20 ديسمبر 2013

12 مليون

يوم اللغة العربية كان قبل يومين، واحتفل به الكثيرون على المواقع الاجتماعية المُختلفة. قد تكون لليوم فائدة، وقد يُحاجج البعض بفائدته، فيحسنون الحجة، غير أنني أعتقد أنّه عديم الفائدة، مثل عيد الحب. وكذلك، يبدو أنّه يتنقل كل سنة، فقبل ثلاث سنوات، احتفلوا به في أوائل مارس أو نحو ذلك. كما أنني أتذكر أننا حين كُنا في الجامعة قد جمعنا قبل ذلك في مناسبة للاحتفاء بلغات العالم عن طريق الاستماع لخطب كل من شاء الخطابة من هواة اللغات. بطبيعة الحال، كان ذلك مُريعاً. لكن اليوم لم يكن رديئاً، فقد كان ثمة فعالية تلت ذلك - إذا لم تخني الذاكرة - قدم فيها الكثير من الأساتذة أوراقاً بحثية بلغاتٍ عديدة، بعضها يتحدث عن الترجمة، وبعضها عن النحو المُقارن، غير أن ورقتي المفضلة التي لا زلت أتذكرها حتى اليوم كانت عن اللغات الكريولية، وعن إمكانية نشأة لغاتٍ جديدة، أو تغيير القواعد اللغوية الموجودة الآن.
بطبيعة الحال، مثل هذا الكلام هرطقةٌ في آذان أساتذة النحو الكلاسيكي، يجب معاقبة من يتحدّث بمثله. اللغات الكريولية لغات شائعة في هاييتي وأجزاء من إفريقيا، وهي خليط بين لغة المستعمر، وبعض اللغات الأصلية للمتحدثين بها. اللغات الكريولية نشأت، ليس فقط للحديث مع المستعمر، بل لإيجاد لغة مؤتلفة بين العبيد المحمولين من أجزاء مختلفة من إفريقيا، بلغاتهم المختلفة وعاداتهم وانتماءاتهم القبلية وأديانهم. لذلك، فإن اللغات الكريولية في موضع احتقارٍ تاريخي: إنها "تشوه" لغة المستعمر "النبيلة"، كما أنها "لغو عبيد". هذا الاحتقار المبني على أساسٍ عنصري أعاد استنساخ نفسه عبر التاريخ في صور قلقٍ لغوي: اللغات الكريولية لا "نحو" لها - بالمفهوم الكلاسيكي للنحو، من الصعب ضبط الكتابة الكريولية، كيف يمكن عمل قواعد للكريولية؟ اللغات الكريولية لا أدب لها، وهلم جرا...
مع ذلك، نظرية الأستاذ الطوباوية - التي بناها على عدة مراجع لم احتفظ بأسمائها لأنّه كان يتكلم بسرعة الضوء حين سرد قائمة المراجع، التي تسبب الملل للجمهور عادة، كما أن الأساتذة يرفضون مشاركة أوراقهم البحثية مع الرعاع/الطلبة - تروق لي، الفكرة القائلة بأن الحواجز اللغوية التي نعرفها اليوم ستذوب، وأن النحو الذي نعرفه سينتهي، وستكون هناك لغاتٌ جديدة، لغاتٌ تموت، ولغاتٌ تتكون، وكريوليات تنتشر انتشاراً واسعاً. بطبيعة الحال، اللغات تموت كل يوم - من دون أن ندرك ذلك، واللغات التي نعرفها اليوم مرت بعمليات تكوين طويلة. ثمة عمليات واسعة تحدث في كل لغةٍ اليوم من إضافة الكلمات، إخراج الكلمات من الاستخدام، توسيع المعاني، تبديل المعاني، إلخ.... هذه العمليات لا يُحِس بها الفرد في حياته اليومية، كما يحدث أنّه لا يُحس بدوران الأرض حول الشمس، أو حتى بدورانها حول نفسها، وكما أنّه لا يُحس بدورات توالد الحشرات التي تولد وتموت في يوم، وكما أنّه لا يحس بالأجناس الحيوية التي تنقرض كل يوم على سطح الأرض. كل هذا يحدث. 
المزعج في نظرية الأستاذ أنها تمس بالمقدسات اللغوية. اللغات "العُظمى": الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والصينية والروسية (لغات الأمم المتحدة الأصلية) واللغة التي أُلحِقَت بها نتيجة لجهود مجموعاتٍ نشطة في السبعينيات، العربية. وفقاً لنبؤات الأستاذ، فإن هذه اللغات العظيمة ستتفتت إلى كريولات، وستنشأ منها لغاتٌ أخرى، بل وسيختفي بعضها كُلية.
بالنسبة للأستاذ - ولي - هذا خبرٌ جيد. اللغة ليست صنماً يُعبد، وليست مقصودة في ذاتها، بل وسيلة تواصل وإفهام. وتحول اللغات وتبدلها يعني المزيد من الطرق للتواصل والتفاهم، ويُشير أيضاً إلى تبدل البُنى الثقافية والاقتصادية والاجتماعية للعالم، مما يفتح الاحتمالات لإيجاد عالمٍ أكثر تسامحاً وانفتاحاً وقبولاً للآخر وابتعاداً عن الظلم المؤسساتي.

أعظم لغات العالم
لسببٍ ما، يظن البعض أن اعتراف الأمم المتحدة باللغة العربية واحدة من لغاتها الرسمية يجعلها لُغة عُظمى في العالم. يتحدث البعض الآخر عن العدد الكبير للمتحدثين بالعربية في العالم، مما يجعل العربية لغةً عُظمى بقوة التكاثر. العربية ليست لغة عُظمى، ومفهوم اللغة العُظمى مفهوم فاسدٌ في أساسه، يرتبط بوجود قوة احتلالٍ أجنبي، ففي عهد الرومان، كانت اللاتينية اللغة العُظمى في العالم، وفي أقصى امتداد الدولة الأموية كانت العربية اللغة العُظمى.
غير أنّه، لا توجد لغة عُظمى في ذاتها. حين فقدت الكنيسة الرومانية سطوتها، تضعضعت اللاتينية، مقابل صعود اللغات الأوروبية المختلفة. اليوم، بالكاد تتواجد اللاتينية في الفاتيكان، وفي بعض القُداسات الكاثوليكية، وداخل أسوار جامعات الصفوة بوصفها رُكناً من أركان الكلاسيكيات. مصير العربية أفضل قليلاً، فلا تزال لغة الشعوب العربية، وإن كانت في موضع ضعفٍ شديد، بعضه بتأثير الاستعمار، وبعضه بتأثير قلة كفاءة منقطعة النظير من المشتغلين بها.
هاتان لُغتان زال مجدهما. في الواقع، يُناقش في الدوائر الأمريكية فكرة أن العربية، العربية الفُصحى الحديثة - التي أكتب بها هذه التدوينة - ليست إلا لُغة دينية محلها الجوامع والمدارس الدينية، ورُبما بعض الكلاسيكيات العربية. بطبيعة الحال، يرفض المرء هذا للوهلة الأولى، لكن ما يُناقش في أمريكا اليوم عادة ما يُصبح الواقع في العالم العربي بعد بضع سنوات.
لا يوجد مقياسٌ مُعين تُقاس به عظمة اللغة. عدد المتحدثين بها؟ أعظم لُغات العالم - إذ ذاك - الصينية. عدد حروفها؟ اليابانية. عدد كلماتها؟ هذه مسألة فيها نظر. 
الغالب في قياس اللغات قياس مدى تأثيرها، وليس عظمتها في ذاتها - لأنّه لا توجد لغة عظيمة في ذاتها - والتأثير الأكبر الآن للإنكليزية. العلوم كُلها تُدرس بالإنكليزية، ومُتقدمة بهذه اللغة عن غيرها. السياسة الدولية تسودها الإنكليزية. حتى في الفنون والآداب تكاد الإنكليزية تُطيح بغريمتها التقليدية، الفرنسية. لدى الإنكليزية قابلية شديدة لامتصاص التعبيرات والكلمات من اللغات الأخرى، كما أن اشتقاق الكلمات الجديدة فيها سهل.
غير أن اشتقاق الكلمات في الإنكليزية ليس أسهل منه في الألمانية. تكوين الكلمات أسهل في الألمانية، وقواعد اللغة الألمانية أقل تعقيداً من قواعد اللغة الإنكليزية عموماً. مع ذلك، لم تستطع الألمانية أن تحظى بالتأثير الشديد الذي للإنكليزية، لأن التأثير ليس قائماً فقط على قواعد اللغة، أو دقتها، أو جودتها، أو سهولتها. اللغة العربية لغة شديدة التعقيد، ومع ذلك أمكن للمشتغلين بها أن يكونوا من غير العرب في الزمان الذي كانت فيه لغة شديدة التأثير. اللاتينية، كذلك، كانت لغة مُعقدة وتعليمها مُرهِق، ومع ذلك كانت لغة أوروبا كُلها في زمانٍ ما.

