29 أبريل 2008

الثاني: أنت لست ستيفن كنغ

(مع الاعتذار لمن يحملون اسم ستيفن كنغ، ويزيد عددهم عن ألفٍ وخمسمائة شخصٍ في الولايات المتحدة الأمريكية)

تحاول نظرياتٌ كثيرة تفسير النجاح المذهل لستيفن كنغ، يتضمن معظمها عناصر التوقيت (انبعاث الرعب الأعظم في السبعينات) والحظ (مخرج عبقري يحول روايته الأولى إلى فيلمٍ ناجح)، ومعرفة واسعة بجمهوره (هناك سببٌ يجعل معظم رواياته تدور في أمريكا المعاصرة). حتى أن ستيفن كنغ نفسه قال في محفل عام أن الموهبة كانت الجزء الأسهل في مسيرة نجاحه.
أتى وقت اعتقد فيه القادمون الجُدد الكُسالى أن كُل ما عليهم فعله هو كتابة كتابٍ سميك ومخيف عن بيلي القرد الملوث بالشحم الذي يوقف الشاحنات، والوحش ذي الفم الكبير الذي ينسكب منه اللعاب من قلب أمريكا المظلم، وسيكتب لهم الناشرون شيكاتٍ من سبعة أرقام. لكن – كما يستطيع أي ستيفن كنغ مستنسخ باحثٍ عن الشهرة أن يخبرك – انبعاث الرعب قد انتهى منذ أمدٍ بعيد.
هناك سببٌ يجعل ستيفن كنغ يستمر في الكتابة. قد يكون عقدان من النجاح وربع مليار دولار دافعاً عقلانياً للاستمرار، لكنني أرى شخصياً أن السبب الذي يجعله يستمر في الكتابة الآن هو نفسه الذي جعله يستمر بعد أربع رواياتٍ مبكرةٍ فاشلة، حزمة مجلات، ووظيفة في مغسلةٍ بستين دولاراً في الأسبوع.
هناك مكانٌ في السوق لكاتب رعب يبيع كثيراً، لكنه لن يكون أنت.

شون لندسي، 31 أكتوبر 2006
Reason #2: You Are Not Stephen King

ملاحظة:
السبب الثالث عشر: أنت لست دان براون

تعليق: ولستَ جي. كيه. رولنغ
أجل، لستَ جي. كيه. رولنغ أيضاً.
أولئك الذين لا يزالون في مرحلتي العمرية، يعرفون رولنغ خيراً مما يعرفون كنغ – الذي سمعوا به عن طريق الإنتاجات السينمائية الأحدث لأعماله كالميل الأخضر، والنافذة السرية، و1408– وبالنسبة لهم، فإن رولنغ هي المقياس المطلق للنجاح الأدبي باعتبارها أول كاتبة في العالم تصبح مليارديرة من الكتابة فقط، وتتحول إلى أحد أكثر الأشخاص تأثيراً في العالم.
(GO SISTER! GO!)
بسبب شعبية هاري بوتر الطاغية، انتشرت صرعة (الفان فيكشن) في العالم، بلغات لم يخطر على بال نقادها يوماً أنهم سيواجهون شيئاً كذلك – أنظر: عالم أكلة الموت: الحُب في زمن الرحيل – وأصبح رائجاً كتابة أدبٍ (فانتازي) على منوال هاري بوتر، إما في صورة فان فيكشن صريح، أو في هيئة متخفية لا تخدع أحداً بوهم أن الوافد الجديد سيصبح رولنغ القادم، وسيتحدى أسطورة هاري بوتر. وفي بلادِ تعتبر الأدب الفانتازي (قلة قيمة) كالبلاد العربية، يعتبر مقلدو رولنغ أنفسهم كشهداء المسيحية الأوائل الذين ألقاهم أباطرة الرومان للأسود، فالنقاد يكرهونهم، والجمهور لم يعتد عليهم بعد. إنه المجد من جميع أطرافه!
رولنغ هي رولنغ، ولن يستطيع أحدٌ أن يكون هي، أو أن يكون رولنغ القادم. صحيح أن هُناك صخباً كثيراً حول الأدب الفانتازي هذه الأيام، وصحيح أن النقاد أخذوا ينفضون غبار كتب الحكايات التي سخروا منها قبل أجيال ليؤرخوا له، لكن الواقع أنه لا أحد من مقلدي رولنغ سيستطيع أن يركب جواد الفانتازيا الجامح ليختال به.
وحتماً، لن تكون أنت من سيدخل الفانتازيا إلى الأدب العربي من أوسع الأبواب.

27 أبريل 2008

الأول: أنت لا تشتري كتباً!

كم كتاباً اشتريت في السنوات الخمس الماضية؟
خمن، ثم استبعد الكتب التي تقع في أحد التصنيفات التالية:
  • غير الخيالية
  • الهدايا
  • الكتب التي تباع في التصفية
  • الكتب المستعملة
  • كتب المشاهير (التي يكتبها عنهم كاتب شبح)
  • المنشورة قبل 2001
إذا كان مجموع الكتب المتبقية قد أصبح صفراً، تخلَ عن عبث أن تكون كاتباً منشوراً. فوراً.
إذا بقيت لك كتبٌ بعد الاستبعاد، واصل الاستبعاد:
  • المؤلفون المكرسون (قبل 2001)
  • أي شيء منشور وقد كُتب عليه (الأفضل مبيعاً) أو (أوبرا)
  • الكتب التي أوصى بها صديق أو فردٌ في العائلة
  • أي شيء لمؤلف تعرفه شخصياً
إذا تبقت لك كتبٌ بعد هذا الاستبعاد، تهانينا. انتقل إلى السبب الثاني.

إذا لم تخاطر بالمراهنة على كاتبٍ جديد وغير مثبت في السنوات الخمس الأخيرة، فلماذا – بحق الجحيم – تفترض أنه سيوجد من سيُخاطر باقتناء كتابٍ لك أنت؟

