25 يوليو 2011

قارعة

بالصدفة، وقع بين يدّي كتاب منير العكَش، حق التضحية بالآخر: أميركا والإبادات الجماعية (بيروت:2002)، فشرعتُ في قراءته، ووجدتُ محتواه مُرعباً، حتى أنني أجبرتُ نفسي على قراءة فصله الثالث: "من المتوحش؟" إجباراً. وقبل قراءته، كُنت قد فرغت من قراءة ترجمة لكتاب ويليام نوك: عالم جديد جريء (القاهرة: 2007). للوهلة الأولى، قد يبدو الكتابان عن موضوعين مُختلفين، لكنهما - بإمعان النظر - يعضدان بعضهما بعضاً لتقديم صورةٍ عن العقلية التي تحكُم بها الولايات المتحدة الأمريكية العالم. صدر كتاب نوك بالإنكليزية في 1996، أي قبل كتاب العَكَش، ليُقدم ما يُفترض أنه "خارطة طريق" للقرن الحادي والعشرين، فيما جاء كتاب العكَش لينظر في الماضي، ويُقدم "خطوطاً عريضة" لقرنٍ جديد كئيب. مصداقاً لما يذهب إليه العكَش في كتابه، يأتي فيلم في وادي إيلاه (2007) الذي يحكي قصةً مروعة عن جنودٍ أمريكيين عائدين من العراق.

من دون أي معلومةٍ سابقة عن ويليام نوك، يسهُل على من يقرأ كتابه - إذا كان له بعض الإطلاع على أحوال الولايات المتحدة الأمريكية -  أن يعرف أنه WASP، أي: أبيض، أنكلوسكسوني، بروتستانتي. هذه الطبقة البيضاء، البروتستانتية، الأنكلوسكسونية تحكُم الولايات المُتحدة منذ إنشائها حتى اليوم، وفي دولةٍ قائمة على مبدأ الحرية الفردية، فإن الـ WASP هم الدم الأزرق (sangre azul) الأمريكي. لهجة نوك تُفصح - من دون مواربة - عن خلفيته الفكرية والعرقية، ذلك أنّه يرى العالم كله "ملكاً" للولايات المتحدة الأمريكية، تتصرف في موارده ومصائر شعوبه كما يحلو لها، لأن أحداً لا يستطيع إيقاف ركب الحضارة. ويزدري جميع شعوب العالم وفقاً لهذا، فالنفط العربي - مثلاً - مادة خام استغلتها الولايات المتحدة لمصلحتها، ولم يستفد العرب منه شيئاً، الأمرُ الذي يعني - وفقاً لنوك - أنّه لا مكان لهم في العالم الجديد الذي يعتمد على مصادر بديلة للطاقة، أو على نفطٍ أرخص من النفط العربي. يقول نوك بصراحة إن هناك شعوباً كثيرة ستُعاني في القرن الحادي والعشرين، لكن هذا عرضٌ جانبي للحضارة لا يستحق أن يؤبه له، وفي مقابل هذه الشعوب "الخاسرة" فإن شعوباً أخرى (الولايات المتحدة) "رابحة" ستصير أغنى وأقوى.

محور كتاب منير العكَش ما فعله (الواسبس) بأمم أمريكا الأصلية بمبرر إدخال الحضارة إلى الأرض الجديدة، ورؤيتهم الإبادة العرقية التي تعرضت لها أمم أمريكا الأصلية  بوصفها "أضرار[اً] هامشية تواكب انتشار الحضارة وطريقة حياتها". وفي فصول كتابه السبعة، يعرض العكَش السياق الثقافي لنشأة "الحضارة" الأمريكية، وجذور العُصاب الديني الذي يُعاني منه الـ"واسبس" ويربط الولايات المتحدة الأمريكية بإسرائيل، ويوضح لِمَ سيأتي العملاق الأمريكي عاجلاً أم آجلاً لـ"يأكل" العرب. (نُشر الكِتاب قبل غزو العراق وما صاحبه من أعمال إبادة وتدمير لأسس المجتمع العراقي، غير أنّه تنبأ بحدوث الاحتلال، كما تنبأ بأن أمريكا ستشن مزيداً من الحملات على العالم العربي، وتوسع قواعدها وراء البحار).