هيا بنا (نخرط)*!
الحقيقة، كُنت قد قررت ألا أعلق على يوم اللغة العربية، مع ذلك، وجدتُ أنّه ينبغي التعليق بعد أن وصل (الخرط) في يومِ اللغة العربية حدوداً خُرافية. فغير النازيين الذين يتحدثون عن "تحكُم" اللغة العربية بقارئها، حيث تُجبره على الوقف حين تقف (فيما اللغة الإنكليزية تترك قارئها يُطارد ذيله ككلبٍ مخبول)، وعلى التفكير بشيء مُحدد فحسب. لا توجد لغة في العالم تمنع قارئها من التفكير في أي شيء يُريد التفكير فيه، كما أنّه لا يوجد جملة في العالم تستدعي المعنى نفسه عند كُل من يقرأها، وإلا لما نشأ علم المعاني، ولما كان ثمة حاجة للتفسير، بما في ذلك تفاسير القرآن الكريم. بطبيعة الحال، هذه الإدعاءات موهومة إلى درجة تجعل من الصعب النظر إليها بجدية. 
النازيون ليسوا بخطورة كارثة هذا الرسم البياني الذي يتداوله الكثيرون. (هم خطرون، لكن انتشارهم محدود). بالتأكيد، مجهود صانع الرسم البياني مشكور، لكن المُستمع - القارئ، في هذه الحالة - عاقل. لا أعرف ما إذا كان عدد الكلمات الروسية مائة وثلاثين ألف كلمةٍ فحسب، إذ أنها تبدو قديمة، ولديها أدبٌ عريق، إلا أنني لستُ خبيرة في اللغة الروسية، ولا في الفرنسية.
غير أنني أعرف أنّه ليس في العربية اثنا عشر مليون كلمة. هذا الرقم مُبالغٌ فيه إلى درجة المهزلة. (ولو أنّه ليس أكبر رقمٍ، فهناك من يرى أنّه في العربية سبعة عشر مليون كلمة. من يزيد؟ من يزيد؟ عشرون مليون؟ واحد وعشرون مليون؟ خمسة وعشرون مليون؟ المزايد على اليمين. خمسة وعشرون مليون؟ من يزيد؟ من يزيد؟ أقولها مرة. أقولها الثانية. أقولها الثالثة. خمسة وعشرون مليون كلمة. مُبارك للسيد الذي يجلس على اليمين، ويختار أن يُزين رأسه بوعاء طبخٍ فخاري عربي أصيل موروثٍ عن الأجداد). 
البينة على من ادعى، ومن يظن أن اللغة العربية فيها اثنا عشر مليون كلمة، فإن عليه أن يسردها كلمة كلمة. وعندي استعدادٌ لأن أعد الكلمات وراءه. لماذا لا يُخصص أحدهم موقعاً على شبكة الإنترنت يسرد فيه كلماتِ اللغة العربية كاملة بما أننا في مزاجٍ احتفالي باللغة العربية؟ لماذا لا يسرد أحدهم هذه الكلمات كلها؟ بما أنهم عدوها، كلمة كلمة، ووجدوا أن عددها هو - بالضبط - اثنا عشر مليون وثلاثمائة وألفان وتسعمائة واثنتا عشرة كلمة. (ومن عجائب العربية أنها تبدأ باثني عشر وتنتهي باثني عشر ولو كان بدل التسعة سبعة، لتوسطها اثنا عشر أيضاً). لماذا لا تُكتب هذه الكلمات كلها؟ ونستفيد جميعاً. كتابة اثنا عشر مليون كلمة ونيف، مجرد كتابتها، سيرفع نسبة تواجد اللغة العربية على الإنترنت بشكلٍ مُعتبر. ولغة فيها اثنا عشر مليون كلمة تستحق ذلك.
بطبيعة الحال، هناك من يقول إنّه لا يُمكِن أن يزيد عدد الكلمات في العالم عن مليوني كلمة، وبعضهم يقولون إنّه لا يُمكِن أن يكون في أي لغةٍ في العالم أكثر من مليوني كلمة مهما كان. هناك من يرى الرقم أقل بكثير.
المعلومة المثيرة للاهتمام أن الرسم البياني الذي لدينا يقول إن في الإنكليزية ستمائة ألف كلمة، فيما موقع قواميس أكسفورد يقول إن في الإنكليزية مائة وواحداً وسبعين ألف كلمة متداولة، وخمسة وأربعين ألف كلمة خرجت من الاستخدام، أي أن المجموع الكُلي ليس إلا ثُلث الرقم الذي مُنِح لها في هذا الرسم البياني.
وفي النهاية، ما دُمتَ متحمساً بهذا الشكل للغة العربية، لِمَ لا تقوم بعملٍ مفيد لها، ليس الحديث مثل غوبلز، أو إلقاء الأرقام جُزافاً: لِمَ لا تكتب في ويكيبيديا العربية؟ أو تصنع موقعاً تجمع فيه كل كلمات اللغة العربية ومعانيها لفائدة العموم؟ أو تصنع قاموس مترادفاتٍ؟ أو قاموس قوافي؟ أو تكتب كتاباً في تبسيط قواعد النحو؟ أو تصنع فيديو يُعلِم الناس قواعد العربية بسهولة؟ أو تترجم مصطلحات علم النفس الحديث؟ أو مصطلحات الفيزياء الفضائية؟ أو توفر الكتب العربية الكلاسيكية على شبكة الإنترنت في هيئة نصوصٍ رقمية حُرة؟ أو تصنع قارئ كتب عربية إلكترونية؟ أو صانع كتب عربية إلكترونية؟ ولم لا تصنع ملحقات عربية لبرامج مثل كِندل وآي.بوكس وغيرها؟ ولِمَ .........


* الخرط: المُبالغة الشديدة في العديد من لهجات اليمن، واسم الفاعل منها خراط.

30 نوفمبر 2013

راديو هند: وايتواشنغ


في الحلقة الأولى من الموسم الثالث لراديو هند، "وايتواشنغ"، حديثٌ عن المفهوم المُعاصر لتحويل البياض العرقي إلى اللون الافتراضي للبشرية بشكلٍ يستبعد كُل ما سواه، وكل ما عداه. ثمة حديثٌ عن المواجهة المركزية بين الغرب والشرق، والميمات الثقافية التي تُشكل محوراً تتكون حوله الهوية الغربية. كذلك، ثمة حديثٌ عن العنصرية، الفنون السوداء، والجذور الإغريقية للحضارة العربية.

09 نوفمبر 2013

ولدنا لنموت

يا قدمي، لا تخذليني الآن.
خذيني إلى خطِ النهاية.
قلبي ينفطر في كل خطوةٍ
                       أمشيها
غير أن أملي أنّه
 - عند البوابات -
سيقولون إنّك لي.

ماشية في شوارع المدينة،
ليس لي علمٌ، ما إذا كان عفواً أم عمداً
         أن أشعر بالوحدة في ليالي الجمعة.
هل يُمكِنك أن تؤنسني لو أخبرتك أنّك لي؟
كما قُلت لك يا حُبي،
لا تُحزِّنّي، ولا تُبكني.
فالحب لا يكفي أحياناً، والطريق يصعب،
ولا أعرف لِم!
          (واصل اضحاكي. دعنّا ننتشِ،
         فالطريق طويل، ونحن نواصل،
         نحاول أن نسعد قليلاً.)

تعال وتمش في الجانب الموحش،
دعني أقبلك بشدّة والمطر ينهمر،
فأنت تحب فتياتك مجنونات.
اختر كلماتك الأخيرة، 
هذه المرة الأخيرة،
فأنا وأنت مولودان لنموت.

ضائعة، غير أنّي عرفتُ الطريق.
مُبصرةً، غير أنّي كُنت عمياء.
كُنت مشوشة وأنا صغيرة،
أحاول أخذ ما يمكنني الحصول عليه،
مرعوبة لأنني لم أحصل على كُل الأجوبة.
              يا حبي،
             لا تُحزِّني، ولا تُبكني.
              فالحب لا يكفي أحياناً، والطريق يصعُب.

