19 أكتوبر 2010

لوسيفر

يعتقد أرسطو أن المأساة Tragedy تتفوق على الملحمة Epic والملهاة Comedy وغيرها من أشكال التعبير الفني، ويُفسِرُ اعتقاده بأسبابٍ عديدة، منها: أن المأساة الحقة عميقة وعظيمة، وأن زمنها مُحدد، وأن مقياسها أكبر من الحياة، وأن الموسيقى تصحب أحداثها. السبب الأهمُ الذي يجعل المأساة أعظم أشكال التعبير الفني أن مصدر المعاناة فيها قرارات البطل المأساوي نفسه: الخلل الذاتي المؤدي للسقوط. البطل المأساوي لا يُعاني نتائج أفعال غيره، وتأتي عظمته من قدرته الخاصة على ارتكابِ الأفعال العظيمة والشريرة، ومن ثم تحمل العواقب. ما يجعلُ المأساة شكلاً فريداً من أشكال التعبير الفني أنها عمل فردي إذ لا يوجد ثنائيات في المأساة الحقة: هُناك أوديب وحده، أنتيغونا وحدها، مكبث وحده.
عدا المأساة، فإن كُل الخيال القصصي يعتمدُ على الثنائيات: البطل والشرير، العامل الرئيسي والعامل المضاد، الملاك والشيطان. الثنائيات قاعدة في الميثولوجيا الدينية: النور والظلمة، سِت وأوزيريس، أهورا مزدا وأهريمان، أودِن ولوكي، الآلهة والتايتنات. وفي الحكايات الشعبية، فإنه لابد من أمنا الغولة لتكتمل مغامرات الشاطر حسن. وفي الثقافة الشعبية هناك: شرلوك هولمز وجيمس موريارتي، سوبرمان ولِكس لوثر، لوك سكايووكر ودارث فيدر، هاري بوتر ولورد فولدمورت، كريتُس وزيوس، آبل وIBM، غنو لينكس ومايكروسوفت. لتنجح هذه الثنائيات، فإنه ينبغي أن تكون العلاقة تبادلية بين البطل وخصمه، بحيث يكون الخصمُ مساوياً للبطل في قدراته الشخصية، ويصير الصراع بينهما متكافئ القوى، مما يحول سعي البطل إلى ملحمة.
في هذا النظام الثنائي، قد يتحول التركيز إلى الشرير (العامل المضاد) بوصفه المُحرك الرئيسي للصراع، كما في أفلام نهضة ديزني حيثُ طموحات أشرارٍ مثل سكار (الأسد الملك) وجعفر (علاء الدين) منبع الحدث الدرامي. بل إن الشرير قد يصير حالةً مُطلقة كما هو الحال مع القاضي كلود فرولو في فيلم أحدب نوتردام (1996)، إذ أنه ليسَ شريراً يواجهه بطلٌ واحدٌ، وإنما تواجهه بقيةُ شخصيات الفيلم: كوازيمودو وإزميرالدا ورئيس شمامسة نوتردام وفيبُس - والكراغل الحجرية - ولا تأتي نهايته نتيجة لانتصار البطل - الحتمي - بل نتيجة لما يُمكن أن يوصف بأنه تدخلٌ إلهي. (إلى حدٍ ما، تُحقق حالة كلود فرولو شروط المأساة، ويُمكِن - بقليلٍ من سعة الخيال - اعتباره بطلاً مأساوياً).
يُذكِر د. فرانتز لوسيفر من سلسلة ما وراء الطبيعة بالقاضي كلود فرولو إلى حدٍ ما، إذ أنه شريرُ السلسلة المُطلق الذي لا يُمكِن للبطل (رفعت إسماعيل) احتواؤه، أو حتى مُقارعته وجهاً لوجه، ويحتاجُ الخلاص منه إلى تدخلٍ إلهي. يتحركُ فرولو من قاعدةِ أنه رجلُ الله في أرضه، ويتحركُ د. لوسيفر من قاعدةِ أنه - بوصفه الشيطان - واحدٌ من أدواتِ الخلق، وجزءٌ من الحياة التي لا تكتمل إلا بالضوء والظل.
