28 فبراير 2010

مدونة كتب

مُدونة كُتب اسمٌ يُفيد تخصص المدونة في الكتب، والمدونة - المُدارة بجهود فردية - تتخصص فعلاً في عروض الكُتب ومراجعاتها وتغطيات معارض الكتاب. هذا التخصص نادرٌ في المدونات العربية، فمعظم المدونين يفهمون مصطلح (مدونة متخصصة) بمعنى الكتابة عن البرمجيات والتقنيات الإلكترونية أو (التنمية الذاتية). لذا تُقدم هذه المدونة خدمة يحتاجها قطاعٌ كبيرٌ من مستخدمي الإنترنت العرب، بتصميم أبيض وأزرق أنيق يبتعد عن التصاميم البنية الكئيبة التي يُصر أصحاب المواقع المعنية بالكتاب والكتابة على نشر الكآبة بين القراء بها.
أغلب المشاريع المهمة في العالم بدأها أفرادٌ منتجون استطاعوا إقناع أفرادٍ منتجين آخرين بالانضمام إليهم، لا لتكوين قطيع في هيئة جمعية أو مؤسسة، بل لتحقيق هدفٍ مشترك بطريقة المشاركات الفردية الفعالة. وهذا ما تفعله مدونة كُتب إذ تدعو قراءها للمشاركة بمراجعاتهم للكتب، وتنشر مراجعات الكتب من مدونين مختلفين، ومن قراء لا يُدونون. بهذه الطريقة، يُصبح كلُ مهتمٍ بالكتب معنياً بالمشاركة في عملية إنتاج محتوى المدونة، من دون أن يفقد فرديته. إضافة إلى ذلك، تُحفز المدونة قراءها على المشاركة في إثراء محتواها بمسابقات دورية، تكون جوائزها كُتباً من ورقٍ وحبرٍ تُذكِر من نسوا بحميمية الكتاب الحقيقي، ولا مادية الكتاب الإلكتروني.
حالياً، تُغطي المُدونة معرض الكتاب في الرياض، ورُبما - إذا صار لها قراء في دول العالم العربي المختلفة - تُغطي معارض الكتاب العربية المختلفة من صنعاء إلى نواكشوط، ورُبما معارض الكتاب العالمية - من مشاركين يُقيمون خارج العالم العربي. بوجود المشاركين المتحمسين، يُمكن للمدونة أن تُقدم صورة بانورامية لحركة الكتاب في العالم العربي؛ وفي الوقت عينه، تُقدم رؤية ذاتية للكُتب، لأن اختيار الكُتب المعروضة يعود لمراجعيها.
أفضل ما جاءت به حركة ويب 2.0 فكرة مشاركة المستخدم في إنتاج المحتوى، هكذا يتحول مستخدمو الإنترنت من مستهلكين إلى منتجين يُساهمون في إنتاج المعرفة العالمية. تشترك مدونة كُتب في هذه الفلسفة مع موسوعة ويكيبيديا العالمية، ويختلف التطبيق قليلاً، فآلية النشر تختلف، كما أن المدونة تُشجع الفردية - لأن الكتب في حد ذاتها إعلانات عن الهوية الفردية - بينما تُشجع ويكيبيديا على لا شخصانية المشاركات. وفي الحالتين، فإن المشاركة في هذه المشروعات تُثري المحتوى المعرفي العام، والرصيد الفردي للمساهم الذي يتحول من مستهلك سلبي، إلى مشارك إيجابي.
مُدونة كُتب تستحق من كل مُحبي الكتب كافة أشكال الدعم، وفي هذه الصفحة تشرح أشكال الدعم التي تطلبها أكثر من غيرها. كتابة عرضٍ لكتابٍ مرة كُل شهر سيكون تمريناً مفيداً لكل قارئ محبٍ للكتب، كما أن مناقشة الكُتب المعروضة باستمرار يجلي الغوامض ويولد مزيداً من الأفكار. هكذا، يُمكن أن تصير المدونة نادياً لكل محبي الكتب.
الخطوة الأولى في دعم هذا المشروع - الذي وجدته عن طريق محركات البحث، ولا أعرف شيئاً عن القائمين عليه غير أن فكرتهم رائعة - الكتابةُ عنه، والخطوة الثانية ستكون إرسال مراجعة كتابٍ لهم - بإذن الله - عندما أنتهي من موجة الكتب بالإنكليزية بين يدي. أتمنى قراءة مساهماتكم هناك، وأرجوكم جميعاً تذكر شيء هامٍ عند التعرض لكتاب: لا يُمكن قياس عظمة أي كتابٍ على مقياسٍ رقمي. الكلمات أكثر تعقيداً من الأرقام، والتجارب الفردية غير قابلة للقياس بأي مقياس مادي. كلما رأيت تقييماً للكتاب بالنجوم أو الأرقام أو غير ذلك، تأذت عيناي، وشككت جدياً في فهم المُقيِم لحقيقة الأدب!
قراءة سعيدة، ومراجعات سعيدة للجميع!

26 فبراير 2010

تيرا ليرا

(سيدة شالوت، سيدني متيارد)