شون لندسي، 30 أكتوبر 2006
Reason #1: You Don't Buy Books

تعليق: ليس ثمة موجبٌ للدهشة!
باعتبار أننا حالياً في عام 2008، ينبغي أن يكون التساؤل عن الكتب المنشورة قبل 2003، والكتاب المكرسين قبل هذا العام. تبقى الفكرة واحدة في جميع الأحوال، فإذا لم يُخاطر المرء باقتناء كتابٍ لكاتبٍ جديد لم يثبت بعد أنه موهوب، أو مُعترفٌ به نقدياً، كيف يعتقد أن هناك من سيقرأ له؟
السبب الأول من أسباب التوقف عن الكتابة ليس اكتشافاً جديداً أو مفاجئاً، ولكونه أول سببٍ ما يُبرره، فمنذ زمنٍ والكُتاب الجدد يتهمون الكتاب الكبار بأنهم يجافونهم، ويتذمرون من عداء الجمهور لهم. لكن، في ظل ظروفٍ معيشية تزداد صعوبة من يومٍ لآخر، يصبح الكتاب - شيئاً فشيئاً - سلعة كمالية ينبغي الحرص عند اقتنائها، فاقتناء كتابٍ رديء يشبه رمي المال في القمامة، وعندها يكون الأسلم الالتزام باقتناء كتبٍ لكتابٍ معروفين كضمانة على جودة المنتج. الاقتناء لاسمٍ (يبيع) مثل غابرييل غارسيا ماركيز، إيزابيل أليندي، نجيب محفوظ. أو كتابٍ (يبيع) لأسبابٍ عديدة: مصادرة، إهدار دم الكاتب، ضجة عالمية تثار حوله، فيلمٌ ينتج عنه. وفي الغالب، فإن الاتجاه في السوق العربية هو تفضيل الكتب الأجنبية، بالإنكليزية أحياناً – مكتوبة بها أصلاً أو مترجمة إليها عن لغاتٍ أخرى – مع تجاهلٍ تام لأي ترجمة عربية بغض النظر عن جودتها. وعندما يحاول قراء الكتب الأجنبية الكتابة، يكتبون بشبه عربية كسيحة، لأنهم لا يقرأون بها، سواء ما كتب بها أصلاً، أو نُقل إليها عن لغةٍ أخرى.
كلٌ يقرأ لسببه الخاص، أو أسبابه الخاصة، ومن النادر أن يكون ضمن أسباب القراءة التعرف على كاتبٍ جديدٍ لم ينصح به أحد، ولم يسمع به أحد قبلاً. القراءة ليست مرادفاً للثقافة، والثقافة ليست مرادفاً للشجاعة، والشجاعة ليست مرادفاً للتهور الذي يقود المرء إلى المقامرة بمالٍ شحيحٍ لشراء كتابٍ جديدٍ بائس لكاتبٍ يحاول أن يتهجى مفردات العالم خارجه قبل أن يتهجى عالمه.

25 أبريل 2008

مائة سبب وسبب للتوقف عن الكتابة!

إذا أردت التوقف عن الكتابة، فلن أحتاج لمائة سببٍ وسبب.
يكفيني سببٌ واحدٌ لأتوقف عن الكتابة، هو أن أكف عن أن أكون "شبه مريضة بالظلال" كسيدة شالوت، لأصبح مريضة بها تماماً. حينئذٍ ستختلط أوراق الوجود، ولن يعود ثمة واقعٌ أو خيال. ستصبح الكتابة عدماً، وستتوقف عن كونها وسيلة للوجود.

بعيداً عن هذه الأفكار شبه الفلسفية، يُقدم شون لندسي في مدونته مائة سبب وسبب للتوقف عن الكتابة 101 Reasons to Stop Writing أسباباً واقعية لوضع الأقلام جانباً، وإغلاق برامج معالجة الكلمات، ومحاولة البحث عن مهنة أفضل بدل تضييع العُمر في الظلال، وتضليل القراء بكلماتٍ متقاطعة يدعوها أصحابها أدباً.
حتى الآن، وضع لندسي سبعة عشر سبباً للتوقف عن الكتابة، وينوي المتابعة حتى يُنهي جميع أسبابه المائة ويضيف عليها سبباً. التاريخ الذي يتوقعه للانتهاء من أسبابه هو الرابع والعشرون من مارس 2016، ولا يبدو أن بُعد التاريخ يفت من عضده. ففي الطريق، قد يتوقف كثيرون عن الكتابة، وعند الاكتمال، ستكون الأسباب تذكيراً لكل شاردٍ جديد يشاء أن يكتب.
الفكرة الأساسية للمدونة هي أن الكُتاب قد لقوا تشجيعاً زائداً عن اللزوم ليكتبوا، بحيث صار من الواجب الآن إحباطهم ليتوقف سيل الأدب الرديء عن الإنهمار على القراء كمطر الضفادع الشهير. الحديث عن اتباع الأحلام بات قديماً جداً، وبات من الواجب الآن رد من أصابتهم لوثة الكتابة إلى جادة الصواب، وإرشادهم إلى أعمالٍ تنفع المجتمع بدل الإسهام في انحلاله بإعدام الذائقة الجمالية له.
قد يسقط خلال المسيرة أدباء كان مُقدراً لهم أن يُنتجوا أدباً عظيماً، لكن لندسي مستعدٌ للتضحية ببضعة أدباء جيدين مقابل الخلاص من طوفان الهراء الذي تطبعه المطابع يومياً، والذي ينتشر كالهواء في كُل مكانٍ، يزيده الفضاء السايبري تمدداً، ليتفوق على الهايدرا ذات الرؤوس السبعة التي كُلما قطع منها رأسٌ نبتت مكانها أخرى.
أسلوب لندسي ساخر، منطقه قوي، وحجته دامغة يصعب النيل منها أو زعزعتها. ما يجعل نشر أسبابه ومقالاته أمراً يستحق، لأن قراءة أسبابه السبعة عشر، تدل على أن المشاكل الأدبية لا تختلف بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم العربي إطلاقاً، بل إن المرء قد يُعمم ليقول أن مشكلة انتشار الأدب الرديء واحدة في كُل العالم، تُعاد صياغة التعبير عنها بطرقٍ مختلفة في لغاتٍ مختلفة.
بالإضافة إلى الأسباب للتوقف عن الكتابة، يُزود لندسي ضحايا أشباه الكتاب بمثبطات على هيئة بطاقاتٍ وهدايا للمناسبات المختلفة تحمل عبارات تهدف إلى تثبيط عزيمة شبه الكاتب ورده عن غيه. هُناك أيضاً اقتباساتٌ ذكية من كتابٍ وناشرين عن الكُتاب الذين لا يستطيعون الكتابة، وتعليقاتٌ مختلفة على أحداثٍ أدبية في الولايات المتحدة والعالم الغربي عموماً. ومعارك عنيفة ضد مسابقة "كتابة رواية في شهر" وما شابهها من مارثونات أدبية جنونية تجري في الغرب.
أعتقد أن ما يكتبه لندسي نقدٌ ذكي جداً للأدباء الجدد الذين يحولون فشلهم الأدبي، ولغتهم الرديئة، وقواعدهم التي لم يسمع بها عالم لغة من قبل، وتعبيراتهم الركيكة، وأساليبهم الفجة، وتذاكيهم المفضوح إلى ما يدعونه (كتابة جديدة) ستقلب كُل المقاييس. يقول لهم: "هذا مكانكم، فلا تحاولوا خلط الأوراق وقلب الحقائق." ولذلك قررتُ أن أترجم أسبابه، ومتفرقاتٍ من مقالاته - ذات علاقة بالواقع الأدبي العربي - إلى العربية، وأنشرها في مدونتي بعد إضافة تعليقاتي على النص - خارج الترجمة -، فأخذت الإذن منه مباشرة، وقبل ذلك بسرور.
الأسبابُ آتيةٌ بالعربية، لعلها تلقي حجراً في البركة الراكدة، أو يُسمع لها صدى في الوادي البعيد!