كتاب العكَش مهم بسبب موضوعه: عقلية الولايات المتحدة الأمريكية، والطريقة التي تنظر بها إلى نفسها والعالم. ومهمٌ كذلك بسبب الوثائق الدالة على وحشية الواسبس تجاه أمم أمريكا الأصلية، وامتداد هذه الوحشية إلى القرن العشرين - والحادي والعشرين. ثمة زاوية ثالثة يُمكِن اعتبارُ الكتاب هاماً بالنظر إليها: لطالما ظهر (مفكرون) و(منظرون) و(مثقفون) و(محللون) و(سياسيون) و(فنانون) عرب على شاشاتِ الفضائيات المختلفة، وكتبوا في وسائل الإعلام المكتوبة المختلفة، دائرين في حلقةٍ واحدة: أمريكا تريدُ أن تعامل العرب وكأنهم "هنود حمر"، والعرب لم يكونوا - ولن يكونوا - هنوداً حمراً. الخطاب العربي بخصوص أمم أمريكا الأصلية - عموماً - ينحو منحى العنصرية. ويرى الهنود الحمر مستحقين لما جرى لهم، هذا إن كان يأبه بما حدث لهم من الأساس. لقد تشرّب العرب رؤية الدبابير (wasp تعني دبوراً - أو زنبوراً - باللغة الإنكليزية، ويتبنى العكَش وصف "الزنابير" للواسبس منذ الفصل الأول) لأمم أمريكا الأصلية، وأعادوا إنتاجها، فحتى أولئك الذين يرون أنفسهم منصفين بحق أمم أمريكا الأصلية، ورُبما متعاطفين معها، يفعلون ذلك بطريقة الدبابير، أي بتحويل أمم أمريكا الأصلية إلى "نكتة فلكلورية". ومن ذلك أن واحدةً من مغامرات ما وراء الطبيعة، أسطورة الطوطم (72)، تتحدّث عن أمة الأوجيبوا من أمم أمريكا الأصلية، وأسطورة الوِندِغو - بشكلٍ تسطيحي - تُختم بهذه العبارة: "أعتقد أن لعنة ( أوجيبوا ) ستتوقف عند هذا الحد ، بعد ما تجاوز انتقامهم من الرجل الأبيض الحدود ليفتك بالرجل الأسمر وقمحي البشرة .." (أسطورة الطوطم، ص 229).

هناك الكثير مما يُمكِن قوله عن هذه العبارة، وعن الرواية كُلها، غير أن الأهم مرور العبارة - والرواية - من دون أن تستثير في قراءها أي أسئلةٍ عن العنصرية المستترة فيها والظاهرة، وعن تقديم (الهندي الأحمر) فيها بوصفه (متوحشاً) ذا طبيعة انتقامية، تنال من الأبيض والأسمر وقمحي البشرة معاً: أي أن الأبيض والأسمر والقمحي في خانةٍ واحدة، وكلهم يطالهم انتقام هذا الوثني المتوحش. قراءةٌ أخرى للأمرِ ترى أن الرواية تعتبر الأوجيبوا مُحقين حين انتقموا من الجيش الأمريكي، لكنها تُحذر من انتقامهم الذي جاوز الحد. في الأمرِ تدليس: أمم أمريكا الأصلية لم تكُن منتقمة إلا في أفلام الكاوبوي، والمتوحش الحقيقي الذي "يتجاوز الحدود ليفتك بالرجل الأسمر وقمحي البشرة" هو الرجل الأبيض الذي فتك بالرجل الأحمر في البداية.

