18 أغسطس 2008

السادس: أنت لا تقرأ ما تكتبه

فكر في القائمة التي أعددتها للسبب الأول: أنت لا تشتري كتباً. (ادع أنك أعددت قائمة).
تخيل أنه عليك أن تعيد كل هذه الكتب إلى الرفوف التي أخذتها منها في المكتبات التي اشتريتها منها (أو فكر فقط بمكتباتك المفضلة).
تخيل الآن كتابك القادم في غلافٍ مثير يحمل روح قصتك كما هي. أين سيكون مكانه في هذه المكتبات؟ هل سيكون في أي مكانٍ قرب الكتب التي اشتريتها، أم سيكون في مكانٍ آخر؟
هل ستلتقطه - أو سيفعل قارئ افتراضي -؟

شون لندسي، 6 نوفمبر 2006
Reason#6: You Don't Read What You're Writing

تعليق: كاتبٌ وليس قارئاً!
يوسع الكثيرون استخدام مفهوم: "أنا لا أؤمن بكل ما أكتبه، ولا أفعل كل ما تفعله شخصياتي". - الضروري في الكتابة -، ويحولونه إلى: "أنا لا أقرأ ما أكتبه أصلاً" مُعتبرين ذلك (فتحاً) أدبياً من نوعٍ ما. إذا لم يقرأ المرء أعماله، فمن سيقرأوها؟ ولماذا يفترض من يكتب أنه سيجد تلقائياً من يقرأ له لمجرد أنه (ارتكب) فعل الكتابة؟
قرأت في مجلةٍ ذات مرة حكايةً يتذكرها أديبٌ شهير - نسيت اسمه - من أيام عمله مسؤولاً عن القسم الأدبي لإحدى الصحف عن شابٍ جاء إلى الصحيفة حاملاً قصصه ووساطة أحد معارف الأديب. وجدَ الأديب قصصه غايةً في السخف والركاكة، فسأله عن قراءاته: هل قرأت الكتاب الفلاني؟ هل قرأت أدب فلان؟ واستمر يسأله فترةً طويلة والشاب يجيبه بالنفي، ثم ضاق الشاب بأسئلته فقال له: "يكفي يا أستاذ! قُلت لك إنني كاتبٌ ولستُ قارئاً". يُطبق مُعظم من يكتبون هذه الواقعة بحذافيرها، فهم لا يقرأون أبداً، بل يكتبون فقط. أعرف (روائيين) يعتبرون قراءة الروايات مضيعة للوقت، ولا يقرأون حتى رواياتهم التي يكتبونها، ولو لمراجعة أخطائها النحوية واللغوية، ومعالجة ثغرات الحبكات. مع ذلك يعتقدون أن ما يكتبونه يستحق أن يُكتب بماء الذهب ويُحفَظَ في أرقى متاحف العالم. لذلك، يصحُ ما يُشاع أنه قد قيل عن أدب الشباب ويصف أدبهم بأنه "خطأ مطبعي ممتد".

15 أغسطس 2008

والآن، محمود!

لم أقرأ شيئاً يتعلق بمحمود درويش مُنذ وفاته، ولكل امرئٍ حُزنه. غير أن المواد عنه تصلني بالقوة، حتى أنني أفكر في أن فايرفوكس، الذي يحمل إلى المرء كُل شيء دون أن يتصفح حتى، نقمةٌ بقدر ما هو نعمة.
هذا مُبدعٌ آخر قد رحل، وفرصةٌ جديدة سنحت لنهش لحمه قبل أن يستقر في قبره. مُناسبةُ وفاته فرصةٌ (سعيدة) لاتهامه بالكفر والعمالة والخيانة، وبأنه ليس شاعراً!
- يُزعجني الجهلة حين يظهرون في مُناسبات الوفاة ليبدوا (رأيهم) في إبداعاتِ شخصٍ لم يسمح لهم جهلهم بأن يسمعوا عنه من قبل مهما بلغت شهرته، فيصفونها بأنها (دون المستوى) أو (رديئة) أو ينفون عن الراحل صفة الإبداع من الأساس! -
اليمين واليسار، التيار الديني الأصولي والتيارالملحد الأصولي، الشيوعيون والرأسماليون، كُلهم يتفقون في إفلاسهم الأخلاقي الفاحش ولا يفوتون مناسبة لإظهاره كمن يتلذذ بعرض عاهته ليستفز عواطف الناس أو ليظفر بالانتباه. مثلهم أولئك الذين يتساءلون عند وفاته بشكلٍ سخيفٍ: هل نُحبُ محمود درويش أم نكرهه؟ كمن يفتح مدونةً ليستشير عابري سبيل لا يعرف عنهم شيئاً: هل أتزوج هذه الفتاة أم لا؟ أشخاصٌ وصلوا من الخواء الفكري والروحي حداً جردهم من كُل معنى وحولهم إلى مجرد فقاعاتٍ منتفخة تتغذى على تفاهاتِ أشخاصٍ لم يجدوا في حياتهم ما يفعلونه خيراً من انتظار موتِ أديبٍ ليفتحوا أشداقهم المسعورة على آخرها.
هُناك أشخاصٌ يبدو أن حياتهم قد توقفت على قضيةٍ واحدة، منع الناس من التعبير عن حزنهم على محمود درويش - وكُل امرئ يحزن كما يشاء -، بعضهم بالسخرية من فكرة الحزن على رحيل شخصٍ لم تربط قراءه به غير قصائده التي لن ترحل برحيله، وبعضهم بآياتٍ وأحاديثٍ تحط من قدرِ الشعراء، وتجعل الحُزن عليهم موبقة توجب دخول جهنم. الأخيرون يذكرونني برحيل إدوارد سعيد قبل سنوات. كُنت في المدرسة الثانوية وقتها، ولم يكن أحدٌ في المدرسة يعرف سعيداً باستثناء معلمَينِ فلسطينيَين. لم أقل شيئاً، لكن مزاجي ظل حزيناً لفترةِ. شجنٌ غامض لم يُبارحني عند الرحيل أبداً، جدده رثاء درويش لصديقه بقصيدته "طباق" - التي تُرجِمَت إلى الإنكليزية ترجمةً غير موفقةٍ، ثُم (تُرجمت) مُجدداً إلى العربية فأصبحت شيئاً لا علاقة له بدرويش، أو بالشعر من الأساس -. ثُم تذكروا فجأةً رحيل إدوارد سعيد في الإذاعة المدرسية - في محاولة لاسترضاء أحد المدرسين الفلسطينيين -، فتحدثوا عنه حديثاً غير موفق، وبطبعي الذي لا يعرف السكوت حين يحسن السكوت صححت الكثير من المعلومات عنه. تعرضتُ لاستجواباتٍ كثيرةٍ وُجِدَ منها أنني شعرتُ بالحزن حقاً لرحيل سعيد. لم يكن عليهم أن يتحروا عنه وقتها، فالحزن على شخصٍ اسمه الأول إدوارد، وتمني الرحمة له أمران يوجبان العقاب الأبدي في جهنم لو مِتُ دون أن أتوبَ عن هذه المعصية. - والعُمر يجري، وأنا لم أتب بعد! -
(يُضحكني من يسألُ عن السبب في مقتي للمدرسة، معسكرُ اعتقالٍ يُديره آمون غوث كان ليكون مكاناً أفضل بكثير).
عرضُ العاهاتُ العقليةِ أمرٌ، ومنعُ الناسِ من الحُزن أمرٌ آخر. كِلاهُما دليل على انعدام الأخلاق، وعلى أدنى قدرٍ من الإنسانية يكاد يتحول حيوانية محضة، لكن الأخير اعتداءٌ غاشم على حقوقِ آخرينَ في الإنسانية، وكأن القطيع المتوحشَ يُريد أن يحول الجميع مسوخاً مثله.

14 أغسطس 2008

وإن ما كبرت...

... ما بتصغر!
مع اقتراب رمضان، تعرض الفضائيات نماذج من بضائعها الجديدة للشهر الفضيل، جنباً إلى جنب مع قمر الدين والكُنافة والسمبوسة، بوصف الطعام والمسلسلات (العربية) المميز الأساسي لشهر رمضان (الفضيل). أحدُ المسلسلات المُنتظرة في رمضان، الجزء الثالث من مسلسل "باب الحارة" الذي يبدو أن القائمين عليه قد قرروا تحويله إلى "ليالي الحلمية" الجديد، ولا عجب، فللمسلسل نسبة متابعةٍ عاليةٍ في العالم العربي قد تُغطي على مسلسلاتٍ أخرى مثل "نور" و"سنوات الضياع." (على الأقل، باب الحارة من إنتاج عربي.)
تعرض قنوات MBC لقطاتٍ من المسلسل كدعاية لتشويق المشاهدين للأحداث، وكُل اللقطات التي تعرضها تُظهر أناساً يتوعدون آخرين بأشياء فظيعة لا يستحقها المقام - فالأمر كُله يدور في حارة! -، ويصرخون بأعلى أصواتهم - رجالاً ونساء -، ثُم تنتهي المشاهد الخاطفة بعبارة: "وإن ما كبرت، ما بتصغر!".
شاهدت قليلاً من الجزء الأول للمسلسل، لكنني لم أشاهد الجزء الثاني بالمرة، ولا أخطط لمشاهدة الثالث. فالمسلسل تحول إلى سلسلةِ مشاكلَ وشجاراتٍ تافهةٍ لا نهاية لها، بين الكنة والحماة والأصهار والأعمام والأخوال و.......... وكأنه لا تكفي المرء مشاكل الحياة اليومية ليضيف عليها كُل هذا الكم من المشاكل والصُراخ!
مع ذلك، فهذا الكم الذي لا ينتهي من المشاكل هو السبب الرئيسي الذي يجذب الجمهور للمسلسل، ويجعلهم متحمسين: "والله أبو شهاب رجال" (!)، "أم لطفية ثعبانة" (!)، "عصام ماشي ورا مرته" (!). تستمر الصراعات التافهة، ويستمر الصُراخ، ويستمر انشداه المتفرجين.
قدم المُخرج بسام المُلا مسلسلاتٍ أخرى قبل باب الحارة تحمل ثيمته، منها "أيام شامية" و"ليالي الصالحية" - النسخة الأولية لباب الحارة - لكن أياً منها لم يُحقق نجاح باب الحارة، لغياب الدعاية رُبما، فمركز تلفزيون الشرق الأوسط مشهور بدعايته القوية لمشاريعه، وتبنيه لباب الحارة حوله من مسلسل محلي محدود التأثير إلى حالة عربية عامة، كما فعل مع الموجة التركية التي قرر أن يغزو التلفاز بها.
سببٌ آخر جعل باب الحارة يتقدم على مسلسلات المُلا الأخرى، أنه فهم وكتاب السيناريو (المشكلة) أو (العُقدة) في الدراما على وجهةٍ غير المقصودة، فأنشأوا سلسلة مشاكل لا تنتهي وشجاراتٍ وشوارب (مبرومة) وقليلاً من الحديث عن دعم (الجهادية)، وغلفوها بأغنية مقدمة تتحدث عن الذي يحلف يميناً كاذباً - الإيدعشري الميت في الجزء الأول، ويبدو أنهم لم يريدوا تغيير أغنية المُقدمة لتبقى ثيمة المسلسل خلال سنوات عرضه كما حدث مع ليالي الحلمية من قبل -، ثم قدموها إلى مشاهدٍ أكل حتى الامتلاء، وقرر التسلي بإكمال مشاجراته على التلفاز، بعد أن أنشغل أفراد الأسرة والمعارف والجيران بإكمال مشاجراتهم هُم أيضاً عن طريق أبي شهابٍ وصحبه.
ورمضان كريم.

