01 ديسمبر 2008

أفعال ذبح!

قد يوجد من يعتبر الفن الرقمي السائد في هذه الحُقبة أوضح تجسيدٍ للقُبح والعُنف. وقد يُخيّل للمرء أن الرسم لم يصل في تصوير العُنف الحد الذي وصله في الرسم الرقمي، غير أن تصوير العُنف في الرسم قد بلغ ذروته في عصر الباروك مع لوحتي الرسام الإيطالي كارافاجيو وتلميذته الإيطالية أرتيميسا جينتيلسكي عن جوديث الأرملة اليهودية التي ذبحت هولوفيرنس قائد جيش الملك البابلي نبوخذ نصر لحماية شعبها في التُراث اليهودي. تُصور هاتان اللوحتان فعل ذبح هولوفيرنس تصويراً عنيفاً بالمقياس الكبير - كما هو كُل شيء في عصر الباروك -، وتخلقان ردة فعلٍ رافضة عند المُتلقي الذي يُروعه منظر الذبح للوهلة الأولى.
تؤدي اللوحتان معنى أكبر من إيصال فعل ذبح هولوفيرنس، وتنفتحان على تأويلاتٍ عديدة تختلف باختلاف المُتلقين، واختلاف المنظور الذي يتلقون العمل به، ومن المُقاربات الشهيرة لقراءة اللوحتين المُقاربة الجنسانية التي تنظر إلى الاختلافات بين لوحتي كارافاجيو وجينتيلسكي باعتبارها اختلافاتٍ في تفسير الدور الاجتماعي للرجل والمرأة، فتُمثل لوحة كارافاجيو منظوراً ذكورياً أبوياً لدور المرأة الاجتماعي، حيث أن جوديث - الهشة والضعيفة - غير قادرة على قطع رأس هولوفيرنس (الذكر صاحب السلطة) - وغير راغبة في ذلك - من دون التدخل الإلهي الذي جعلها مُجرد أداة قتل ليُذل بها هولوفيرنس - الذي أدرك أن الله غلبه فرفع بصره إليه غير آبهٍ بمن يقتله - بذات المبدأ الذي يقول إن الله خلق الذُباب ليُذل به جباري خلقه. بينما تعرض لوحة جينتيلسكي منظوراً نسوياً مفاده أن جوديث قادرةٌ على ذبح هولوفيرنس (الذكر صاحب السلطة) من دون تدخلٍ إلهي، وأنها (فاعل) وليست مُجرد (أداةٍ) لفعل الذبح الذي يُمثل - رغم شناعته - صورة من صور التمرد على المجتمع الأبوي المُتسلط، وعلى تهميش النساء وتنميط أدوارهن واختزالهن إلى مُجرد أدواتٍ.
إضافة إلى تمرد منظور جينتيلسكي الأنثوي، يكشف تمثيلها لمشهد ذبح هولوفيرنس عن مُراجعةٍ لمفاهيم كارافاجيو الفنية، ونظرته للمرأة، وتفسيره للأسطورة، في ما قد يوصف بأنه تعقيب التلميذ على أقوال أستاذه، وتفنيده لها بعد أن هضمها، وجينتيلسكي واحدة من الفنانين الذين يُعرفون بالكارافاجيين - نسبة إلى كارافاجيو - وورثت هذا التأثر بكارافاجيو عن أبيها الرسام أورازيو جينتيلسكي.
يُوجد مُبررٌ للقول بإن تصوير جينتيلسكي لجوديث على أنها امرأة ممتلئة، قوية وشابة أقرب لواقع الحال، فالقصة اليهودية تقترض أن جوديث أرملة، بينما تكوين جوديث الجسماني ضئيلٌ وهش، ووجهها وجه فتاةٍ مُدللة صغيرة يُروعها ما يجري - كما هو التصوير التقليدي للعذراء الهشة في الفن - في لوحة كارافاجيو. يفترض الرائي ترمل جوديث بسبب عنوان اللوحة ومعرفته المُسبقة بالأسطورة، لكن اللوحة نفسها لا تُقدم ما يوحي بترمل جوديث، بل تُقدم - على العكس من تصور الأرملة - عذراء يافعة هشة. كذلك، فإن القصة - إذ تُخبر بوجود خادمة تُرافق جوديث إلى معسكر الأعداء - تُهمل ذكر عُمر الخادمة، فيختار كارافاجيو أن تكون عجوزاً أحنتها السنون، لا تصلح للمشاركة في جريمة قتل - حتى بتدبير الرب - بل لمُرافقة عذراء شابة لتتأكد من حفاظها على فضيلتها، أو لمُرافقتها إلى مخدع زفافها.
يؤكد كارافاجيو تفسيره الخاص للأسطورة بابتعاد جوديث المتأففة عن هولوفيرنس في صدمة وتقزز، واقتراب خادمتها منها كأنها تُملي عليها ما تفعله. في مُنتصف اللوحة ستارة حمراء تغيب عن لوحة جينتيلسكي، وتُؤكد فكرة الزفاف التي يُجسدها كارافاجيو، كذلك فإن نمط انتشار الدم النازف من عنق هولوفيرنس ولونه غير واقعي - خلافاً لعناصر اللوحة الأخرى - مما يوحي بأنه يرمز بالدم والستارة لأشياء أخرى، ويُعطي انطباعاً بأن جوديث إنما تذبح هولوفيرنس حفاظاً على (طهارتها) التي أُمرَت بالحفاظ عليها، وهولوفيرنس يعرف أنه تعدى على ما ليس له، لذا يشخص ببصره إلى السيد الأكبر، لا إلى الخادمة التي قتلته بناء على أمره لها بالحفاظ على فضيلتها.