24 أبريل 2008

جيوب مثقلة بالحجارة

I told you. She was crazy !
كان هذا تعليقي على صرخات الاستنكار والاحتجاج التي عمت صف التحليل الأدبي حين تحدث الدكتور الجديد عن انتحار فرجينيا وولف من الوحدة. لامتني اللائمات لأنني أخفيت عنهن الحقيقة المروعة عن تلك السيدة البغيضة، مع أنني قد قلت للجميع منذ سنتنا الأولى أن وولف كانت "غريبة أطوارٍ موهوبة على نحوٍ ما"، مجنونة - بالتعبير الشعبي -، وانتهت إلى إغراق نفسها ذات صباحٍ بعد أن ملأت جيوبها بالحجارة في نوبة كآبة شديدة.
لماذا انتحرت فرجينيا وولف؟
بقي السؤالُ مُحيراً حتى الآن، وسبب كونه كذلك امتلاك كُلٍ لإجابةٍ ما عليه. علماء النفس المحدثون ينفون عن وولف صفة "غريبة أطوارٍ موهوبة على نحو ما" ليصنفوها في خانة المصابين باضطراب ثنائية القطبية Bipolar Disorder الذي أصبح شهيراً هذه الأيام، وسرعان ما سيصبح موضة أدبية بعد أن ولت أيام الشيزوفرينيا والتوحد. المنظرون الأدبيون يتحدثون عن الوحدة القاتلة التي أوقعتها في شراكها. رجال الدين يتحدثون عن أزمة إيمان - إن وُجد من الأساس -. وهُناك آخرون يتحدثون عن مؤامرة من زوجها اليهودي ليونارد وولف جعلتها تفقد توازنها وتنتحر.
(هذه نظرية وجيهة عند الأخذ في الاعتبار أن وولف قد أعد العُدة لينتحر مع زوجته إذا ما احتل النازيون بريطانيا، الأمر الذي بوحي بفكرة الانتحار لزوجته التي يعلم تماماً أنها غير متزنة.)
انتحار فرجينيا وولف كان مصدراً للدراسات والأخبار، وحتى الإشاعات والفضائح - رغم أنني أعتقد أن انتحارات الأدباء ليست أحداثاً استثنائية لأنهم صنفٌ يحمل بذور فنائه فيه، ومن لم ينتحر منهم بملئ جيوبه بالحجارة والخوض في نهرٍ بارد صباحاً، أو تفجير رأسه برصاصة بندقيته، أو بقر أحشائه بسيف، أو بخنق نفسه بالغاز؛ انتحر بالحياة -، حتى أنه يكاد يطغى على حياتها أحياناً.
قبل أن أعرف فرجينيا وولف، كُنت أسمع لماماً مع مصطلح "تيار الوعي". يُقال أن قراءة روايات تيار الوعي صعبة جداً، لذلك تجنبتها حتى كبُرت، وتجنبت معها فرجينيا وولف التي ظل كتابها: غرفة تخص المرء وحده A Room of One's Own في الرف الثالث من الخزانة القريبة من الباب في مكتبة أبي باعتباره الكتاب الذي سأقرأه حين أكبر لأدخل عالم فرجينيا وولف الغامض والمعقد. كُل يومٍ، كُنت أراقب الكتاب من بعيدٍ بانتظار أن أكبر لأقرأه بناء على قراري الشخصي. وبين حينٍ وآخر ألقي نظرة على سيرة فرجينيا وولف العملاقة التي كتبها ابن أختها كوينتن بل، وصورتها المرسومة على الغلاف الأمامي شبحُ مضحك لامرأة رقيقة حتى أنني كنت أخشى لمس الكتاب لئلا تنكسر. وتحت وطأة الإحساس بالزمن، قررت أن النضج قرارٌ وليس وقتاً، فاستخرجت غرفة تخص المرء وحده من رفه، ونقلته إلى غرفتي حيث يُقيم منذ سنوات. قرأته، ومنذ أن قرأته شغفتني فكرة الغرفة التي تخص المرء وحده، خزانة أسراره، وملاذه بعيداً عن الآخرين الذين هم الجحيم كما وصفهم سارتر ولم يُخطئ. قيل كثيرٌ عن كتاب وولف، وما زال يُقال، باعتباره أول (مانفستو) نسوي يعطي إطاراً فكرياً للحركة النسوية في الأدب، لكن كل هذه الفوضى لم تكن تخصني. كانت الغرفة تخصني، وذكاء فرجينيا وولف الحاد، سخريتها اللاذعة، وطبيعتها الحادة التي تخالف صورتها الرقيقة.
في صورتها الشهيرة، تبدو فرجينيا ستيفن وولف امرأة حزينة، ضائعة، هشة، تبدو مجنونة، بل شبه مريضة بالظلال كسيدة شالوت. وبمجرد النظر إلى صورتها، أعرف لماذا تحتاج غرفة خاصة لتحميها من الحضور الثقيل للآخرين، الحضور الذي يكاد يسحق وجودها الشفيف، ويكسر عالمها الشبحي إلى قطعٍ مبعثرة لا نهائية. الآخرون اضطرابٌ كوني يُعكر سلامها الداخلي ويحوله إلى حروب طاحنة مع كائناتٍ لا ترى، وأفكارٍ لا يُمكن اكتناهها. حضورهم يُعمق عزلتها، ويهز أركان صفائها الداخلي. إنهم يأتون، يمضون، يأتون، يمضون، يهزون رؤوسهم وأيديهم، يشتبكون في نقاشاتٍ لا تنتهي، يزعجونها لأمورٍ تافهة، يضحكون، يصرخون، يعوون كالكلاب. يبعثرون روحها، وينثرون دواخلها، ثم يرحلون وقد تركوا المكان حُطاماً.
حتى في صورها اللاحقة بعد أن أصبحت امرأة ناضجة، وخرجت من وصاية السير ليزلي ستيفن إلى زواجٍ مستقر بليونارد وولف لتصبح سيدة مجتمع، وناشرة طموحة، وواحدة من أعمدة جماعة بلومزبري، لم تختلف فرجينيا وولف. سمنت قليلاً، ورسم الزمن مروره على ملامحها، لكنها احتفظت بتعبيرها الخاص. هي لا تنتمي إلى المكان، ولا تعرف أحداً فيه، ليست مدعوة، حضورها ليس مرحباً به. هي مجرد ظلٍ زائد عليها أن تختفي بسرعة، حتى لو كانت هي صاحبة المكان. فلا بُدَ من أنها لا تنتمي إليه. هي لا تنتمي لأحد. العالم خارج رأسها مجرد ظلالٍ لمخلوقات متوحشة، في داخلها، كُل شيء صافٍ، مرتب، وقور، لائق. هي سيدة الأشياء كلها، وهي وحدها تملكها. وحدها المدعوة إلى المكان الذي لا تخشى فيه أن تكون زائدة. غير أن الآخرين يستمرون في دك حصونها، حصناً، حصناً. تحملتهم لتسعة وخمسين عاماً، حتى بات الاحتمال عذاباً لا معنى له. لم تعد تطيق انعدام سلامها، ولا هُم يطيقون جنونها. الجنون الآن ألا تمضي نحو سلامها الخاص. في الصباح الباكر، سترتدي معطفها، وتملأ جيوبها بالحجارة، وتمضي إلى النهر. سيقولون أنها مجنونة، وسيبقون يقولون أنها مجنونة، ستكون جثتها قبيحة ومتورمة حين يجدونها، لا يهم. ستمضي الآن نحو غرفتها، حيث لا يزعجها الآخرون، حيث تبقى وحدها بسلام. ستمضي، بدون أي شيء غير جيوبٍ مثقلة بالحجارة.

22 أبريل 2008

أيام غريبة: مقاطع مبعثرة من حيوات الآخرين


كُلٌ يُشاهد الأفلامَ لسببٍ.
قد يكون لأنها أفلامٌ تحتل قائمة العشرة الأوائل في شباك التذاكر الأمريكي. أفلامٌ من نوعٍ يُفضله. وقع عليها مخرجٌ متميز. نصحه بها مُحرر النيويورك تايمز في مراجعته الأسبوعية التي يرسلها على البريد الإلكتروني. ......................
ينتمي فيلم أيام غريبة إلى أفلام الخيال العلمي التي لا أحبها. مخرجته كاثرين بيغلو مخرجة متميزة حقاً، لكن ليس إلى الدرجة التي تجعلني أشاهد كُل أفلامها لمجرد أنها لها. جيمس كاميرون مخرج جيد صاحب رؤية للعالم تمتاز بالبارانويا عبر عنها جيداً في فيلميه Terminator 1 and 2، ومن ثم تخلى عنها في 1998 لينال جائزة أوسكار عن تيتانك، لكنه ليس مفضلاً عندي بحيث أشاهد فيلماً لمجرد أنه كتب السيناريو له، كما أنه صاحب قصته. أحتاجُ إلى سببٍ لأشاهد الفيلم. وجدته! ريف فاينز!
فيلم أيام غريبة أولُ بطولة مطلقة لريف فاينز، وربما يكون الفيلم الوحيد الذي يظهر فيه من أوله إلى آخره من دون أن يكون مشوهاً. لذا يحتل مكانة مميزة لدى جمهور فاينز، وإن كان فيلماً من تلك الأفلام التي تُنتجُ لغرض أن تؤدي أداءً سيئاً في شباك التذاكر لا علاقة له أبداً بتراجع مداخيل السينما العامة.
يبدأ الفيلم بداية مُربكة حقاً، فالأحداث تجري من وجهة نظر الشخصية. والكاميرا تركض يُمنة ويُسرة متعثرة وكأنها عينا فارٍ من الشرطة بعد فشل عملية سطوٍ مسلحٍ يقوم بها مع اثنين من أصدقائه. تنتهي العملية بموته. ومن ثم يبدأ الفيلم حقاً، فيقدم الشرطي السابق وتاجر الحيوات المسجلة الحالي ليني نيرو (ريف فاينز) يتجادل مع وكيله التقني طالباً منه مقاطع لا تنتهي بالفشل أو الموت لأنها تجربة مريرة. أحداث الفيلم تبدأ عشية الثلاثين من ديسمبر 1999 وتمتد حتى دقيقتين من أول يناير 2000، ومحورها سعي ليني لتحرير صديقته السابقة فيث جستن (جولييت لويس) من سيطرة مغني الروك فايلو غانت وعصبته، وإقناعها بالعودة إليه. إيقاع الفيلم سريع ومتلاطم في محاولة للإمساك بخيوط أحداثٍ متفرقة عنيفة يتضح في النهاية أن خيطاً واحداً يجمعها. رجلا الشرطة الذين يطاردان بائعة الهوى آيريس بشراسة سادية مريعة. خطابات جيركو ون النارية عن بيع المسيح ويوم الدينونة. العنف المتفجر في كُل المدينة بين السُلطة والمتمردين وكأن فارس الحرب قد خرج من الختم الرابع كما جاء في سفر الرؤيا. ليني نيرو الذي يبيع لأناسٍ مقاطع من حياةِ أناسٍ آخرين. تجاربهم، أحاسيسهم، أفكارهم. يتاجر بالأحلام والحيوات المسجلة رقمياً على أقراصٍ مضغوطة، مباشرة من رؤوس أصحابها. ويعيد تكرار عيش مقاطع من حياته المتشظية عاجزاً عن الخروج من الماضي. محاولات صديقته ميسي (أنجيلا باسيت) مساعدته بعد أن أصبح هدفاً لمطاردٍ مجهول أرسل إليه قرصاً مضغوطاً يتضمن اغتصاب وقتل آيريس التي كان الشرطيان يلاحقانها سابقاً. آيريس صديقة فيث، ما يجعلها في خطر. يحاول ليني إنقاذها دون فائدة، ففي كُل مرة ترفضه وتنبذه. القرص الذي تسبب في قتل آيريس كان عن قيام اثنين من رجال الشُرطة بإعدام جيركو ون أحد أعمدة المجتمع الأسود. تقرر ميسي أن تذيع حقيقة مقتل جيركو ون للعالم. وفي محاولتها مع ليني لاكتشاف قاتل آيريس والهروب من مطاردة الشرطة الشرسة لهما، يقنعهما ماكس (توم سايزمور) صديق ليني أن الشرطة قد نظمت فرقة إعدام للتخلص من كُل العناصر المشاغبة في المدينة، لتستمر المطاردة، ويتضح في النهاية أن كُل ما سبق كان خيط أكاذيب. وينتهي كُل شيء على خيرٍ بتخلي ليني عن تهريب حيوات الآخرين، وعن فيث (الإيمان)، لأجل حبه الحقيقي، ميسي.
يعد الفيلم وعوداً كبيرة، لكنه - بعد ساعتين ونصف من اللهاث خلف فتات الحقائق - ينتهي نهاية تصالحية تقليدية، قد تكون نهاية ملائمة لأي فيلمٍ آخر إلا فيلمٌ صُمِمَ - عن عمد - ليُرهق المشاهد. يصل الفيلم إلى خاتمة للعنف الذي يطحن المدينة برجل الشرطة الصالح، وإلى حلٍ للانسحاب من الحياة وفقدان الإيمان عن طريق الحب. أداء ريف فاينز وأنجيلا باسيت لدوريهما كان إحدى حسنات الفيلم، أما جولييت لويس وأداءها المزعج لدور فيث - المزعج والذي يضيف بكائية عقيمة إلى الفيلم - فقد كان أبرز مناطق الضعف في الفيلم. في النهاية، أيامٌ غريبة فيلمٌ غريبٌ حقاً!

19 أبريل 2008

بيوولف: نهاية عهد الأغاني

ملحمة بيوولف أقدمُ أثرٍ معروفٍ للأدب الإنكليزي القديم، مكتوب بالإنكليزية القديمة التي تختلف عن الإنكليزية الوسطى والحديثة، وتقترب من الأنكلو-فريجية كثيراً. ولأنها آخر عهد الأبطال الوثنيين مع بداية انتشار المسيحية، فإنها مجالٌ خصبٌ للإبداع في مراوحتها بين المنسي والذي أُعيدت كتابته، وكونها آخر رحلةٍ معروفة لبطل. الأفلام عن بيوولف ومعركته مع غريندل نيابة عن الملك السكندنافي هروثغار كثيرة، وزادت نسبياً في السنوات الأخيرة: بيوولف وغريندل (2005)، غريندل (2007)، وبيوولف (2007) الذي يحمل توقيع روبرت زيميكس صاحب فورست غامب. الفيلم الأخير هو الفيلم الذي شاهدته مؤخراً، وحقدت كثيراً على هيئة تصنيف الأفلام الأمريكية لأنها أعطته تصنيفاً مُسالماً كتصنيف PG-13 بينما يستحق الفيلم R بامتياز مع تحذير للذين يمقتون الانفجارات الدموية المقززة، والوحوش التي تثير الغثيان.
يروي الفيلم عن قاعة الميد التي يُنشئها الملك السكندنافي هروثغار بعد خمسمائة سنةٍ من الميلاد للبهجة والسكر وارتكاب كُل ما من شأنه أن يُغضب إله المسيح، بينما لا يُضايق أودن إله السكندنافيين ألبتة. غناء حاشية هروثغار يضايق الوحش الذي يسكن أراضيهم، غريندل، ويدفعه للخروج من مخبأه ليعمل فيهم تقتيلاً بأبشع طريقة، لكنه يتراجع أمام الملك هروثغار الذي يكاد لا يستطيع الوقوف لشدة ثمله.