يُثير لوسيفر الاهتمامَ لأسبابٍ أخرى غيرَ كونه الشيطان، فبوصفه شريرَ السلسلة، يُفترض برفعت إسماعيل - الذي يصطف في الجانب الخيّر دائماً - أن يُمقته. رفعتُ يُمقت لوسيفر فعلاً، غير أنه لا يستطيع التغلب على انبهاره الشديد به. تمر كُل شخصياتِ ما وراء الطبيعة إلى القراء عبر منظاره: مملة، مليئة بالعيوب، ولا شيء مهمٌ بشأنها، إلا عندما يتعلق الأمر بلوسيفر الذي ينقل عنه أدق تفاصيل حركاته وسكناته وتعبيراته، غير قادرٍ على إخفاء انبهاره به، وحسده له.
يُعادي رفعت لوسيفر في حكايات التاروت من النظرة الأولى، لأنه نجم الحفلةِ والشخص الذي جاء الجميعُ من أجله، بينما رفعت وصديقاه مجرد شخصياتٍ هامشية لا يأبه بها أحد. إنه يتحدث عن الحب في غرفةٍ باردةٍ ملأى بالغرباء، ويظهر ثرياً، مهيباُ، ومسيطراً، بينما رفعت يشعر بعدم الارتياح في بيئةٍ غريبة ومعادية، وفي حضور رجلٌ غريبٍ يرتدي قرطاً. يزداد العداء بين الاثنين بسبب احتقار رفعت المُطلق للسحر والكهانة، وينتقم منه لوسيفر بدق أسس يقينه العلمي عن طريقِ إخباره بما لا يعمله أحدٌ عنه. يُقدم لوسيفر قصةً طريفة عن مصير رفعت، تحملُ شبهاً بما سيحدث لاحقاً، ولا تعني أكثر من معابثة عابرة، بينما يبذر بذوراً شريرة في بقية الحضور، تؤدي بهم إلى ارتكاب جرائم مروعة لاحقاً. لقد اختار رفعت ليصير سخريته الدائمة عقاباً له على الموقف المتعالي الذي أبداه نحوه من البداية. (يتمتع فرانتز لوسيفر بحسِ فكاهةٍ عالٍ، مع أن رفعت يعتقد حقاً أنه لا يفهم النكات. كونه يفهم النكاتُ أو لا يفهمها مسألةٌ غير ذاتِ أهمية لأن رفعت يختارُ أوقاتاً غير ملائمةٍ لها، قاصداً تسخيف أفكارِه).
المسألة ألا شيء في رفعت يُغري كياناً شيطانياً يجعله عدواً له، لأن رفعت آخر شخصٌ في العالم يُمكِن أن يفهم الشطحات العبقرية التي تدفع الشخصيات الأخرى في السلسلة إلى القيامِ بأعمالٍ جنونية (استكشاف كهوف تسيلي، إحياء أسطورة ميدوسا، جمع كتاب العزيف، استخدام الفيزياء لاستكشاف العالم وراء الطبيعي، ......)، بل إنه يُمقت اللوحات الأصلية في المتاحف لأن [ضربات الفرشاة تكون واضحة وخشنة فيها، بينما تجعلها الصور في المجلات جميلة ومضبوطة الألوان]. لكنه لا يزالُ متصلاً بعالم ما وراء الطبيعة بشكلٍ أو بآخر، إنه ليسَ مُغامراً ولا شاعراً، لكنه رجلٌ مُثقف "يفهم في هذه الأمور" ويُمكنه أن يتخذ منها موقفاً عقلانياً. إنه رجلُ عصر الأنوار المتمسِك بالعقل المحض - وإن كان الزمن قد أجبره على الإقرار بوجود أمورٍ لا يُدركها العلم. وإلى حدٍ ما، يُشبِهُ رفعت الشاعر الإنكليزي سامويل تايلر كولردج، الذي يرى كثيرٌ من نقاد الأدب الإنكليزي أنه ليسَ شاعراً حقاً - رغم "أغنية البحار القديم" و"قبلاي خان" - وإنما رجلاً يُحسِنُ فهم الشعر، ومُدمِنَ أفيون قادراً على تذكر رؤاه بوضوح، لذلك أمكن له أن يكتب قصائد عبقريةً في بربريتها. صحيحٌ أن رفعت ليسَ مُدمِنَ أفيون، لكن معرفته الواسعة بعالم الخوارق تعمل في لا وعيه، بحيثُ يُمكِنُ فعلاً أن يكون مجرد عجوزٍ خرف يختلق الحكايات.