الأمرُ يعود إلى طبيعة النظرة العربية لأمم أمريكا الأصلية - وللفيتناميين والهنود وغيرهم من شعوب العالم - إذ أنهم غيرُ معنيين بإدانة عمليات الإبادة التي تعرضت لها هذه الشعوب على أساسٍ أخلاقي، ولما كان الأساس الأخلاقي مفقوداً في الضمير العربي، فإن الفكر العربي يبقى هامشياً، وغير ذي تأثيرٍ في العالم، كما أن القضايا العربية - على عدالتها - تلقى تهميشاً عالمياً، لأن العرب مشغولون بإنكار كونهم هنوداً حمراً عن إدانة أمريكا لما فعلته بالهنود الحمر، ولما فعلته بالفيتناميين، ولما فعلته بالعراقيين، وتدعم فعله بالفلسطينيين. كذلك، ينطوي الأمرُ على تمثل الضحية بالجلاد: الأسمر وقمحي البشرة يصطف صفاً واحداً مع الأبيض، مع أن الأبيض يحتقر العرق الأسمر والقمحي والأصفر.

وفي ذات السياق، فإن مُترجم كتاب عالم جديد جريء يأخذه كما هو، من دون أن يُضيف حواشي تُفنّد ما يقوله نوك، أو تُعلّق عليه. ومن دون أن يضع تعليقاً على الترجمة غير التعريف بأهمية الكتاب من حيث كونه "الأكثر مبيعاً". بينما المُترجم ليس ناقلاً فحسب، وإنما ناقداً ومُحللاً وشريكاً في العمل، وعليه تقع مسؤولية تقديم تقييم فكري للمادة التي يُترجمها، يُحاور كاتب النص الأصلي، ويُعلق عليه - من دون أن يُحرف كلامه.

لكن العكَش يخرج عن التصور العربي لأمم أمريكا الأصلية بوصفهم مجموعة من الخونة والجبناء الذين أزاحتهم أمريكا عن الوجود بحركةٍ من كفها الحضارية، ويُقدم صورةً للحضارات الأصلية لأمريكا، مقابل توحش الدبابير، ويروي طرفاً من القمع الثقافي الذي تمارسه حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ضد أمم أمريكا الأصلية، عن طريق "مكتب الشؤون الهندية"، ومجموعة من القوانين المختلفة، والتشويه الثقافي الذي تمارسه الآلة الإعلامية الأمريكية ضدهم. ولعل ذلك راجعٌ إلى مُعايشة العكَش لأفرادِ من أمم أمريكا الأصلية، وتعرفه على حياتهم عن كثب. في واحدٍ من كتب رحلاته، يتحدث محمود السعدني عن (هندي أحمر) التقاه فحدّثه عمّا لحق بأمم أمريكا الأصلية على يد البيض الذين جاءوا إلى الأرض الجديدة يحملون المسدس والإنجيل. وكما يتحدث العكش عن "المعنى الإسرائيلي لأمريكا"، يقول السعدني إن أمريكا تُحب إسرائيل لأنها تُذكرها بشبابها، وإن إسرائيل لا تزالُ تلميذة للولايات المتحدة الأمريكية، عاجزةً عن التفوق عليها، أو اللحاق بها.

تنكيل
في الرسوم المتحركة الأمريكية، خصوصاً القديمة منها، يظهر الهنود الحمر بوصفهم جماعاتٍ تغير فجأة على الأبطال الطامحين إلى العيش الكريم، ويُميز أفرادها بلهٌ شديد يجعل الأبطال ينتصرون عليهم بحيل ساذجة أحياناً، وبكثير من طلقات الرصاص أحياناً أخرى. وفي واحدٍ من هذه الأفلام الكارتونية - من إنتاج شركة وورنر بروذرز - تمتد السخرية من الهنود الحمر إلى تراثهم الحربي - الذي يعرضه العكَش بكثير من الاحترام - فيصور تبخترهم على صهوات الجياد كمن يركب أحصنة الملاهي، ويسخر من توقفهم عن الهجوم ومسارعتهم للتخفيف عن أحدهم، عندما يصاب بسهمٍ في مؤخرته - من شدة غبائه.