- لانا دِل ري

05 نوفمبر 2013

ندامة الكاتب

قديماً، اقتُرِحَ علّي أن أضع قائمة بمائة فيلم وفيلم قد تَحسُن مُشاهدتها، لفائدة من يُحِب مُشاهدة الأفلام من قُراء هذه المدونة. وقد خطر لي أن أجمع في القائمة الأفلام ذات الموضوع الواحد تحت تبويبات فرعية، وكان الموضوع الأول -  والوحيد - فيها عن فيلمي المريض الإنكليزي (١٩٩٦) والكفارة (٢٠٠٧). الصِلةُ بين الفيلمين كانت في موضوعهما الذي يدور في حقبة الحرب العالمية الثانية، وموضوعهما ليس الاقتتال، بل الحُب الذي تجعله الحرب مُستحيلاً.
غير أنّه قد خطر لي أن فيلم الكفارة يتشابه في موضوعه مع فيلم آخر: أغرب من الخيال (٢٠٠٦). فيلم أغرب من الخيال فيلم أمريكي صغير كتب السيناريو له زاك هِلم وأخرجه مارك فورستر. قصة الفيلم تتحدث عن موظف في مصلحة الضرائب الأمريكية يُسمى هارولد كريك، حياته دقيقة كالساعة، تمضي بلا توقعات أو مفاجآت حتى يسمع ذات يومٍ صوت راوية تروي أفعاله وأفكاره بصيغة الغائب. يعرف هارولد أنّه لا يُعاني من الضلالات والأوهام، فيبحث عن أستاذٍ في الأدب ليُساعده، ويعثر على د. جولز هيلبرت. في البداية، يصرف هيلبرت كريك لأنّه يعتقد أن مشكلته مُخترعة، كما أنّه يُلاحِظ أنّ كريك مُصابٌ بوسواسٍ قهري يُجبره على عد الدرج ومربعات البلاط والخطوات وغيرها من أمور.
يقول هارولد كريك إنّه خائف لأن الصوت في رأسه قال: "ولم يكن يعرف أن موته كان وشيكاً." مما أثار اهتمام جولز هيلبرت الذي قد درس فصولاً عن هذه العبارة في الأدب، وكتب عنها عدة أوراقٍ بحثية. في الوقت نفسه تظهر شخصية الروائية غريبة الأطوار كارِن آيفل التي تحاول كتابة رواية منذ عشر سنوات، وتخلف مواعيدها لدار النشر فتُرسل مُساعدة لحثها على الكتابة. كذلك، يتعرف هارولد كريك على أنّا باسكال، مالكة مخبز حلويات تتمرد على دفع الضرائب التي تعتقد أنها تُستخدم في تمويل الحروب، وتكتب رسالة لمصلحة الضرائب تبدأها بقولها: "عزيزي الخنزير الإمبريالي".
بعد محاولات عديدة لاستكشاف طبيعة القصة التي يجد هارولد كريك نفسه فيها - التي قد تروق للمهتمين بكتابة الأدب - يتوصل إلى رقم هاتف كارِن آيفل التي تكتب قصته، ويُناشدها ألا تقتله. في ذلك الوقت، تكون قد توصلت إلى الطريقة المُلائمة لقتله، وتدون الملاحظات على مظروف - فيما لا تتحقق الأحداث التي تكتبها إلا حين تكتبها على الآلة الكاتبة.
يقرأ الأستاذ جولز هيلبرت الرواية ويجدها تُحفة، وعيناً من عيون الأدب الإنكليزي، ويطلب منها أن تُعطي هارولد الخيار. هارولد، موظف الضرائب المهووس الذي تمضي حياته منتظمة كالساعة ولا شأن له بالأدب يجد الرواية جيدة، ويطلب منها أن تنهي الرواية على الآلة الكاتبة، وتقتله.
يُمكِن أن تُقال عن الفيلم أشياء كثيرة - بما في ذلك نقدٌ شديد اللهجة لشخصية manic pixie dream girl التي تؤديها ماغي جلينيهال، وانتقادٌ للتكُلف في الفيلم، حيث أسماء كل الشخصيات هي أسماء لعلماء ومهندسين، وأسئلة هيلبرت الثلاثة والعشرين مُحاكاة لمسائل هيلبرت الثلاث والعشرين في الرياضيات - غير أنّه، في أحد وجوهه، فيلم عن ندامة الكاتب. كارِن آيفل تدخل في نوبة ندمٍ عنيفة بعد مقابلة هارولد كريك، لأنها مُعتادة على قتل شخصياتها، وتأخذ في التفكير فيهم من جديد، وتفكر في حياتهم خارج النص التي قد تكون سلبتها منهم.
غير أن الخُلاصة الأهم لمقابلتها مع هارولد كريك قرارها تغيير الرواية. جولز هيلبرت، أستاذ الأدب الصارم، يُقرر أن الرواية لا بأس بها، لكنها ليست عيناً من عيون الأدب الإنكليزي كما كانت في نُسختها الأصلية، وتقول كارِن آيفل إن هذا جيد. لا بأس في أن تكتب رواية ليست عظيمة ولا بديعة. إن جزءاً من النضج الذي تمر به كارِن آيفل التسليم بأنّ كتابة رواية جيدة يكفي فحسب. وكارِن آيفل التي تُضحي بالمجد الأدبي والخلود لأجل حياة هارولد كريك، موظف الضرائب، ليست كارِن آيفل التي كانت تزور المستشفيات لتشاهد الناس يموتون ويتعذبون فتحظى بالإلهام للكتابة.
الكفارة فيلم مأخوذ عن رواية بالاسم نفسه كتبها إيون مكيوان، عن كاتبة أخرى، براوني تالِس، الطفلة الطفرة، التي تبدأ في الكتابة مُذ كانت في الثالثة عشرة، وتسيء تفسير العلاقة الغرامية بين شقيقتها الكُبرى سيسيليا وابن مُدبرة منزلهم روبي ترنر. براوني تتدخل تدخلاً عنيفاً ومأساوياً حين تتعرض قريبتها التي تماثلها عمراً للاغتصاب، فتشهد بأنها رأت المعتدي، وأنّه روبي ترنر. لا يُصدق أحدٌ روبي الذي لا يستطيع أن يُثبت وجوده في مكانٍ آخر وقت حدوث الجريمة، ولأن الضحية لم ترَ المُعتدي، فإن روبي يُسجن، ومن ثم يُرسل إلى الحرب رغم كونه الابن الوحيد لأمه.
سيسيليا تترك عائلتها، وتلتحق بالعمل ممرضة في لندن، في انتظار روبي الذي تؤمن ببراءته. براوني، في الثامنة عشرة، تُدرِك ما جنته. كما أنها تعرف المُعتدي الأصلي، وتعرف أنّه قد تزوج بالضحية الآن ولا يُمكِن مُحاكمته من جديد. في نهاية الفيلم، تظهر براوني تالِس عجوزاً، وتقول إنها على وشك أن تفقد ذاكرتها وناصية اللغة، لذلك فقد كتبت أخيراً الكتاب الذي أرادت أن تكتبه طوال حياتها، الكفارة.
بشكلٍ ما، فإن الكفارة تُحفة براوني تالِس الأدبية. لكن براوني تعزو تأخرها في كتابة الكتاب إلى كونها لا تستطيع تقبل حقيقة ما حدث: روبي ترنر مات في الحرب ولم يعد، وشقيقتها ماتت أثناء قصف لندن. ماتا في نفس العام، شابين يافعين تحطمت حياتهما بسبب وشاية من طفلةٍ مُرفهة. تقول براوني إن الحياة غير رحيمة، لذلك فقد أنعمت على الحبيبين تعيسي الحظ برحمةٍ نهائية في كتابها. لقد جعلتهما يعودان إلى بعضهما البعض، ويعيشان معاً، بل وتواجههما، وتعترف لهما بالفاعل الحقيقي، وتسمح لروبي ترنر بمواجهتها بحقيقة ما فعلته، وبأن يقول لها إن بوسعها التفريق بين الخطأ والصواب في الثالثة عشرة.
كفارة براوني تالِس منقوصة، فهي لا تأتي من اعترافٍ بالذنب - وبالتالي، التكفير عنه - بل من محاولة فرض نفس المنظور المُرفه الذي تفرضه على من هم حولها مُذ كانت في الثالثة عشرة. براوني تالِس تتخيل أن الكتابة تُعطيها حقاً إلهياً، وتعفيها عن مواجهة الحقيقة، الأشياء كما حدثت، وذنبها الكبير فيما حدث. هي تعترف بأنها غيرت الأحداث، وأن أختها وحبيبها قد ماتا شابين ولم يجتمعا مُجدداً، لكنها - في الوقت نفسه - ترى في فعلها الأخير، كتابة رواية تجمع فيها شملهما من جديد فِعل رحمة من قبلها. إنها هي، المتسببة في هذه المأساة بسبب الجهل والغرور والعناد، ما زالت تملك، على حافة الموت الدماغي، الغرور الكافي لتُغطي على ذنبها بما تعتقد أنّه فعل رحمة. لتعتقد أنها تتفضل على سيسيليا وروبي بمكانٍ مُتخيل حُرما منه في الحقيقة. بشكلٍ ما، فإن رحلة براوني تالِس تعود بها إلى نُقطة البداية: شخصية تنطلق من حِسٍ كبير بالتسلط والرفاهية، واعتقادٍ عميق بأن قُدرتها على الكتابة يُعطيها سيطرة مُطلقة على حياةِ الآخرين. إنها، من جديد، تستخدم سيسيليا وروبي لراحتها الشخصية. لراحتها من التشوش في سن المُراهقة، ولراحة ضميرها في الشيخوخة.