لكن في رفعت ما قد يُغري رجلاً عبقرياً بعدائه والسخرية منه: إنه انتقامٌ مُستمرٌ يُنزله لوسيفر بالرجل الذي سخرَ منه ذات مرةٍ بينما آمن الآخرون به. وحصانة رفعت الطبيعية تجاه الشطحات العبقرية تجعله موضع إغراء لكُل ذوي الطموحات العبقرية في السلسلة (تابيثا، المستكشف الإيطالي، فرانكنشتاين،......). لذلك، يدعوه لوسيفر إلى (حفلاته) الخاصة من حينٍ لآخر. في مرحلةٍ ما من السلسلة، يتحول لوسيفر من كونه (رجلاً) إلى كونه (كائناً)، وتصير المسألة واضحة بلا مواربة: رفعت إسماعيل يتعامل مع الشيطان مُباشرة - أو وكيله - من دون أن يكون هناك سببٌ يوجِب هذا التعامل، فرفعت ليس ساحراً، وليس مفتوناً بما لا يعرفه، ولا يهتمُ بشحطات العبقرية البربرية. إن كون لوسيفر رجلاً يجعل فهم الضغينة التي يُكنها لرفعت الذي لا يُدرِكُ أن العبقرية - بحد ذاتها - أمرٌ خارقٌ للطبيعة مُمكنأما كونه شيطاناً فيجعل الفكرة أكبرُ من العبارة، لأن بناء ما وراء الطبيعة - على ما هو عليه الآن - لا يستوعِبُ الثِقلَ الفلسفي للفاوستية، ولأن شخصية رفعت إسماعيل ليست صالحةً لأن تكون في عداد الشخصيات الفاوستية، ذلك أنه لم يُجِرِب صنع شيء يتطلب عبقرية ما، وليس فيلسوفاً.
في أسطورة شبه مخيفة، تصيرُ الأمورُ مخالفةً لطبيعة السرد القصصي حقاً، ففرانتز لوسيفر يتحول إلى شيطانٍ متغير الشكل يُتعِبُ نفسه بالتدبير عامين لمكيدةٍ جديدة لرفعت وحبيبته الأزلية ماغي - هذه المرة - ويظهر بصورةٍ مُختلفة في معظم القصة - ولو إنه من المُمكِن التنبؤ باكراً بأن د. نورمان هارتفورد هو لوسيفر من انبهار رفعت الشديد به. هُناك الدُعابة - غير الموفقة إطلاقاً - في نهاية الرواية، وفيها يظهر أن رفعت وحياته كلها قصةً يكتبها خرياسوس المدون ليُسلي أباه لوسيفر. هُناك كمٌ كبير من التحفظات على مواهِب السيد خرياسوس الكتابية، وعلى ذوق السيد لوسيفر الأدبي، لكن المسألة تتجاوز هذه الشكليات إلى فقدان الدافع السردي، وسقوط حبكة لوسيفر الفرعية في السلسلة سقوطاً مدوياً.
مشكلةُ أسطورة شبه مخيفة الأولى أنه ليسَ هُناكَ سببٌ مُقنِع يُحرِك الأحداث: كاتبٌ يكتب قصص رعب تتحقق، ويتضح أنه ابن لوسيفر الذي يُدبِرُ مقلباً لرفعت من دون سببٍ وجيه. الأمرُ لا يتعلق هُنا بدعوةٍ إلى جانب النجوم، أو إرسال صندوقٍ إلى رفعت، بل بخطةٍ مُدبرةٍ للإيقاع به وبحبيبته من دون أن يكون لهذا هدفٌ أكبر. حتى حب لوسيفر للتسلية والعبث لا يستطيعُ أن يُنقذ حبكة هذه القصة، لذلك جاءت (دعابة) النهاية، فإذا كان من المستحيل إقناع القراء بأن رفعت أوقع بابن لوسيفر في الحفرة التي حفرها بنفسه، فإنهم سيستشيطون غضباً بسبب النهاية التي يتضح فيها أن كُلَ شيء مكتوب جاء من وحي خيالِ خرياسوس المدون، وعليه سينتقل الجدل إلى منطقةٍ مُختلفة بعيدةٍ عن الاستحقاق الأدبي. (هُناك حرب التشكيك في النوايا المعتادة، والدفاع المُعتاد بحجة "الكاتب الفلاني استخدم هذه التقنية"، وفلسفة "إنها قصة يا جماعة" المعتادة).