يُنادى في أنحاء سكندنافيا بالبلاء الذي حل على أرض الملك هروثغار، وبحاجة الأرض إلى بطل. يأتيهم بيوولف مع مساعده ويغلاف وجيشه الصغير من المحاربين. وتبدأ ملحمة بيوولف. يطلب رجال هروثغار منه أن يتوسل إلى آلهة روما، لكنه يجيبهم بأنه لا يحتاج آلهة روما للقضاء على الوحش، لكنه يحتاج إلى بطل، بيوولف. القضاء على غريندل البائس لم يكن نهاية البلاء، فهناك أم غريندل التي يعتقد هروثغار أنها قد غادرت البلاد. آخر وحشٍ من سلالة الشياطين، وأصل البلاء. هروثغار يخفي سراً ثقيلاً، ويكشف بيوولف الذي يخفي سر الغواية أيضاً تحت ستار البطولة. لا هروثغار، ولا بيوولف قتلا الأم. لكن هروثغار أنجب منها غريندل، وبيوولف أنجب التنين. هروثغار يعرف جيداً أن بيوولف كرر خطيئته، ولأنه لا يُريد أن يشهد الشر من جديد، فإنه ينتحر في مشهدٍ مؤثر تاركاً عرشه وملكته ويلثاو لبيوولف الذي صار ملكاً كما وعدته أم غريندل.
في عهد بيوولف تبدأ المسيحية في الانتشار داخل مملكته، وتصل بلاطه، فيتحول أُنفِرث أحد رجال البلاط القدماء من عهد هروثغار إلى المسيحية، ويرعى ديراً على حدود الملكة، وكذلك تصبح الملكة ويلثاو مسيحية. قبل ذلك بسنواتٍ، كان هروثغار قد رفض اقتراح التوسل إلى إله روما ليدرأ عن بلاده شر غريندل، لأنه لا يؤمن بأنه يحتاج إلهاً، لكنه يحتاج بطلاً. مع مرور السنين، انكسرت البطولة، وانتهت إلى أغانٍ تُنشد أمام الملك بيوولف لتشيد بأمجاده، ما وقع منها وما لم يقع. يحل البلاء ثانية، فإله روما لم يُبعد الشياطين عن أرض بيوولف. يُحرق التنين مملكته، ويُحمل أُنفِرث رسالة إليه عن خطايا الآباء. يعرف بيوولف أن الوقت قد حان ليكفر عن خطيئته القديمة. لقد شاخ، لكنه لن يسمح لبطلٍ آخر أن يقتل ابنه، فلم يعد هناك أبطالٌ، وانتحار هروثغار يرفرف فوق رأسه. سينهي المأساة التي بدأها بيده. وسيقتل التنين.
فيلم روبرت زيميكس يغوص في ما وراء الأغنية ليكشف الوجه البشري للأبطال، الخوف، الخذلان، الغواية، الخطيئة. الشر الذي لا ينشأ من أصولٌ شيطانية خالصة، بل إنه في جزء كبيرٍ منه بشريٌ. المشهد الأخير لويغلاف الملك يتطلع إلى أم غريندل والتنين، يتطلع إلى الغواية والخطيئة، يُخبر أن عهد الأبطال والأغاني انتهى، لكن الغواية باقية، والشر باقٍ، الشر الذي يجذب البشر، وبدونهم فإنه يفقد القدرة على البقاء. يجذبهم لا لكونهم شياطين، لكن لكونهم بشراً لازمين له ليكون.
يعتمد فيلم بييولف تقنية قابض الأداء Performance Capture التي قدم زيميكس تجربة سابقة لها من قبل في فيلمه The Polar Express، ويمتاز في تقنيته بشكلٍ يجعل المرء ينسى أحياناً الفكرة المزعجة التي تلح عليه حين يشاهد فيلماً ثلاثي الأبعاد بأنه يشاهد لعبة حاسوبية تتحرك دون إرادته. تميز أنتوني هوبكنز في دور الملك هروثغار، وقدم جون مالكوفيتش أداء هادئاً يعلق في الذهن في دور أُنفِرث. راي وينستون أدى المطلوب منه في دور بيوولف، الشخصية التي تفوق الحياة ذاتها، وأضفى عليه لمسة إنسانية. حضور أنجلينا جولي لدقائق معدودة خلق أثراً امتد على الفيلم بأكمله، في تجسيدٍ مليء بالغواية للشر. بقيت تفاصيل في الفيلم تدل على أنه مُنتج من مُنتجات الفن الرقمي بامتياز، فتجسيد شخصية غريندل جاء مقززاً إلى أبعد حد، بحيث صارت مشاهدته عذاباً، كما أن معركة بيوولف مع الوحوش البحرية ظهرت بشكلٍ يُبالغ في تصوير الطعن والتمزيق وفقء أعين المخلوقات المرسومة بشكلٍ مثير للغثيان عن عمد. أمورٌ كالسعي لتجسيد القبح، والتشوه، وكُل ما هو منفرٌ ومثيرٌ للغثيان أشياء تكاد تكون العلامة الفارقة للفن الرقمي، وتكفي مطالعة معارض موقع مثل CG Society لتأكيد هذا الاتجاه (الجمالي) في الفن الرقمي، وانتصاره في فيلمٍ لمخرج صاحب بصمة مثل روبرت زيميكس إضافة جديدة لشرعنة هذا الاتجاه (الفني). رغم هذا، يحمل فيلم بيوولف قيمة فنية خالصة في سعيه لتعرية بشرية الأبطال، ورثائه لعهد الأغاني الذي قضى على نفسه قبل أن يقضي عليه إله روما.

11 أبريل 2008

الحُبُ فِيْ زَمَنِ الكُولِيْرَا: جَمِيْلٌ، جَمِيْلٌ، جَمِيْل...!


