍ مُتفردٍ بحد ذاتها، لكن المرء لا يملك إلّا أن يفرح بمناسبة لتكريم أحد كُتابه المفضلين، والإقبال على قراءة أدبهم ومناقشته. وكازو إيشيغورو لا يُحِب إثارة المشاكل، وهو من دون شكٍ قابل الجائزة، ومن دون شكٍ فإنّه سيقول كلاماً حسناً عن بوب ديلان الذي فاز بالجائزة قبله.
مع أنّ آخر روايات إيشيغورو، العملاقٌ الدفين (2015)، أثارت بعض المشاكل، ووجد نفسه في مواجهة يُمكِن أن توصف بالوصف الدارج بأنّها: ”خارج أرضه وبعيداً عن جمهوره“. فرواية العملاق الدفين رواية فانتازية، ولكن إيشيغورو - في جولة الترويج لها - قد ترفع عن وصفها بهذا الوصف، قائلاً إنّه يأمل أن يُدرِك قراؤه مغزى ما يفعله في الرواية، فاستجلب على نفسه الحنق، وقد لامته أورسولا لوغوين، التي يُمكِن أن توصف بأنّها ”شيخة“ الفانتازيا والخيال العلمي - حيث أنّ مارغريت أتوود قد بدأت متأخرة عنها، لوماً شديداً، فهو يترفع عن وصف ”فانتازيا“، ومع ذلك يستعير مُفردات الفانتازيا الأكثر شيوعاً مثل التنانين والعمالقة ليحكي حكاية رمزية، وما الفانتازيا إلّا حكاياتٌ رمزية؟ أفيُعقل أنّ قُراء تولكِن يوقنون بوجود التنين سماوغ؟ أم أنّ قُراء ج. ر. ر. مارتِن يتهيؤون بالسلاح لمُقارعة ملك الليل؟
ولو أنّ هؤلاء - وغيرهم - سِرُ هذا الرُعب من أن يوصف عمله بأنّه فانتازيا، فإيشيغورو كاتب من الوزن الثقيل، ولا يُريد - بعد أن شيّبَهُ الدهر - أن يجد نفسه في صُحبة الجماهير التي تتنكر في أزياء مستوحاة من رواياته، وتشتمه على الإنترنت لأنّه لم يُكمِل الجزء الأخير من ملحمته ذات العشرين جزءاً، وتستوقفه في المؤتمرات لتسأله عن الفروق الدقيقة بين جنس المورشوغ وشعب المارشوغ. وفي الخلفية، يسأله مارتِن آمِس: ”هل أصبت بجرحٍ خطيرٍ في رأسك؟“ كما قد سأل سلمان رُشدي حين قرر أن يكتب هارون وبحر الحكايات. ما العمل؟ والمرء يُريد الحفاظ على مكانته الاجتماعية والأدبية التي اكتسبها بشق الأنفس؟ وفي الوقت نفسه، فإنّه يكشف عن جهله بما قد طرأ في عالم الفانتازيا، وبطبقات كُتابها، بين فحول ومتوسطين وأردياء.
أورسولا لوغوين مُحقة. كفى (مَعْيَلة). إن كتبت فانتازيا، فاعتنقها وأعلنها. وكازو إيشيغورو مُحق، فشماتة آمِس ورُشدي وإيان مكيوان وجوليان بارنز خيرٌ منها الموت.
زُملاء كازو إيشيغورو هُم فتيان الأدب الإنكليزي الذهبيون الذين يتزعمهم الأربعة الذين ذُكِروا آنفاً - آمِس، مكيوان، بارنز، رشدي - ويُقصون غيرهم عن الضوء، وليسوا الجيل الياباني الذي تلا الحرب من أمثال كينزابورو آوي، وليسوا، بطبيعة الحال، هاروكي موراكامي. هذه مُشكلة للمُطالِع الذي يُطالِع اسم كازو إيشيغورو للمرة الأولى، فيستنتج - وليس عليه تثريب - أن كاتباً يابانياً قد فاز بالجائزة. ثم يستدرك البعض، فيضيفون: ”كاتب ياباني حاصل على الجنسية البريطانية“. لكن ”بريطانية“ إيشيغورو ليست جنسية. إنّها لسانٌ وقلب.

الفتى الياباني


يحضرني قول المُتنبي في نفسه - وفي كُل العرب على مر التاريخ - بينما يصف احتفالات شعب بوان، بأنّه: ”غريب الوجه واليد واللسان“، عند الحديث عن تجربة كازو إيشيغورو - وغيره من أبناء المُهاجرين. فثمّة إحساس مُستمرٌ بأن إيشيغورو (دخيل)، رغم أنّه يكتب بالإنكليزية، ويكتب عن (أساطير) إنكليزية راسخة، مثل كبير الخدم بارد الإحساس في بقايا اليوم (1989)، والمحقق الخاص الذي نشأ في شنغهاي الدولية في عندما كُنا يتامى (2000)، والمدرسة الداخلية ذات النظام الدقيق في لا تُفلتني أبداً (2004). رُبما لأنّ أول رواية نشرها إيشيغورو-سان، منظر شاحب للتلال (1982)، كانت عن شخصيات يابانية، وروايته الثانية: فنان من العالم العائم (1986) كانت عن فنان ياباني عشية تشظي اليابان مع الهزيمة في الحرب العالمية الثانية. كلتا الروايتين بالإنكليزية، وعلى الرغم من جمال كتابة إيشيغورو-سان الذي يُمكِن قراءته من كتابه الأول، فإنّ الانطباع العام كان أنّ كتابته الكتابة المتوقعة من شابٍ مُهاجر حصل على جنسيته البريطانية في وقتٍ مقارب لوقت نشر روايته الأولى. وقد أكسبته روايته الثانية نجاحاً حسّن ظروف معيشته كثيراً.
ثم جاءت بقايا اليوم (1989)، الرواية التي أذاعت صيته، وأكسبته جائزة بوكر، ووضعته في قلب الأدب الإنكليزي المُعاصر. ثم أُنتُجِت فيلماً، وفتحت له أبواباً جديدة. رواية بقايا اليوم رواية إنكليزية صرفَة، فبطلها كبير خدم في إجازة، يتأمل حياته، خصوصاً الحُقبة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وفيها اعتنق سيده سياسة التهدئة إزاء النازيين، واستضاف بعضهم في داره الكبيرة. كان ستيفنز، كبير الخدم، شاهداً مُحايداً على هذه الأحداث، همه الوحيد أن يحفظ ”كرامته“ بوصفه كبير خدمٍ إنكليزياً تقليدياً. كان أسلوبه مُهذباً، ولغته راقية، وكان شاهداً مُحايداً على حياته ذاتها، فأبوه يموت أثناء الخدمة، وحبيبته تترك العمل، من دون أن يكون لديه وقتٌ ليأسى، فهو منشغلٌ بإدارة المنزل، وبمشاكل ضيوف لورد دارلنغتُن التافهة، من ذلك الذي يشتكي من قدميه، والآخر الذي يُريد من ستيفنز أن يُحدِث ابنه الشاب عن ”حقائق الحياة“، إذ أنّه يظن أنّ ابنه لا يعرف عنها شيئاً.
دار دارلنغتُن تكاد تتحول إلى سيرك يعج بالشخصيات الأنانية التي تصير أنانيتها مهزلة تافهة، حتى بحث ستيفنز المستمر عن ”الكرامة“ يكاد يكون مُقارباً في هزله الكئيب لتفاهة سيده وضيوفه. ثم تتغير الأحوال بعد الحرب، فالدار يشتريها ثري أمريكي، والأمريكي لا يفهم طرائق الإنكليز، ولا ستيفنز يفهمه، وتصير أبسط التعاملات اليومية بينهما سبباً في توتر ستيفنز الذي لا يفهم حس دعابة سيده، ولا اهتمامه بالحديث عن آل دارلنغتُن. فالأمريكي يظن أنّه اشترى التاريخ مع البيت، وستيفنز يعتبر أن السيد السابق مثل الزوج السابق لامرأة متزوجة. شخص ينبغي ألّا يُذكر.
يختلف إيشيغورو عن مُعاصريه (الذهبيين) في أنّه ليس أديباً قاسياً. إيشيغورو لا يرغب في ”مُعاقبة“ شخصياته. ورغم أنّه يتحدّث عن حُقبة كثيراً ما يُحِب الروائيون الإنكليز (التنظير) بشأنها، فإنّه يمتنع عن إدانة أي شخصية. إيشيغورو يروي كُل شيء بنبرة هادئة، لا تُبالغ في إظهار العناصر الغروتيسكية في دار دارلنغتُن وشخصياتها، ولا تُهين ستيفنز، الذي يروي الكتاب.