هُناكَ أيضاً فكرةُ الكاتب محدود الموهبة والشهرة. لقد كان مقبولاً في حكايات التاروت أن يكون لوسيفر ساحراً لم يسمع به أحد خارج دوائر السحر المُغلقة بوصفه (خبيراً) كما هو الحال مع خُبراء التقنية - مثلاً - ممن يحصلون على أجورٍ عالية نظير خدماتهم الاستثنائية، ويعرفهم أهل التخصص، بينما يجهلهم الجمهور العريض. الأمرُ مختلفٌ في أسطورة شبه مُخيفة لأن شخصية لوسيفر قد تغيرت من رجلٍ عبقري إلى كيانٍ شيطاني، ولأن ابنه كاتبُ رعبٍ يكتب للجمهور العريض، لا خبيراً في (تخصصٍ دقيق) كما كان أبوه في بداية السلسلة. من الصعب تصديق أن لوسيفر لا يستطيعُ أن يجعل ابنه أفضل وأشهر كاتب رعبٍ في العالم أجمع، بينما يسخر كافة قواه ليهزأ برفعت. الأمرُ يتعدى حدود المقبول سردياً، لكنه قريبٌ من عالم رفعت إسماعيل النفسي، إذ يستحيلُ على رفعت الواقع في منطقة الوسط أن يقترن بأيِ خُطة عالمية طموحة. إنه رجلٌ متواضع، وأعداؤه أناسٌ متواضعون ينصبون له مقالب متواضعة.
الشرخُ في شخصيةِ لوسيفر ظهرَ واضحاً في هذه القصة، فبعد أن كان شخصاً عبقرياً غير معروف النوايا - مثل تابيثا مكغفرت - صار كياناً شيطانياً، ثم كياناً شيطانياً له ابن ضعيف قبيح المنظر، ثم كياناً شيطانياً يتورط في مقالب سخيفة. (وما من شكٍ في أنه لن يُقبل بعدها في النادي الشيطاني الذي يضم مفستوفِلِس وبعلزبوب وفولند، رغم أن اسمه لوسيفر، مما يعني أن رتبته أعلى من رُتبهم. ذلك أن ترتيب القيادة الجهنمية التقليدي يضع لوسيفر في أعلى الهرم، ثم يليه بعلزبوب، فمفستوفِلِس - الذي يعمل مبعوثاً رسمياً ومحصل ديون ووكيلاً إدارياً لجهنم.)
بتجاهل أسطورة شبه مخيفة وصندوق بندورا، فإن شخصية لوسيفر تصلُ أعلى نقطةٍ لها في جانب النجوم، حيثُ يُحقق لوسيفر الفرض المبدأي لشخصيته، ويحمل رفعت على مواجهة الشر مُباشرة. مجموعة في جانب النجوم مقبضة، سوداوية، وخانقة كما يُفترض بالشرِ أن يكون، ورفعت لا يستطيع فيها إلا أن يكون طفلاً صارخاً غير قادرٍ على احتمالِ فكرةِ أن يُجبَرَ على تلاوة آثامه. إنه لا يستطيع أن يفهم غرض لوسيفر من دعوته إلى محكمة الشر، ولا يستطيع أن يرتكب الشر لأنه محدود الخيال بما فيه الكفاية لئلا يُفكِرَ بارتكاب الشر المُطلق، ولم يتعرض لتجربةٍ يُجبَرُ معها على الخضوع لسلطان الخوف المهيمن.