ما أخرج سيدة شالوت من برجها الرمادي في جزيرة شالوت كان صوتاً، وما حبسها فيها كان صوتاً. فبالإضافة إلى الصور البصرية الجميلة فيها، تمتاز القصيدة بصورها الصوتية المتناسقة مع مشاهدها لتكوين التأثير الكلي الموحي بالقدر الذي يعصف بالفنان. بنية القصيدة الظاهرية رُباعية، حيث تنقسم إلى أربعة أقسام، كل قسمٍ فيها يضم مجموعاتٍ من أربعة أسطر تنتهي بكلمات: شالوت، كاميلوت، أو لانسلوت بشكلٍ يحافظ على إيقاع القصيدة الهامس في ترجماتها.
تصف بداية القصيدة جزيرة شالوت والطريق إلى كاميلوت كما يظهر في مرآة سيدة شالوت، لكنها لا تظهر نفسها إلا في آخر مقاطع القسم الأول، عندما يسمع الحصادون أغنيتها، ويعتقدونها جنية:
وَحْدَهُمِ الحَاصِدُون؛ الحَاصِدُونَ مُبْكِرَاً
عَبْرَ حُقُولِ الشَعِيْر سَمِعُوْا أُغْنِية
يتردد صداها بهيجاً واضحاً،
من النهر الملتف
مُتجهاً إلى كاميلوت.
وبحلول القمر، تهمس الحصادة
التي أنهكها جمع الحُزم في
الأكوام المعرضة للهواء، مصغية،
"هذه هي الجنية،
سيدة شالوت."
صوت سيدة شالوت - الذي لا يُمكن وزنه أو تحديد طوله وعرضه وارتفاعه - الدليل الوحيد على وجودها، لأن أحداً لم يرها من قبل. لكن الصوت الذي يتردد بشكلٍ غامض يُجردها من كيانها المادي ويحولها إلى جزء من السحر. وصوتٌ غامض لا تعرف مصدره - ولا تصرح به القصيدة - حبسها رهينة الظلال التي تنسجها ليلاً ونهاراً.
هناك تنسج في الليل والنهار
نسيجاً سحرياً بهيج الألوان.
سمعت همسة تقول؛
أن اللعنة ستحل عليها
إن هي أبداً نظرت إلى الأسفل
حيث كاميلوت.
لم تعرف أبداً ما قد تكونه اللعنة،
لذا استمرت تنسج بثبات وعناية،
سيدة شالوت.
بنفس المنطق الذي جعل سيدة شالوت جنية في خيال الحصادات لأنهن لم يرينها بل سمعن صوتها، أذعنت للصوت الذي همس لها بأن لعنة ستحل عليها إن هي نظرت من النافذة، رغم أنها لا تعرف مصدره، ولا تعرف ما قد تكونه اللعنة التي ستحل عليها. بقيت في جزيرتها الصامتة تنسج وتغني، الصوت الوحيد الذي تسمعه - عدا صوت اللعنة - صوتها الذي يصل إلى الحصادات، ولأنها لا تسمع غير صوتها، فإن كل الصور التي تعكسها المرآة تصير ظلالاً خالية من الروح، لأنها مشاهد صامتة.
والذي أخرج سيدة شالوت من الجزيرة لم يكن مرأى سير لانسلوت، بل صوته، فوصفه الذي يستغرق معظم القسم الثالث من القصيدة لا يلفت اهتمام سيدة شالوت، بل الصوت الذي ينبعث منه ويبدد صمت الجزيرة:
برق اللجام المرصع بالجواهر،
شبيهاً بفروع النجوم
المُعلقة في المجرة الذهبية.
دقت أجراس اللجام مرحة،
بينما ركب إلى كاميلوت.
شدهت أجراس اللجام سيدة شالوت، وربما لذلك صمتت ولم يسمعها سير لانسلوت. تستمر القصيدة في وصف مرآه الجميل:
كالغالب عبر الليل الأرجواني،
تحت عناقيد النجوم اللامعة،
بعض من شهاب مُتحدٍ، ضوء متثاقل
يتحرك فوق الساكنة شالوت.
اتقد جبينه العالي في نور الشمس،
على حوافره الصقيلة تقدم حصانه الحربي،
من تحت خوذته تدفقت
خصلات شعره الفاحمة بينما ركب؛
ركب إلى كاميلوت.
لكن ذروة المشهد لم تأتِ إلا حين غنى سير لانسلوت نفسه، فوميضه في المرآة لم يُحرك سير لانسلوت، بقدر ما حركتها أغنيته:
من الضفة ومن النهر
ومض في المرآة البلورية،
"تيرا ليرا"، قرب النهر
غنى سير لانسلوت.
صوت سير لانسلوت الصوت الوحيد الذي سمعته سيدة شالوت بعد صوت اللعنة، لذا كانت لأغنيته المرحة قوة تعادل قوة اللعنة جعلتها تترك المغزل والنسيج، وتعبر الغرفة لتطل من نافذتها مباشرة:
تركت النسيج، وتركت المغزل،
عبرت ثلاث خطوات عبر الغرفة،
رأت زنابق الماء تُزهِر،
رأت الخوذة والريشة،
ونظرت هناك إلى كاميلوت.
لم ترَ سيدة شالوت سير لانسلوت، بل خوذة وريشة، لكنها نظرت إلى كاميلوت التي لم ترَ من قبل غير أبراجها العالية في مرآتها. جاء صوت سير لانسلوت نداء للخروج يُلغي الصوت الذي حبسها في الجزيرة، ويجبرها على النظر إلى المكان الذي ينبغي أن تكون فيه.
تطاير النسيج عائماً في الهواء،
تصدعت المرآة من طرف إلى طرف،
"حلت علي اللعنة!"
صاحت سيدة شالوت.
تطاير النسيج في كل مكان لأن عالم سيدة شالوت القديم قد انقلب، وتصدعت مرآتها من طرفها إلى طرفها الآخر دلالة على انكسار السحر إلى الأبد، لقد حلت اللعنة على سيدة شالوت، وطُردت من جنة الظلال الصامتة إلى العالم الحقيقي حيث ينبغي أن تذهب إلى كاميلوت وتكشف للعالم عن وجودها وتجابهه.
حين تعثر سيدة شالوت على مركب، فإن أول ما تفعله أن تكتب اسمها على مقدمته ليعرف العالم من تكون. ثم تخرج في النهر تتلاعب بها الريح التي تحمل أغنيتها الأخيرة إلى كاميلوت المشغولة بمباهج الحياة فيها عن مأساة سيدة شالوت التي غادرت جزيرتها الصامتة. تموت سيدة شالوت في أغنيتها، وتصل إلى كاميلوت ميتة فتنطفئ كل أصوات البهجة، ويخاف الفرسان والسيدات والسادة من دخول سيدة شالوت الميتة في قاربها، ويصطفون على ضفة النهر كأنهم يُلقون النظرة الأخيرة على جثمان ملكة عظيمة. ثم تأتي الخاتمة باعتراف سير لانسلوت بوجود سيدة شالوت، وبالبهاء الذي منحها الله إياه.
يُمثل سير لانسلوت في هذه الحكاية الشخص المتمتع بمباهج الحياة، الشخص الحقيقي الذي يُريد الفنان الوصول إليه، ويُمثل كل ما يفتقده في سجنه المنسوج من الظلال. كاميلوت - التي تصلها سيدة شالوت ميتة - الحياة التي تؤثر فيها بأغنيتها وبحضورها النهائي المؤتلق بحيث يصير وصولها حدثاً تتوقف عنده كاميلوت بأكملها، بعد أن تردد صدى أغنيتها. ما يختتم القصيدة صوتٌ أيضاً: اعتراف لانسلوت:
وحده لانسلوت من أطرق هنيهة،
قال: "إن لها وجهاً جميلاً،
وهبه الله من رحمته البهاء،
سيدة شالوت."
الصوت مثل الاسم، حضورٌ مجرد يبقى بعد زوال المجسد من لحمٍ ودم، مثل الريح التي قال بريشت إنها وحدها ما يبقى من المدن التي عبرتها. شيء لا يُمكن أن يقبضه أحدٌ، كالأحلام التي يُطاردها الفنان طوال حياته. ما بقي يشهد على مرور سيدة شالوت ليس سوى صدى صوتٍ وظلالٍ واسم.

