26 سبتمبر 2009

المنامة المقلمة

ملصق فيلم الصبي في المنامة المقلمةفيلم الصبي في المنامة المقلمة The Boy in the Striped Pyjamas واحدٌ من الأفلام التي ظُلمت لأسباب غير فنية، إذ أن الفيلم يحظى بكل ما يُمكن أن يجعل منه فيلماً ناجحاً للغاية، ومحبوباً من النقاد والجمهور. مع ذلك، فلم يُرشح الفيلم لأي من الجوائز الكُبرى - الأوسكار، الغولدن غلوب، وجوائز نقابة الممثلين - ولم يحظ بأي مكافأة لتكامل عناصره الفنية - وشأنه في ذلك شأن فيلم الحب في زمن الكوليرا، وإن كان الصبي في المنامة المُقلمة أكثر إحكاماً من ناحية السيناريو - وفوق ذلك، فالفيلم واحدٌ من الأفلام التي اصطلح على تسميتها "أفلام المحرقة" مثله مثل أفلام: قائمة شندلر، والحياة حلوة، ومنذ فترة قريبة القارئ، وجميعها أفلامٌ تحظى بانتشارٍ واسع وقبول عامٍ بين النقاد. ومع أن فيلم الصبي في المنامة المقلمة يتفوق على فيلم القارئ كثيراً، إلا أن الأخير نال الكثير من الثناء النقدي وحصل على عددٍ كبيرٍ من الجوائز، منها جائزة أوسكار أفضل ممثلة لكيت وينسلت.
مع ذلك، فالأفلام الجيدة لا تصنعها الجوائز، وفيلم الصبي في المنامة المقلمة واحدٌ من الأفلام التي تدل على أن العصر الحالي للسينما عصرٌ زاهٍ قادرٌ على إنتاج أفلامٍ جميلة مشغولة بحرفيةٍ عالية، كما أنه فيلمٌ ذو قيمة إنسانية عالية. وإن كانت ثيمة (المحرقة) التي يدور حولها عاملاً يصد عنه النقاد، أولئك الذين يؤمنون بالمحرقة كأنها دين، وأولئك الذين ينكرون حدوثها على حدٍ سواء. والواقع أن لادعاءات كلا الطرفين أساس: فمن يُنكر المحرقة - أو يراها في أحسن الأحوال ذريعة يهودية لابتزاز العالم - سيرفض الفيلم كإضافة جديدة إلى تراث الابتزاز اليهودي عن طريق الأفلام، ومن يؤمن بها يراه عرضاً لمأساة أسرةٍ نازية "يُصادر المحرقة ويحولها إلى قصةٍ عن النازية وطفلها الجميل كالدمية" كما فعلت مانولا دارجِس، ناقدة الأفلام في جريدة "نيويورك تايمز".
الفيلم مأخوذ عن رواية جيمس بوين بالعنوان ذاته، وله العمق الذي يُميز الأفلام المأخوذة عن أعمالٍ أدبية. ويعمل فيه المخرج مارك هرمان - الذي كتب السيناريو أيضاً - على تقديم فيلمٍ مشدود الأطراف، مع الاحتفاظ بكاميرا مُحلقة تتبع طفلاً صغيراً كثير الحركة. يحكي الفيلم قصة صبي في الثامنة من عُمره يُسمى برونو، يحب الاستكشاف والمغامرة ويريد أن يُصبح مستكشفاً، أبوه ضابطٌ نازي عالي الرتبة، وأمه ربة بيت لطيفة، وشقيقته الكبرى فتاة عادية تحب الدُمى. تتغير حياة برونو وأسرته حينما ينال أبوه ترقية وتنتقل أسرته إلى منطقة ريفية معزولة حيث لا أصدقاء هُناك، بل جنودٌ نازيون مخيفون. من نافذته، يرى برونو مزرعة غريبة حيث المزارعون يرتدون (مناماتٍ مقلمة) ويُخبر أمه بذلك، ليتضح أن أباه انتقل ليُدير معسكر اعتقالٍ نازي وأن المزارعين ذوي المنامات المقلمة ليسوا إلا السجناء اليهود في المعسكر. لا يُخبر أحدٌ برونو بالحقيقة، بل يتركونه يعتقد أن المعسكر البعيد مزرعة فعلاً. غير أن الصبي كثير الحركة يتسلل لاستكشاف الغابة وما وراءها ليصل إلى أسوار المعسكر، حيث يقابل صبياً في مثل سنه يُسمى شمو. ومع الوقت، يُصبح برونو وشمو صديقين من خلال أسوار السياج، ويظل برونو يعتقد أن المنامات المقلمة والأرقام التي عليها لعبة يلعبها شمو ورفاقه في المعسكر.