حتى الآن، لم أشاهد فيلماً يفوق الحب في زمن الكوليرا جمالاً.
مُنذ فترةٍ وأنا أتسقط أخبار الفيلم ونُتفاً منه على مواقع مثل يوتيوب، وقاعدة بيانات الأفلام على الشبكة، وميتاكريتيك. على الموقع الأخير، كانت مُراجعات الفيلم متضاربة للغاية، فهناك من اعتبره فيلماً لا بأس به، وهناك من وصفه بأنه أسوأ تصوير لرواية أنتجته هوليوود على الإطلاق. دار الكثير من اللغط، خافيير باردم كان خياراً سيئاً. لا يُمكن أن يكون بنجامين برات هو خوفينال أوربينو. جيوفانا ميزوغيورنو أقبح من أن تكون فرمينا داثا. جون ليغوازامو ينفرد بكونه صاحب أسوأ أداء في التاريخ، بحيث أن مشاهدته يؤدي دوره ألمٌ محض. مايك نويل أفسد الفيلم تماماً وفقد السيطرة. رونالد هاروود كتب سيناريو سيئاً للغاية بحيث لا يُمكن أن تُحمد له حسنة واحدة حتى.
والنتيجة: كارثة سينمائية محققة!
مراجعات مُبشرة تجعل المرء يرغب في مشاهدة الفيلم، وتُناقض تماماً تريلر الفيلم الجميل، وأغنيتي شاكيرا الموجعتين. ثُم أُضيف إليها رأي قويٍ معادٍ للفيلم من صديقتي - وربما كان ذلك انتقاماً مني لإفسادي عليها كتاباً من قبل - يصف الفيلم بأنه تخريبٌ تامٌ لرواية بديعة، تخريبٌ يشوه صورة خوفينال أوربينو بطريقة بشعة لصالح فلورنتينو أريثا من ضمن ما يشوهه في الرواية.
كنتُ على وشك التخلي عن مشاهدة الفيلم بتأثير الآراء القوية المعادية له، غير أنني عزمتُ رأيي أخيراً على مشاهدته، فقد انتظرته زمناً طويلاً، منذ أن قرأت ذات ظهيرة في جريدة أن غابرييل غارسيا ماركيز باع أخيراً حقوق روايته الشهيرة الحب في زمن الكوليرا (El amor en los tiempos del cólera) ليتم إنتاجها للسينما، ومنذ أن قرأت ذات مساءٍ في موقعٍ على الشبكة أن مايك نويل هو المخرج، واسم نويل يبيع أي فيلمٍ لي، كما يبيع اسم ماركيز أي رواية لي.
بأية أعينٌ شاهد الفيلم من أنكروه كل فضيلة؟
يكاد الحُب في زمن الكوليرا يُنحي فيلم المريض الإنكليزي (The English Patient) عن مكانته باعتباره أفضل فيلمٍ مقتبسٍ عن رواية، ولا تُهم هنا حسابات الأوسكار، فمن المخجل أن يفوز فيلم لا مكان للمسنين (No Country for Old Men) بأوسكار أفضل فيلم بينما يخرج الحب في زمن الكوليرا خالي الوفاض حتى من جوائز أفضل أغنية، وموسيقى أصلية، وتصوير سينمائي، وإخراج فني، ومونتاج! وهي جوائز يستحقها خيراً من أي فيلمٍ رابحٍ هذا العام. يكادُ لأن اعتبارات أفضل وأقل أفضلية أمورٌ نسبية تختلف من شخصٍ لآخر، أما بالنسبة لي فقد نحاه تماماً لينفرد بكونه أروع تجسيد لرواية، وأكثر التجسيدات حياة.
الفيلم فيلمٌ، والرواية رواية. ولن يحل أي منهما محل الآخر.
مشاهدة الفيلم بمقاييس الرواية عملٌ عبثي، خير منه أن يكتفي المرء بالقراءة. وكذلك قراءة الرواية بمقاييس الفيلم عملٌ عبثي بشكلٍ مساوٍ. فما هي الغاية من تمثيل رواية بكل كلمةٍ فيها؟ ما هو الإبداع الذي يكمن في هذا التكرار المُخل؟ وكيف يمكن أن يكون الفيلم رواية؟ أو أن تكون الرواية فيلماً؟ والفيلم دراما، بينما الرواية سرد!
ليشاهد المرء الحُب في زمن الكوليرا، ينبغي عليه أن ينسى الرواية، ويستقبل الفيلم بدون آراء مسبقة. أن ينسى آراء النقاد المتعجرفين، ولجنة الأوسكار العمياء، والأصدقاء الحانقين. ليستمتع بجمال الفيلم الذي يظهر منذ أول بزوغٌ لزهرةٍ بألوانٍ كاريبية متوهجة، ولا ينتهي بلقطة نويل البانورامية للنهر الكبير الذي يشبه الحياة. البداية الباردة نسبياً، المتوترة والمفاجئة. الجمهور يكاد لا يعرف شيئاً. أحدهم مات، "سمكة كبيرة" كما يقول فلورنتينو أريثا. جنازة، ثم أريثا يظهر للأرملة المكلومة ليذكرها: "لقد انتظرت هذه اللحظة واحداً وخمسين عاماً، تسعة أشهر، وأربعة أيام." فتطرده. إخراج نويل هادئ، وصوره تأتي من زوايا جمالية لا تهدف إلى استعراض مهاراته في اختيار زوايا اللقطات الأجمل، بل تساهم في رواية القصة من وجهات نظر الكاميرا المتعددة. يعود الفيلم إلى صبا داثا وأريثا، والحب الذي يكنه أريثا لها منذ أول مرة يراها فيها عندما يذهب إلى بيتهم ليسلم تلغرافاً إلى أبيها لورينزو داثا تاجر البغال ذي الثروة مجهولة المصدر، لينسج حب الصبا بين الاثنين في زمنٍ تتناوشه الحرب الأهلية والكوليرا. وبتصوير حيٍ نابضٍ بالحركة يكاد يلغي حد الشاشة الفاصل بين المشاهد والفيلم.
لورينزو داثا الذي يُريد لابنته زوجاً أفضل يبعدها عن المراهق أريثا ليأخذها إلى منزل خؤولتها في واحدٍ من أجمل تتابعات الرحلات في الأفلام للعقدين الأخيرين. يبقى التواصل بينهما قائماً عن طريق التلغرافات، حتى يعود بها لورينزو بعد عامين. في السوق تلتقي بفلورنتينو أريثا وتدرك أنه شبحٌ لا رجل، فتقطع علاقتها به لحظتها دون رحمة، أو رجعة.
تتدخل الكوليرا من جديد لتأتي بالطبيب خوفينال أوربينو إلى منزل داثا ليفحص فرمينا التي يُشتبه في إصابتها بالكوليرا. يبقى الطبيب قريباً منها رغم أنها ترفضه، وبملاحقته اللصيقة لها يتوصل إلى الزواج منها أخيراً ليترك فلورنتينو أريثا حطاماً. يستجمع أريثا طاقته ويقرر أن يصبح رجلاً مهماً في المجتمع ليحصل عليها، سيحرز ثروة تفوق ثروة أوربينو، ومكانة عالية، وسيتزوج فرمينا بعد أن يموت زوجها، ولو اضطره الأمر أن ينتظرها لواحدٍ وخمسين عاماً. هذه هي العقدة الأساسية التي ينسجها الفيلم برقة وحذاقة طوال مدة عرضه، حيث يختفي الإحساس بالزمن، ويبقى الإحساس بقيمة الذكريات. الحب في زمن الكوليرا اقتباسٌ مخلص تماماً للأصل الروائي، لكنه لا يتخلى عن كونه فيلماً أبداً. فيلماً تتظافر فيه عناصر السيناريو، والإخراج، والتمثيل، والموسيقى المذهلة لأنتونيو بنتو لتخلد أعظم قصة حُبٌ رويت على الإطلاق.