16 أكتوبر 2013

الموتى غير الهادئين


مسلسل دكتور هو مسلسل خيالٍ علمي وفانتازيا شهير في بريطانيا، بل إنّه من علاماتها الثقافية مثله مثل شِرلُك هولمز وجيمس بوند. يُشبه المُسلسل مسلسل منطقة الشفق الأمريكي، إذ يعتمد على مجموعة من القصص الغرائبية المنفصلة في كُل سلسلة. الفرق بين العملين أن منطقة الشفق يعتمد على قصصٍ لا يربط بينها إلا أنها عجيبة أو مُرعبة، بينما يعتمد دكتور هو على شخصية محورية تخوض كل المغامرات، هي شخصية الدكتور، الفضائي صاحب القلبين، الذي يملك القدرة على التنقل في الزمن، ويُسافر بلا توقف بحثاً عن المغامرات. منطقة الشفق يعرض تفاصيل القصة بالكامل، ويُعلِق عليها بصوت الراوي المحايد، ويترك مساحة للجمهور ليتأمل فيها - الجمهور الذي يكون غالباً مفزوعاً. في المقابل، فإن الجمهور يتعلق بالدكتور في دكتور هو، ويخوض معه مغامرة مليئة بالتشويق - والرعب الخالص في كثير من الأحيان. (وانعكاس الأدوار بين الأمريكان والبريطانيين طريف.)
مع ذلك، لا يخلو دكتور هو من عرض إشكالياتٍ علمية وفلسفية وأخلاقية، والكثير من مغامراته تبعث على التفكُر. في واحدة من حلقات السلسلة الأولى في البعث الجديد لمسلسل دكتور هو البريطاني - من بطولة كريستوفر إكلستُن - أفضل تجسد للدكتور في رأيي - يُسافر الدكتور مع رفيقته روز تايلر إلى كارديف ١٨٦٩ حيث يستيقظ الموتى. وفي كارديف التي يستيقظ فيها الموتى، تستعرض الحلقة طيفاً واسعاً من الأخلاقيات البشرية، والأخلاقيات الفضائية. واضعة خمس شخصياتٍ متعارضة في مواجهة مباشرة: الدكتور، الفضائي. روز، الأرضية القادمة من القرن الحادي والعشرين. تشارلز ديكنز، اشتراكي القرن التاسع عشر. غوينيث، الخادمة اليتيمة التي تستطيع مُخاطبة الأشباح وتريد الذهاب إلى الجنة مع والديها. والحانوتي الجبان الذي يُمثِل أخلاقيات رب العمل الفكتوري التقليدي.
في بداية الحلقة، يظهر شابٌ مُلتاع يقف عند تابوت جدته مع الحانوتي. يطلب الشاب دقيقة بمفرده مع التابوت، فيخرج الحانوتي. تصحو الجدة وتأخذ في خنق حفيدها، فيعود الحانوتي، ويُعلِق بأن "الأمر يحدث من جديد". تهرب الميتة، ويذهب الحانوتي مع خادمته للبحث عنها. من الحوار بين الحانوتي والخادمة، يتضح أن هذا قد حدث من قبل، واستيقظ الموتى وهربوا. (الحانوتي يدعوهم the stiffs "اليوابس".)
مهمة الحانوتي وخادمته تنقسم إلى جزئين: البحث عن الميتة الهاربة - بعد أن حُنِطَت، وكِتمان الأمر عن سُكان كارديف حتى لا تشيع الفضيحة. خوف الحانوتي من الفضيحة يستحوذ عليه حتى يعطل حواسه البشرية، فلا يعود قادراً على إدراك أنّ هروب الجُثث مسألة خارقة للطبيعة، وتهدم نظام العالم بأكمله. الخوف المرضي من الفضيحة يختلط بجنون الاضطهاد، فهو يعتقد أن هروب الجثث لا تبعات له غير تشويه سمعته بين جيرانه وأهالي كارديف، بوصفه الحانوتي العاجز الذي تهرب "يوابسه" من دون أن يستطيع ضبطها. ويتصور الحانوتي أن الأمور لن تسوء طالما بإمكانه استعادة الجثث الهاربة وكتم الأمر عن الجيران.
بطبيعة الحال، لا يُمكِن كِتمان هروب الجثث وقتاً طويلاً. الجدة الهاربة تذهب إلى المسرح لتستمع إلى الرجل العبقري القادم من لندن - يتضح أنّه تشارلز ديكنز - وتُحدِث هُناك (فضيحة) بسبب الأشباح الزرقاء التي تخرج منها. يقفز الدكتور ورفيقته إلى الأحداث، وينضم تشارلز ديكنز إليهم، فتصير الفضيحة مضمونة للحانوتي. حينئذٍ، يستسلم فحسب. يُسلِم بالأمر في سكينة ودِعة، كشخصٍ أصابته مُصيبة لا راد لها. فيجلس، ويُحني رأسه كأنّه خروف على وشك أن يُذبح، ويعترف بأن سُمعة البيت سيئة، لذلك اشتراه بسعرٍ رخيص، وهو يتصور أن اعتقاد الناس بأن البيت مسكون بالأشباح يُناسب مهنة الحانوتي، ويصنع دعاية طيبة لعمله.
تشارلز ديكنز يرفض الحديث عن الأشباح، لأنه رجلٌ عقلاني - اشتراكي، كما تُلمِح الحلقة - ويرفض وجود تفسيرٍ خُرافي للمظالم والأمراض الاجتماعية التي قضى عُمره في الكتابة عنها ومحاربتها. مع ذلك، فإنّه يبقى مع الدكتور ورفيقته - روز - بسبب الفضول، ولأن الدكتور مُعجب به، يُكثر من المديح له والإطراء. كذلك، فإنّه يرغب في كشف الخُدعة المُتقنة التي كان مُتيقناً من أن الخادمة والحانوتي يُمارسانها، وبشكلٍ ما، يُساعدهما فيها الدكتور وروز.
الخادمة تملك القُدرة على التخاطب مع الأرواح، وقراءة الأفكار، والدكتور يطلب منها أن تكون وسيطاً بينه وبين الأرواح التي تسكن الموتى. بطبيعة الحال، فإن الدكتور لا يعتقد أنها أرواح أو أشباح، بل يتعرف عليها على أنها مخلوقات غازية متطورة، لكنّه بحاجة إلى وسيط يتحدث معها، والخادمة تتحدث معهم.
يتضح أن الأرواح كائنات هاربة من حربٍ كونية - هناك دائماً حربٌ كونية في حلقات دكتور هو ، لكن الحرب التي هربت منها هذه المخلوقات هي حربُ الزمن العظيمة التي أثرت على كُل الكائنات "العُليا" في الكون، وأفنّت التايم.لوردز (سادة الزمن)، شعب الدكتور - وفي حالة ضعفٍ شديدة تجعلها على وشك الفناء. تقول الكائنات إنها بحاجة إلى الجثث البشرية بوصفها وسيطاً تحيا فيه، وإلا ستفنى.
هُنا يظهر الفرق بين الدكتور وبين روز وتشارلز ديكنز - الذي يرفض الفكرة برُمتها ويغادر المنزل في غضب - فالدكتور يتقبل أن تتخذ الكائنات الغريبة من الجثث البشرية سكناً لها للحفاظ على بقائها، فيما ترفض روز - البشرية - ذلك رفضاً قاطعاً، من باب (الاحترام) للموتى. الدكتور يرى إن البشر قد ماتوا وانتهى الأمر، فلِمَ لا تُستخدم الجُثث التي يُخلفونها في الحفاظ على حيواتٍ أخرى؟ وهو يرى أن ذلك لا يختلف عن التبرع بالأعضاء في شيء، فالمتوفي يتبرع بأعضاء جسده السليمة للحفاظ على حيوات بشرٍ آخرين، والمبدأ نفسه ينطبق على التبرع بالجثث للحفاظ على حيوات هذه الكائنات القادمة من مجرة أخرى. بطبيعة الحال، تعريف الحياة عند الدكتور أوسع بكثير من تعريف الحياة المُتعارف عليه عند البشر، ويقصر الحق في الحياة على البشر دون غيرهم من الكائنات الأخرى.
