07 ديسمبر 2008

حدث اغتيال


لم تعد هوليوود تُنتج أفلام الويسترن بالوتيرة التي اعتادت عليها في عهودٍ سابقة، فالساحة قد أُخليّت لأفلام الفانتازيا والمُغامرة. لا يُزعجني هذا الأمر، فليست أفلام الويسترن من الأفلام التي تُثير اهتمامي. مع ذلك، لا يُمكن ألا أشاهد فيلماً عنوانه: اغتيال جيسي جيمس على يد روبرت فورد الجبان.
لا تحمل أفلام الويسترن - عادة - عناوين بهذا الطول تُخبر ما سيحدث بالضبط. سيُقتل جيسي جيمس على يد روبرت فورد - الذي يجزم العنوان بأنه (جبان) -، هذه خُلاصة الحكاية، والتفاصيل يرويها الفيلم. ليس عنوان الفيلم الخروج الوحيد عن المألوف في هذا النوع الفيلمي، فالمخرج أندرو دومينيك يختار لفيلمه رؤية روائية - وأصل الفيلم رواية بنفس العنوان للكاتب رون هانسن - تختلف عن طريقة إخراج أفلام الويسترن المألوفة، وتنحو منحىً سردياً أسطورياً، فيروي الفيلم بأكمله راوٍ كُلّي العِلم، يرسم شخصية جيسي جيمس الأسطورية ويروي كُل التفاصيل تمهيداً لحدث الاغتيال الذي يعرف المشاهدون أن روبرت فورد سيقوم به. تضيف موسيقى الفيلم إلى جوه الأسطوري وابتعاده عن نمط الويسترن المألوف. أغنيةٌ واحدةٌ فقط تنتمي إلى الويسترن تُغنّى في الفيلم، يُغنيها عازف غيتار متجول يُحيي ذكرى البطل الشعبي القتيل ويذم الجبان روبرت فورد. يُظهر التصوير السينمائي الجميل للفيلم جيسي جيمس كمخلوق أسطوري، ويُحول المشهد العام الذي تجري فيه الأحداث إلى احتشادٍ لأحداثٍ ما ورائية تُغير نظام العالم بأكمله.
رغم التصوير الأسطوري لجيسي جيمس - أحد أشهر الخارجين عن القانون في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية - الذي "تُبطئ الساعات في حضوره"، إلا أن الفيلم يعرض الوجه (غير) الأسطوري له، فيُظهره مُجرماً لا يهتم سوى بمكاسبه الشخصية - ستحوله الأسطورة الشعبية إلى روبن هود بعد اغتياله - ومصاباً بجنون الارتياب لا يتورع عن قتل أصدقائه غدراً، ويُظهر غروره المُتضخم ووعيه بتأثيره الشديد على من حوله، وطبيعته المُتنمرة.
يروي الفيلم تفاصيل تعارف روبرت فورد وجيسي جيمس الذي استمر خمسة أشهر. بدءاً من ديسمبر 1881، حين انضم روبرت فورد إلى العصابة للمشاركة في السطو على قطار بلو رين. يرفض فرانك - الأخ الأكبر لجيسي وشريكه في زعامة العصابة - قبول فورد لأنه ثرثار وجبان، بينما يقبله جيسي لأنه يُرضي غروره. ينضم فورد للعصابة ليكون قريباً من بطله جيسي جيمس الذي يقرأ مغامراته بشغف في كُتب المغامرات الرخيصة. يُقر جيسي بأن كثيراً مما كُتب عنه ليس حقيقياً، لكن هوس فورد به يُعميه عن رؤية حقيقته بداية الأمر، حتى ينقلب الحُب عداء، ويقتل فورد جيسي في ابريل 1882. ثم يروي الفيلم بسرعة حياة فورد بعد مقتل جيسي جيمس حتى مقتله هو الآخر على يد متعصبٍ مُحبٍ لجيمس يُريد أن يُعرف بأنه (الرجل الذي قتل الرجل الذي قتل جيسي جيمس).
إيقاع الفيلم بطيء، وطريقته في تقديم الشخصيات والأحداث دائرية، تمر في الزمن جيئة وذهاباً لتُهيء مشهد الاغتيال وما يليه، وتُقدم الطبيعة المضطربة لشخصية روبرت فورد الذي ينتقل من مرحلة تأليه جيمس إلى فُقدان الإيمان به، ويكتسب ثقة بنفسه يستعيرها من قتله لابن عمة جيمس الذي كان يحاول قتل ديك ليديل - عضو آخر في العصابة - في منزل أخته - فورد -. ثُم سعي جيمس لاكتشاف مصير ابن عمته، والعثور على من يُحاول قتله - لن يظهر المُخطط المزعوم لاغتيال جيمس تأكيداً لثيمة البارانويا التي تُصيب جيمس وتجعله خطراً على من حوله -.