في محكمة جانب النجوم، يعرضُ لوسيفر جانباً من عبقريته الشريرة على رفعت إسماعيل. إنه سيدُ جانب النجوم المُطاع - مع أنه بشري، أو شبه بشري - وتتبعه كُل الوحوش المروعة التي تعيشُ في ذلك المكان المجنون. جانب النجوم مملكةُ فرانتز لوسيفر الخاصة من الخمايرات، حيث يحكمُ وحده، وحيثُ يُحققُ عدالته الخاصة. ورغم أنه يظهرُ مسالماً في حكايةٍ سابقة، أسطورة دماء دراكيولا، بوصفه مجردَ شاهدٍ دعاه فلاد الوالاشي ليشهد عودته، فإنه ليسَ صعباً أن يُستشف من جانب النجوم أنه مُدِبرُ الأحداثِ المؤسفة في هالماجيو، وأن فلاد الوالاشي واحدٌ من الوحوش التي يحتفظ بها بوصفها حيوانات أليفة. هكذا، تصيرُ دعوته لرفعت إسماعيل مُبررة، إذ أنه يرغب في أن يعرض عليه جزءاً من عالمه الذي استخف به في لقائهما الأول. إنه ببساطة ينتقمُ من كبرياء رفعت، ويريه أنه - فرانتز لوسيفر - رجلٌ قادرٌ على أعاجيبٍ يحيا رجالٌ مثل رفعت ويموتون من دون أن يحلموا بها حتى.
من المؤسف أن تلقى شخصيةٌ لها إمكانيات لوسيفر الهائلة مثل هذا المصير. الآن، لا يبدو مصير تابيثا قاتماً أبداً، فما يعني فُقدان المرء رأسه أمام انحطاطِه من دون أن يكون بطلاً مأساوياً؟

10 أكتوبر 2010

تابيثا

أول مرةٍ صادفت فيها رفعت إسماعيل بطلاً كانت في أسطورة رأس ميدوسا، ولم يكن لقاء موفقاً. كنتُ قد استعرت الكتيب من مكتبة المدرسة ظناً مني بأنه كتابٌ يتحدث عن الأساطير الإغريقية، ولم يُعجبني منذ صفحاته الأولى بسبب استخفافه بالميثولوجيا الإغريقية التي شكلت الأساس الكلاسيكي لقراءاتي - بترجمات أمين سلامة ودريني خشبة وعبد الرحمن بدوي - وخلطه أسماء الآلهة اليونانية بالرومانية، ومن ثم موقف رفعت إسماعيل - الذي يعرف كل شيء عن أي شيء - المستفز .
منذ البداية، يرفض رفعت إسماعيل فكرة إيجاد رأسِ ميدوسا لأنها أسطورة ذات أساسٍ وثني، وهو لا يؤمن بالأوثان، لذلك تتحول القصة إلى مطاردةٍ بوليسية لكشف من يحاولون إحياء أسطورة الغرغونات. يتكرر هذا الموقف بعد عدة سنوات مع أسطورة صندوق بندورا، حيثُ المسألة بأكملها ملعوبٌ من لوسيفر. في المُقابل، يتقبل رفعت وجود المينوتور من دون أن يعلق بشيء على أصولِ الأسطورة (الوثنية)، فالمينوتور لعنة صبها بوسايدن على مينوس ملك كريت، وجاءت ولادته نتيجة لانحرافٍ مُرعب يتجنب الإشارة إليه تماماً. الأمرُ غريبٌ، فكل الأساطير اليونانية ذات منشأ وثني، وقبول المينوتور بوصفه ظاهرةً بيولوجية خارقة يقتضي قبول الغرغونات بوصفهن حالة فيزيائية خارقة، وقبول صندوق بندورا بوصفه صندوقاً سحرياً حيكت حوله الحكايات الوثنية. كان من الأفضل الخروجُ من هذه الورطة برمتها، إما بتجاهل الميثولوجيا الإغريقية جملةً وتفصيلاً - والاكتفاء بالفرايكولاياس، إذا كان لا بد من اليونان وإن طال السفر - أو بالخضوع لقواعدها - مع بعض التحويرات الضرورية لأي عملٍ فني. المشكلة أن تجاهل الحقبة الكلاسيكية Classical Antiquity غير ممكن، كما أنه من غير الممكن أن يتخلى رفعت عن الصفات التي تجعل منه رفعت إسماعيل. والحل الوحيد أمام القارئ لتجنب التشويه اللاحق بالميثولوجيا الإغريقية أن يكون عارفاً بها. (المعرفة بالميثولوجيا الإغريقية - والحقبة الكلاسيكية، عموماً- مفيدةٌ في كل الأحوال، إذ يستحيل على أيِ كاتبٍ التنمر على أي قارئ كلاسيكي، ولو كان ت. س. إليوت نفسه).