في الخيال العلمي، ثمة مجازات مُتعارفٌ عليها، منها السايبورغات والمخلوقات الفضائية، وكلاهما يرمزان لـ(الآخر) و(المُختلف) في المُجتمع البشري. تاريخياً، لم يكُن حق الحياة مكفولاً إلا لأعراقٍ بشرية بعينها - ولا يزال حتى الآن غير مكفولٍ لكُل الأعراق البشرية - والدكتور هُنا يُسائل هذا الافتراض الأساسي في الخيال العلمي برُمته: لماذا البشري مُقدم دوماً على الفضائي؟ ولماذا البشري الميت أهم من الفضائي الحي؟
غير أن المسألة ليست فقط في أن البشر قردة غير متطورة - كما يصفهم الدكتور حين يتوتر ويأخذ في صب الإهانات العرقية عليهم - لا يُمكنها إدراك المنظور الأخلاقي الواسع للدكتور - الكائن الأعلى. فالجثث البشرية التي تتلبسها الكائنات الغازية العاقلة لا تزال مُحتفظة بأفكار وآمال ومخاوف وطموحات صاحبها البشري. وحين تدخل الكائنات الغازية في الجثث، فإنها تمارس آخر ما كان البشري يفكر فيه قبل موته. تحاول إنجاز أعماله المُعلقة، بغير إدراكٍ شامل، وبغير إرادة. إنها تستمر في الحركة ببواقي الرغبات والمخاوف البشرية التي كانت لصاحبها. بعبارة أخرى، البشر غير قابلين لإعادة التدوير بشكلٍ كامل. يُمكِن الاستفادة من بعض الأعضاء البشرية، غير أن الموتى البشريين لا يصلحون لأن يكونوا مزرعة تربية كائنات غازية هاربة من حرب الزمن العظيمة.
  الأمر الآخر المُتعلق بأخلاقيات الدكتور أنّها تنطوي على تناقض مركزي: الدكتور مُسالِم ومُعادٍ للحرب، ويجول في الكون بأكمله بغير سلاحٍ سوى مِفكٍ صوتي يفتح به الأبواب ويفحص به الأشياء الغريبة، وورقةٍ تُخبر من يطلع عليها بأن الدكتور شخصية يحق لها التواجد في المكان أو الحصول على المعلومات التي يُريدها. ليس لدى الدكتور جيوش، ولا أسلحةٌ تؤذي وتقتُل. كما أن الدكتور مُهتم بكُل أنواع الحياة، ويُريد أن يُنقِذ كُل المخلوقات، مُعتقداً بأن لها الحق في الحياة والنجاة.
في الوقت نفسه، فإن لدى الدكتور أسراراً مُظلمة يُلَمَح بها باستمرار: الدكتور هو قاتِل بني جنسه - كما وصفه الشيطان ذاته في الجزء الثاني من السلسلة، مع الدكتور العاشر، ديفد تنانت. كما أنّه قاتل الدالِك - عرقٌ مُحارب استولِد خصيصاً من أجل قتال قوم الدكتور. وحين يعثر البشر على مُحارِب دالِك ناجٍ من المذبحة، بالصُدفة، فإن حِقد الدكتور الدفين يظهر كُله دفعة واحدة بشكلٍ مُخيف - أداء ليس له مثيل في السلسلة من كريستوفر إكلستُن. الدكتور يحب البشر - لأنهم يُشبهون قومه - وفي الوقت نفسه فإنّه يحتقرهم بشدة، ومن وقتٍ لآخر، فإنّه يُهينهم بشدة إهاناتٍ عرقية. (بالذات عندما يتوتر حيال مصير بني جنسه، الذين تسبب في فنائهم.) ومع أنّه يُدافع عن البشر في وجه بني جنسه الذين يقررون إزالة الأرض من مكانها، واستعادة كوكبهم المفقود، غاليفري، في مكانها، فإنّه يُدافع عن حقِ البشر في الوجود بسلام، حتى مع كونهم كائناتٍ غير متطورة. (وهذا قرارٌ عجيب، بالنظر إلى أن البشر مُستقبلاً سيتسببون في فظائع لا حصر لها.)
بالإضافة إلى ذلك، فإنّه، حين يطول بقاء الدكتور العاشر، تأخذ أعراض "مُتلازمة الإله" في الظهور عليه، فهو يكره أن يموت بسبب رجلٍ تافه لا شأن له مثل ويلفريد العجوز، كما أنّه يُقرر إنقاذ شخصية مشهورة من بني البشر كان مُقرراً لها الموت في وقتٍ مُعين، وموتها نُقطة ثابتة في الزمن - مثل حرب الزمن العظيمة - لأنّه قد سئم من إنقاذ الأشخاص الذين لا شأن لهم، والذين لا يُهِم موتهم من نجاتهم أحداً غير أنفسهم وعدداً محدوداً ممن يُحبون. الدكتور هُنا يُناقِض نبوءته الخاصة: كُل أنواع الحياة مُهمة، ولا توجد حياةٌ أهم من حياة.
هذه المُعضلات الأخلاقية، وتناقضات الدكتور المركزية لا تُحل، بل تعود باستمرار. حين يتغير الدكتور، ويظهر له تجسدٌ جديد، فإنّه يأتي جديداً، راغباً في الحياة من جديد، ثم يأخذ في العودة تدريجياً إلى ميوله الظلامية. بل إن ثمة تجسداً ضائعاً للدكتور - يُعتقد أنّه الدكتور التاسع الحقيقي داخل الكانُن الهوفي - هو المُتسبب في مذبحة الزمن العظيمة. بالتأكيد، لا تنقص الدكتور - بكل تجسداته - المُبررات لأفعاله الشنيعة، غير أنّه يُراجِع نفسه باستمرار، ويحتفظ مع نفسه برفيقٍ دوماً ليردعه عن غيه إذا تمادى. (مع أن الجوانب المُظلمة في الدكتور تظهر حتى في وجود رفاقٍ له، كما حدّث للدكتور الحادي عشر مع مرافقيه آيمي بوند وروري ويليامز، حين حبسهم سيد الأحلام في عالمين مختلفين، وأعطى لآيمي الخيار لإنقاذهم في عالم، وتركهم يموتون في الآخر. الخُدعة كانت أنها لو اختارت العالم الخطأ، سيموتون فعلاً.)
في حالة "الموتى غير الهادئين"، حل الكاتب، مارك غاتِس، المُعضلة بتجنب مواجهة بين أخلاقيات الدكتور الفضائية (العُليا) وأخلاقيات روز البشرية (الدُنيا)، وجعل الكائنات الغازية تُكشر عن أنيابها، وتستولي على الجثث البشرية لعمل جيشٍ من الزومبي اللذين يهدفون إلى محو الحياة البشرية عن وجه الأرض. الحل النهائي لم يأتِ من الدكتور، أو روز، أو حتى تشارلز ديكنز - الذي عاد بسبب فضوله، وبسبب اكتشافه لطريقة يُمكِن بها تقليل قوة المخلوقات الغازية. الحل جاء من الخادمة، غوينيث، التي افتدت البشرية بحياتها، وأجلت الصدام بين هذه المُعضلات الأخلاقية لزمن.