كما أنّه يكتب عن أشخاص لا يُشبهونه ولا يعرفهم، ويصعب عليه التنبؤ بردود أفعالهم، ولا يخشى تغيير القصة بتغير منظوره عن شخصياته. في مقالٍ له يتحدّث عن كيفية كتابته للرواية في أربعة أسابيع، يقول إنّه قد غيّر نهاية الرواية بسبب لحظة أدرك فيها أنّ شخصاً مُتحفظاً عاطفياً مثل ستيفنز، يُمكِن له أن ينشرخ ويتداعى:
اعتقدت أنّني قد أنهيت ”بقايا“ [اليوم]، غير أنّني استمعت إلى توم وايتس يُغني أغنية: ”ذراعا روبي“. إنّها موال عن جندي يترك حبيبته نائمة في ساعات الفجر الأولى ليُغادر على متن قطار. لا شيء غير اعتيادي في هذا. لكن الأغنية مُغناة بصوت أمريكي قاسٍ متشرد غير مُعتاد على التعبير عن عواطفه. ومن ثم تأتي لحظة، عندما يُعلِن المُغنى أنّ فؤاده قد انفطر، ويكاد هذا يكون مؤثراً بشكلٍ لا يُحتمل بسبب التوتر بين العاطفة ذاتها والمقاومة الهائلة التي قد غُلِبَت للتعبير عنها. يُغني وايتس هذا السطر ببهاء تطهيري، وتشعر بعمرٍ من لا مُبالاة الرجل القوي تنهار في وجه حُزنٍ غامر. سمعت هذا، وتراجعت عن قرارٍ كُنت قد اتخذته: أن ستيفنز سيظل منغلقاً عاطفياً حتى النهاية المريرة. قررت أنّه عند نُقطة ما - سأضطر إلى اختيارها بعناية شديدة - فإنّ دفاعه المنيع سينشرخ، وستُلمَح منه رومانسية تراجيدية ظلّت مخبوءة إلى حينه.
لولا هذا الشرخ، لما كان للرواية القيمة التي لها اليوم. ولعل قرار إيشيغورو السابق بالإبقاء على ستيفنز في حالة من التحفظ العاطفي - وما يتضمنه هذا من إنكارٍ لحياته - ومن ثم نهايته المريرة، عائد إلى الروح الكئيبة التي صارت الملمح المميز لفتيان الأدب الإنكليزي الذهبيين. الروح التي تفترض أنّ كُل شيء يبقى على حاله، وأنّ الحقيقة الأدبية الوحيدة أنّ العالم قاسٍ ولا مُخفف لقسوته ولا مفر منها. ثمّة نفور بيتر-باني من فكرة التصدّع، ومن فكرة التسامح مع الذات، إلّا لو كانت هذه الذات ذاتاً تعكس ذات الكاتب، وعندها فإنّه سيجد لنفسه عُذراً لكُل أعماله، وسيمضي من دون أن يتغير.
ويُعبِر إيشيغورو عن الشرخ في جدار عاطفة ستينفز المنيع ببراعة لغوية، بأسلوب ستيفنز الإنكليزي المُتحفظ، بحيث يأتي اعترافه بانفطار قلبه في نهاية فقرة يُمكِن ترجمتها على هذا النحو:
لا أعتقد أنّني استجبت مباشرة، فقد استغرقت دقيقة أو اثنتين لأستوعب كلمات الآنسة كنتُن بشكلٍ كامل. وعلاوة على ذلك، كما يُمكِنك أن تُقدر، فإن إيحاءاتها قد بعثت درجة معينة من الحُزن في نفسي. بالفعل - فلماذا لا أُقِر بهذا؟ - في تلك اللحظة، كان قلبي يتكَسّر.
ثمّة صعوبة في مُحاكاة أسلوب إيشيغورو بلغةٍ أخرى حين يستخدم إنكليزية مُحايدة، متحفظة، مليئة بالتعبيرات المورابة، والجُمل الاعتذارية والاعتراضية، تُحاكي الطريقة التي يُحاول الأشخاص المُهذبون الحديث بها، من دون أن يقولوا شيئاً ذا بال، في حين أنّه يستخدم اللُغة ذاتها ليروي قصة عن شخصٍ يجد أنّه لم يعش حياته، ولم تكُن له أخطاؤه الخاصة، ومع ذلك فإنّه قد وجد نفسه في قلب التعاون مع النازيين، لا حُباً بهم، وإنمّا لأنّ سيده اختار التعاون مع النازيين، ولم تكُن خدمته هذه إلّا عبثاً. وفي الوقت عينه، فإنّه لا يُدين ستيفنز - ولِمَ يُدينه؟ - إذ أنّ فكرته عن الكرامة قد جاءت من بُنية اجتماعية ظالمة ظُلماً لا يُمكِن اجتثاته، وستيفنز حاول أن يعيش حياته بشرف، وفقاً للمُثل الاجتماعية التي نشأ عليها، المُثل نفسها التي جردته من آدميته، وسمّت هذا التجريد ”كرامة“.