مع ذلك، كانت هُناك تابيثا، وهي وحدها من جعلت الكُتيب يستحق القراءة والتقدير. واحدٌ من المآخذ على سلسلة ما وراء الطبيعة الذي ذكرته تدوينة "شارب الوغد" كان موقفها العدائي من النساء، وفي محاولات المدافعين عن السلسلة لتفنيد هذا المأخذ، تكرر اسمُ ماغي ماكيلوب كثيراً. ما يتناساه الكثيرون في هذه الحمية أن ماغي ليست امرأة بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما صورة الحضارة الغربية (الرومانتيكية) في مُخيلة رفعت إسماعيل. إنها شقراء، أرستقراطية، عالمة، ابنة أستاذه، تُحِبُه ولن تتزوجه أبداً - لأن الشرق شرق، والغرب غرب، ولا يلتقيان أبداً. إنها تتحدث الإنكليزية، لكنها ليست إنكليزية بل إسكتلندية - لأن الإنكليز احتلوا مصر وإسكتلندا. كل هذه الصفات تتردد - بشكلٍ أو بآخر - في كتاباتِ الكتاب العرب الذين كتبوا عن الغرب منذ زمنٍ يسبق موسم الهجرة إلى الشمال، وسيظلون يكتبون كذلك حتى تزول الهوة الحضارية بين الشرق والغرب، ويكف الغرب عن كونه امرأة جميلة تتعلق ببطلٍ شرقي. هُناك من ذكر إيناس من آخر الليل والجاثوم، والواقع أنها لا تصلح، لأنها مسيرة لا مُخيرة، وعندما تُقرر بنفسها أن تبقى مع الرجل الذي تحبه، يظفر بها الجاثوم، ويمزقها حبيبها شر ممزق. (لتكون عبرة لكل من تسول لها نفسها الحديث إلى الرجال الغرباء في السينما).
لا أجد ما يثير الاهتمام في الحديث عن التوأم نجلاء وناهد، أو عن د. كاميليا، أو عن سهام وهويدا، أو حتى عن براكسا نجيب ورونيل السوداء والأم مارشا - وأعتقد أن من اقترح الثلاث الأخيرات يملك حساً بالدعابة. الشخصية الأنثوية الوحيدة التي يُمكن أن تُصنف (إيجابية) - في السلسلة - قد ظهرت مُبكراً جداً - أسطورة رأس ميدوسا - وقُتِلَت مُبكراً أيضاً - أسطورتها - بطريقةٍ بشعة. لا ضغائن هُنا، فعالم ما وراء الطبيعة لا يسع رفعت إسماعيل وتابيثا ماكغفرت معاً. تأخذ تابيثا زمام المُبادرة من رفعت في كُلِ المواقف تقريباً، فهي من تُراسله - وترسمه بطريقة ساخرة، وقبل أن يصفها هو بالشيطانة القبيحة، فإنها تصف نفسها بأنها شيطانة موهوبة، وتوقِع به في مآزق كلامية لم ينتبه إليها، وتأخذ دوره (التثقيفي) فتكون مصدراً لكثيرٍ من المعلوماتِ في الرواية. إنها - بالنسبة لرفعت - الكابوس الأسوأ، ولولا المسألة الما ورائية المُتعلقة بلوسيفر، لكانت العدو المثالي لرفعت إسماعيل، خصوصاً وأنها مؤلفة رعب، وهو يمقت كتاب الرعب.