07 أبريل 2008

عَالَمُ أَكَلَةِ المَوْت: الحُبُ فِي زَمَنِ الرَحِيْل

بعد أن مَنَ الله علينا بالشفاء من الإعجاب بسلسلة هاري بوتر لما أسلفنا فيه من كون خاتمتها صفعة تنبيه لمن أكبروها، كما لتواتر الأخبار عن كون دمبلدور - مدير هوغوورتس الشهير- (رجلاً) أعزكم الله، ولإساءة رولنغ البالغة إلى لورد فولدمورت وبيلاتريكس لسترانج. وقد يكون الله شفانا لبلوغنا أول الشباب، وكما يُقال: "أول الشبة عقل ولا جنان". أبعد الله عنا الجنان وإياكم.
أقول، بعد أن مَنَ الله علينا بالشفاء من الإعجاب بالسلسلة، عدت لأحوم قريباً من أجوائها بإغواء صديقتي سيرا، وذلك بقراءة مُسلسلٍ - يُفترض أنه رمضاني - يعتمد على جزء منها، ليبني عالم أكلة الموت بعد سقوط المملكة البريطانية والتخلص من هاري بوتر وجماعته. - هذه هي المدينة الفاضلة! -
عالم أكلة الموت يتخذ هيئة الدراما - في حواراتٍ ومشاهد وأفعال تعيد تمثيل الحدث في الزمن الحالي - وينطوي على جوهرها باعتبارها إعادة تمثيل للحياة تغوص فيما هو جوهري وأصيل في الذات الإنسانية. وباعتباره دراما (تلفزيونية) يخرق المسلسل وحدات أرسطو الثلاث، وحدة المكان، والزمان، والفعل ليقيم زمنه الخاص المستمر في عالم أكلة الموت بعد خمس سنواتٍ من انتصار الجمهورية، وقبل أربعين سنة من انتصارها، ويعبر هذا المسار الزماني جيئة وذهاباً دون أن يوحي بوجود خللٍ في البنية الدرامية، أو يستخدم خدعة الذكريات، فالزمن فيه متصل، وما حدث في الأمس مستمرٌ إلى اليوم.
يبدأ المسلسل متخذاً هيئة كوميديا خفيفة معدة لتسلية القراء بعد الإفطار، معتمداً على طرافة العالم الجديد وطرافة مسمياته، والعلاقات بين أفراده الذين يكرهون بعضهم البعض بـ (توقير). ولا ضير في قليلٍ من التشبه بالمسلسلات الأمريكية منهياً الحلقات - عند مفرقٍ حساس - بعبارة: (من إنتاج منزل سالازار سليذرين)، متبوعة بأسماء ضيوف الحلقة بالتفصيل، وبطريقة ساخرة طريفة، فالكاتب يشكر البوم لمجهودها في إيصال الرسائل بين شخصيات الحلقة، ولربما كان سيكون أبلغ في سخريته وتأثيره لو أضاف الجمهور إلى قائمة الضيوف باعتباره شريكاً هاماً في الحلقة.
غير أن المسلسل يتخذ منحنياتٍ مختلفة تخرج عن إطار الكوميديا وتبدأ في الاقتراب من حافة التراجيديا، فتُضاف عناصر الخوف، والفقد، والسلطة، والطغيان، والحب، والعنصرية، والجريمة، والعقاب، والمسخ إليه، ليغوص عميقاً في الدواخل الإنسانية، ويبني شخصياتٍ من لحمٍ ودمٍ تتفاعل فيما بينها بنسيجٍ محكم في حبكة متقنة النسج. المسلسل قاسٍ في تعريته للنفس الإنسانية، وكشفه للعلاقات بين الأفراد. ورغم أنه يتخذ هيئة خيالية في الجمهورية البريطانية السحرية المفترضة، إلا أن رسمه للشخصيات واقعي ومؤثر.
يتناص المسلسل مع التقليد الأدبي العالمي، فشخصية فولدمورت تتناص -وتتماس- مع شخصية هيثكليف من مرتفعات ويذرنغ لإميلي برونتي، والقاضي رودلفوس لسترانج يتناص مع القاضي كلود فرولو، وميلجانجوس يُذكر بأوليفر تويست لتشارلز ديكنز، وتستمر بيلاتريكس كنموذج للطفلة الأزلية الجميلة مثل ريميديوس في مائة عامٍ من العُزلة لغابرييل غارسيا ماركيز. لكن الإحالة الأكبر، هي إحالته إلى رائعة غابرييل غارسيا ماركيز الحُب في زمن الكوليرا، في مثلث حبه الممتد عبر الزمن: رودلفوس لسترانج، بيلاتريكس لسترانج، ولورد فولدمورت الذي يتناص مع ثلاثي ماركيز الشهير: فلورنتينو أريثا، فرمينا داثا، وخوفينال أوربينو في قصة حبٍ تتحدى الزمن. غير أن عالم أكلة الموت يصوغ حكايته الخاصة عن طفلة سيجنوس بلاك الجميلة التي أحبها وريث عائلة لسترانج، القاضي رودلفوس لسترانج، وهتك طفولتها إلى غير رجعة ليهجرها فجأة. بيلاتريكس التي لا تزال جميلة لكنها لم تعد طفلة تمردت على حبيبها الأول الذي هجرها ثم عاد إليها مبدياً الندم، وانطلقت بمفردها لتلتقي الرجل الذي سيصبح حُب حياتها الأكبر فيما بعد، لورد فولدمورت. لكن رودلفوس المجنون بالحب لن يخسر أمام فولدمورت بسهولة، وفولدمورت الذي جعله الحب غريباً عن نفسه سيجد نفسه مُخيراً بين الخلود، وبين القتال لأجل حبٌ قد خسره. اختار فولدمورت خلوده، لكنه بعد خمس سنواتٍ أمضاها حبيساً في صورته - من أجمل مشاهد المسلسل فولدمورت في البورتريه الخاص به، وهذه إحالة رائعة إلى صورة دوريان غراي - عاد ليطالب بمحبوبته بعد أن أدرك أن الحُب هو الشيء الوحيد الذي بقي له في عزلته داخل نفسه. سيصطدم بزوجها الشرعي رودلفوس لسترانج، وسينتزعها منه. لن يهنأ بها وهو حي. لم يكن أحدهما بكرم خوفينال أوربينو ليموت ويترك المحبوبة المشتركة للآخر، بل الواقع أن المحبوبة هي من رحلت لتتركهما وحيدين يلعقان جراحهما التي لن تندمل بعد أن وصلا إلى حافة حياتيهما، ولم يبقَ لهما إلا فقدهما الذي يوحدهما، والأسرار التي يحفظها كل منهما عن الآخر، والخذلان الذي تبادلاه، والخيانة التي قارفها كل منهما في حق الآخر. لورد فولدمورت لن يغفر لرودلفوس أنه سرق محبوبته، وتمادى حتى قتله، أو أوشك على ذلك. ورودلفوس لسترانج لن يغفر لفولدمورت أنه - هو الآخر - سرق محبوبته، وأذله علانية ساحقاً كبرياءه وكبرياء آل لسترانج. ولا أحد منهما يستطيع إيذاء الآخر، ليس لأجل بيلاتريكس التي أحبتهما فقط، بل لأنهما يشفقان على بعضهما البعض، ولأنهما - كفلورنتينو أريثا وخوفينال أوربينو - تدلها سنيناً في حب المرأة ذاتها.
لم يضع الكاتب خاتمة بعد لمسلسله، لكن القصة مكتملة وواضحة. عرفنا الحدوث وبقيت الكيفية. وحتى نعرف الكيفية، يبقى عالم أكلة الموت كوناً مفتوحاً على احتمالاتٍ عديدة، وأرضاً خصبة للاستكشاف، بشخصياته - التي تحدثت عن ثلاثٍ منها فقط -، وثيماته، وبنيته، وحبكته عن الحب والموت!