02 سبتمبر 2013

العدالة الاجتماعية؟



يبدو، في بعض الأحيان، أن العدالة الاجتماعي مُصطلحٌ يستخدمه المصلحون الاجتماعيون عندما يرغبون في تجنب غضب السُلطات الذي قد يواجهونه إذا تحدثوا عن الإصلاح السياسي في نظامٍ ديكتاتوري. من الأسهل الدعوة إلى العدالة الاجتماعية، عِوِض الدعوة إلى العدالة السياسية، العدالة الطائفية والعرقية، أو العدالة الاقتصادية. حتى في نظامٍ ديموقراطي، فإن الحديث عن الظلم السياسي أو العرقي - أو كليهما - يُضايق العامة. الحديث عن الظلم الاجتماعي يحظى بقبول أكثر بكثير من أي نوعٍ آخر من أنواع الظلم الواقعة على الأفراد والجماعات. مصطلح العدالة الاجتماعية، كذلك، أسهل تسويقاً على أساسٍ ديني، فنظرياً، لا يُمكِن ادعاء أن هناك ديناً قد يدعو إلى مجتمع يسحق الفقراء والضعفاء بلا رحمة.
العدالة الاجتماعية، كذلك، مُصطلحٌ يُمكِن تسويقه للرأسماليين والاشتراكيين معاً، بل ويمكن حتى تسويقه للشيوعيين. المصطلح لا يُرهِب الرأسماليين باستخدام كلماتٍ مرعبة مثل "المساواة". وفقاً للتفسير الرأسمالي للعدالة الاجتماعية، فإن الكل يحتفظ بحصص النفوذ والثروة التي في حيازتهم، وما عليهم إلا إظهار العطف والرحمة بمن هم أقل منهم حظاً. في المقابل، يقبل الاشتراكيون العدالة الاجتماعية على أنها تسوية بينهم وبين بقية العالم الرأسمالي، ففي منظورهم، تتعلق العدالة الاجتماعية بخلق مجتمع متوازن يقل فيه عدد الناس الذين يقعون ضحايا لطبقتهم أو دخلهم أو لونهم أو عرقهم أو جنسهم.
مفارقة مصطلح العدالة الاجتماعية أنّه قابلٌ للتمدد - في بعض الأحيان - ليشمل العدالة السياسية والعرقية والطائفية والاقتصادية، بما أن المجتمع هو الناتج عن هذه الأنظمة - السياسية والاقتصادية والعرقية - وأي خللٍ في المجتمع ينجم عن الخلل فيها. مصطلح العدالة الاجتماعية يُمكِن - كذلك - أن يتقلص ليتحول إلى مجرد نوعٍ من الصدقة والإحسان الذي يتجنب الحديث عن الطغيان، المغالطات التاريخية، وخرافات التفوق. وفي هذه الحالة، فإن العدالة الاجتماعية تتحول إلى حبة مسكن، هدفها تهدئة الأوجاع التي تظهر في المجتمع باستخدام حلولٍ مؤقتة، لكنها لا تزيل مسببات الخلل الاجتماعي، وبسبب دورها المُهدئ، فإنها تسمح للاعتلالات التي تطرأ على المجتمع بالتمدد والانتشار.
كذلك، ينبغي ملاحظة أنّه لا يمكن تحقيق أي إصلاح سياسي أو اجتماعي من دون حِسٍ عميق بالعدالة الاجتماعية في مجتمعٍ بعينه، ومن دون أن تكون راسخة فيه. العدالة الاجتماعية والإصلاح كأنهما أُروبورس، في حالةٍ بناء ونقضٍ مستمرة، ولا يمكِن فصلهما عن بعضهما البعض.
في مسألة العدالة الاجتماعية، لا توجد أجوبة حاسمة وشاملة. المفهوم نفسه ذاتي، يُمكِن للناس أن يُفكروا بشأنه معاً، ويطرحوا أفكارهم حوله، ويتناقشوا فيها، من دون أن يقرروا إجابة واحدة حاسمة ونهائية. الطريق إلى العدالة الاجتماعية يبدأ بالتشكيك في كُل المسلمات المجتمعية والعرقية والاقتصادية والسياسية، إذ أن هذه المسلمات تنطوي في داخلها على ظلمٍ عميق.

29 يوليو 2013

راديو هند: مكبثة

في الحلقة الثالثة من الموسم الثاني من راديو هند، "مكبثة"، حديثٌ عن الرأسمالية في مسلسل فرصة أخيرة ٢٠١٣، وحديثٌ عن مسرحية مكبث على برودواي من بطولة آلان كمنغ، وحديثٌ عن اقتباس سابق من بطولة باترك ستيوارت. ثمة إشارة إلى اقتباس ريف فاينز لمسرحية كريولانس، وحديثٌ عن أهمية الكلاسيكيات.

10 يوليو 2013

راديو هند: وثيقة الحقوق

في الحلقة الثانية من الموسم الثاني من راديو هند، "وثيقة الحقوق"، حديثٌ عن تواريخ وثائق الحقوق الإنكليزية وعلاقتها بالديموقراطية والتصويت الشعبي، وتأكيدٌ على أهمية وجود وثيقة حقوق جامعة مانعة شاملة تضمن حقوق جميع المواطنين والمُقيمين في البلاد العربية. هذه الحلقة من الراديو على نفس خط تدوينة: "وثيقة الحقوق". 

26 يونيو 2013

راديو هند: سُقيا العفريت


في الحلقة الأولى من الموسم الثاني من راديو هند، "سُقيا العفريت"، حديثٌ عن فصل الصيف وشمسه وعفاريته. واستقصاء لفكرة العفريتات النساء اللائي يطلبن السُقيا. ثمة حديثٌ مُفصل عن النظام البطرياركي ووضع النساء فيه، وعروج على العفريتات اليابانيات، ثم تحليل للبنية الاجتماعية والاقتصادية لخطاب العفريتات طالبات السُقيا.

02 أبريل 2013

عزيزك لوسيفر

وصلني تعليقٌ من مجهول على تدوينة "ما وراء الطبيعة ١٠١" يقول:
"في انتظار تعليقك على حامل الضياء بجزئيها، حيث ان عزيزك لوسيفر قد انتهى امره"
أشكر صاحب التعليق على انتظاره لتعليقي، وعلى تعليقه الذي جعلني أكتب هذه التدوينة.
 ثمة مُشكلتان في هذا التعليق: ١- لوسيفر لم ينتهِ أمره، فهو قد رحل إلى جانب النجوم وقد أخذ معه مجندًا جديدًا ٢- لوسيفر لم يكن "عزيزي" في يومٍ من الأيام. صحيح أنني كتبتُ تدوينة عن "لوسيفر"، لكنها كانت تأملاً في العلاقة بين الشخصيتين، فرانتز لوسيفر ورفعت إسماعيل، قد شرحت الكيفية التي تهاوت بها شخصية لوسيفر عبر السلسلة، وانتهت بفقدان اهتمامي بالشخصية. إضافة إلى ذلك، فبعد "ما وراء الطبيعة ١٠١"، كان اهتمامي بالسلسلة قد تراجع.
لأجل هذا التعليق الطريف، بحثتُ عن جزئي، أسطورة حامل الضياء، وقد رجوت حقاً أن تكون شيئاً مثل أسطورة آخر الليل وأسطورة الجاثوم: حكاية جيدة، حبكة مثيرة، وشخصيات تجذب القارئ بغض النظر عن موقفه منها. بدلاً عن ذلك، كانت أسطورة حامل الضياء متوقعة، ومليئة بالفرص الضائعة.

حماية البيئة
الرواية كانت مزيجاً من الكليشيهات، وحماية البيئة، والأحكام القطعية. لنبدأ بالكليشيهات: هناك فتحات جحيمية تنفتح في السلسلة تخرج منها كائنات شيطانية، تجر شخصية ما، ثم تنغلق. هذا الحل الأمثل لكُل المشاكل التي يُمكِن أن تتعرض لها الشخصيات الشيطانية، في تقنية سردية مُعاكسة لتقنية الإله من الآلة deus ex machina في الحُقبة الكلاسيكية: الشيطان من الحُفرة daemon ex barathro. والشيطان من الحُفرة الحل الجاهز لكل مشاكل الحبكة التي تنشأ عن وجود جثث كثيرة، أو شياطين عابرة للعوالم.
وحل الشيطان من الحُفرة حلٌ يُراعي البيئة، ويُخفف عن موارد الأرض الحاجة للتعامل مع النفايات التي تنتج عن تواجد غولٍ مثل أليستر كراولي - الذي كان يستحق رواية مُستقلة، بوصفه الوجه المُعاصر لعبد الله الحظرد، لكنّه تحول إلى شبح ومن ثم إلى غول عادي. ولأن أليستر كراولي غول من (حُمران العيون)، فقد حظي بمسؤول خفي يحميه من دون أن يعرف القارئ من يكون، كما في الروايات الرخيصة الرائجة عن رجل الأعمال الفاسد الذي يطحن المواهب الشابة ويفترس الإناث، ويحميه مسؤول عميق في الدولة العميقة، ثم يتخلى عنه عندما تقتضي مصلحته ذلك. هذا كان دور أليستر كراولي: أن يأكل الناس، ثم تأكله ذئاب لوسيفر.
من علامات حُب البيئة القوية في الرواية أنها تُعيد تدوير مفاهيم سابقة، وحبكات سابقة، وأفكارٍ سابقة لتصنع منها رواية جديدة. وكما هو معلومٌ بالضرورة، فإن إعادة التدوير recycling مُفيد للبيئة. لذا، تجري إعادة تدوير حبكة الكتاب العابر للعصور من رواية العلامات الدامية. وتجري إعادة تدوير حبكة الغول من نادي الغيلان، وقصة الصبي الذي كان يخدم الوحش من مجموعة في جانب النجوم. كذلك، يجري استخدام كُل القصص التاريخية المُمكنة: جاك السفاح، ريا وسكينة، سالومي وهيرود ويوحنا المعمدان، ......... فلماذا تُفسد قصة واحدة إذا يُمكنك أن تُفسد أكثر؟
هنا، ثمة مسؤول واحد عن مذابح جاك السفاح، وعمّا فعلته ريا وسكينة، بل وهو من تسبب في ذبح يوحنا المعمدان: لوسيفر. إن تفسير اللحظات المُظلمة في التاريخ الإنساني بوجود شيطانٍ ما، أو كيانٍ ما تلبس الشخصيات، أو كان موجوداً حولها تبريرٌ عجيب للشر في العالم.

كيف تُفسد رواية
وإذن، فقد كان لوسيفر شخصياً مسؤولاً عن هذه الجرائم. لوسيفر يُحِب العمل مُنفرداً. لكن، لماذا يفعل هذا؟ هل يعود هذا لطبيعته الشيطانية؟ لا، بل لأنّه يلعب لعبة قط وفأر كونية مع رفعت إسماعيل وأجداده، وأجداد أجداده. فأجداد رفعت إسماعيل كانوا رجال شُرطة وكهنة.
ولأن لوسيفر شيطانٌ بخصال بشرية، فهو يُحِب المُماطلة للغاية، ويؤجل عمل اليوم إلى الغد، بل إلى بعد ألفي سنة، ويتذكر فجأة، عندما يصير رفعت شيخاً خرفاً على وشك الموت، أنّ هُناك كتاباً ضائعاً، وأنّه يبحث عنه مُنذ طفولة المسيح، وأنّه قد مرَت عليه أجيال تعقبها أجيال من ذُرية الراهب سمعان، من دون أن يتمكن من استخلاص الكتاب منهم. بل إن رفعت إسماعيل كان بين يديه عدة مرات، فاكتفى بعمل مقالب معه، ضاحكاً في النهاية: "عليك واحد!"
ومن ثم يمر رفعت إسماعيل بطور فُقدان ذاكرة، لئلا يجده لوسيفر، وأيضاً لأنّه كان سيموت ولم يعش حياته بوصفه بطل مُسلسل مكسيكي يُصاب بفقدان الذاكرة لخمسين حلقة. والمفروض أن هذه خُطة جيدة، إذ تُتيح للقاهرة أن تكون تحت الحصار، ولقريبة رفعت إسماعيل وابنتها أن تتعرضا لخطرٍ شديد، وتُتيح لأليستر كراولي التهام نصف النُخبة المُثقفة القاهرية، وتُتيح الخلاص من سام كولبي بالانتحار، وتحويل فتى فقير إلى شيطان، من دون أن يتحمل رفعت إسماعيل أي مسؤولية أخلاقية عن هذا الذي يحدث. وهذا مُتوقع، فالرواية تقول إن كُل شيء سيء يحدث بسبب لوسيفر.
وهكذا، ثمة أربعة خطوط متوازية: لوسيفر، كراولي، كولبي، والفتى الشيطاني. لكن الرواية تبدو فارغة، فلا شيء يحدث: على جبهة لوسيفر هناك صوتٌ مُستمر: "عاو!" على جبهة كراولي: "هم هم هم!" على جبهة كولبي: "إهئ! إهئ!" على جبهة الصبي: "صوت تقليب أوراق". هذا كُل ما يحدث في الخمسين حلقة التي يكون فيها رفعت إسماعيل فاقداً للذاكرة، قبل أن تعود إليه الذاكرة كما يحدث في كُل هذه المُسلسلات، فيذهب ليُنقذ قريبته ويبحث عن صديقه المُنتحر، ومن ثم يصل إلى العُقدة النهائية: تشبث بالكتاب! (الكتاب الذي سرقه سلفه الأكبر وتسبب في كُل هذه المُشكلات، ويجتذب الأفاعي والهوام والشؤم في كُل مكانٍ يحل فيه). 

يا للهول!
يُخيل لي دائماً أن ريف فاينز، المُمثل البريطاني، أصلح من يقوم بدور لوسيفر - لو قُيِض للسلسلة أن تتحول إلى إنتاجٍ عالمي - فلديه نبرات صوتٍ مُشابهة لوصف نبرات صوت لوسيفر، ويتصرف بطريقة: "شوفوني وأنا شرير وفرحان بنفسي إني شرير" التي يتصرف بها لوسيفر. غير أن تحول لوسيفر إلى لورد فولدمورت - كما أدّاه فاينز - لم يكن أمراً مُرحباً به. فهو ينشر غباراً أخضر حوله، ويقف قُرب البحر، وشكله مُوحٍ بالغموض والرهبة، ويُطلق (الديابة) على الناس كما يُطلق فولدمورت الحية على السحرة. 
المفروض أن هذه المقاطع تُشير إلى الحس الإسخاتولوجي للرواية، فقد اقتربت النهاية، واضطرب نظام العالم. لكن العالم بدا فارغاً فيها، كما أنّه من غير العملي أن يسمع لوسيفر/فولدمورت مُحادثات الناس وأفكارهم في مكانٍ مثل القاهرة، يسكنه نحو عشرين مليون نسمة، لا ينامون، ويتحركون باستمرار. الأمر المعقول أنّه سيصاب بالجنون، فالقاهرة - ومصر - ليست بريطانيا السحرية التي يُرعبها فولدمورت بُمجرد أن يلوح بالعصا.
رفعت إسماعيل، الذي لا يؤمن بتناسخ الأرواح، يؤمن بمفهوم خارج من سلسلة حِلف الحشاشين، ذاكرة الدم، أي أنّ ذاكرة أسلافه محفورة في جيناته، ولو كان لوسيفر أكثر عملية لكان وضعه في جهاز الأنيمُس، وحَل مُشكلته، وعثر على قطعة عدن، أعني، الكتاب الذي يبحث عنه.
وبعيداً عن المزاح، فإن الرواية تدخل في مفهوم: خطايا الآباء يرثها الأبناء، وهو مفهوم يُفترض برفعت إسماعيل الذي لا يكف عن الثرثرة حول التزامه الديني في الروايات السابقة، أن يرفضه جُملة وتفصيلاً، من باب أنّه لا تزر وازرة وِزر أخرى، كما في القرآن الكريم. مفهوم وراثة الدم، ووراثة الخطيئة، ووارثة الصراع مفهوم غير إسلامي. لا مُشكلة في هذا لولا أن السلسلة لديها ميزان العلم وميزان الدين وكُل ما لا يوافق عليه العلم هو ...... إلى آخر المقولات التي يجترها رفعت إسماعيل بغير فهم.
هذا شائك بما فيه الكفاية، لكن الحكاية تحلو أكثر وأكثر. المفروض أن سمعان الراهب كان ناسكاً من مرحلة تسبق مرحلة التنسك المسيحي. كيف كان شكل الترهبن في فلسطين قبل المسيحية؟ هل كان متأثرًا بالترهبن المصري؟ وكيف يُمكِن له أن يكون له ذرية وهو راهب؟ هل ترهبن بعد أن أنجب؟
ورُبما يكون قد ترك الرهبنة بعد أن سرق الكتاب، لكن سرقة الكتاب بحد ذاتها مشكلة: سمعان الراهب يسرق الكتاب لأنه يحمل قيمة كُبرى للوسيفر (يحوي وصفات للشر؟)، ويُفترض أنّه بسرقته للكتاب، فإنّه يحرم لوسيفر من وسيلة لإيقاع الأذى اللحظي - ولو أن هذا غير صحيح لأن رأس المعمدان كانت قد طارت، لكنّه يتسبب في أذى مُستمر على مدى ألفي سنة. 
غير أن هذه مواضيع لا يُحب الراهب سمعان، ولا يُحب رفعت إسماعيل شغل رأسيهما بها. المهم أن هناك كتاباً، وأن لوسيفر يبحث عنه، ويجب ألا يحصل عليه. ثمة سؤال ينشأ حول محتوى الكتاب، فهل هو ككتاب العزيف، كتابٌ مُستقل، يملك فاعلية في ذاته؟ أم أنّه مُجرد أداة يجب حرمان لوسيفر منها؟ وهل الكتاب أداة في ذاته أم في مضمونه؟ لقد حول مضمونه الولد إلى شيطان، وقد قرأه لوسيفر من قبل، فلماذا يحتاجه من جديد؟ هل هو بحاجة إلى أن (يُذاكر) قبل الامتحانات؟ ولو كان هذا الكتاب في غاية الأهمية بالنسبة لمكانته في جانب النجوم، فكيف صبر عليه سُكان جانب النجوم ألفي سنة؟ وتحملوا (منظرته) عليهم حين منعهم من أكل رفعت إسماعيل الذي يعرف مكان الكتاب؟ وهل كانت محاولة ابنه خرياسوس المدون الكتابة نوعًا من التعويض عن ضياع الكتاب من أبيه؟ الرواية لا تقول شيئًا مؤثرًا في السلسلة، وليست رواية عن الشخصيات بحيث تنتفي أهمية الحدث.

24 مارس 2013

راديو هند-١٠: كابيتالِزم غوود

في الحلقة العاشرة من راديو هند، "كابيتالِزم غوود"، حديثٌ عن ندوة حول الإرث الاستعماري في كوبا والبرازيل ودول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، ومفاهيم مثل المولاتو والهيدالغو، والتركيبة العرقية. وحديثٌ عن الرأسمالية والاشتراكية، وعن الاستعمار والمركنتلية والسوق المفتوح. وحديثٌ عن خُرافة النمو المُستمر الرأسمالية.

تحديث:
نسيتُ أن أذكر - في الحلقة - أن حكومة فرانسوا هولاند الاشتراكية الحكومة التي تدخلت عسكرياً في مالي، شارل ديغول-ستايل، مما يصبُ في نفس النُقطة المطروحة: لا يوجد يسار أو يمين في العالم، وإنما استعمار. هذه تدوينة نَيِرَة من الطعم المُر للأغاني حول الاستبداد والاستعمار واليمين واليسار الفرنسي خصوصاً، وفيها تأملات في الأفكار الاستبدادية والاستعمارية عموماً.

04 مارس 2013

راديو هند -٩: دق الجدار

في الحلقة التاسعة من راديو هند، "دق الجدار"، مواضيع مُتعددة يجمع بينها خيطٌ واحد: ندوة أكاديمية نيويورك للعلوم حول مُستقبل المياه في العالم، وأفكارٌ حول مُستقبل المياه في العالم العربي. مؤتمر جامعتنا حول الإنسانيات والتقنية، وأفكارٌ حول المواقع الجماعية. أحاديث حول المسألة الأفغانية وجمهوريات آسيا الوسطى والشعوب بلا أرض. ذِكرٌ لغولدمان ساكس، وحديثٌ عن السينما. والحديث عن المًصطلحات والمُفردات في الحوار.

24 فبراير 2013

راديو هند -٨: هُس هُس

الحلقة الثامنة من راديو هند، "هُس هُس"، تتحدث عن ألعاب الفيديو العنيفة، والعُنف السبراني، والعُنف الواقعي، وتوجيه الملامة إلى من لا علاقة له. تتحدث هذه الحلقة عمّا يُسمى بـ "بورنو الحرب" War Porn، وكانت ستتحدث عن أشياء أخرى، لكنها بُتِرَت.

18 فبراير 2013

راديو هند -٧: سايبورغ

تتحدث الحلقة السابعة من راديو هند، "سايبورغ"، عن الأنيمي الميكانو، أو الكارتون الياباني الذي يتعامل مع قصص الروبوتات والمخلوقات السايبورغية، وتُقدم بعض التعريفات للسايبورغ، وتعريفاً عاماً بنظرية السايبورغ. في الحلقة حديثٌ عن السايبورغ في الثقافة الأمريكية، وفكرة العرق والتخفي العرقي، والتوتر العرقي والثقافي والجندري في سرديات السايبورغ. وتحاول مُقاربة مكانة السايبورغ في الثقافة اليابانية. في الحلقة طلبٌ لآراء المُهتمين بالثقافة اليابانية، وهواة الأنيمي، والجافانز Ja-fans.

11 فبراير 2013

راديو هند - ٦: جثث

الحلقة السادسة من راديو هند، "جُثث"، تُكمِل الحديث عن كانُن ديزني، والعُنف الشديد الموجه ضد النساء الذي تُروِج له هذه الأفلام. كما تتحدث الحلقة عن موقف ديزني من الثورات، وعدائها الشديد لها. بالإضافة إلى ذلك، تتحدث الحلقة عن الدراسات ما بعد الكولونيالية، والدراسات النسوية، والنسوية البيضاء. كما تتحدث عن النماذج الجمالية التي تُعلي من المرأة المقتولة والميتة بوصفها موضوعاً جمالياً، وعن تأثير هذا العُنف الثقافي والجمالي على الحياة. وفي الحلقة حديث عن المُطالبة بحقوق متساوية لمصاصات الدماء الإناث مع زملائهن مصاصي الدماء الذكور.

03 فبراير 2013

راديو هند - ٥: جناية ديزني

الحلقة الخامسة من راديو هند، "جناية ديزني"، تتحدث عن أفلام عصر نهضة ديزني، والرسائل الخفية في فيلم "أحدب نوتردام"، والرسائل الظاهرة فيه. كما تتحدث عن الأسئلة التي تُثيرها في أذهان الفتيات الصغيرات.

28 يناير 2013

راديو هند - ٤: أين البرلمان؟

الحلقة الرابعة من راديو هند، "أين البرلمان؟"، تتحدث عن نهاية شهر يناير، ومؤامرة البارود في بريطانيا في الخامس من نوفمبر ١٦٠٥، والإخوة اليسوعيون - الجيزويت - وفيلم "في فور فنديتا"، وتفجير البرلمان البريطاني، والسبب الذي يجعل في نموذجاً للبطريارك المستنير، والوحش العاطفي المثقف.

20 يناير 2013

راديو هند - ٣: حلف الهلّاسين

الحلقة الثالثة من راديو هند "حلف الهلّاسين" تحتفي ببدء فصل الربيع الدراسي بالحديث عن سلسلة ألعاب الفيديو الشهيرة حلف الحشاشين Assassin's Creed. الحديث عن هذه الألعاب يقود إلى الحديث عن نظرية المؤامرة الكونية الهائلة، ومن الصراع الأبدي بين الحشاشين وفرسان الهيكل، يتفرع الحديث إلى فلسطين وإسرائيل، الاستعمار، الخوارج والقاعدة ضد الإخوان المسلمين، وهكذا. ويحضر ضيف الشرف، رودريغو بورجيا.

13 يناير 2013

راديو هند - ٢: لجام نار

الحلقة الثانية من راديو هند، "لجام نار"، تزامنت مع إعلان خبر وفاة آرون سوارتز، الناشط الإلكتروني المعروف، والمُساهِم في نشر ثقافة البرمجيات الحُرة وتحرير مصادر المعرفة من الاحتكار. وفاة سوارتز جاءت في خِضم الاستعداد لمُحاكمته بسبب اختراقه لقاعدة بيانات JSTOR ونشره الأوراق العلمية فيها. قاعدة بيانات JSTOR ليست قاعدة بياناتٍ تابعة لأي جهاز دولة في أي مكانٍ في العالم، ولا تحتوي على معلومات حساسة تُهدد الأمن القومي لأي أمة، ولا تُهدد أمن أي فردٍ في العالم وسلامته. ومع ذلك، فقد كان سوارتز ليواجه أحكاماً بالسجن تصل إلى خمسة وثلاثين عاماً، بسبب اختراقه لهذه القاعدة وتوفيره الأوراق البحثية فيها للعموم.

06 يناير 2013

راديو هند -١: بلد الكفار

كل عامٍ وأنتم بخير.

هذه الحلقة الأولى من راديو هند، وعنوانها "بلد الكفار". تتحدث الحلقة عن بيت لحم الأمريكية، وتأسيس أمريكا والعهد الاستعماري الجديد والمرح مع البرستبانيين وغير هذا من مواضيع قد يروق للمرء أن يسمع عنها بدل أن يقرأ عنها. آملُ في أن تروق الحلقة لكم، وآمل في قراءة آرائكم أو الاستماع لها.

تحياتي القلبية،
هند