لورينا مكنيت تغني القصيدة من يوتيوب.
عرض للوحات جون ويليام ووترهاوس، وفي الخلفية كورال فرانشيسكو لانديني: "وداعاً، أيتها السيدة الجميلة! وداعاً!".

21 فبراير 2010

سيدة اللوحات

وصول سيدة شالوت إلى كاميلوت(وصول سيدة شالوت إلى كاميلوت، رسامٌ غير معروف)

لو أن سيدة شالوت وصلت بخيرٍ إلى كاميلوت وقابلت سير لانسلوت، لاتخذت حكايتها مجرى جديداً رُبما كسر السحر وأزال عن قصتها التأثير الدرامي الذي ألهم رسامي ما قبل الرافاييلية المعاصرين لشاعر "سيدة شالوت" ألفرد تينيسون وأجيالاً من الرسامين بعدهم. هُناك شيء ساحرٌ في قصة سيدة شالوت المأساوية التي ترويها القصيدة، شيء قدري لا مفر منه جعل سيدة شالوت تهجر جزيرتها وتُبحر إلى كاميلوت التي وصلتها ميتة، مزيج من التسليم بالمكتوب ومقاومته جعل هذه القصيدة مُلهمة للعديد من الأعمال الفنية الخالدة - رغم أن بعض نقاد الشعر قد نفوا عنها صفة الجودة.
يعترض بعض النقاد الإنكليز على ما يرونه (إطناباً) في القصيدة، فالقصيدة مُبالغٌ في كتابتها، ومُعظم أجزائها وصفٌ لجزيرة شالوت وما تعكسه المرآة لسيدة شالوت ثم وصفٌ لما تمر به من كاميلوت. غير أن هذا الوصف مكمن قوة القصيدة، وما يجعلها مُلهمة للرسامين بالذات، فوصف الأمكنة في القصيدة يمكنهم من الإحاطة بدقائق الجو النفسي لسيدة شالوت وعكسه في لوحاتهم عنها ومصيرها المأساوي، خصوصاً وأنها كانت مثلهم - بشكلٍ أو بآخر - رسامة مسكونة بالرؤى التي تنسجها.
سيدة شالوت كما رسمها جون ويليام ووترهاوسأشهر اللوحات التي استوحت قصيدة "سيدة شالوت" لوحة جون ويليام ووترهاوس التي صورت واحداً من أكثر مشاهد القصيدة درامية وتأثيراً في النفس، خروج سيدة شالوت من جزيرتها الصغيرة على مركبٍ تتقاذفه الريح الشرقية عاصفة المزاج كما تشاء.
"وأسفل امتداد النهر الغامض
كعراف جريء في غشية؛
رائياً كل فرصه الضائعة
بسيماء زجاجية؛
نظرت إلى كاميلوت."
في اللوحة تعبير قوي عن ذهول سيدة شالوت التي ترى فرصها الضائعة بينما كانت في برجها الرمادي المنعزل محكومة بتعويذة، سيدة شالوت خائفة كذلك من اللعنة التي حلت عليها بسبب رؤيتها لكاميلوت، خائفة من الرياح، من الماء، لكنها ماضية في طريقها لأنها لم تعد تستطيع البقاء في شالوت بعد انكسار السحر. لا بد وأن تصل إلى كاميلوت.
سيدة شالوت كما أعاد يانغ زانغ رسمهاأعاد الفنان الرقمي يانغ زانغ رسم لوحة ووترهاوس رقمياً مغيراً بعض التفاصيل في خلفية اللوحة، كنوع الأشجار المختلف، والشلال الذي يظهر فيها - في إيماءة تقدير لفن ووترهاوس وتينيسون معاً، فسيدة شالوت تحولت إلى رمزٍ للمرأة العاشقة التي تعصف بها الريح في كل مكانٍ من دون مرشدٍ لها، أو لنداء الفن الغامض الذي يعصف بالفنان ويقوده إلى الضياع. تفاصيل اللوحة مهمة: الكتابة على المركب، الشمعات الثلاث - غير المذكورة في القصيدة - التي ترمز إلى ضعف الضوء الذي تعتمد عليه سيدة شالوت المتخبطة التي تقول القصيدة إنها تنظر بعينين زجاجيتين لا تريان شيئاً وتُبحر في مهب الريح، الثوب الأبيض والنظرة المرتاعة والملامح البريئة، الرداء والأوراق المنسابة مع الماء، وفوضى الأوراق والأغصان والأعشاب في مقدمة اللوحة، كلها تفاصيل تُعزز الأثر الدرامي لخروج سيدة شالوت من جزيرتها.
سيدة شالوت تنظر إلى كاميلوت، جون ويليام ووترهاوسألهمت القصيدة جون ويليام ووترهاوس لوحتين أخريين، إحداهما تصور سيدة شالوت ناظرة إلى سير لانسلوت، وفيها تظهر بشكلٍ مختلف تماماً عن لوحته الأخرى "سيدة شالوت" في البُنية الجسدية والشكل. سيدة شالوت هنا ليست فتاة رقيقة هشة، وإنما امرأة ناضجة مكتملة البنية، امرأة ذات مزاج غامض تسمع أصواتاً غريبة. ولا يتعلق الأمر باختلاف (موديل) الرسام في اللوحتين، بقدر ما يتعلق باختلاف التفسير الفني للقصيدة في اللوحتين، واختلاف المقطع المأخوذ. في اللوحة السابقة، كانت سيدة شالوت محكومة بقدرٍ أجبرها على الخروج من جزيرتها المنعزلة إلى كاميلوت، بينما في هذه اللوحة، تتخذ سيدة شالوت خياراً بنفسها، فتنهض من مكانها لتنظر إلى سير لانسلوت.