الشريرُ حقاً بخصوص هذا الفيلم الأمريكي - نموذجاً لأفلام أخرى على شاكلته - المفارقة التي ينطوي عليها، إذ يعترف بأن التقليد الحربي لأمم أمريكا الأصلية - الذي ينبني على استعراض الفروسية والمهارة أمام الخصم، لا إيقاع الأذى به مباشرة - ما أودى بها إلى الخراب. إذ ينشغلون بمداواةِ بعضهم بعضاً، وبالتبختر، بينما يفرغ فيهم اليانكي رصاص بندقيته، ويعيد تعميرها، ثم يطلق الرصاص عليهم من جديد، فيبيدهم، رغم كثرتهم، ورغم أنّه واحد - وجاهل جلف. يعترف الأبيض للأحمر بفروسيته، لكنه يعدها ضرباً من الحمق الذي لا يمكن علاجه. ويُقرُ صُناع الفيلم بأن المستوطنين كانوا رعاعاً أجلافاً، وأنّ جلافتهم ما قضى على الهنود الحمر.

تُبث برامج الكارتون باستمرارٍ في الولايات المتحدّة الأمريكية، وتُنقل إلى العالم العربي، مُنشئة وعياً جمعياً عالمياً يزدري أمم أمريكا تلقائياً. غير أن هذه الصورة النمطية لأمم أمريكا، بصيحاتهم وحماقاتهم وتبخترهم وهجومهم المفاجئ على البيض ما جعلني أهتم بالمسألة (الهندية الحمراء) منذ سنٍ مُبكر - حتى أنني كُنت أعتقد أن أسعد صور الحياة حياة الهنود الحمر، فمن ذا الذي يكره أن يتبختر على صهوة جواد ليلاً ونهاراً ويُغِير على البيض الأجلاف؟ ثم جاء فيلم ديزني - التي تفطّنت إلى أن المادة البدائية التي أنشأها صُناع أفلام الكارتون منذ بداية القرن العشرين تعمل في اتجاهين - ليُقدم صورة "رومانتيكية" لأسطورةٍ من أساطير البيض عن أمم أمريكا الأصلية، بوكاهونتاس (1995) الذي صاغت فيه ديزني (الإطار الفكري) لما يجب أن يكون عليه تصور العلاقة بين أمم أمريكا الأصلية، وبين المستوطنين الأوائل، منكلةً بأمم أمريكا الأصلية تنكيلاً أبشع مِما نكلته به الأعمالُ السابقة لها: الأعمال البدائية التي صورت الهنود الحمر بوصفهم كائنات حمراء غبية صارخة.

أعتقد أن فهم التنكيل الحضاري الذي تعرضت له أمم أمريكا الأصلية، ومقدماته وأعراضه وما ينبني عليه، والأساطير المؤسسة التي قامت عليها الولايات المُتحدة أمرٌ مهم، إذ أنّه يوفر سياقاً يُمكِن عن طريقه رؤية الطريقة التي تعملُ بها الإمبراطوريات، واختلافها بعضها عن بعض، ومصائر الشعوب التي تُقرر الإمبراطوريات سحقها. تجاهل الفكر العربي لمصائر الشعوب الأخرى تاريخياً، وعجزه عن إدانة ما جرى لها لأسبابٍ أخلاقية، يُنبئ بأن ويليام نوك - الذي قد يكون دبوراً متغطرساً - سيكون مُحقاً آخر الأمر، وستتعرض شعوبٌ جديدة للإزالة بوصفها ضرراً هامشياً من أضرار الحضارة، وحدثاً "يؤسف له".