وفي هذه الرواية، فإنّ معالم الشخصية الإيشيغورية تتبلوّر، حيث أنّ كتابات إيشيغورو زاخرة بشخصيات شبه روبوتية، تُلاحظ توقعات المُجتمع وتُحاول مُحاكاتها بأدق صورة، بغض النظر عن آرائها الخاصة وأفكارها، فهذه الشخصيات تُراقِب نفسها دوماً، بحيث لا تسمح لنفسها بالتميز عن مُحيطها. ستيفنز كان كذلك، وكاثي في لا تُفلتنِي أبداً، وكريستوفر بانكس في عندما كُنا يتامى.
قد يجد عالِم النفس الهاوي في هذه المُلاحظة فُرصة ذهبية لبعض التنظير، فإيشيغورو-سان، يشعر باختلافه عن مُحيطه، ويُحاول أن يمرر نفسه على أنّه فردٌ عادي في المُجتمع عن طريق مُحاكاة ما حوله. وهذا، بطبيعة الحال، كلام القارئ السطحي.
مع ذلك، فإنّه ثمّة روحٌ في كتابات كازو إيشيغورو تجعله يختلف عن زُملائه الإنكليز. إيشيغورو يلتقط المخاوف الصغيرة في رواياته: القلق الاجتماعي، الخوف من نظرة الجيران إلى المرء، الخوف من فقدان الاعتبار، وغيرها من المخاوف التي ينسبها البعض إلى المُجتمعات الشرقية حصراً، ويردها إلى أصلها في التحكم الاجتماعي، في الظلم المُسيطر على البُنى الاجتماعية والفكرية والسياسية. هذه المخاوف ليست شرقية فحسب، بل إنّها مخاوف (بريطانية) أصيلة، يتعامل معها إيشيغورو بهدوء، من دون مُبالغة، ومن دون تهوين، مُسبباً شعوراً مُزعجاً للقُراء ضيقّي الأُفق، فليست اليابان وحدها ”مجتمع العار“، كما وصفها المُنظرون الأمريكيون بعد الهزيمة، لكن العالم المُتقدم أيضاً هو مُجتمع عار يتسبب في عزلة أفراده العاطفية والاجتماعية.
المُشكلة التي يُصادفها بعض قُراء إيشيغورو في كتاباته أنّ شخصياته لا تتمرد على هذا الوضع، بل تُحاكيه وتتماهى فيه. والفكرة أنّهم أناسٌ طيبون يحاولون عمل ما هو صحيح. ما العمل؟ هل تُشهر كاثي سيفاً على المُجتمع الذي لا يراها آدمية في الأصل؟ إنّهم يتجلدّون في وجه الكارثة، ويتحملون انكسارات قلوبهم بصبر. فيما الأدب الغربي يزخر بنماذج دون كيخوتية، تنتهي ثورتها العارمة بتحطّم كُلي. أو بنماذج منفصلة شعورياً عن مُحيطها، لا تملك الجُرأة للعيش مع انكسار القلب الذي تفرضه الحياة على المرء. بطبيعة الحال، فإنّ هذه عبارات عمومية فضفاضة، إلّا أنّها تُعبر عن أفكارٍ شائعة، قد تُبيّن السر في غرابة موقع إيشيغورو بين أقرانه.
 

الأسلوبيون


الأديب الذهبي المُهاجر هو سلمان رُشدي - الذي ينبغي أن يطمئن أحدٌ على صحته بعد نبأ فوز إيشيغورو بالجائزة التي ظل هو مُرشحاً لها لسنوات قد تجعله أدونيس آخر - أكثر أفراد الجيل الذهبي شُهرة وانتشاراً. كان رُشدي قد نشر رواية لم تلقَ حظاً من النجاح تُسمى غرايمُس، ثم عاد إلى الهند ليخرج منها بروايته الشهيرة أطفال مُنتصف الليل، التي وضعته على خارطة الأدب الإنكليزي، وأعطته مكانته بين أبناء جيله. مكانة سلمان رُشدي تعود في جزء كبيرٍ منها إلى أسلوبه بالإنكليزية، وهو أسلوب باذخ، زاخر بالصور وحوشي القول.
