25 ديسمبر 2008

النجمة

بطاقة النجمة، تاروت صيني
سينتهي عام 2008 قريباً، ونظراً لكون أملي في الدنيا طويلاً بما فيه الكفاية لأتطلع إلى 2009، فقد أزعجني أن أودع 2008 وأستقبل 2009 بـ(مداس) - أعزكم الله -، ولذلك قررت أن آخذ اختباراً جديداً من اختبارات الشبكة السريعة التي تُحدد ما إذا كنت من أهل المريخ أو أهل زُحل (وهي اختبارات جدية جرى تطويرها في مختبرات درب التبانة، وما أن يتم الانتهاء من أعمال إنشاء طريق النجوم السريع حتى يتم توزيع المواطنين على الكواكب بحسب نتائج اختباراتهم). هذه المرة، عثرت على اختبار طريفٍ يُحدد ورقة التاروت التي تُمثلك.
لا أدعي الخبرة بالتاروت، لكنه من المواضيع التي تثير اهتمامي لمادته الأدبية الخصبة، وقد كان التاروت بطل رواية إيتالو كالفينو الشهيرة قلعة المصائر المتقاطعة التي تُروى بكاملها عن طريق أوراق التاروت. كما أن كارل يونغ - عالم النفس الوحيد الذي أظنه عاقلاً - كان مُهتماً بقراءة أوراق التاروت وتحليل رموزها في الوعي الجمعي - والعهدة على من قال هذا الكلام وإن كُنت لا أذكر من يكون -.
على أية حالٍ، اتضح أن الورقة التي تمثلني ورقة النجمة، وقد تكون بشارتي للعام الجديد - لحسن الحظ أنها ليست ورقة الموت أو الرجل المشنوق أو ما شابه -، ولحسن الحظ، اتضح أن هذه الورقة ورقة مهذبة:
النجمة
الأمل، التوقع، والوعود المشرقة.
النجمة واحدة من أعظم أوراق الإيمان وتحقيق الأحلام.
تنظر ورقة النجمة إلى المستقبل، ولا تتنبأ بأي تغيير مباشر أو قوي، لكنها تتنبأ بالأمل والشفاء. تكشف هذه الورقة وضوح الرؤية والتبصر الروحي. وفوق ذلك، مساعدة غير متوقعة تأتي قريباً بماء يروي العطش ونورٍ يضيء الطريق إلى المستقبل. قد تُوصف بالحالم، لكنك لست الحالم الوحيد في الدُنيا.
أعتقد أنني سأبحث في المعجم عن التبصر الروحي لأنها تبدو عبارة مطاطة إلى درجة تقترب من كلام المجانين - هذا بافتراض أن بقية العبارات ليست كلام مجانين -. على أي حالٍ، تبدو بشارة الورقة ساكنة بما يكفي، فأنا لا أحب المفاجآت والتغييرات الدرامية. ويبدو أنها تحمل وعداً بالأمل والشفاء والنور (وهذا يعني - بإذن الله - النجاح في مادة (أنتم تعرفون من) والتخرج بسجل نظيف - يا رب -، والانطلاق إلى عالمٍ جديد شجاع).
لقد وجدت نجمتي، والآن حان الرحيل.
يا نجم الشمال!
لو كان لي ثباتك،
ليس في وحشتك معلقاً في الليل ترقب - بأهدابٍ أبدية الفرقة
ككاهن الطبيعة الصبور الذي لاينام - حركة الماء في مهمته الإلهية
غاسلاً بالطهر شواطئ الأرض البشرية.
أو محدقاً في القناع الثلجي الناعم يغطي الجبال والوديان.
ليس هذا، بل ثباتك، طبيعتك التي لا تتغير.

13 ديسمبر 2008

فسحة من طنين

سأنهض الآن وأذهب، وأذهب إلى إيْنِيْسْفِري
وأبني - هناك - كوخاً من قشٍ ومن طين،
وأزرع تسعة صفوفٍ من البازلاء، وأرعى قفير نحلٍ،
وأعيش وحيداً في فسحةٍ من طنين.


11 ديسمبر 2008

عناوين

تقول القاعدة القديمة إن العنوان يجب أن يكون: "مُعبراً، مُختصراً وجذاباً". لذا، تُشكل كتابة العناوين مُهمةً صعبة يرى البعض - ولستُ منهم - أنها أصعب من مُهمة الكتابة نفسها. قد تصير العناوين مواقف تنفصل عن النص أحياناً، أو تعليقاتٍ إضافية، أو نصوصاً مقابلة. قد يستغني البعض عن العناوين أو يستبدلونها بالنقاط وعلامات الترقيم، وقد تتحول العناوين إلى موضاتٍ غريبة، فهُناك عناوين تزيد طولاً عن النص ذاته، وأخرى تُسمي أشياء لا علاقة لها بالنص من قريبٍ أو بعيد، وفئة ثالثة تهيم بعيداً في تراكيب لغوية معقدة ومختلطة - تدخل أحياناً في باب كلام المجانين -. لا أتحدث هُنا عن الصرعات العجيبة في إضافة علاماتٍ لا معنى لها إلى العناوين، فهذه لا تُناسب ذوي الذوق المُحافظ مثلي ممن يعتقدون أن هذه التعديات على اللغة تدخل في باب (المسخرة) - والمعذرة على التعبير الشديد -.
المزاج عاملٌ مُهم في انتقاء العناوين - بالنسبة لي -، وغالباً ما يكون العامل المؤثر في اختيار عنوانٍ - أو سلسلة عناوين - وتفضيلها على عناوين أخرى. وبالنظر إلى المدونة، أجد أن أنماط العنونة عندي قد تغيرت بتغير المزاج والنظرة إلى الكتابة بشكلٍ عام. في مرحلةٍ ما، كانت عناوين مواضيعي مُضبوطةً بالشكلِ بالكامل - وضبط الكلمةِ بالشكل بكاملها دليلٌ للنطق، أما ضبط آخرها بالشكل فعلامة إعراب، وضبط أولها في بعض الحالات علامة صرف - كما أنها كانت طويلةً إلى حدٍ ما. رُبما كان هذا الضبط الكامل بالشكل مُحاولة لاستلهام شكل النصوص التُراثية العربية في مُحاولة للخروج عن موجة الاغتراب اللغوي الحالية.

(رأى البعض في الآونة الأخيرة أن حركات التشكيل العربية تصلح لتزيين النصوص، فملأوا عناوين مواضيعهم وما يكتبونه بكُل حركات التشكيل من دون اعتبار صحة الشكل، مُخرجين التشكيل من وظيفته الأساسية كضابط للنطق والإعراب والصرف إلى مُجرد إضافاتٍ للبهرجة لا معنى لها ولا داعٍ.)

تراجعت حالة التشكيل عندي إلى حدودٍ دنيا وفق ما تقتضيه الضرورة اللغوية، وقد يرجع ذلك إلى تأثير مبدأ الاقتصاد اللغوي الذي أعتنقه منذ زمن، أو لإدراكي أن محاولة استلهام النص التُراثي تُعطي إيحاء مزيفاً أحياناً، ورُبما لأن شكل العناوين لم يرُقني - ببساطة -.

كانت العناوين طويلة، ثم قررت أن عليها أن تقصر. رُبما يكون طول عناوين أسباب التوقف عن الكتابة واحداً من الأسباب التي جعلتني أتوقف عن نشرها لفترة، بعد أن أزعجني عرض قائمة عناوين التدوينات في شريط علامات فاير فوكس. والآن، بعد أن صارت قائمة العناوين رشيقة، لم تصبح أفضل، فشكلها أجرد أعجف.

أعتقد أنني سأستمر في استخدام العناوين القصيرة ما أمكن عملاً بمبدأ الاقتصاد اللغوي، لأن الاقتصاد يُصادف هوىً في نفسي، غير أن العناوين الطويلة - في غير ادعاء - قد تعود لتظهر، أما تلك المضبوطة بالشكل بكاملها، فلا أحسبها تعود.

07 ديسمبر 2008

حدث اغتيال


لم تعد هوليوود تُنتج أفلام الويسترن بالوتيرة التي اعتادت عليها في عهودٍ سابقة، فالساحة قد أُخليّت لأفلام الفانتازيا والمُغامرة. لا يُزعجني هذا الأمر، فليست أفلام الويسترن من الأفلام التي تُثير اهتمامي. مع ذلك، لا يُمكن ألا أشاهد فيلماً عنوانه: اغتيال جيسي جيمس على يد روبرت فورد الجبان.
لا تحمل أفلام الويسترن - عادة - عناوين بهذا الطول تُخبر ما سيحدث بالضبط. سيُقتل جيسي جيمس على يد روبرت فورد - الذي يجزم العنوان بأنه (جبان) -، هذه خُلاصة الحكاية، والتفاصيل يرويها الفيلم. ليس عنوان الفيلم الخروج الوحيد عن المألوف في هذا النوع الفيلمي، فالمخرج أندرو دومينيك يختار لفيلمه رؤية روائية - وأصل الفيلم رواية بنفس العنوان للكاتب رون هانسن - تختلف عن طريقة إخراج أفلام الويسترن المألوفة، وتنحو منحىً سردياً أسطورياً، فيروي الفيلم بأكمله راوٍ كُلّي العِلم، يرسم شخصية جيسي جيمس الأسطورية ويروي كُل التفاصيل تمهيداً لحدث الاغتيال الذي يعرف المشاهدون أن روبرت فورد سيقوم به. تضيف موسيقى الفيلم إلى جوه الأسطوري وابتعاده عن نمط الويسترن المألوف. أغنيةٌ واحدةٌ فقط تنتمي إلى الويسترن تُغنّى في الفيلم، يُغنيها عازف غيتار متجول يُحيي ذكرى البطل الشعبي القتيل ويذم الجبان روبرت فورد. يُظهر التصوير السينمائي الجميل للفيلم جيسي جيمس كمخلوق أسطوري، ويُحول المشهد العام الذي تجري فيه الأحداث إلى احتشادٍ لأحداثٍ ما ورائية تُغير نظام العالم بأكمله.
رغم التصوير الأسطوري لجيسي جيمس - أحد أشهر الخارجين عن القانون في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية - الذي "تُبطئ الساعات في حضوره"، إلا أن الفيلم يعرض الوجه (غير) الأسطوري له، فيُظهره مُجرماً لا يهتم سوى بمكاسبه الشخصية - ستحوله الأسطورة الشعبية إلى روبن هود بعد اغتياله - ومصاباً بجنون الارتياب لا يتورع عن قتل أصدقائه غدراً، ويُظهر غروره المُتضخم ووعيه بتأثيره الشديد على من حوله، وطبيعته المُتنمرة.
يروي الفيلم تفاصيل تعارف روبرت فورد وجيسي جيمس الذي استمر خمسة أشهر. بدءاً من ديسمبر 1881، حين انضم روبرت فورد إلى العصابة للمشاركة في السطو على قطار بلو رين. يرفض فرانك - الأخ الأكبر لجيسي وشريكه في زعامة العصابة - قبول فورد لأنه ثرثار وجبان، بينما يقبله جيسي لأنه يُرضي غروره. ينضم فورد للعصابة ليكون قريباً من بطله جيسي جيمس الذي يقرأ مغامراته بشغف في كُتب المغامرات الرخيصة. يُقر جيسي بأن كثيراً مما كُتب عنه ليس حقيقياً، لكن هوس فورد به يُعميه عن رؤية حقيقته بداية الأمر، حتى ينقلب الحُب عداء، ويقتل فورد جيسي في ابريل 1882. ثم يروي الفيلم بسرعة حياة فورد بعد مقتل جيسي جيمس حتى مقتله هو الآخر على يد متعصبٍ مُحبٍ لجيمس يُريد أن يُعرف بأنه (الرجل الذي قتل الرجل الذي قتل جيسي جيمس).
إيقاع الفيلم بطيء، وطريقته في تقديم الشخصيات والأحداث دائرية، تمر في الزمن جيئة وذهاباً لتُهيء مشهد الاغتيال وما يليه، وتُقدم الطبيعة المضطربة لشخصية روبرت فورد الذي ينتقل من مرحلة تأليه جيمس إلى فُقدان الإيمان به، ويكتسب ثقة بنفسه يستعيرها من قتله لابن عمة جيمس الذي كان يحاول قتل ديك ليديل - عضو آخر في العصابة - في منزل أخته - فورد -. ثُم سعي جيمس لاكتشاف مصير ابن عمته، والعثور على من يُحاول قتله - لن يظهر المُخطط المزعوم لاغتيال جيمس تأكيداً لثيمة البارانويا التي تُصيب جيمس وتجعله خطراً على من حوله -.
يُقرر فورد أن يُسلم نفسه للسلطات التي جدت في البحث عن أفراد عصابة جيمس، ويُسلم ديك ليديل لهم، ليُفاجأ بأنه قد عقد صفقة مع الحاكم صار بموجبها رجلاً حُراً بعد أن أقر بكُل ما طُلِب إليه الإقرارُ به. يُطلب من روبرت فورد أن يقتل جيسي جيمس، ويوافق مُقابل جائزة. حين يأتيه جيمس في محل البقالة الذي يعمل فيه، يُخيل إليه أن أمره قد اكتُشِف، لكن جيمس يأخذه إلى منزله وشقيقه تشارلي ليُعيد تكوين العصابة. مع ذلك، يشتبه جيمس فيهما طوال الوقت، ويُهدد روبرت بكُل طريقة مُمكنة، حتى أنه يتمشى في المدينة بمسدسه ظاهراً. يكتشف جيمس أن ليديل قد اعترف بكُل شيء، لكنه لا يستطيع قتل الأخوين فورد في منزله بوجود زوجته وطفليه، فيُسلم آخر الأمر ويرتكب ما يُشبه الانتحار بسماحه لروبرت بقتله وكأنه هدفٌ للتصويب.
بعد ذلك، يُعيد فورد تمثيل جريمته مئات المرات على مسرحٍ في نيويورك، ويقود تكرار فعل الخيانة اليومي أخاه تشارلي إلى الانتحار. يُفاجأ فورد بأن الجميع يعتبره جباناً، وأنه - رغم كونه أكثر شهرة من الرئيس - ممقوت من عامة الشعب، فيما تحول جيسي جيمس إلى بطلٍ شعبي، وبيعت صوره بعد موته، كما بيع بيته وحُوِل إلى متحفٍ للغرائب، وصار جيمس آخرَ في الأغاني التي تروي كيف قتله فورد الجبان غيلة.
إيقاع الفيلم روائي إن جاز التعبير، ويعتمد على التقاط التفاصيل الدقيقة لحالة روبرت فورد النفسية والعقلية قبل الاغتيال وأثناءه وبعده، ومقابل حالة فورد النفسية، يُركز الفيلم على الظاهر من سلوك جيسي جيمس العدواني والمتنمر الذي يتحول في النهاية إلى تسليمٍ بالموت القادم بسكينةٍ وطمأنينة من سئم مماطلة القدر. يتظافر التصوير والنص والموسيقى والأداء التمثيلي ليُقدم تأملاً فلسفياً رائعاً في النفس البشرية، ونظرة عميقة في تعقيدات العلاقة بين فورد الذي تمرد على بطله جيمس وقتله ليُخرجه من أسطورته، فما زاد على أن غلف أسطورة جيمس بطابعٍ بُطولي لا يُمس وحوله إلى شهيدٍ قتله أحد رجاله مقابل ثلاثين فضة، ودمر حياته لأنه إذ قتل بطله، لم يستطع أن يُحِل نفسه محله، أو أن يكون أسطورته، فأمسى مذموماً مهجوراً، وكان أسوأ من الكُره الشعبي مُستنقع الحيرة والتشوش الذهني الذي أوقع نفسه فيه، فروبرت فورد - آخر الأمر - لم يعد يذكر السبب الذي قتل من أجله جيسي جيمس، ويشتبه في أن جيسي جيمس هو الذي أمره بفعل القتل. لو أنه قاتل، أو لو كان مُسلحاً - على الأقل - لأمكن أن يكون قتله نصراً، لكن الحال أن روبرت فورد هزم نفسه، وفي محاولته للنضج وتجاوز مرحلة الطفولة، حبس نفسه في ظل الرجل الذي اغتاله ليصير: "الرجل الذي قتل جيسي جيمس" ليس إلا.
أداء كيسي أفلك في دور روبرت فورد جميلٌ، يستحق عنه كُل ترشيحٍ لجائزة وكُل جائزة نالها. كان براد بيت مُرتاحاً في دوره، واعياً بأنه براد بيت، وقدم جيسي جيمس يعي كونه أسطورة، لكن أسطورته تنهشه من الداخل. جاء إخراج أندرو دومينيك مُتميزاً لفيلم يتجاوز كونه فيلم غربٍ عادي ويتحول إلى كونٍ من الدلالات الميتافيزيقية والفلسفية والنفسية، دعمه في ذلك التصوير السينمائي الذي لا يُقدم لقطة واحدة دون دلالة، والموسيقى التي خرجت عن إطار الغرب لئلا يحدها قيدُ زمانٍ أو مكان.

الفيلم من إخراج: أندرو دومينيك، إنتاج: وورنر بروز، بطولة: براد بيت (جيسي جيمس) وكيسي أفلِك (روبرت فورد)، موسيقى: نيك كيف ووراين إليس.

03 ديسمبر 2008

الريح الغربية

أيتها الريح الغربية العاصفة!
يا روح الخريف: تفرُ الأوراق الميتة
من حضورك اللامرئي فرار الجن من الشيخ القارئ.
[صفراء، وسوداء، وشاحبة، وحمراء محمومة
مشوهة بالبلاء] تسوقين البذور المجنحة إلى
أسرتها الشتوية المظلمة، حيث ترقد باردة
- كلٌ كجثة في قبرٍ - حتى تنفخ أختك الآزورية
الربيع بوقها في الأرض الحالمة (تقودين
البراعم العذبة كالقطيع لترعى في الهواء)
وتُحيي السهوب والتلال بألوانٍ وعطورَ.
روح جامحة، تهبين، في كل مكان،
مُدمرةً وحافظةً. اسمعي! اسمعي!

01 ديسمبر 2008

أفعال ذبح!

قد يوجد من يعتبر الفن الرقمي السائد في هذه الحُقبة أوضح تجسيدٍ للقُبح والعُنف. وقد يُخيّل للمرء أن الرسم لم يصل في تصوير العُنف الحد الذي وصله في الرسم الرقمي، غير أن تصوير العُنف في الرسم قد بلغ ذروته في عصر الباروك مع لوحتي الرسام الإيطالي كارافاجيو وتلميذته الإيطالية أرتيميسا جينتيلسكي عن جوديث الأرملة اليهودية التي ذبحت هولوفيرنس قائد جيش الملك البابلي نبوخذ نصر لحماية شعبها في التُراث اليهودي. تُصور هاتان اللوحتان فعل ذبح هولوفيرنس تصويراً عنيفاً بالمقياس الكبير - كما هو كُل شيء في عصر الباروك -، وتخلقان ردة فعلٍ رافضة عند المُتلقي الذي يُروعه منظر الذبح للوهلة الأولى.
تؤدي اللوحتان معنى أكبر من إيصال فعل ذبح هولوفيرنس، وتنفتحان على تأويلاتٍ عديدة تختلف باختلاف المُتلقين، واختلاف المنظور الذي يتلقون العمل به، ومن المُقاربات الشهيرة لقراءة اللوحتين المُقاربة الجنسانية التي تنظر إلى الاختلافات بين لوحتي كارافاجيو وجينتيلسكي باعتبارها اختلافاتٍ في تفسير الدور الاجتماعي للرجل والمرأة، فتُمثل لوحة كارافاجيو منظوراً ذكورياً أبوياً لدور المرأة الاجتماعي، حيث أن جوديث - الهشة والضعيفة - غير قادرة على قطع رأس هولوفيرنس (الذكر صاحب السلطة) - وغير راغبة في ذلك - من دون التدخل الإلهي الذي جعلها مُجرد أداة قتل ليُذل بها هولوفيرنس - الذي أدرك أن الله غلبه فرفع بصره إليه غير آبهٍ بمن يقتله - بذات المبدأ الذي يقول إن الله خلق الذُباب ليُذل به جباري خلقه. بينما تعرض لوحة جينتيلسكي منظوراً نسوياً مفاده أن جوديث قادرةٌ على ذبح هولوفيرنس (الذكر صاحب السلطة) من دون تدخلٍ إلهي، وأنها (فاعل) وليست مُجرد (أداةٍ) لفعل الذبح الذي يُمثل - رغم شناعته - صورة من صور التمرد على المجتمع الأبوي المُتسلط، وعلى تهميش النساء وتنميط أدوارهن واختزالهن إلى مُجرد أدواتٍ.
إضافة إلى تمرد منظور جينتيلسكي الأنثوي، يكشف تمثيلها لمشهد ذبح هولوفيرنس عن مُراجعةٍ لمفاهيم كارافاجيو الفنية، ونظرته للمرأة، وتفسيره للأسطورة، في ما قد يوصف بأنه تعقيب التلميذ على أقوال أستاذه، وتفنيده لها بعد أن هضمها، وجينتيلسكي واحدة من الفنانين الذين يُعرفون بالكارافاجيين - نسبة إلى كارافاجيو - وورثت هذا التأثر بكارافاجيو عن أبيها الرسام أورازيو جينتيلسكي.
يُوجد مُبررٌ للقول بإن تصوير جينتيلسكي لجوديث على أنها امرأة ممتلئة، قوية وشابة أقرب لواقع الحال، فالقصة اليهودية تقترض أن جوديث أرملة، بينما تكوين جوديث الجسماني ضئيلٌ وهش، ووجهها وجه فتاةٍ مُدللة صغيرة يُروعها ما يجري - كما هو التصوير التقليدي للعذراء الهشة في الفن - في لوحة كارافاجيو. يفترض الرائي ترمل جوديث بسبب عنوان اللوحة ومعرفته المُسبقة بالأسطورة، لكن اللوحة نفسها لا تُقدم ما يوحي بترمل جوديث، بل تُقدم - على العكس من تصور الأرملة - عذراء يافعة هشة. كذلك، فإن القصة - إذ تُخبر بوجود خادمة تُرافق جوديث إلى معسكر الأعداء - تُهمل ذكر عُمر الخادمة، فيختار كارافاجيو أن تكون عجوزاً أحنتها السنون، لا تصلح للمشاركة في جريمة قتل - حتى بتدبير الرب - بل لمُرافقة عذراء شابة لتتأكد من حفاظها على فضيلتها، أو لمُرافقتها إلى مخدع زفافها.
يؤكد كارافاجيو تفسيره الخاص للأسطورة بابتعاد جوديث المتأففة عن هولوفيرنس في صدمة وتقزز، واقتراب خادمتها منها كأنها تُملي عليها ما تفعله. في مُنتصف اللوحة ستارة حمراء تغيب عن لوحة جينتيلسكي، وتُؤكد فكرة الزفاف التي يُجسدها كارافاجيو، كذلك فإن نمط انتشار الدم النازف من عنق هولوفيرنس ولونه غير واقعي - خلافاً لعناصر اللوحة الأخرى - مما يوحي بأنه يرمز بالدم والستارة لأشياء أخرى، ويُعطي انطباعاً بأن جوديث إنما تذبح هولوفيرنس حفاظاً على (طهارتها) التي أُمرَت بالحفاظ عليها، وهولوفيرنس يعرف أنه تعدى على ما ليس له، لذا يشخص ببصره إلى السيد الأكبر، لا إلى الخادمة التي قتلته بناء على أمره لها بالحفاظ على فضيلتها.
تختار جينتيلسكي أن تكون خادمة جوديث في لوحتها شابةً تُقاربها عُمراً، ما يعني تآمر الاثنتين لقتل هولوفيرنس، وهذا أقرب للواقع من قيام جوديث هشة ضئيلة بذبح قائد جيش الأعداء وحيدة دون عونٍ إلا من عجوز تعطيها التوجيهات. جوديث كارافاجيو (أداةٌ) لتنفيذ مشيئة أكبر، بينما جوديث جينتيلسكي (فاعلة) - أياً كان مُبرر الفعل العنيف - تشترك في الفعل مع خادمتها التي جاءت لتُعينها على تثبيت الجُثة العملاقة للرجل الثمل. كلتاهما شابتان قويتان، وتكوين جوديث الجسدي يوحي بأنها أرملة عرفت الحياة، وكان لها رجلٌ صارت بعده مسؤولة عن عائلة. لذا فإن ذبح هولوفيرنس لا يُثير فيها شعوراً يفوق ما يُثيره ذبح حيوانٍ ضخم الجثة لإطعام الأطفال الزاعقين طلباً لما يأكلونه. عرفت جوديث الحياة والشقاء، لذلك لا تتظاهر، ولا تشعر بالتقزز، ولا تتلقى التعليمات من خادمة عجوز أو تنفذ مشيئة لا تعود لها. جوديث تفعل ذلك بإرادتها، لأن هذا واقع الحال، فإنها إن لم تذبح هولوفيرنس، ذبحها هو وذبح أبناءها. لا ضغائن شخصية، لكن الوضع يُحتم أن تذبحه قبل أن يذبحها.
بساطة مفهوم جوديث وخادمتها للذبح يظهر في بساطة خلفية اللوحة وخلوها من أي ستائر، لا إيحاءات ولا ترميزات هُنا، فالأمر في غاية البساطة: نحن نذبح رجلاً هُنا. يُصارع هولوفيرنس لحياته، لكنه لا يستطيع التغلب على المرأتين، وسيف جوديث جينتيلسكي الكبير يحتز عُنقه - فجوديث جينتيلسكي قد ذبحت من الحيوانات ما يكفي لتعرف أن (ثوراً) كبيراً مثل هولوفيرنس يحتاج أداة كبيرة لقتله، أما جوديث كارافاجيو فأداة جاهلة لذا تستخدم سيفاً أصغر بكثير - محولاً محاولاته لصرع المرأتين إلى آخر نزعات الروح كحيوان ذبيح يخور قبل أن يسقط، ويصبح غداء لعائلة كبيرة العدد قوامها أطفال وعجائز كثيرو الشكوى.
تدرس جينتيلسكي الشخصية بشكلٍ مُفصل في لوحةٍ أخرى تصور مشهداً مختلفاً في الموضوع نفسه - جوديث تذبح هولوفيرنس - مُقدمة تفاصيل تكوين جوديث وخادمتها البدني المُتقارب. جوديث جينتيلسكي امرأة جميلة لكنها ليست هشة البُنية كما هي جوديث كارافاجيو، جسدها قوي وممُتلئ، وشعرها مسرح كربة منزل عادية - بينما تلف خادمتها رأسها بتواضع - والعامل المؤثر في اللوحة شبابها وقوتها وتعاملها مع مهمتها بشكلٍ عادي. لقد جاءت مع خادمتها لذبح هولوفيرنس، وذبحتاه، وحملتا رأسه في السلة. تحمل الخادمة السلة الدامية، بينما تحمل جوديث السيف على عاتقها، وتلقي نظرة على المشهد الذي تركته - الجثة عديمة الرأس - محاولة التأكد من عدم وجود من يتبعها وخادمتها. يد جوديث على كتف الخادمة توحي بأنها تهون عليها وتستحثها المسير، فالطريق إلى البيت طويل، وفي السلة رأسٌ يجب أن تصل. وضعية السيف ومسكة جوديث له توحي بعزيمتها واستعدادها لتكرار فعلتها للخروج من المعسكر، كما يوحي المشهد بحيويتها وخفتها، وتدفق الحياة فيها. ألوان المرأتين وثيابهما نابضة بالحياة، بينما يقبع الرأس الذي احتزتاه في السلة - كقطعة لحم عادية - شاحباً وخالياً من الحياة، ومن أي لمحةٍ إنسانية. رأس العدو/ السلطة/ الأب/ الذكر المُهيمن ليس إلا قطعة لحمٍ فارغة من الحياة عاطلة عن القيمة، تُناقض حيوية المرأتين الشابتين واستقلالية جوديث وتدفق الدماء في عروقها. ليس في موتِ هولوفيرنس ما يُحتَفَى به، لكن جوديث اختارت أن تقوم بفعل القتل مع شريكتها وخادمتها، وفي هذا الاغتيال، لم تُنقذ جوديث شعبها فحسب، بل اغتالت السُلطة الأبوية، نازعة عنها كُل هيبة.
منظور جينتيلسكي ثوري - حتى بمقاييس هذه الأيام - يفترض أن المرأة صاحبة القرار والإرادة، وأنها لا تحتاج إلى تدخلٍ إلهي لتنفيذ مُهمتها، كما أنه ينزع الهيبة عن السُلطة الأبوية، ويُجرد المُقدسات الذكورية من قُدسيتها على أيدٍ أنثوية اعتادت العمل في الحقل والمطبخ، وعلمتها الطبيعة الأرضية التي التصقت بها ألا شيء مُقدس ومُهاب، وأن اليد التي تهز المهد تقدر على أي عملٍ لحفظ هذا المهد، من دون أي احتفاليةٍ ذكورية مُبالغِ فيها تجهل كُل شيء عن بساطة دورة الطبيعة.