تختار جينتيلسكي أن تكون خادمة جوديث في لوحتها شابةً تُقاربها عُمراً، ما يعني تآمر الاثنتين لقتل هولوفيرنس، وهذا أقرب للواقع من قيام جوديث هشة ضئيلة بذبح قائد جيش الأعداء وحيدة دون عونٍ إلا من عجوز تعطيها التوجيهات. جوديث كارافاجيو (أداةٌ) لتنفيذ مشيئة أكبر، بينما جوديث جينتيلسكي (فاعلة) - أياً كان مُبرر الفعل العنيف - تشترك في الفعل مع خادمتها التي جاءت لتُعينها على تثبيت الجُثة العملاقة للرجل الثمل. كلتاهما شابتان قويتان، وتكوين جوديث الجسدي يوحي بأنها أرملة عرفت الحياة، وكان لها رجلٌ صارت بعده مسؤولة عن عائلة. لذا فإن ذبح هولوفيرنس لا يُثير فيها شعوراً يفوق ما يُثيره ذبح حيوانٍ ضخم الجثة لإطعام الأطفال الزاعقين طلباً لما يأكلونه. عرفت جوديث الحياة والشقاء، لذلك لا تتظاهر، ولا تشعر بالتقزز، ولا تتلقى التعليمات من خادمة عجوز أو تنفذ مشيئة لا تعود لها. جوديث تفعل ذلك بإرادتها، لأن هذا واقع الحال، فإنها إن لم تذبح هولوفيرنس، ذبحها هو وذبح أبناءها. لا ضغائن شخصية، لكن الوضع يُحتم أن تذبحه قبل أن يذبحها.
بساطة مفهوم جوديث وخادمتها للذبح يظهر في بساطة خلفية اللوحة وخلوها من أي ستائر، لا إيحاءات ولا ترميزات هُنا، فالأمر في غاية البساطة: نحن نذبح رجلاً هُنا. يُصارع هولوفيرنس لحياته، لكنه لا يستطيع التغلب على المرأتين، وسيف جوديث جينتيلسكي الكبير يحتز عُنقه - فجوديث جينتيلسكي قد ذبحت من الحيوانات ما يكفي لتعرف أن (ثوراً) كبيراً مثل هولوفيرنس يحتاج أداة كبيرة لقتله، أما جوديث كارافاجيو فأداة جاهلة لذا تستخدم سيفاً أصغر بكثير - محولاً محاولاته لصرع المرأتين إلى آخر نزعات الروح كحيوان ذبيح يخور قبل أن يسقط، ويصبح غداء لعائلة كبيرة العدد قوامها أطفال وعجائز كثيرو الشكوى.
تدرس جينتيلسكي الشخصية بشكلٍ مُفصل في لوحةٍ أخرى تصور مشهداً مختلفاً في الموضوع نفسه - جوديث تذبح هولوفيرنس - مُقدمة تفاصيل تكوين جوديث وخادمتها البدني المُتقارب. جوديث جينتيلسكي امرأة جميلة لكنها ليست هشة البُنية كما هي جوديث كارافاجيو، جسدها قوي وممُتلئ، وشعرها مسرح كربة منزل عادية - بينما تلف خادمتها رأسها بتواضع - والعامل المؤثر في اللوحة شبابها وقوتها وتعاملها مع مهمتها بشكلٍ عادي. لقد جاءت مع خادمتها لذبح هولوفيرنس، وذبحتاه، وحملتا رأسه في السلة. تحمل الخادمة السلة الدامية، بينما تحمل جوديث السيف على عاتقها، وتلقي نظرة على المشهد الذي تركته - الجثة عديمة الرأس - محاولة التأكد من عدم وجود من يتبعها وخادمتها. يد جوديث على كتف الخادمة توحي بأنها تهون عليها وتستحثها المسير، فالطريق إلى البيت طويل، وفي السلة رأسٌ يجب أن تصل. وضعية السيف ومسكة جوديث له توحي بعزيمتها واستعدادها لتكرار فعلتها للخروج من المعسكر، كما يوحي المشهد بحيويتها وخفتها، وتدفق الحياة فيها. ألوان المرأتين وثيابهما نابضة بالحياة، بينما يقبع الرأس الذي احتزتاه في السلة - كقطعة لحم عادية - شاحباً وخالياً من الحياة، ومن أي لمحةٍ إنسانية. رأس العدو/ السلطة/ الأب/ الذكر المُهيمن ليس إلا قطعة لحمٍ فارغة من الحياة عاطلة عن القيمة، تُناقض حيوية المرأتين الشابتين واستقلالية جوديث وتدفق الدماء في عروقها. ليس في موتِ هولوفيرنس ما يُحتَفَى به، لكن جوديث اختارت أن تقوم بفعل القتل مع شريكتها وخادمتها، وفي هذا الاغتيال، لم تُنقذ جوديث شعبها فحسب، بل اغتالت السُلطة الأبوية، نازعة عنها كُل هيبة.
منظور جينتيلسكي ثوري - حتى بمقاييس هذه الأيام - يفترض أن المرأة صاحبة القرار والإرادة، وأنها لا تحتاج إلى تدخلٍ إلهي لتنفيذ مُهمتها، كما أنه ينزع الهيبة عن السُلطة الأبوية، ويُجرد المُقدسات الذكورية من قُدسيتها على أيدٍ أنثوية اعتادت العمل في الحقل والمطبخ، وعلمتها الطبيعة الأرضية التي التصقت بها ألا شيء مُقدس ومُهاب، وأن اليد التي تهز المهد تقدر على أي عملٍ لحفظ هذا المهد، من دون أي احتفاليةٍ ذكورية مُبالغِ فيها تجهل كُل شيء عن بساطة دورة الطبيعة.