غير أن حياة برونو تتعقد أكثر بمعاملة الملازم كوتلر - مرافق العائلة - للعامل اليهودي في المنزل، وبإصرار معلمه وأخته وأبيه على أن اليهود هم العدو. ويزداد الأمر سوءاً حين تكتشف أمه بالصدفة سر الرائحة الكريهة التي تنتشر في المكان، فتتسمم علاقاتها بأبيه. ثم يُصدم برونو في أبيه حينما يتغاضى أبوه عن قيام الملازم كوتلر بضرب العامل اليهودي حتى الموت. يتحول اندفاع برونو الطفولي إلى خوفٍ ممن حوله، وشعورٍ بالذنب لصداقته لشمو الذي يُفترض أن يكون عدوه. حتى يجد شمو في منزله مكان العامل السابق، فيقدم إليه بعض الحلوى ببراءة ويخبره عما تقوله أخته عن اليهود ويقوله المعلم. يدخل الملازم كوتلر ويتهم شمو بسرقة الطعام، فيدافع شمو عن نفسه بأن صديقه برونو أعطاه أياه. ويُنكر برونو الخائف أن يكون قد عرف شمو من قبل، ليسقط الطفل هو الآخر في مهلكة الإنكار والذنب.
يحاول برونو الاعتذار من شمو - الذي يتعرض لضربٍ مبرح يختفي على إثره فترة طويلة - ويعودان صديقين. ثم تقرر أم برونو أنها يجب أن تعود بطفليها من المعسكر قبل أن تخسرهما، فابنتها غريتل قد بدأت تتحول إلى نازية نموذجية، وابنها برونو محاصر بالذنب والإنكار. يذهب برونو لوداع شمو، لكنه يُقرر أن يُساعده في إيجاد والده أولاً ليعوضه عن إنكاره إياه من قبل، ويرفع عن نفسه شعوره بالذنب.
الفيلم مبني على التفاصيل الصغيرة في علاقة برونو بشمو، والشر الذي يدور في المكان الجميل والهادئ ينكشف تدريجياً من دون أن يُدركه الطفل الذي يُحب الاستكشاف، غير أن براءته لا تحميه من الشعور بالخوف والذنب. والأسرة النازية في الفيلم أسرة عادية ومحبة، لا يتميز أيٌ من أفرادها بأي شرٍ ظاهر. غير أن الأب يسقط في قبوله للممارسات النازية وتعطيله لضميره بدعوى أن هذا واجبه الوطني، ويسقط في سكوته عن قتل كوتلر للعامل اليهودي في بيته، ويسقط عندما يبلغ بكوتلر نفسه لأن كوتلر لم يشِ بأبيه المعارض للحزب النازي. ويأتي سقوط الأب الأكبر، حين يقتنع برونو - من مشاهدته لفيلمٍ عن المعسكرات النازية - أن المساجين مثل شمو ينعمون بحياةٍ جميلة تغريه باستكشافها.