غير أنّه ثمّة عقلٌ عربي وراء إنكليزية رُشدي الرشيقة، يجعل الكاتب غير قادرٍ على التخلص من رغبته العارمة في إدانة بني جنسه إدانةً مُطلقة، وفي الوقت نفسه إدانة الآخر إدانة مُطلقة كذلك. نوعٌ من التعايش الاسمي مع التاريخ، التظاهر بالتجرد من أي أحكامٍ قيمية، وفي الوقت نفسه، الرغبة في مُعاقبة كُل شخصية تنحرف عن الطريق السوي الذي يشعر الكاتب نفسه بالرغبة في التمرد عليه. بالإضافة - طبعاً - إلى اختلاف أدب رُشدي عن أدب إيشيغورو، فرُشدي يُحِب الغيبة و(الحش) - كما في اللفظ العامي - حُباً جماً، ويشتبك مع السياسة اشتباكاً مُباشراً، بخلاف إيشيغورو الذي يُفضل الاشتباك مع التاريخ كما يحضر في حياة الناس، لا مع البُنى السياسية المُتغيرة.
وإيشيغورو غريب بين أبناء جيله بسبب أسلوبه، فأسلوبه هادئ مُتمهِل، يتخذ صورة تعبيرٍ مُحايد أحياناً، وأحياناً يستخدم صوتاً مليئاً بالكليشيهات والتعبيرات الفارغة تُعبر عن الجو النفسي والاجتماعي لشخصياته والعالم الذي يقطنونه، وأحياناً يكتب بطريقة تلقائية، مثل شخص يتحدّث إلى القارئ على سفر، ويروي قصة حياته بتعبيرات تخلو من التعقيد الفكري، ومن حوشي الألفاظ، ومن الصياغة المُتقنة. وأحياناً، يستخدم لُغة مثل قطع الطوب، تتراص مُتماسكة بشكلٍ خانق، لا مجال معه للتنفس. في هذا المقال، يتحدّث فيليب هنشر عن إعراض إيشيغورو عن استخدام الأفعال المُركبة بالإنكليزية phrasal verbs، وهي أفعال مِمّا تختص به اللغة الإنكليزية، بحيث يدخل حرف جرٍ على الفعل ليُغير معناه. وفي الاستخدام اليومي للغة، كثيراً ما يتجنّب المتحدثون الأفعال الجامدة، ليستخدموا الأفعال المُركبة الأقل رسمية. ثمّة تلميح من هنشر إلى أنّ (أجنبية) إيشيغورو تجعله غير قادرٍ على التمكن من استخدام الأفعال المُركبة، لكن هذا التلميح يخلو من الحصافة، إذ أنّ إيشيغورو مُستمعٌ جيد إلى أحاديث الناس، قادر على التعبير عن الطريقة التي يتحدثون بها، وتجنبه لاستخدام الأفعال المُركبة خيارٌ أسلوبي يُعمِق من الحاجز الشعوري بين شخصياته وبين العالم. إنّهم ليسوا جزءاً من المجتمع ليتباسطوا معه، بل هم يُحاولون التماهي مع أعرافه وقيمه الاجتماعية بغض النظر عن كونهم ضحية لها، محاولين بذلك أن يتغلبوا على كونهم ضحايا.
براعة إيشيغورو تكمن في المُخافتة، فهو لا يرغب في إذهال القارئ بجُمله الذكية، ولا بتشبيهاته المُبتكرة، ولا باستخداماته البارعة للألفاظ، لكنّه - في الوقت نفسه - يستطيع أن يخلق صوراً مؤثرة من كلماته البسيطة، فاللغة عنده ليست غرضاً في حد ذاتها.
فيما جيله يزخر بالأسلوبيين الكبار: فأسلوب رشدي شديد الحماسة، راغبٌ في إذهال القارئ مع كُل جملة، مُمعِنٌ في إغراقه بالصور الملونة التي تخطف الأبصار، وشد بصره بالألفاظ المُستخدمة بطُرقٍ مُبتكرة. في روايات رُشدي، الأسلوب ملك، والقارئ رهينة عند رواته الأذكياء الذين يعرفون أنّهم أذكياء، ويتحمسّون لإشراك القارئ في ألعابهم اللفظية، بغرض غلبته أحياناً. وأسلوب مارتِن آمِس لاذع، يعتني بصياغة الجُمل صياغة مُتقنة. ويأخذ آمِس على الكُتاب تكرارهم أفكارهم وتعبيراتهم - رغم أنّه يُكرر أفكاره وتعبيراته. وفي مقالة نُشرت قريباً، وُصِف كتابٌ لآمِس - وصفاً في محله - بأنّه دليل على أنّ المرء يُمكِن أن يكون بارعاً وأحمق في الوقت عينه. فيما جُمل إيوان مكيوان موزونة على وزن البحر الأيامبي الخُماسي - ”العمبقي“ كما يُترجمه البعض -  غير أنّه يمتاز بفجاجة قل نظيرها، وليس عنده شيء يستحق أن يُقال في رواياته الأخيرة.