مع ذلك، تظل ملامح سيدة شالوت خائفة متوجسة، تتطلع في وجلٍ خشية أن تكتشفها أعينٌ خفية. خيوط المغزل تلتف حول ثوبها وتُقيدها في إشارة إلى ثقل اللعنة التي تحكمها، وعلى الأرض تتناثر كرات الخيوط السوداء التي وقعت منها في عجالتها - وقد تكون سوداء تعبيراً عن مخاوفها. في خلفية الصورة، تبدأ المرآة بالتصدع. لقد اتخذت سيدة شالوت خيارها، ولم تعد هناك فرصة للتراجع.
يرسم ووترهاوس في لوحته الثالثة مشهداً مبكراً من القصيدة، إذ يُصيب سيدة شالوت السأم من الظلال التي تعكسها مرآتها عندما ترى حبيبين تزوجا حديثاً ذاهبين إلى كاميلوت. تريد سيدة شالوت ما يزيد عن الظلال، شيئاً حقيقياً جداً. ولعل هذه إشارة مبكرة في القصيدة إلى خروج سيدة شالوت من الجزيرة لتستكشف كاميلوت. ألوان اللوحة مشرقة، لكن سأم سيدة شالوت ينعكس على كل شيء فيها، فالحبيبان في المرآة قصيان وكأنهما غير حقيقيين، وأبراج كاميلوت لا تبدو حقيقية أكثر من نسيج سيدة شالوت. كل ما حولها ممل وكئيب وباعث على السأم، المغزل، النسيج، قطع القماش المتناثرة، الخيوط. ولعل الرسام يُشير إلى أن سيدة شالوت كانت تريد حقيقية لا يُمكن مقايضتها بالصور. سيدة شالوت تريد أن تكون جزءاً من المشهد، لا ناقلة له. ورُبما كانت تلك رغبة في الرسام الذي يريد أن يذوب في النسيج الذي يرسمه، ويُصبح جزءاً منه، لا مجرد رسامٍ للظلال.
من المشاهد التي تنسجها سيدة شالوت بنفسٍ قانعة - ظاهرياً - لا يستفزها للتعبير عن سأمها غير مشهد الحبيبين الذي يبدو لها مجرد ظلٍ مهما حاولت نسجه، مما يوحي بأنها تسعى للاكتمال الذي تلوح فرصة لتحقيقه بظهور سير لانسلوت لاحقاً. وبتصويره للحبيبين على أنهما تفصيلٌ صغير في صورة، يُكثف ووترهاوس السأم الذي يُسيطر على سيدة شالوت، فرغم أنها تظهر كنموذج وحي - مقارنة بالحبيبين - إلا أنها طاقة معطلة مشغولة بأفكارٍ تُعبر عنها أبراج كاميلوت، أفكارٌ لا يُمكن التعبير عنها. هنا، تصير سيدة شالوت فعلاً تجسيداً للفنان أو المفكر أو الفيلسوف الذي لا يستطيع نقل رؤاه إلى سواه، وبالتالي يشله السأم، ويُصبح غير قادرٍ على تحقيق اكتماله. عندها تأتي التتمة في خروج سيدة شالوت إلى كاميلوت تمثيلاً رمزياً للخروج سعياً إلى تحقيق الرؤى وتجسيدها.
سيدة شالوت، ويليام هولمان هنتلوحة ويليام هولمان هنت احتفاء بالألوان التي تميز أسلوب ما قبل الرافاييلية، يُصور سيدة شالوت بينما المرآة تتصدع. سيدة شالوت شديدة البهاء لم تعد تنظر إلى المرآة التي تعكس أبراج كاميلوت كأنها دعوة سحرية إلى عالم الحلم، بل يشغلها التخلص من خيوط النسيج المتطاير بعد أن حلت اللعنة عليها. حالة الغرفة فوضى من الألوان التي تكاد تُغرق سيدة شالوت، والخيوط التي تملأ اللوحة تقيدها بقيودٍ قدرية، وتحولها نفسها إلى جزء من المنسوجات يحاول التحرر.
"تطاير النسيج عائماً في الهواء،
تصدعت المرآة من طرف إلى طرف،
“حلت علي اللعنة!”
صاحت سيدة شالوت."
في لوحته، يوحي هولمان هنت بأن سيدة شالوت نفسها جزء من السحر، مثلها مثل المرآة ومنسوجات الغرفة. هي ليست شخصاً حقيقياً يحاول الخروج من الوهم، بل جزء من الوهم نفسه يحاول التحرر. سيدة شالوت عند هولمان هنت شخصية في لوحة تريد الخروج إلى العالم، والمرآة المكسورة قد تكون انعكاساً للعالم الواقعي الذي تحاول الخروج إليه. هي شبيهة بشخصيات برانديلو الست التي تبحث عن مؤلف، إلا أنها لا تبحث عن مؤلف، بل عن شيء ملموس بعيداً عن انعكاسات المرآة، سيدة شالوت الشخصية التي تهرب من المؤلف لتلاقي حتفها لأنها ليست مصنوعة للعالم خارج حدود الذهن.
خروج سيدة شالوت من جزيرتها خروج الفنان من أسوار عقله والرؤى التي تحكمه ليحاول الوصول إلى العالم وإلى الاكتمال الفني، ورغم أن سيدة شالوت تموت في طريقها، إلا أنها تصل إلى كاميلوت، ويعرف كلُ من فيها أنها وُجِدت، وأنها سيدة شالوت، كما يُقر لها سير لانسلوت بالبهاء. الوصول النهائي لمركب سيدة شالوت الذي يحمل اسمها إشارة إلى خلود الاسم الذي يحوي خلاصة الوجود بينما يفنى الجسد، وإلى أن ما سيبقى منا ليس سوى أسمائنا. صحيح أن سيدة شالوت ماتت، إلا أنها حققت اكتمالاً فنياً بخروجها من حصار المرآة إلى مواجهة الواقع، وبأن العالم صار يعرف اسمها الذي لا يناله الموت.

