02 أبريل 2013

عزيزك لوسيفر

وصلني تعليقٌ من مجهول على تدوينة "ما وراء الطبيعة ١٠١" يقول:
"في انتظار تعليقك على حامل الضياء بجزئيها، حيث ان عزيزك لوسيفر قد انتهى امره"
أشكر صاحب التعليق على انتظاره لتعليقي، وعلى تعليقه الذي جعلني أكتب هذه التدوينة.
 ثمة مُشكلتان في هذا التعليق: ١- لوسيفر لم ينتهِ أمره، فهو قد رحل إلى جانب النجوم وقد أخذ معه مجندًا جديدًا ٢- لوسيفر لم يكن "عزيزي" في يومٍ من الأيام. صحيح أنني كتبتُ تدوينة عن "لوسيفر"، لكنها كانت تأملاً في العلاقة بين الشخصيتين، فرانتز لوسيفر ورفعت إسماعيل، قد شرحت الكيفية التي تهاوت بها شخصية لوسيفر عبر السلسلة، وانتهت بفقدان اهتمامي بالشخصية. إضافة إلى ذلك، فبعد "ما وراء الطبيعة ١٠١"، كان اهتمامي بالسلسلة قد تراجع.
لأجل هذا التعليق الطريف، بحثتُ عن جزئي، أسطورة حامل الضياء، وقد رجوت حقاً أن تكون شيئاً مثل أسطورة آخر الليل وأسطورة الجاثوم: حكاية جيدة، حبكة مثيرة، وشخصيات تجذب القارئ بغض النظر عن موقفه منها. بدلاً عن ذلك، كانت أسطورة حامل الضياء متوقعة، ومليئة بالفرص الضائعة.

حماية البيئة
الرواية كانت مزيجاً من الكليشيهات، وحماية البيئة، والأحكام القطعية. لنبدأ بالكليشيهات: هناك فتحات جحيمية تنفتح في السلسلة تخرج منها كائنات شيطانية، تجر شخصية ما، ثم تنغلق. هذا الحل الأمثل لكُل المشاكل التي يُمكِن أن تتعرض لها الشخصيات الشيطانية، في تقنية سردية مُعاكسة لتقنية الإله من الآلة deus ex machina في الحُقبة الكلاسيكية: الشيطان من الحُفرة daemon ex barathro. والشيطان من الحُفرة الحل الجاهز لكل مشاكل الحبكة التي تنشأ عن وجود جثث كثيرة، أو شياطين عابرة للعوالم.
وحل الشيطان من الحُفرة حلٌ يُراعي البيئة، ويُخفف عن موارد الأرض الحاجة للتعامل مع النفايات التي تنتج عن تواجد غولٍ مثل أليستر كراولي - الذي كان يستحق رواية مُستقلة، بوصفه الوجه المُعاصر لعبد الله الحظرد، لكنّه تحول إلى شبح ومن ثم إلى غول عادي. ولأن أليستر كراولي غول من (حُمران العيون)، فقد حظي بمسؤول خفي يحميه من دون أن يعرف القارئ من يكون، كما في الروايات الرخيصة الرائجة عن رجل الأعمال الفاسد الذي يطحن المواهب الشابة ويفترس الإناث، ويحميه مسؤول عميق في الدولة العميقة، ثم يتخلى عنه عندما تقتضي مصلحته ذلك. هذا كان دور أليستر كراولي: أن يأكل الناس، ثم تأكله ذئاب لوسيفر.
من علامات حُب البيئة القوية في الرواية أنها تُعيد تدوير مفاهيم سابقة، وحبكات سابقة، وأفكارٍ سابقة لتصنع منها رواية جديدة. وكما هو معلومٌ بالضرورة، فإن إعادة التدوير recycling مُفيد للبيئة. لذا، تجري إعادة تدوير حبكة الكتاب العابر للعصور من رواية العلامات الدامية. وتجري إعادة تدوير حبكة الغول من نادي الغيلان، وقصة الصبي الذي كان يخدم الوحش من مجموعة في جانب النجوم. كذلك، يجري استخدام كُل القصص التاريخية المُمكنة: جاك السفاح، ريا وسكينة، سالومي وهيرود ويوحنا المعمدان، ......... فلماذا تُفسد قصة واحدة إذا يُمكنك أن تُفسد أكثر؟
هنا، ثمة مسؤول واحد عن مذابح جاك السفاح، وعمّا فعلته ريا وسكينة، بل وهو من تسبب في ذبح يوحنا المعمدان: لوسيفر. إن تفسير اللحظات المُظلمة في التاريخ الإنساني بوجود شيطانٍ ما، أو كيانٍ ما تلبس الشخصيات، أو كان موجوداً حولها تبريرٌ عجيب للشر في العالم.