رُبما لهذا فاز إيشيغورو بجائزة نوبل؟ فخصائص أي كاتبٍ الأسلوبية لا شك ستُفقد - بعضها أو كلها - في الترجمة، وبالتالي، قد تضيع ثلاثة أرباع فصاحة رشدي ورفاقه في الترجمة، فيما الترجمة لا تُفسد عمل إيشيغورو كثيراً - وإن كان التعبير عن أسلوبه الحق أمراً صعباً. ورُبما يكون الأمر أنّ لجنة نوبل قد نجحت أخيراً - بعد جولاتٍ طويلة من المحاولة والخطأ - في الوصول إلى أديبٍ حكيم يُدرِك أنّ الحياة أعمق من مُجرد إلماعة مُبتكرة إلى كاتبٍ قروسطي غامض.
 

الفانتازيا


فوز إيشيغورو بنوبل جاء مُفاجئاً، فالمرشحون الأبرز لها هُم فيليب روث - الذي لم يكُن أحدٌ يتوقع فوزه جدياً لأن مواطنه بوب ديلان قد فاز بالجائزة العام الفائت - وسلمان رُشدي وهاروكي موراكامي. من الصعب الآن أن يفوز رُشدي بالجائزة العام القادم لأن إيشيغورو من مواطنيه، لكن مسألة هاروكي موراكامي فيها قولان، فقائلٌ يقول إنّ إيشيغورو-سان كاتب إنكليزي، وقائلٌ يقول إنّه كاتبٌ ياباني وإنّ نوبل قد أطاحت بحصانيها الأسودين - رُشدي-خان وموراكامي-سان - في ضربة واحدة.
هُناك من ينسُب أهمية إضافية إلى فوز كازو إيشيغورو هذا العام، فالثيمة التي تدور حولها كتاباته دوماً تتعلق بالقهر، كما أنّ كتابه الأشهر بقايا اليوم يتحدّث عن الذين تحالفوا مع النازية وعن الذين تنحوا جانباً فيما كانت أوروبا تقع في قبضة الفاشية تدريجياً.  وروايته الأخيرة العملاق الدفين تتحدّث عن الذكرى، فهل يجوز أن يتمسك المرء بذكرياته - رغم أنّها هشة وعابرة - ما دامت الذكرى تبعث أيضاً الحروب والكراهية؟ كتابات إيشيغورو بسيطة بساطة مُغرية، فيما هي في الحقيقة عميقة ومتعددة الطبقات بشكلٍ يجعله سهل القراءة وصعب الفهم في الوقت عينه.
وهناك من يرى أنّ لنوبل مشروعاً يتعلق بـ ”دمقرطة الأدب“، فنوبل قد مُنِحَت العام الفائت لبوب ديلان، وهو مُغنٍ في الأساس، وهذا العام قد مُنحِت لكاتبٍ قد كتب في الفانتازيا هو كازو إيشيغورو. لكن من يعتقد أنّ نوبل تهدف لأي أفكارٍ تتعلق بالمساواة أو المشاعية أو توسعة حدود الأدب يحتاج إلى إعادة النظر والتدبر: نوبل هي المؤسسة الغربية بحد ذاتها، والمُنتظِر منها أن تُروِج للتنوع الأدبي كمن ينتظر من الاستعمار أن يعترف بمكانة الشعوب المُستعمَرَة الأدبية.