03 أبريل 2008

غبار النجوم: رحلة محكمة النسيج

أبلى فيلم غبار النجوم حسناً في شباك التذاكر لفترة لا بأس بها، وتحدث الناس عنه لفترة حديثاً لا بأس به، ويستحقه.
الفيلم ينتمي إلى نوعية أفلام الفانتازيا التي فتحت لها أفلام سيد الخواتم وهاري بوتر بوابة الازدهار، فازداد الطلب عليها، وبات على هوليوود أن تُتنتج نصف دستة - على الأقل - منها كل عامٍ. غير أن أفلام الفانتازيا - التي تعتمد معظمها على أصولٍ روائية - ليست ذات مستوى فني لائق غالباً، فهي عبارة عن مشاهد متفرقة تجمعها انفجارات مولدة حاسوبياً مثل هاري بوتر، أو خيبات تامة مثل سجلات نارنيا، وبين الاثنين كومة أفلامٍ معطوبة الحبكة، ومعطوبة الأداء.
غير أن الفيلم الذي أخرجه ماثيو فون عن رواية نيل غايمان يستحق أداءه الجيد في شباك التذاكر، والمديح الذي ناله. فعلى خلاف الكثير من أفلام الفانتازيا، يمتاز غبار النجوم بأن حكايته منسوجة جيداً، بحيث لا يضيع المشاهد الذي لم يقرأ الرواية - كما يضيع عند مشاهدة هاري بوتر مثلاً -. ورغم أن عدد شخصياته التي تقوم بالرحلة كبير نسبياً، إلا أنه لا يفلت الخيط ولا يسمح لنا بأن ننسى وجود إحدى الشخصيات - كما في فيلم البوصلة الذهبية مثلاً-.
غبار النجوم من أفلام الرحلة التي ينضج فيها البطل حسب تحليل فلاديمير بروب للأسطورة الشعبية، حيث يخرج البطل في رحلة قد حُذِرَ منها غير مرة، ليجلب شيئاً إلى الوطن يكتسب به ميزة، أو يكمل به نقصاً، ويعارضه أشرارٌ يُعاقَبُون في النهاية، ثم يحصل على مبتغاه ويعود مكللاً بالمجد. الفيلم وفي للمبادئ البروبية، فبطله تريستان يسعى إلى جلب النجمة لحبيبته فيكتوريا، ولفعل ذلك فإن عليه أن يعبر الجدار إلى الكون السحري الواقع خلف الجدار في مدينة (وول)، الجدار الذي يحرسه تسعيني يستطيع القفز بمهارة شاب في العشرين.
تريستان ثورن يُريد أن يجلب النجمة - التي تصبح حبيبته - إلى فيكتوريا قبل عيد ميلادها الذي يحل بعد أسبوع لينافس همفري - غريمه الأكثر جاذبية وثراء - الذي ذهب إلى إيبسويتش ليجلب لها خاتم زفاف. وفي طريقه، يكتشف أن أمه من سكان ما وراء الجدار. في الآن ذاته، يُلقي الملك المحتضر لمملكة ستورمهولد الواقعة وراء الجدار بياقوتة حمراء لتصبح في حوزة النجمة الساقطة، وتنقلب بيضاء إلى أن يمسها أميرٌ من دمٍ ملكي فيصبح ملكاً. وبحثاً عنها ينطلق ابناه، الأكبر، برايموس، والأصغر، سبتموس، بعد أن تخلص الأخير من إخوتهما الخمسة المتبقين كما تقتضي تقاليد البلاط لتحديد الأخ الوارث للعرش، وحاول التخلص من أخيه الأكبر الذي نجا من محاولته الأخيرة لقتله.
النجمة الساقطة فتاة جميلة وبريئة، تقع في حفرة بركانية ولا تعلم شيئاً عن مكانها وما ينتظرها. يوقظ سقوطها ثلاث شقيقاتٍ ساحراتٍ يردن قتلها وانتزاع قلبها لاستعادة شبابهن، فيرسلن إحداهن لمطاردتها والعثور عليها، وهكذا تلتقي جميع أطراف الرحلة على هدفٍ هو الوصول إلى النجمة.
تصوير الفيلم جميل. يُركز على جماليات الصورة ويترك الانفجارات الحاسوبية إلى حين الحاجة إليها. معظمه تم تصويره في الخارج بإحساسٍ عالٍ بالألوان، وبعناصر اللوحة. على عكس معظم أفلام الفانتازيا والرعب، فإن الفيلم لم يُصور في الظلام، أو في أبيض أحادي الطبقة معظم الوقت، بل صُور بكامل الألوان بشكلٍ يبدو معه أحياناً وكأنه قد رُسم بالزيت!

الموسيقى المرافقة مميزة وتعلق بالذهن، تعمق الإحساس بعظمة الرحلة في عالمٍ فانتازي ساحر تطير فيه السفن في الهواء، ويعمل بحارتها على صيد العواصف وبيعها في الموانئ السماوية. يصطاد القبطان شكسبير (روبرت دي نيرو) تريستان والنجمة مع بحارته، ويكتشفان أنه رجلٌ طيب رغم سمعته الدموية - التي بناها بحرص ودهاء رغم أنه شاذ -. يعلمهما شكسبير ويساعدهما ويوصلهما إلى قُرب وول بينما تتعقد الرحلة.
الساحرة لاميا (ميشيل بفايفر) تفقد شبابها وتذوي بسرعة متحولة إلى مسخٍ كريه، سبتموس (مارك سترونغ) يُقرر أن يحصل على النجمة أيضاً ليصبح ملكاً وخالداً إلى الأبد، النجمة (كلير دينز) تحب تريستان (تشارلي كوكس) الذي بدأ الوقت ينفذ منه. تلتقي جميع الأطراف قرب الجدار قبل أن تنتقل الأحداث إلى قصر الساحرات الثلاث بعد أن قبضت لاميا على النجمة والأميرة أونا أم تريستان وشقيقة سبتموس، فيضطر الاثنان إلى اللحاق بهن حيث المواجهة النهائية التي ستسفر عن قتل سبتموس وانضمام شبحه إلى أشباح إخوته الستة القتلى، ومقتل شقيقتي لاميا التي ستهزمها النجمة بالبريق. بعدها يعثر تريستان على الياقوتة التي تتعرفه باعتباره أميراً من دمٍ ملكياً، ويصبح حاكم ستورمهولد.
حين تعبر خصلة شعر يفين (النجمة) الجدار فإنها تتحول إلى لا شيء عدا غبار النجوم. كل ما وراء الجدار يبقى حيث ينتمي، فلا مكان في عالمنا اليومي للنجوم التي تسقط لتصبح فتيات، ولا للساحرات، أو السفن الطائرة صيادة العواصف. تريستان الذي كان فتى بقالة ضئيل الشأن يصبح ملكاً وراء الجدار، فهناك عالمه، حيث يفوز الحالمون بالنجمة والمملكة، فيما يبقى العالم الذي يخلو من السحر عالماً كئيباً، لا مكان فيه للحالمين، ولا للنجوم.
ميشيل بفايفر أدت أداء رائعاً وشجاعاً، فقليلاتٌ من يقبلن أن تشوه صورتهن بهذه الصورة المرعبة في دور. روبرت دي نيرو يحضر حضوراً قصيراً لكنه مميز بتفرد حضور دي نيرو. مارك سترونغ أضفى عمقاً ومهابة على شخصية بروتيوس، وكان الحصان الأسود في العرض. بيتر أوتول يضفي شخصيته المميزة على المشهد الوحيد الذي يظهر فيه. أما كلير دينز وتشارلي كوكس، فأداؤهما مقبول.
غبار النجوم فيلمٌ محبوك بشكلٍ جيد عن رحلة حافلة بالمغامرات يتحول فيها صبي إلى رجل. رحلةٌ عن البلوغ لا تثير اليأس، أو الألم، وتحفل بالغموض والدهشة والسخرية اللاذعة اللطيفة في الآن ذاته.