01 فبراير 2010

شارب الوغد

بدأت أقرأ بعض أعداد سلسلة ما وراء الطبيعة - بشكلٍ متقطع - في سن الطفولة - بعد أن كانت تخيفني مجرد عناوينها التي كُنتُ أؤلف لها قصصاً كاملة مخيفة - إثر اختبارٍ مطلقٍ لشجاعتي قرأتُ فيه الظل فوق إينزماوث لهوارد فِلِبس لفكرافت وترجمة أحمد خالد توفيق - مؤلف السلسلة. كنتُ أقرأ ما يقع في يدي منها في مناسباتٍ متفرقة لا أحسبها شجعتني على أن أصير من متابعي السلسلة، لكنها كونت في ذهني مجموعة ملاحظاتٍ عامة شكلت انطباعي الوحيد عن السلسلة لوقتٍ طويل.

انت حكيم ولا تمرجي؟
كانت أولى ملاحظاتي على السلسلة علامات الترقيم فيها، فأكثر العلامات المستخدمة النقطتان ".." في نهاية الجمل، وعلامات التعجب. كذلك، مضاعفة حروف المد "يااااااااااااااه!" مع أن علامة التأثر أو التعجب تفيد المعنى الشعوري المصاحب للكلمة من دون الحاجة إلى مضاعفة حروف المد. أما أول ملاحظة على سلاسل المؤسسة العربية الحديثة بشكلٍ عام فكانت حرف الدال الذي يسبق أسماء الكتاب، والإعلانات (المخيفة) من قبيل: مغامرة جديدة مع د. نبيل فاروق! فأرتعب - في تلك السن الصغيرة - من هذه المغامرة ذات الدكتوراة، وأتوهم أنها للكبار فقط، فوحدهم الكبار من يفهمون مسائل (الدكاترة) العويصة، خصوصاً وأن العرف عندنا ألا يُكتب لقب الكاتب العلمي على غلاف الكتاب، حتى لو كان كتاباً في مجال تخصصه الأكاديمي، فبدت لي الألقاب العلمية على أغلفة الروايات - وعلى حدِ علمي، لا توجد درجات دكتوراة في كتابة الرواية - وكأنها تهديدٌ للقارئ ليخرس ويستمع إلى كلامِ الدكاترة.
(طبعاً، عرفت فيما بعد أنها دال المهنة وليست دال الدرجة العلمية وأن كل من دخل تمهيدي طب بات يكتب: أساطير بدروم الجيران من تأليف: د. فلان علان العلتاني.)
معلومات وقليلٌ من الحبكة
توقفت عن قراءة السلسلة لفترةٍ طويلة، إلى أن وقع في يدي كتيب العلامات الدامية. (تزعجني كلمة أسطورة في عنوان كل رواية ، فما ضر لو كانت العناوين من دون هذه الكلمة؟) الذي أعادني إلى قراءة السلسلة من جديد، لمزجه بين المغامرة والرعب والرواية في مزيجٍ مسلٍ مرعب. (ودافعي الأساسي لقراءة السلسلة التسلية التي لا أرى فيها ما يُعيب، أما ما يقوله البعض عن المعلومات التي تقدمها، فأمرٌ محمود، لكنني - مع ذلك - أشكك جدياً في سلامة منطق أي شخصٍ مصدر معلوماته رواية أياً كانت، ولا أتمنى رؤيته يقترح على أحد دكاترته في الجامعة مجموعة مراجع تتكون من روايات المغامرات.) من العلامات الدامية عدتُ لأقرأ السلسلة بكاملها، لأجد معظم ما تخيلته من قصصٍ بناء على عناوينها لا يمتُ بصلةٍ للروايات الحقيقية. كان أكبر مقلبٍ شربته في التوءمين والنصف الآخر والنبوءة، فما تخيلته أوقف شعر رأسي بينما كانت الروايات أقرب إلى قصصٍ عائلية هادئة. كان تخميني صحيحاً بخصوص الجنرال العائد إذ توقعت أن يكون جنرالاً نازياً، وقد كان سيدلتز غابلر كذلك فعلاً - والاسم من فيلم ليلة الجنرالات - والفصيلة السادسة، لكن القصص التي تخيلتها كانت مختلفة إلى حدٍ كبير. حارس الكهف ولعنة الفرعون كانتا فوق ما تخيلت، أما دماء دراكيولا، فما زلتُ أجد صعوبة في تقبلها فبلعها لأنني من أتباع المدرسة القديمة لبرام ستوكر، وأرى هذه التعديلات على الأسطورة غير مناسبة لمزاجي.

الولية المجنونة
في العودة، كنت قد صرتُ في الثامنة عشرة، مما جعل ملاحظاتي على السلسلة تتضخم. أكثر ما يُضايقني في السلسلة تحاملها ضد النساء، فهن هيستريات غبيات عاجزاتٌ عن التصرف مشكوكٌ في قدراتهن العقلية والسلوكية. حتى أنهن لسن حتى نساء، بل "إناث" فكل امرأة في السلسلة "أنثى" مما يخسف وجودها الإنساني ويعيدها إلى خانة التصنيف البيولوجي البحت: إنها مجرد "أنثى" غير مفكرة. النساء في السلسلة (آخر) باختصار، ولعل ذلك بلغ ذروته في القصة عن ليليث، حيث تتحول النساء الفيمينست إلى مصاصات دماء شبيهات بالسحالي، وتُلصَقُ بهن كل صفة منفرة بشكلٍ لا يُراعي دراسة الفيمنزم وتقسيم أنواعها وتأريخها، فهناك أنواعٌ عديدة من النسوية. لكن الكاتب أحمد خالد توفيق لم يقدم غير تصورٍ مشوه لها، يُحجم دور المرأة، ويكمل على خط السلسلة، ليُحذر الفتيات من أية طموحاتٍ زائدة. قد يقول قائلٍ إن هذه قصة، لكن أحمد خالد توفيق يكتب بنمطٍ اعتذاري حين يُقدم قضايا محل نقاشٍ، ويُقدم مراجعاً، ويحاول أن يعود إلى الدين وإلى المراجع العلمية المختصة والدراسات التأريخية ليُثبت كل حرفٍ يقوله ويستطرد طويلاً في الدفاع عن وجهة النظر التي يتبناها في النص مع عرض وجهات نظرٍ أخرى لئلا يقع في (مخالفة شرعية) يقضي عليه القراء بسببها. بينما حين يتحدث عن النساء، فإنه لا يحاول أن يتوسع في تاريخ الحركات المتعلقة بهن، ولا يكتب بنمطه الاعتذاري، بل بنمط من يُقرر حقيقة واقعة، ولعل ذلك يعود إلى أن النساء لا دية لهن، كما في التعبير المحلي عن كُل مهضوم حقٍ لا رأي له.
(ولا أستغرب الإعجاب الهائل بالسلسلة في أوساط النساء والذي يصل إلى مرحلة التقديس، فكثيراتٌ هن عاشقات الأنيمي الياباني مع كل تحقيره للمرأة، وكثيراتٌ معجبات بكتابات ستيفاني مير التي تعكس وجهة نظرٍ تشييئية عن المرأة ليس هنا محل نقاشها، مما يدل للأسف على أن النساء ألد عدواتِ ذواتهن.)

كلارك غيبل

الكلاركجي
في سلسلة ما وراء الطبيعة، الشرير إما وغدٌ أو رقيع أو الاثنان معاً، ولا يوجد أي شرير (يحترم نفسه) يتصف بأي صفة أخرى. كما إن كل وغدِ رفيع الشارب كما هم الأوغاد في السينما العربية، فلا يوجد وغدٌ (يحترم نفسه) في السلسلة إلا وله شاربٌ رفيع معتنى به. مع أن الشوارب كانت موضة في السينما العربية، ولم تكن مقصورة على الأوغاد فقط. وأصل هذه الموضة الممثل الأسطوري كلارك غيبل - الممثل المفضل عندي - الذي اكتسح العالم بنمط فاتن النساء الذي كان يمثله، حتى كان لقب (الكلاركجي) علماً على فاتن النساء في تركيا مثلاً. فاتن النساء ليس وغداً بالضرورة، لكنه في السلسلة وغدٌ حتى أن نسبة ظهور عبارة "شارب رفيع" مع كلمة "وغد" تكاد تقترب من عدد مرات استخدام كلمة وغد في السلسلة.
(وقياساً على ذلك، تعاني الشبكة انفجاراً "وغدياً" فالكتاب الذين يستنسخون توفيق في كل مكانٍ - حتى أن المرء "صار يُغلق بابه لئلا يدخل منه عشرة منهم" - وكلهم يتحدث عن "الأوغاد". ولا أعرف السبب الذي يمنعهم من استخدام كلمة "رقيع" - قد يكون ذلك عائداً لعدم معرفتهم بالكيفية التي تُجمع بها الكلمة - أو عدم استخدامهم للشارب الرفيع كعلامة تدلل على ظهور "الوغد" - يبدو أنني وحدي أتذكر كلارك غيبل.)

"آخرين وآخرين وآخرين......."
إذا كان أحدٌ يملك وقتَ فراغِ زائداً، وكان من المولعين بالسلسلة، فأقترح عليه عمل إحصائية بأكثر الكلمات تكراراً في السلسلة، وأعتقد بأن كلمتي "وغد" و"هراء" ستكونان من ضمن أكثر الكلمات تكراراً فيها. فكل شيء يُقال هُراء، حتى بدا لي أن العربية تعاني عجزاً شديداً في المفردات، فقد عقمت عن إيجاد كلماتٍ يُمكن أن تستبدل "وغد" و"رقيع" و"هراء". (ولو عجزت العربية، فما كان يضير لو أُخِذَ من الإنكليزية، فصار لدينا: نَنَسِنس، فيلِن، وومانيزر،.....)
هناك أيضاً، صيغة التفضيل "ألعن" - صيغة التفضيل مصطلح نحوي، ولا يؤدي معنىً إيجابياً في الجملة بالضرورة - فهناك "ألعن رائحة شممتها" و"ألعن منظر يُمكنك تخيله" و"ألعن كوابيسك"، ومزيدٍ من "ألعن" كُل شيء. أعتقد أن هذا من إنجازات السلسلة الخاصة، فلست أجد هذا الاستخدام المكثف للكلمة في أي مكانٍ آخر.
يتكرر تعبير "ها نحن أولاء" كثيراً في السلسلة - مع توأمه "ها أنتم أولاء" - في معظم أعداد السلسلة، وصحيح أنه أقل تكراراً من مفردتي "وغد" و"هراء"، إلا أنه يتكرر بما فيه الكفاية ليلاحظ المرء أن هُناك جملاً تتكرر بكاملها في السلسلة مثل: "الآن نرجوكم الصمت" بتنويعاتها المختلفة، وجملٌ أخرى تأبى أن تحضرني الآن.
يقودنا الحديث عن الجمل المكررة إلى الحديث عن صوت الشخصيات المكررة، فمشكلة السلسلة العظمى ألا شخصية فيها تملك صوتاً خاصاً بها، فكلهم "رفعت إسماعيل" بشكلٍ أو بآخر، وكلهم يستخدم كلماته وتعبيراته، من دون أي اعتبارٍ لتكوين الشخصية الخاص، فلا يُهم إن كانت الشخصية طفلاً أم شيخاً، أمياً أم مثقفاً، رجلاً أم امرأة. كلهم رفعت إسماعيل، ورفعت إسماعيل - بشكلٍ أو بآخر - المؤلف. وأقصى ما تستطيعه شخصية من التعبير عن ذاتها بضع جملٍ يتلبسها بعدها رفعت إسماعيل. هذه مشكلة قاتلةٍ في أي نصٍ، فعدم قدرة الشخصية على التعبير عن تكوينها النفسي والاجتماعي والعمري يعني أن صوت الشخصية مصطنع، ويستخف بعقل القارئ.
تعدد الحبكات ليس الدليل الوحيد على موهبة الكاتب، بل تعدد أصوات الشخصيات، وأبرز دليلٍ على هذا جين أوستن التي تدور رواياتها حول طبقةٍ واحدة: ملاك الأراضي، وحول مغامراتِ نساءٍ شابات حتى يتزوجن. رغم ما في هذا من حثٍ على التكرار، إلا أن مقدرة أوستن الفذة تتجلى في الأصوات المميزة لكل شخصية من شخصياتها، حتى أنه إذا تكلمت إحدى شخصياتها من وراء ستار، فإن قراءها يستطيعون أن يعرفوا من يتحدث بالضبط لمعرفتهم بالاختلاف الجلي بين كل شخصية وأخرى في طريقة التعبير. وعلى العكس منها، نجد أن الجميع في روايات ستيفاني مير - في توايلايت وسواها - يتحدثون بصوتٍ واحد لمراهقة فارغة العقل في السابعة عشرة مهما بلغوا من الكبر عتياً. الأمر الذي نجده في ما وراء الطبيعة، فكل المتحدثين فيها شيخٌ ملول مثقف ومولع بالأفلام. بحيث نرى امرأة متوسطة التعليم والمستوى المادي تتصل ببرنامج بعد منتصف الليل لتقول : "ربما أبدو قاسية، لكن محمود - رحمه الله - لم يكن أفضل ولا أرق زوج في العالم.." بينما صيغة المخافضة غير معروفة في العربية إلا على نطاقٍ محدود وعند قلة من المثقفين، فامرأة بالشكل الذي تقدمه القصة كانت لتكون أكثر وضوحاً وأقل تلاعباً بالألفاظ. "محمود - يرحمه الله - كان يجعلني أبكي كل ليلة من القهر." ربما كان ليكون تعبيراً عن صوت المرأة وشخصيتها، من دون أن نُعرّج على: "لم أكن أقرأ إلا الشعر ولا أنسج إلا الكانافاه.. لم أكن أنام إلا على وسادة محلاة بالدانتيلا.. كنت حلماً.." و"إنه فظ.. بخيلٌ كالبراغيث.." وغيرها من التعبيرات التي لا تناسب امرأة من الطبقة المتوسطة جُلُ ما تفكر فيه أموال زوجها، بل إنها تدخل في حوارٍ مع رفعت إسماعيل حول السادية! وهذا مثالٌ واحدٌ من أمثلةٍ كثيرةٍ في السلسلة يصبح فيها الطفل شيخاً، والأمي مثقفاً يقتبس تشبيهاته من الأفلام، ولا يهم ما إذا كان المتحدث من مصر أو المجر أو الاتحاد السوفييتي أو الولايات المتحدة أو بريطانيا أو واق الواق. بل إن حالة التلبس الرفعتي تتلبس العامل المضاد الرئيسي في السلسلة، د. فرانتز لوسيفر (وكلهم دكتور، وكأن من الإهانة لرفعت ألا يحمل خصمه درجة علمية معادلة لدرجته العلمية، ولو كانت في قراءة البخت!) الذي يقول: "لو أنها تعرف العامية المصرية لسرها كثيراً تعبير (عزومة مراكبية) فهو يعبر بدقة عمّا تفكر فيه الآن.."مع أن الأخ لوسيفر مجري يتحدث الإنكليزية بلكنة ثقيلة! والتعبير مسروق من رفعت إسماعيل بالنص.

بيلا لوغوزي
تأثير بيلا
وما دام الأخ لوسيفر قد دخل في النص، فلا بأس من الحديث عنه، وعبارته المستفزه "إني بك أسعد.. ولك قلبي يطرب.." التي لا يمل من تكرارها، - ومنذ صغري كنت أرى كلمة "يطرب" مفتقرة إلى أدنى حدٍ من الوقار - وطريقته في قلب العبارات في محاولة لإعطائه صوتاً خاصاً يختفي بمجرد أن تزيد جمله في النص عن ثلاث جمل، إذ سرعان ما يتلبسه رفعت إسماعيل ويعود لنسخ تعبيراته، مما يجعل رفعت أقوى مسوخ السلسلة لقدرته على تلبس كل شخصياتها، بمن فيهم المعادل الرمزي للشيطان.
كما يُذكر شارب الوغد بكلارك غيبل، يُذكِر فرانتز لوسيفر ببيلا لوغوزي - أشهر من أدى دور دراكولا - فكلاهما مجريان، وكلاهما يتحدث الإنكليزية بلكنة شرق أوروبية ثقيلة، وكلاهما من منطقة تتأرجح بين المجر ورومانيا. إضافة إلى ذلك، فإن وصف عيني لوسيفر ينطبق على عيني لوغوزي، وصوته قريبٌ من صوته، بحيث يصير لوسيفر لوغوزي وقد طال شعره وارتدى قرطاً وعدداً من الخواتم.
تأثير بيلا ينتقل من لوسيفر إلى الممثل المجري الذي تأثر بعباءة دراكولا في إحدى قصص المتحف الأسود، فأوصاف الممثل تنطبق جميعها عليه، بحيث يصعب تخيل بيلا إلا في هيئة مصاص دماء أو شيطان - وهذا عائدٌ جزئياً إلى أدواره - ويجعل كل من يحمل أياً من صفات بيلا الشكلية مصاص دماء - أو شيطاناً - إلى إن يثبت العكس.