هناك تعليقان (2):

  1. لا ادري حقيقة ماذا اقول ... قرأت قبل عدة اشهر مقالة الأخ برومثيوس والآن اقرأ هذه المقالة، الحقيقة دور المرأة في التاريخ مركزي جداً ولكن تم تهميشها واضعافها احيانا كثيرة (كثيرة جداً) لكن أنا شخصيًا أؤمن انه يوجد حكمة معينة من كون المرأة خلقت "ضعيفة" من ناحية فيزيولوجية طبعا... لكن المشكلة انه ضعفها الفيزيولوجي هو الذي حطمها... في العصور الجاهلية حيث كانت قبضة اليد هي مقياس القوة وليس العقل نبذت المرأة ... ولكن مع ذلك وهذا ما استهجنه انها نبذت في عصر التنوير أيضاً والنهضة ... يعني جان جاك روسو مثلا كان ضد ان تقوم المرأة بالتحرر من اعمال المنزل والانخراط في سلك التعليم ...
     

    ردحذف
  2. المسألة ثقافية في المقام الأول. هناك اختلافٌ كبير بين عذراء مراهقة نحيلة العود - كما في لوحة كارافاجيو - وبين أرملة قوية و(عفية) في الثلاثينات من عمرها - كما في لوحة جنتليسكي. إن كون جوديث أرملة يعني مسؤوليتها عن أسرةٍ وأطفال، وفي نظامٍ زراعي فإنه من المرجح أنها كانت تقوم بأعمال الحلب والذبح وجمع البيض والحصاد والطحن، بالإضافة إلى رعاية الأطفال. لا يُمكن لمراهقة نحيلة أن تقوم بكل هذه الأعمال، ولا يُمكن لمساعدتها أن تكون عجوزاً طاعنةً في السن. هُنا تختلف قراءتا كارافاجيو وجنتلسكي للأسطورة، فيُفسرها كارافاجيو تفسيراً ثقافياً ذكورياً، وتفسرها جنتلسكي تفسيراً أقرب إلى العملية. إن جوديث تتصرف بغير عاطفة، وتفعل ما يُمليه الواجب: أن الثور الكبير هولوفيرنس ينبغي أن يُذبح لإطعام الأطفال، لأنه لو لم يُذبَح لقتل جنوده أطفال جوديث. يُمكن النظر إلى المشهد بوصفه تصويراً لعاطفة أمومة متطرفة وجامحة، الأمر الذي لا ينطبق على مفهوم كارافاجيو.
    القوةُ الجسدية مفهومٌ مُبالغٌ في تقديره. حتى في عصور البربرية كان البقاء للأذكى والأقدر على التكيف، لا للثيران القوية التي كانت تُساق للذبح أولاً. يتذكر تاريخ كُل أمةٍ أولئك الذين امتازوا بحسن التدبير والسياسة فيها. مثالٌ على ذلك أن عبد الملك بن مروان كان فقيهاً لا مُحارباً وذراعه الحجاج بن يوسف الثقفي كان مُعلم قرآن، وكلاهما قاد عهداً من الطغيان والتغلب.
    المسألة تتعلق بالقوة العقلية قبل أن تتعلق بالقوة الجسدية، لذلك انقرضت الديناصورات ونجت أشكال الحياة الأذكى.

    تحياتي..

    ردحذف