رغم بساطة الفيلم الظاهرية، فإنه يدور على مستوياتٍ عديدة، وطبقاته كثيرة التعقيد. فالفيلم عن البراءة التي تعيش قرب الشر الذي يبتلعها في النهاية، والفيلم عن التوحش الإنساني الذي يبلغ مبلغاً يجعل الإنسان ينزع الإنسانية عن الآخرين ليعذبهم. لا توجد شخصية نازية أحادية البعد في الفيلم - باستثناء المعلم هر ليتس - ولعل ذلك ما أحنق النقاد اليهود، بينما الشخصيات اليهودية غائبة، أو أحادية البعد. فرولف - قمندان المعسكر - أبٌ وزوجٌ مُحب، وليس مجرد ضابطٍ نازي بلا روح. والملازم كوتلر النازي العدواني إنسانٌ بطريقته، فبسبب رفضه الوشاية بأبيه يُرسل إلى الجبهة، ورغم معاملته الكريهة لشمو فإنه يحب برونو - على طريقته. وإلسا - الأم - امرأة لطيفة ومُحبة، وأمٌ عظيمة. وغريتل التي تتحول من فتاة مُحبة للدمى إلى فتاة مخلصة للنازية ضحية للبروباغندا التي تشيع في البيت.
فيلم الصبي في المنامة المقلمة ليس عن المحرقة التي تقضي على اليهود فحسب، وإنما عن المحرقة التي تلتهم الأسرة النازية. فالصبي في المنامة المقلمة برونو كما هو شمو. (ما يُذكر بانتقال الأدوار في فيلم ابنة بولين الأخرى، ففي البداية تكون الأخرى ماري بولين، ثم تصبح آن بولين). والمحرقة آذت اليهود، لكنها سلبت روح ألمانيا أيضاً. والناتج، فيلمٌ يُقدم رؤية إنسانية للنازيين واليهود، ولألمانيا التي مزقتها المحرقة. كما أنه يُقدم رؤية للكيفية التي يبيع بها الإنسان روحه تدريجياً للشر بسبب ضعفه، والأكاذيب التي ينسجها لنفسه، أو ينسجها الآخرون حوله.
أداء الممثلين في الفيلم آسر، بحيث يصعُب أن ينأى المشاهد بنفسه عن الشخصيات، ويجد نفسه متعاطفاً معها إلى النهاية. كما أن الإخراج وتصوير بنوي ديلوم في غاية الجمال، حيث تصبح الكاميرا أداة للتعبير، فتحلق مع برونو حينما ينطلق ليستكشف العالم، وتدور معه مندهشة من عالم الكبار، وتخاف من الجنود معه. ثم تتحول إلى شاهدةٍ عليه حين يُنكر صديقه، وحين يتسلل ليشاهد كيف تُقدم النازية حياة الجنود. تواجه الكاميرا الأب في النهاية، وتتعاطف مع الأم. لكنها تنتهي شاهدة محايدة. أما موسيقى جيمس هورنر المصاحبة للفيلم فترافق الكاميرا منذ المشهد الأول لتحلق مع برونو في مقطوعاتٍ جميلةٍ متفردة تدخل في نسيج الفيلم، وتخدمه. الفيلمُ من إنتاجٍ بريطاني ساهمت فيه هيئة الإذاعة البريطانية BBC وشركة ميراماكس، وأنتجه ديفد هيمان، مُنتج سلسلة أفلام هاري بوتر الشهير.

الصبي في المنامة المقلمة (2008) - مارك هرمان (إخراج وسيناريو) - تمثيل: آسا بترفيلد (برونو)، جاك سكانلون (شمو)، فيرا فارميغا (الأم)، ديفد ثويلز (الأب)، آمبر بيتي (غريتل)، روبرت فريند (الملازم كوتلر) - ديفد هيمان (منتج) - بنوي ديلوم (تصوير) - جاك هورنر (موسيقى) - BBC وHeyday (إنتاج) - ميراماكس (توزيع)

شريط الصبي في المنامة المقلمة الصوتي - موسيقى: جاك هورنر - من موقع يوتيوب