هُناكَ لمسةٌ تراجيدية تتعلق بتابيثا، إنها - بشكلٍ ما - ليدي مكبث مُعاصِرة، تأخذ عهد الزواج بحرفيةٍ تامة: "في السراء والضراء، وفي الصحة والمرض، إلى أن يُفرقنا الموت". كلتا المرأتين تُحبُ زوجها، وتشاركه جرائمه الطموحة بدافع الحُب. كلتاهما تملكان خيارَ الانسحاب، لكنهما تختاران المواجهة عارفتين بالنتائج المأساوية لخياراتهما. تابيثا أكثر حيوية وبراعة وموهبة من ليدي مكبث، وفي وضعٍ أسوأ. لقد عاشت مُرفهة في إسكتلندا، ثم عرفت الفقر والجوع والتشرد مع زوجها اليوناني الذي لا يمتازُ بالأمانة أو البراعة العلمية. كان بإمكانها أن تحزم حقائبها وتعود إلى إسكتلندا، لكنها اختارت البقاء مع زوجها، واختارت مساعدته على النجاة من عواقب مخالفاته المتكررة للقانون.
فكرة إحياء أسطورة رأس ميدوسا تدلُ على قدرٍ من الجنون، لكن الجنون والموهبة متقاربان جداً. وقد كانت تابيثا موهوبة بما فيه الكفاية لتُحيي أسطورة عتيقة: تنحت تماثيل مُتقنة، تتنبأ بما سيحدث وتستعد له، وتضيف قليلاً من المرح فتنحت حتى الفئران. هُناك رعبٌ في القصة - لمن يُدركه، ومصدره العبقرية المتوهجة لتابيثا - التي تراسل هنري ماتيس، أحد رموز الوحوشية: العبقرية التي تقتضي شيئاً بدائياً، بربرياً، وهائلاً ولا تعرفُ الحدود الأخلاقية الضيقة. العبقرية التي تجعل من تابيثا ملكةٍ على مملكةٍ من الخمايرات. لذلك، يصعب أن يفهمها رفعت إسماعيل - الذي لم يكن في حياته عبقرياً، ولم يحلم في حياته بأن يحكم مملكة من الخمايرات. (بل إنه يتخصص في علم أمراض الدم لأنه المجال الطبي الوحيد الذي تقلد فيه الطبيعة الكُتب).
إن تابيثا لا تصلح حبيبة لرفعت، ولا تصلح تلميذة له، أو زوجة (باسلة) لأحد أصدقائه، أو فتاة يعطف عليها عطفاً أبوياً، لذلك فإنها لا تنتمي إلى عالم ما وراء الطبيعة إطلاقاً، بل إنها واحدةٌ من الشخصيات القلائل التي يُطلق عليها الرصاص لإنهاء مواجهته معها بطريقةٍ جذرية. وفي النهاية، فإن الرصاص لا يقتلها - لأنها لم تُصنع من العجينة الرومانتيكية التي صُنِع منها رفعت - وتنهض، وتتحدث إليه، وترد ببراعة، وتتقبل السجن ببساطة. لقد غامرت، وخسرت، وهي ممن يتقبلون الخسارة بروحٍ رياضية. لولا تدخل الشبح الفج - وغير المُبرر، إلا لعرض المزيد من رومانتيكيات رفعت إسماعيل - لاستمرت تابيثا في مغامراتها بعد الخروج من السجن، ولرُبما توصلت إلى جعل شعبٍ من البدائيين يعبدها - كما فعل كرتز - وحكمت مملكتها الفعلية من الخمايرات.
لو كان هُناك مجتمع معجبين ناضج بالعربية، فإنني أعتقد أن تابيثا ماكغفرت كانت لتكون من أكثر الشخصيات التي تُكتب عنها قصص fan ficton - مع د. لوسيفر، بطبيعة الحال. ورُبما كانت بعض الكتابات عن تابيثا لتصيرَ سلاسل قائمة بذاتها، أو على الأقل روايات لها استحقاقها الروائي الخاص بها - إذا صار عالم ما وراء الطبيعة مفتوحاً للمشاركة العامة كما هو عالم هوارد فيلبس لفكرافت. لكن، والحال كما هو الآن - فإن أكثر الُمعجبين ابتكاراً يستضيف حلقاتٍ على غرار برنامج بعد منتصف الليل. من يدري؟ فرُبما نرى المزيد من تابيثا غداً. في النهاية، التفاؤل واجبٌ أخلاقي، حتى في المملكة الرمادية العظيمة.