من هنا إلى الأبدية!
تصدر سلسلة ما وراء الطبيعة منذ 1993، ما يعني أن نسبة لا بأس بها من قرائها وصلوا اليوم إلى الثلاثينيات من العمر أو نحوها. كما أن مرور سبعة عشر عاماً على السلسلة يعني أن وقت المراجعة قد حان، لتجاوز البدايات، والعودة لقراءة السلسلة كوحدة متكاملة، ومعرفة أوجه تفوقها وأوجه قصورها، والتأصيل لها، وبناء العديد من الأعمال الناضجة على الأرضية التي أسستها. لكن واقع الحال اليوم يختلف عن المفروض، فلا يوجد بناء على بناء أو تناص مع السلسلة، وإنما (تلاص) من السلسلة. وطوفان من الكتاب المستنسخين الذين يكتبون بطريقة "الوغد" و"الهراء" ويحاولون أن يسخروا مثل أحمد خالد توفيق، لكنهم لا يوفقون إلا في رفع ضغط دم وعين القارئ بسماجتهم. وقبل الوقوع في فخ التعميم، أذكر أن هناك مسرحية صدرت بعنوان سبعة باب، مبنية على مجموعة وراء الباب المغلق في السلسلة. للأسف، لم أقرأ المسرحية - وإن كنت أريد ذلك - وإنما قرأت مقدمة أحمد خالد توفيق لها، والتي يقول فيها بأبوية ناعمة معناه: "إذا وجدتم عيباً في المسرحية، فالعيب في فكرتي لا في كاتب المسرحية." وهي أبوية لا تختلف كثيراً عن أن يقول شيئاً من قبيل: "وهذا ولدٌ يحاول أن يقلدني، ولكنه في أول الطريق فترفقوا به." بينما الكاتب الحقيقي يستطيع أن يصنع عملاً عظيماً من الفكرة التي يختارها، من دون الحاجة إلى أي تبرير أو اعتذار.
هناك الكثير من الشباب المثقف، أو - شبه المثقف على اعتبار أنه لا يوجد من يقرأ أدب نجيب محفوظ اليوم - من المعجبين بالسلسلة، ولهم تجمعاتٌ كبيرة على الشبكة. وظيفة هذه التجمعات الرئيسية - والوحيدة في بعض الأحيان - سدانة السلسلة ومؤلفها، ووأد أي محاولة للنقد العقلاني بطريقة "يلزم خدمة يا كابتن" التي يستخدمها موظفو الفنادق المتنمرون المجبرون على التأدب مع نزلاء الفندق، رغم أنهم يريدون الفتك بهم، ويحرصون على توضيح هذا. في هذا المناخ، يصعب أن ينتج شيء حقيقي واعٍ له علاقة بالسلسلة، فكل ما عندنا محاولات - بعد سبعة عشر عاماً - لتقديم أعمالٍ مبنية على السلسلة، أو لإعطاء السلسلة الزخم اللائق بمناقشتها كما ينبغي فعلاً، لا بطريقة أول محاولة لكتابة أدب الرعب في العالم العربي، لأن السلسلة قد خرجت من طور البدايات في وقتٍ مبكر جداً.
أعتقد أن سبعة عشر عاماً كافية لتصبح السلسلة معلماً ثابتاً من معالم الحياة الأدبية، سواء كان المرء من قراءها أم لم يكن. الأمر الذي يُقدم مؤشراً على حالة الشباب العربي القارئ لها، فالكل يتذمر من إهمال النقاد لها، لكن أحداً لا يجرؤ على تقديم نقدٍ لائق لها. النقد لا يعني الإشارة إلى المساوئ فحسب، بل يشمل معانٍ أوسع من تحليل وتفسير ومقارنة وبحث. بينما لا يستطيع أحدٌ من معجبي السلسلة أن يكتب حرفاً عن السلسلة من دون المقدمة: "أنا تربيت على هذه السلسلة العظيمة التي علمتني القراءة والكتابة والحساب" ومن دون أن يضع قاطرة ألقابٍ قبل اسم المؤلف. صحيح أن الاحترام مطلوب، لكنه لا يعني الإسراف في الألقاب، والنقد بطبيعته جافٌ لأنه لا يعتمد على المجاملة، بل على استحقاق العمل الأدبي.
مع ذلك، إذا كان جيل الثلاثينيات لم يفعل شيئاً ذا بالٍ بالسلسلة، فربما يفعل جيل العشرينيات ذلك. ونرى كتابات رصينة عن السلسلة، وكتاباتٍ أخرى ساخرةً - والسخرية أمرٌ محمود ومطلوب، لكن ليس بطريقة الكتاب الساخرين الذين صاروا يتوالدون بمعدل كاتبٍ ساخر كل دقيقتين هذه الأيام، وتميزهم جميعاً سماجة تتفوق على سماجة بوش الأب والابن معاً - وتحليلاتٍ جادة، وأعمالاً أدبية راقية، وأعمالاً فنية متعددة مختلفة، وأفلاماً سينمائية تختلف عما تعرضه السينما هذه الأيام.