يُقرر فورد أن يُسلم نفسه للسلطات التي جدت في البحث عن أفراد عصابة جيمس، ويُسلم ديك ليديل لهم، ليُفاجأ بأنه قد عقد صفقة مع الحاكم صار بموجبها رجلاً حُراً بعد أن أقر بكُل ما طُلِب إليه الإقرارُ به. يُطلب من روبرت فورد أن يقتل جيسي جيمس، ويوافق مُقابل جائزة. حين يأتيه جيمس في محل البقالة الذي يعمل فيه، يُخيل إليه أن أمره قد اكتُشِف، لكن جيمس يأخذه إلى منزله وشقيقه تشارلي ليُعيد تكوين العصابة. مع ذلك، يشتبه جيمس فيهما طوال الوقت، ويُهدد روبرت بكُل طريقة مُمكنة، حتى أنه يتمشى في المدينة بمسدسه ظاهراً. يكتشف جيمس أن ليديل قد اعترف بكُل شيء، لكنه لا يستطيع قتل الأخوين فورد في منزله بوجود زوجته وطفليه، فيُسلم آخر الأمر ويرتكب ما يُشبه الانتحار بسماحه لروبرت بقتله وكأنه هدفٌ للتصويب.
بعد ذلك، يُعيد فورد تمثيل جريمته مئات المرات على مسرحٍ في نيويورك، ويقود تكرار فعل الخيانة اليومي أخاه تشارلي إلى الانتحار. يُفاجأ فورد بأن الجميع يعتبره جباناً، وأنه - رغم كونه أكثر شهرة من الرئيس - ممقوت من عامة الشعب، فيما تحول جيسي جيمس إلى بطلٍ شعبي، وبيعت صوره بعد موته، كما بيع بيته وحُوِل إلى متحفٍ للغرائب، وصار جيمس آخرَ في الأغاني التي تروي كيف قتله فورد الجبان غيلة.
إيقاع الفيلم روائي إن جاز التعبير، ويعتمد على التقاط التفاصيل الدقيقة لحالة روبرت فورد النفسية والعقلية قبل الاغتيال وأثناءه وبعده، ومقابل حالة فورد النفسية، يُركز الفيلم على الظاهر من سلوك جيسي جيمس العدواني والمتنمر الذي يتحول في النهاية إلى تسليمٍ بالموت القادم بسكينةٍ وطمأنينة من سئم مماطلة القدر. يتظافر التصوير والنص والموسيقى والأداء التمثيلي ليُقدم تأملاً فلسفياً رائعاً في النفس البشرية، ونظرة عميقة في تعقيدات العلاقة بين فورد الذي تمرد على بطله جيمس وقتله ليُخرجه من أسطورته، فما زاد على أن غلف أسطورة جيمس بطابعٍ بُطولي لا يُمس وحوله إلى شهيدٍ قتله أحد رجاله مقابل ثلاثين فضة، ودمر حياته لأنه إذ قتل بطله، لم يستطع أن يُحِل نفسه محله، أو أن يكون أسطورته، فأمسى مذموماً مهجوراً، وكان أسوأ من الكُره الشعبي مُستنقع الحيرة والتشوش الذهني الذي أوقع نفسه فيه، فروبرت فورد - آخر الأمر - لم يعد يذكر السبب الذي قتل من أجله جيسي جيمس، ويشتبه في أن جيسي جيمس هو الذي أمره بفعل القتل. لو أنه قاتل، أو لو كان مُسلحاً - على الأقل - لأمكن أن يكون قتله نصراً، لكن الحال أن روبرت فورد هزم نفسه، وفي محاولته للنضج وتجاوز مرحلة الطفولة، حبس نفسه في ظل الرجل الذي اغتاله ليصير: "الرجل الذي قتل جيسي جيمس" ليس إلا.
أداء كيسي أفلك في دور روبرت فورد جميلٌ، يستحق عنه كُل ترشيحٍ لجائزة وكُل جائزة نالها. كان براد بيت مُرتاحاً في دوره، واعياً بأنه براد بيت، وقدم جيسي جيمس يعي كونه أسطورة، لكن أسطورته تنهشه من الداخل. جاء إخراج أندرو دومينيك مُتميزاً لفيلم يتجاوز كونه فيلم غربٍ عادي ويتحول إلى كونٍ من الدلالات الميتافيزيقية والفلسفية والنفسية، دعمه في ذلك التصوير السينمائي الذي لا يُقدم لقطة واحدة دون دلالة، والموسيقى التي خرجت عن إطار الغرب لئلا يحدها قيدُ زمانٍ أو مكان.

الفيلم من إخراج: أندرو دومينيك، إنتاج: وورنر بروز، بطولة: براد بيت (جيسي جيمس) وكيسي أفلِك (روبرت فورد)، موسيقى: نيك كيف ووراين إليس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق