30 يوليو 2010

مغالطات

ليس سراً امتعاضي الشديد من المناهج الدراسية التي درستها حتى الآن، إذ أنها تجعل أخطاء القياس جُزءاً لا يتجزأ من شخصية التلاميذ، ويصعب التخلص من تأثيرها على المدى الطويل. المُغالطات موجودة في كُل مكان، وقُيض لي أن أُصادف بعضها في كثيرٍ من المُحاججات الفكرية التي كُنت طرفاً فيها، أو شهدتها من بعيد. عندما أعترض على مُحاججة بوصفها مُغالطة منطقية، يتضح لي أن المُغالط لا يدري أين المغالطة المنطقية في الخطاب الذي يستخدمه، وبالتالي، فإنه يستمر في المُغالطات المنطقية من دون توقف، مُسقطاً قضية النقاش من أساسها. لذلك، فكرتُ في تقديم مجموعة من المغالطات المنطقية التي صادفتها هُنا وهُناك، وأخطاء القياس، طلباً للفائدة العامة.

Argumentum Ad Verecundiam
باللاتينية، يعني هذا "حجة الاحترام"، "حجة السلطة"، أو "هو قال هذا." وهذا النوع من المُغالطات المنطقية شائع جداً، حيث يعتمد المُغالط في إثبات حُجته على واقع اعتقاد شخصية مشهورة برأيه، مما يجعل رأيه صائباً. كأن يُقال: "صُنع الله إبراهيم كاتبٌ مُمتاز، لأن أستاذي يقول ذلك."
ووجه المُغالطة أن رأي الأستاذ لا يحمل قيمة حقيقةٍ لذاته، وإنما لمكانة هذا الأستاذ بوصفه شكلاً من أشكال السُلطة. إن هذه ليست حجة منطقية، لأن أحقية الأستاذ في تكوين رأي لا تزيد عن أحقية أي شخصٍ آخر في تكوين رأي مختلف، أو تنقص. وعليه، تسقط حجة السلطة في أي نقاشٍ منطقي.

Argumentum Ad Populum أو Argumentum Ad Numerum
ومعناها "حجة الكثرة"، أي أن تستمد القضية المنطقية صحتها من عدد من يؤمنون بها. وهذه مُغالطة منطقية شائعة أيضاً، ويعتمد المُغالط فيها على وجود مؤيدين كثيرين لرأيه، كما في هذا المثال:
"إن أجيال كاملة من الشباب تحت العشرين وفوقها تربوا ونشئوا وأعجبوا بهذه الكتابات وليس من الطبيعي ان يكون هذا عن جهل وغباء بينما أنت فقط الذكي العبقري الذي استطاع أن يرى ما لا يراه الآخرون .."
ووجه الخلل في هذه الحجة أن كثرة المؤمنين بقضية ما، لا يجعل منها صحيحة، فمُعظم الناس في القرون الوسطى كانوا يؤمنون بمركزية الأرض، بينما واقع الأشياء أن الشمس مركز المجرة، لا الأرض. وشبيهٌ بذلك اعتقادُ نسبةٍ معتبرة من العالم الآن بأن بلوتو لا يزال كوكباً. إن شيوع الاعتقاد بكوكبية بلوتو لا ينفي أنه قد أُعيد تصنيفه علمياً على أنه جرمٌ سماوي، أو قزم.
كذلك، فإن العينة في مثل هذه الحجج مُضللة، فلا توجد إحصاءات صحيحة تدعم هذه الحجة، كما أنها تُلغي التمثيل خارج العينة: إذ أن هُناك من الشباب من لم يسمع بالسلسلة أصلاً ليُعجب بها أو ليرفضها.

Argumentum Ad Hominem
أي "الشخصنة"، وهذا أكثر أنواع المُغالطات المنطقية شيوعاً في العالم، حيث يربط صحة قضية منطقية ما بشخص صاحبها، ويحول النقاش إلى هجوم شخصي. العبارة المُقتبسة في "حجة الكثرة" مثالٌ على مُغالطة الهجوم الشخصي، ومثالٌ آخر عليها يُمكن أن يوجد هُنا:
"العزيزة [......] مثقفة وواسعة العلم بالتأكيد، ولقد قرأت معظم ردودك هنا وفي مدونتك، وأرى أنك ترتكبين ذات طريقة التفكير التي يرتكبها الرجال لكن بالعكس. تحبسين طريقة تفكيرك في قوقعة (الفيمنزم) وترين كل شيء من هذا المنظور. كل ما يقال سلبًا عن الأنثى هو دليل على الغباء الذكوري الذي يحرك مجتمعنا، ودعوة للعنف ضد الأنثى .. الخ .. حتى كون القمر مذكرًا يدل على حمق مجتمعنا العربي، بينما القمر مؤنث في معظم الثقافات الغربية الناضجة.."
ووجه الخللُ في "الشخصنة" تحويل النقاش من القضية موضع الجدل، إلى شخصِ صاحبها، بمعنى أنه ما دامت الحجة المنطقية قد جاءت من "فلان" أو "فلانة"، فإنها خاطئة، لأن صاحب الحُجة يُفكر بطريقة مُختلفة عنا. ووجه الخلل في هذه المغالطة أن شخص صاحب القضية لا يؤثر في صحتها من عدمها، لأن أي فرضٍ منطقي فرضٌ يقوم بذاته، ولذاته، لا لمن أفترضه.
كما أن من ضمن "الشخصنة"، "التجيير". بمعنى أنه إذا صرح الشخص تصريحاً مُعيناً، وكان ذلك التصريح مُتسقاً مع فكر جماعة مُعينة، فإن صاحب التصريح يُصنف مع هذه الجماعة. ومثل ذلك القول بإن تصريح ستيف جوبز بوجوب تحرير تقنيات الفلاش أو اعتماد معيارٍ موحدٍ بديل لتطبيقات الفيديو على شبكة الإنترنت، يجعله ضمن مجتمع البرامج الحُرة. (والواقع يُخالف هذا الافتراض، لأن ستيف جوبز مُنتجٌ للتقنيات المغلقة).
و"الشخصنة" جزء من "المغالطة المصدرية"، بمعنى إسقاط مصداقية حجة منطقية لمصدرها، كما في حالة تصريح ستيف جوبز: إذ أن كونه من مُنتجي التقنيات المُغلقة، لا يُلغي صحة تصريحه، فمعيارٌ موحد بديلٌ لتطبيقات الفيديو على شبكة الإنترنت يصب في المصلحة العامة لمُنتجي التقنيات المُغلقة والمفتوحة والجمهور العادي.
أما "الشخصنة المعكوسة" فجزء من "حجة السلطة"، وهُنا يصير تصريح ستيف جوبز صحيحاً لأنه مصدر سلطة، وصاحب نفوذٍ واسع في أوساط مُستخدمي مُنتجات شركته. وهذا مُخالف لحقيقة المنطق، لأن أي حجة يجب أن تقوم بذاتها، ولذاتها.

Ignoratio Elenchi
أي "الاستدلال غير المنطقي"، أو "الاستنتاج الخارج عن السياق". والعبارة المُقتبسة في المُغالطة السابقة مثالٌ كذلك على مُغالطة "الاستدلال غير المنطقي" أو "الاستدلال خارج السياق":
"..... حتى كون القمر مذكرًا يدل على حمق مجتمعنا العربي، بينما القمر مؤنث في معظم الثقافات الغربية الناضجة.."
وجه المُغالطة هُنا أنه لا شيء في الحجة المطروحة يؤدي إلى هذا الاستنتاج، إذ أن النقاش لا يتضمن "تذكير القمر"، أو "الثقافة الغربية"، أو "حمق المُجتمع العربي". بل المسألة عبارة عن استطراد لا منطقي، حيث لا توجد علاقة سببية واضحة بين هذه العبارة، وبين العبارات السابقة لها، أو سياق النقاش. الأمرُ نفسه يوجد في هذه العبارة:
"لا تعجبك كلمة اسطورة في العنوان .. لا يعجبك أن يكون الوغد بشارب رفيع ... الخ .. الخ .. يعني بعد قليل ستهاجم الدكتور لأنه يلبس نظارة وشعره مجعد ؟؟!!"
فلا توجد علاقة بين "أسطورة في العنوان" و"شارب الوغد الرفيع"، وبين "الدكتور لابس النظارة ذي الشعر المُجعد". لا يوجد منطق في الاستدلال، أو الاستنتاج، وإنما هذا استطراد خارج السياق، لا يُقيم حُجة، بل يقع في نطاق "التهافت".
ينطوي "الاستدلال غير المنطقي" كذلك على مُغالطة "الرنجة الحمراء" الشهيرة، وإن كان "الاستدلال غير المنطقي" قد يكون مجرد خللِ قياسٍ بريء، فإن "الرنجة الحمراء" استدلال غير منطقي موجه عمداً ليحرف النقاش إلى منطقةٍ أخرى:
"ومن جديد تعودين لقوقعة (الفيمنزم) فيصير الأمر بكل ما فيه من تعقيد وتحريك من أطراف خارجية استحلالاً للنساء .. قرأت ذات مرة لفتاة تعلق على قصة (سارة) للعقاد وهي قصة شديدة الكثافة والتعقيد، فتقول له: أنت نذل لأنك لم تتزوجها!.. هذا هو ما استخلصته من هذه الرواية المرهقة !"
لا يوجد علاقة منطقية بين تعليق الفتاة على قصةِ "سارة" للعقاد، وبين "قوقعة الفينمنزم"، وبين "تسخيف القضية" - الذي يُفترض به أن يكون الحجة في هذا التصريح - والمقصود هُنا تحويل النقاش إلى قضايا فرعية:
أ- الفتيات يفهمن العبارات المعقدة بشكلٍ سطحي.
ب- الزواج هو كُل ما تُفكر فيه الفتيات.
و"الرنجة الحمراء" هُنا ليست مُجرد استطرادٍ بريء -مثلها مثل الرنجة الحمراء في المثالين السابقين للاستدلال غير المنطقي. وفي كُل الأحوال، فإن هذه من أنماط المُغالطات المنطقية، لأنها ليست حُججاً في حد ذاتها، ولا يُعتد بها في الرد على أي حجة.

A dicto secundum quid ad dictum simpliciter
وهذه مُغالطة استنباطية إحصائية، تقود إلى "تعميمات مُبالغٍ فيها". كما في هذه الحالة:
"لو كان جارك يعرف واحدًا يعرف واحدًا يعرف واحدًا أصيب بالكوليرا، فلابد أن هناك وباء في مكان ما. الأخبار في المجتمع المسيحي تنتقل بسرعة، فلماذا لا يعرف أي صديق مسيحي من أصدقائي شخصًا يعرف فتاة اختطفت وأرغمت على أن تسلم ؟.. بالتأكيد حدثت حوادث كهذه في الصعيد، لكنها ليست في حجم القوائم التي ينشرها أقباط المهجر والتي لا تقل عن مائتي اسم."
إذ أنه لإثبات وجود وباء كوليرا في منطقةٍ مُعينة، تلزمُ عينة إحصائية مُحددة تُثبت وجودُ عددٍ من الحالات يكفي لتعليم حالات الكوليرا المختلفة على أنها "وباء"، من حيث الربط بين عدد الحالات ومُسبباتها ونطاق انتشارها الجُغرافي. إن افتراض كون حالة كوليرا واحدة مؤشراً على وجود وباءٍ في مكان، فرضٌ غير صحيح لأن الكوليرا يُمكن أن تكون في حالاتٍ فردية. كما أن هذا الافتراض يتضمن الافتراض بأن عدم وجود حالة كوليرا يعني أنه لا يوجد وباء كوليرا في مكانٍ ما، وقيمة الحقيقة لهذا التصريح مُنعدمة.
ومثل ذلك القول: "إن استخدام جهاز آي فون يشيع في العالم العربي، والدليل على ذلك أن مبيعاته في السعودية هائلة." لأن مبيعات آي فون في السعودية لا تعني أنه ينتشر في العالم العربي بأكمله، فالعينة الإحصائية هُنا غير صحيحة، والاستدلال بها غير صحيح.

التناقض البيّن
عبارة: "الأخبار في المجتمع المسيحي تنتقل بسرعة، فلماذا لا يعرف أي صديق مسيحي من أصدقائي شخصًا يعرف فتاة اختطفت وأرغمت على أن تسلم ؟.. بالتأكيد حدثت حوادث كهذه في الصعيد، لكنها ليست في حجم القوائم التي ينشرها أقباط المهجر والتي لا تقل عن مائتي اسم." مثالٌ على التناقض البيّن، إذ أن الجزء الأول منها يفترض أنه لا توجد فتيات مسيحيات يُختطفن ويُرغمن على اعتناق الإسلام، بينما يرى الجزء الثاني أن هُناك حوادث قد حدثت في الصعيد. هذا مثالٌ على التناقض البيّن في العبارة، وعلى "خطأ الاستنباط الإحصائي المُعمَم".
من أمثلة التناقض البيّن كذلك تعاقب الاستثناءات: "النساء في اليمن بلغن مكانة عالية، لكنهن عرضة للتمييز في المُجتمع، لكنهن يحظين بالدعم والتشجيع من الجميع". فكل استثناء ينقض سابقه مما يُسقِط العبارة، لذلك لا يصح في اللغة تعاقب "لكنين" في جملة واحدة.

التصريح وقيمة الحقيقة
"التصريح" ليس ما تقوم به الجهات الأمنية - والمصادر المسؤولة عادة - فحسب، وإنما كُل "حجة" أو "عبارة" أو "قضية منطقية" تأتي في سياق المُحاججة والاستدلال. إن "الشمس تشرق كُل صباح" تصريح، لأنها قضية تحتمل الصواب أو الخطأ. وهُنا تأتي "قيمة الحقيقة": إن قيمة الحقيقة لأي تصريح مدى مُطابقته للواقع، وخلوه من المغالطات المنطقية. تصريح مثل: "فنسنت فان غوخ أعظم رسامٍ في العالم بإجماع متذوقي الفن"، يحمل قيمة حقيقة مساوية للصفر، لأن الإجماع لم يحصل، والعبارة مغالطة منطقية تامة. الأمر ذاته بالنسبة لتصريحٍ من قبيل: "إن أمريكا تحتل تركيا"، فواقع الحال يُخالف التصريح.
قيمة الحقيقة قد تكون صفراً، لكنها لا يُمكن أن تكون اثنين أو ثلاثة. فقيمة الحقيقة إما صفرٌ وإما واحد، إما صح أو خطأ، ولا يُحتمل أن تحمل القيمتين معاً.

المُغالطة المُتعمدة والعبارة المُضمرة
إن عبارة من قبيل "كُل من يقرأ سلسلة هاري بوتر يُصبح متخلفاً عقلياً" مُغالطة منطقية واضحة، تحمل قيمة الحقيقة صفر. لكنها قد تُستخدم عمداً لإثبات فساد عبارة مساوية مثل: "كُل من يقرأ سلسلة هاري بوتر يُصبح عبقرياً." إذ أن المآخذ المنطقية على العبارة الأولى تنطبق على العبارة الثانية.
تصريح من قبيل "إن بوش شركة مُتنكرة في هيئة رجل" مُغالطة منطقية، لأن الرجل لا يُمكن أن يكون شركة، والشركة لا يُمكن أن تكون رجلاً. مع ذلك، فإن التصريح مقصودٌ لما يُضمره: "إن بوش يخدم مصالح الشركات الكُبرى، لا مصالح الناس." وهُنا، يُصبح الحُكم واجباً على العبارة المُضمرة، لا العبارة الظاهرة. فلا يُمكن نقض هذا التصريح بالقول إن الرجل ليس شركة، ولكن بإسقاط قيمة حقيقة العبارة المُضمرة:
أ- بوش قدم خطة رعاية صحية متكاملة تشمل الفقراء، ورفع الضرائب على الشركات الكُبرى لتخف الضرائب على المواطنين من الطبقة الوسطى فما دونها. (قيمة الحقيقة للعبارة المُضمرة هُنا صفر).
ب - بوش أهمل الرعاية الصحية، وخفض ضرائب الشركات الكُبرى لتزيد الضرائب على المواطنين من الطبقة الوسطى فما دونها. (قيمة الحقيقة للعبارة المُضمرة هُنا واحد).
ومثل ذلك تصريحاتٌ من قبيل: "بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الولايات المتحدة الأمريكية."

وسلامة منطقكم!