قبل أن يكتب إيشيغورو العملاق الدفين فإنّه قد كتب لا تُفلتني أبداً. حيرّت هذه الرواية - في حينها - قُراءه ومُتابعيه، إذ أنّها رواية خيالٍ علمي وتاريخٍ بديل، فتساءلوا في أنفسهم وعلى صفحات الصحف عمّا حمَل كاتباً ”جاداً“ من الوزن الثقيل مثل إيشيغورو على الخوض في مجال الخيال العلمي؟ خصوصاً وأنّ خيال إيشيغورو العلمي يختلف عن السائد في نوع الخيال العلمي الأدبي، كما وأنّ العالم الذي يبنيه يُعاني من بعض المشاكل في الحبكة. في لا تُفلتني أبداً يُقدم إيشيغورو بريطانيا بديلة، يُستنسخ فيها أطفالٌ من أجساد السُجناء والمُدمنين وسُكان العالم السُفلي، ويُربون في مدارس خاصة، حتى إذا بلغوا سِنَ الرُشد ذهبوا ليعيشوا في العالم إلى حين، إذ أنّ سِر وجودهم يكمُن في كونهم قِطع غيارٍ للبشر الآخرين غير المُستنسخين. وبشكلٍ دوري، يجري تقطيعهم وسلب أعضائهم الحيوية منهم، فيموت واحدهم بعد سلب عضوٍ أو أكثر، في سن الشباب. إيشيغورو لا يتحدّث عن الاستنساخ في الرواية، بل عن المُجتمع الذي يُربي الأطفال كالماشية، غير مُهيء إياهم للعالم الحقيقي، ويتحدّث كذلك عن المدارس التي تبني لأطفالها عالماً يكونون فيه مقبولين ثم يجدون أنفسهم منبوذين في الحياة العامة لأنّهم مختلفون، ويتحدّث عن التعليم الذي يزرع في نفوس هؤلاء الأطفال أنّه من الطبيعي أن يتحولوا إلى قطع غيارٍ حين يكبرون، وعن المُجتمع الذي لا يهتز ضميره وهو يفترس هؤلاء البشر اللذين وضعهم في حالة ضعف.
لكن إيشيغورو لا يكتب أفكاراً كبيرة. إيشيغورو يكتب لحظات صغيرة، تفاعلات حياتية عابرة، شجاراتٍ بين صديقتين، رحلة إلى مدينة ساحلية، بحثاً عن شريط أغانٍ، فتاة صغيرة تبتكر حكاية لأغنية من تلقاء ذاتها، وتُمثلها وهي تستمع إليها، وسيدة كبيرة في السن تُلاحظها، وتنسج من حكايتها حكاية مختلفة. إيشيغورو لا يخشى أن يكون عاطفياً، ولا يخشى من أن يُجاهر بانفطار قلبه، ولا يخشى من أن يبكي قارئه.
وعلى أي حالٍ، فمن لا يكتُب فانتازيا هذه الأيام؟ زميلا إيشيغورو في القائمة: رُشدي وموراكامي يكتُبان الواقعية السحرية، وواقعيتهما تختلف عن الواقعية السحرية لأمريكا اللاتينية. قصص رُشدي حافلة بالغرائب الغروتيسكية، وكذلك قصص موراكامي. كما أنّ موراكامي - الذي يصلح عنوان هذه التدوينة عنواناً لإحدى رواياته - ليس إلّا مانغاكا لا يرسُم، ورواياته سهلة القراءة لأنّها أقرب إلى مانغا الشونين - القصص اليابانية المرسومة الموجهة إلى الصبية المُراهقين - مع بعض الإضافات الإباحية. سلمان رُشدي يكاد يكون غير قادرٍ على كتابة رواية تخلو من الفانتازيا، وفي بعض رواياته الأخيرة فإنّه يتحول إلى نوعٍ من الشعوذة.
وإذا عُدنا إلى فتيان بريطانيا الذهبيين، فإنّ إيان مكيوان قد توصّل أخيراً إلى أن يكتب رواية بلسانٍ جنين في بطن أمه، يُعيد رواية ”هاملت“ بينما يتذمر من كُل شيء يُضايق كاتبه مكيوان، وفي النهاية فإنّه يُجبر أمّه على أن تلده. هذه ليست فانتازيا، بل (هرتلة)، لكن، من يجرؤ على الإساءة إلى كُتاب الوزن الثقيل هؤلاء بالقول إنّهم يكتبون روايات لها العُمق الفكري نفسه الذي لمسلسلات التلفاز المُتوسطة، بحركاتٍ بهلوانية لغوية، وإشارات باطنية إلى نصوص سابقة؟
 

الجناح الياباني


في 1968 فاز ياسوناري كاواباتا بجائزة نوبل للآداب. قبل فوزه، كان ثمّة ضجة في اليابان، فقد شعر الأُدباء اليابانيون بأنّ الوقت قد حان ليفوز ياباني بالجائزة، وكان ثمّة مرشحون كُثر للجائزة، من أبرزهم كاواباتا ومُعاصره الأصغر سناً يوكيو ميشيما. ورُبما يكون فوز كاواباتا من العوامل التي ساهمت في أن يفقد ميشيما آخر ما كان يتمسك به قبل أن يندفع بجيشه الصغير، ويستولي على وزارة الدفاع اليابانية، ويحتجز وزير الدفاع رهينة، ثم ينتحر ببقر بطنه مع أحد تلاميذه في عام 1970. بعد ذلك بعامين، انتحر كاواباتا نفسه، وقد كان أكبر سناً بكثير، بطريقة هادئة، لا تُزعج أحداً ولا تُثير أي ضجيج.