كيف تُفسد رواية
وإذن، فقد كان لوسيفر شخصياً مسؤولاً عن هذه الجرائم. لوسيفر يُحِب العمل مُنفرداً. لكن، لماذا يفعل هذا؟ هل يعود هذا لطبيعته الشيطانية؟ لا، بل لأنّه يلعب لعبة قط وفأر كونية مع رفعت إسماعيل وأجداده، وأجداد أجداده. فأجداد رفعت إسماعيل كانوا رجال شُرطة وكهنة.
ولأن لوسيفر شيطانٌ بخصال بشرية، فهو يُحِب المُماطلة للغاية، ويؤجل عمل اليوم إلى الغد، بل إلى بعد ألفي سنة، ويتذكر فجأة، عندما يصير رفعت شيخاً خرفاً على وشك الموت، أنّ هُناك كتاباً ضائعاً، وأنّه يبحث عنه مُنذ طفولة المسيح، وأنّه قد مرَت عليه أجيال تعقبها أجيال من ذُرية الراهب سمعان، من دون أن يتمكن من استخلاص الكتاب منهم. بل إن رفعت إسماعيل كان بين يديه عدة مرات، فاكتفى بعمل مقالب معه، ضاحكاً في النهاية: "عليك واحد!"
ومن ثم يمر رفعت إسماعيل بطور فُقدان ذاكرة، لئلا يجده لوسيفر، وأيضاً لأنّه كان سيموت ولم يعش حياته بوصفه بطل مُسلسل مكسيكي يُصاب بفقدان الذاكرة لخمسين حلقة. والمفروض أن هذه خُطة جيدة، إذ تُتيح للقاهرة أن تكون تحت الحصار، ولقريبة رفعت إسماعيل وابنتها أن تتعرضا لخطرٍ شديد، وتُتيح لأليستر كراولي التهام نصف النُخبة المُثقفة القاهرية، وتُتيح الخلاص من سام كولبي بالانتحار، وتحويل فتى فقير إلى شيطان، من دون أن يتحمل رفعت إسماعيل أي مسؤولية أخلاقية عن هذا الذي يحدث. وهذا مُتوقع، فالرواية تقول إن كُل شيء سيء يحدث بسبب لوسيفر.
وهكذا، ثمة أربعة خطوط متوازية: لوسيفر، كراولي، كولبي، والفتى الشيطاني. لكن الرواية تبدو فارغة، فلا شيء يحدث: على جبهة لوسيفر هناك صوتٌ مُستمر: "عاو!" على جبهة كراولي: "هم هم هم!" على جبهة كولبي: "إهئ! إهئ!" على جبهة الصبي: "صوت تقليب أوراق". هذا كُل ما يحدث في الخمسين حلقة التي يكون فيها رفعت إسماعيل فاقداً للذاكرة، قبل أن تعود إليه الذاكرة كما يحدث في كُل هذه المُسلسلات، فيذهب ليُنقذ قريبته ويبحث عن صديقه المُنتحر، ومن ثم يصل إلى العُقدة النهائية: تشبث بالكتاب! (الكتاب الذي سرقه سلفه الأكبر وتسبب في كُل هذه المُشكلات، ويجتذب الأفاعي والهوام والشؤم في كُل مكانٍ يحل فيه). 

يا للهول!
يُخيل لي دائماً أن ريف فاينز، المُمثل البريطاني، أصلح من يقوم بدور لوسيفر - لو قُيِض للسلسلة أن تتحول إلى إنتاجٍ عالمي - فلديه نبرات صوتٍ مُشابهة لوصف نبرات صوت لوسيفر، ويتصرف بطريقة: "شوفوني وأنا شرير وفرحان بنفسي إني شرير" التي يتصرف بها لوسيفر. غير أن تحول لوسيفر إلى لورد فولدمورت - كما أدّاه فاينز - لم يكن أمراً مُرحباً به. فهو ينشر غباراً أخضر حوله، ويقف قُرب البحر، وشكله مُوحٍ بالغموض والرهبة، ويُطلق (الديابة) على الناس كما يُطلق فولدمورت الحية على السحرة. 
المفروض أن هذه المقاطع تُشير إلى الحس الإسخاتولوجي للرواية، فقد اقتربت النهاية، واضطرب نظام العالم. لكن العالم بدا فارغاً فيها، كما أنّه من غير العملي أن يسمع لوسيفر/فولدمورت مُحادثات الناس وأفكارهم في مكانٍ مثل القاهرة، يسكنه نحو عشرين مليون نسمة، لا ينامون، ويتحركون باستمرار. الأمر المعقول أنّه سيصاب بالجنون، فالقاهرة - ومصر - ليست بريطانيا السحرية التي يُرعبها فولدمورت بُمجرد أن يلوح بالعصا.
رفعت إسماعيل، الذي لا يؤمن بتناسخ الأرواح، يؤمن بمفهوم خارج من سلسلة حِلف الحشاشين، ذاكرة الدم، أي أنّ ذاكرة أسلافه محفورة في جيناته، ولو كان لوسيفر أكثر عملية لكان وضعه في جهاز الأنيمُس، وحَل مُشكلته، وعثر على قطعة عدن، أعني، الكتاب الذي يبحث عنه.
وبعيداً عن المزاح، فإن الرواية تدخل في مفهوم: خطايا الآباء يرثها الأبناء، وهو مفهوم يُفترض برفعت إسماعيل الذي لا يكف عن الثرثرة حول التزامه الديني في الروايات السابقة، أن يرفضه جُملة وتفصيلاً، من باب أنّه لا تزر وازرة وِزر أخرى، كما في القرآن الكريم. مفهوم وراثة الدم، ووراثة الخطيئة، ووارثة الصراع مفهوم غير إسلامي. لا مُشكلة في هذا لولا أن السلسلة لديها ميزان العلم وميزان الدين وكُل ما لا يوافق عليه العلم هو ...... إلى آخر المقولات التي يجترها رفعت إسماعيل بغير فهم.
هذا شائك بما فيه الكفاية، لكن الحكاية تحلو أكثر وأكثر. المفروض أن سمعان الراهب كان ناسكاً من مرحلة تسبق مرحلة التنسك المسيحي. كيف كان شكل الترهبن في فلسطين قبل المسيحية؟ هل كان متأثرًا بالترهبن المصري؟ وكيف يُمكِن له أن يكون له ذرية وهو راهب؟ هل ترهبن بعد أن أنجب؟
ورُبما يكون قد ترك الرهبنة بعد أن سرق الكتاب، لكن سرقة الكتاب بحد ذاتها مشكلة: سمعان الراهب يسرق الكتاب لأنه يحمل قيمة كُبرى للوسيفر (يحوي وصفات للشر؟)، ويُفترض أنّه بسرقته للكتاب، فإنّه يحرم لوسيفر من وسيلة لإيقاع الأذى اللحظي - ولو أن هذا غير صحيح لأن رأس المعمدان كانت قد طارت، لكنّه يتسبب في أذى مُستمر على مدى ألفي سنة. 
غير أن هذه مواضيع لا يُحب الراهب سمعان، ولا يُحب رفعت إسماعيل شغل رأسيهما بها. المهم أن هناك كتاباً، وأن لوسيفر يبحث عنه، ويجب ألا يحصل عليه. ثمة سؤال ينشأ حول محتوى الكتاب، فهل هو ككتاب العزيف، كتابٌ مُستقل، يملك فاعلية في ذاته؟ أم أنّه مُجرد أداة يجب حرمان لوسيفر منها؟ وهل الكتاب أداة في ذاته أم في مضمونه؟ لقد حول مضمونه الولد إلى شيطان، وقد قرأه لوسيفر من قبل، فلماذا يحتاجه من جديد؟ هل هو بحاجة إلى أن (يُذاكر) قبل الامتحانات؟ ولو كان هذا الكتاب في غاية الأهمية بالنسبة لمكانته في جانب النجوم، فكيف صبر عليه سُكان جانب النجوم ألفي سنة؟ وتحملوا (منظرته) عليهم حين منعهم من أكل رفعت إسماعيل الذي يعرف مكان الكتاب؟ وهل كانت محاولة ابنه خرياسوس المدون الكتابة نوعًا من التعويض عن ضياع الكتاب من أبيه؟ الرواية لا تقول شيئًا مؤثرًا في السلسلة، وليست رواية عن الشخصيات بحيث تنتفي أهمية الحدث.