لماذا انتحر كاواباتا، ولماذا انتحر ميشيما، ولماذا انتحر كُتابٌ يابانيون قبلهما وبعدهما أسئلة يطيب للمُهتمين بالأدب الياباني أن يسألوها، خصوصاً وأن كاواباتا يذكر الانتحار في محاضرته لنوبل، مُشيراً إلى انتحار الأديب الياباني ريونوسوكي أكوتاغاوا في سن الخامسة والثلاثين. بحُكم أنّ كازو إيشيغورو ليس منضوياً ضمن تقليد الأدب الياباني، فإنّه لا يُخشى عليه من هذا، غير أن الوشيجة التي تربطه بياسوناري كاواباتا قد تعود إلى أسلوبهما الهادئ، وميلهما إلى موافقة ما حولهما، وعدم رغبتهما في لفت الأنظار. الوشيجة الأخرى، الأقوى، وشيجة أدبية، فكاواباتا يكتب عن التفاصيل الصغيرة في الحياة، مع بعض الشطحات الفانتازية، مثل إيشيغورو. ويشترك الاثنان في أنّهما لا يوليان الكثير من الاهتمام للنوع الأدبي.
إيشيغورو نفسه يقول إنّه تأثر بشكلٍ طفيف وعابر بكتابات جانشيرو تانيزاكي، وقد يبدو هذا غريباً للوهلة الأولى، فجانشيرو تانيزاكي (هنتاي) الأدب الياباني الأكبر، فيما كتابات إيشيغورو بعيدة عن هذا، إلّا أنّ الناظر المُدقق يُلاحظ أنّ أدب تانيزاكي يُعنى كذلك بالتفاصيل الصغيرة، وشخصياته تُعاني أنواعاً من النبذ الاجتماعي بسبب انحرافاتها العديدة، فيما تُعاني شخصيات إيشيغورو من عدم قُدرتها على الذوبان في مُحيطها رغم أنّها - ظاهرياً - لا تُعاني من أي شيء يمنع اندماجها فيه، ولم تقترف جُرماً يُذكر.
وفي الأدبيات اليابانية، فإنّه ثمّة خلاف بين ريونوسوكي أكوتاغاوا وجانشيرو تانيزاكي حول ما يصنع القصة: يقول أكوتاغاوا إنّ القصة هي معمارها السردي، فيما يقول تانيزاكي إنّ القصة هي شخصياتها وحبكاتها. والمرء يتوقع من كاتب ”راشومون“ أن يُعنى بالمعمار السردي، فيما يتوقع من كاتب ”اللص“ أن يعتني بالشخصيات والحبكة. ويتجلى إيشيغورو حين يأخذ موقف تانيزاكي، غير آبِه بالمعمار، واضعاً قصصه حيث شاء لها أن تكون من دون أي تبرير، كما حدث مع رواياته الفانتازية، ومع روايته الأوروبية من ليس له عزاء (1995) التي لا تدور في مدينة مُحددة - ووصفها البعض بأنّها سيئة إلى حدٍ يجعل لها تصنيفها الخاص من السوء، فيما يرى البعض الآخر أنّها أحسن ما كتب إيشيغورو.
ومع ذلك، ينبغي ألّا يعتبر المرء أنّ موقف تانيزاكي يُنكِر المعمار، فالحبكة - التي يُعلي تانيزاكي من شأنها - هي الركيزة الأساسية في معمار أي فصة. ولا أنّ أكوتاغاوا يُنكِر أهمية الشخصيات، فإن كانت شخصيات ”راشومون“ شخصياتٍ رمزية، فإن شخصيات قصته ”ستارة الجحيم“ ما تجعل هذه القصة المُريعة تنبض بالحياة.
وإيشيغورو يعرف هذا جيداً، فالروائي الحق يعرف متى بالضبط تحين لحظة الكشف والانقلاب الدرامي، وكيف ينسج حقيقة الفاجعة تدريجياً، بحيث يُدرِك القارئ ما سيأتي، ومع ذلك، فإنّ مجيء لحظة الإدراك يبقى غير مُحتمل، وفي الوقت نفسه، فإنّ لحظة الإدراك لحظة عابرة، تمر في السرد بلا أي احتفاء خاص، الأمر الذي يزيد من أثرها.