13 أغسطس 2008

Villain

ليس ثمة قصة جيدة بدون شرير جيد.
مع أن ثُنائية البطل - الشرير صارت أقرب إلى الهرطقة في النقد الحديث - وصار الاعتقاد بها في درجة الاعتقاد بوجود أبو رجل مسلوخة -، إلا أنها لا تزال محور الحكاياتِ غالباً، والمُقترب الأساسي لقراءة كُتب الخيال، أو مُشاهدة الأفلام، وما إلى ذلك. أولُ ما يفعله المرء التفكير:
من الأبطال؟ ماذا يُريدون؟
من الأشرار؟ ماذا يُريدون؟
تُركز غالبية كُتب النقد على الأبطال دون الأشرار، فلتكون عند المرء قصةٍ، ينبغي أن يكون لها بطلٌ يجذب اهتمام القارئ وتعاطفه، بينما يحلُ الشرير في المرتبة الأخيرة، باعتباره العائق الذي يمنع البطل من تحقيق ما يُريده. حين ينتقل المرء إلى التطبيق، يجد أن القصة تفشل إذا لم يكُن الشرير مُتقناً. وغالباً ما يعلقُ الشرير في أذهان الجمهور أكثر من البطل، حتى يكاد يُنازعه مكانته، كما حدث مع فاوستوس ومفستوفيليس، فالأصل أن مفستوفيليس باعتباره الشيطان - أو وكيله - الشرير المُطلق في القصة، لكن مفستوفيليس هجر فاوستوس، وخرج من عباءته ليقوم وحده بوصفه رمزاً متفرداً في الفن.
تتخفى ثُنائية البطل - الشرير أحياناً، وتتزيا بأزياء مختلفة، فبطلٌ تراجيدي مثل مكبث شريرٌ إذا نُظِرَ إلى أفعاله من قتله لملكه وابن عمه دنكن، وقتله لصديقه بانكو، وذبح رجاله لأسرة مناوئه مكدَف. وفي المُقابل، فإن مكدَف هو البطل لأنه يُناوئ طاغية دموياً مثل مكبث، ويُحارِبُ لإعادة العرش المُغتصب إلى صاحبه الحقيقي، ولأنه - في سعيه البطولي - يتعرض لنكباتٍ أنزلها به الشرير (مكبث). ومع ذلك، فإن الأحداث جميعها تدور من وجهة نظر مكبث، وتُصبح محاولات مكدف ومالكولم ودونالبين للنيل منه اعتداءاتٍ (شريرةٍ) لإيقاف مكبث (البطل)، الأمر الذي أثار جنون النُقاد، وجعل لمسرحية مكبث مكاناً متفرداً بوصفها متمردةً على التصنيف النقدي الكلاسيكي، ووقحةٍ في تجرؤها على تقديم قاتلٍ جبان كمكبث في مكان البطل. وفي محاولةٍ منهم للتغلب على الكمين الذي نصبه لهم شكسبير بمسرحيته، (عَيَنَ) النُقاد ليدي مكبث شرير المسرحية الرسمي، والساحرة الرابعة الشمطاء، وحملوها وِزرَ أفعال مكبث جميعاً، فعاد مكبث البطل، وتحولت زوجته إلى شرير. وبغض النظر عن ضعف إحلال الأدوار هذا، وإغفاله لثيمة الشر الذي يأتي من الداخل، فإنه لم يحل مشكلةً هامة تتعلق بمكدَف (الشرير)، فلا جدال في أن أهدافه نبيلة، إذن، لماذا يأخذ مكانة الشرير في المسرحية؟
ليس غريباً أن تُلقب مسرحية مكبث بالمسرحية الإسكتلندية تحاشياً لذكر اسمها، فالمسرحية تُخيف النُقاد - والعاملين في المسرح - أكثر مما يُخيف أنتم-تعرفون-من عالم السحر.
تطور المسرح كثيراً، وتغير منذ أيام شكسبير، لكن المسرحيين لم يتوقفوا عن نصب الفخاخ والكمائن للقُراء والنُقاد، فغوته يحرمُ فاوست من الخصائص الإنسانية بينما يهبها لمفستوفيليس، بحيث تُصبح نجاته في النهاية غير مُبررة، ومُجحفةً بحق مفستوفيليس الذي يتحول من جلادٍ إلى ضحية. وهنريك إبسن يكتب براند الذي يسعى إلى الخلاص بالتضحية بزوجته وابنه وكُل من يعني له شيئاً في العالم. جُنَ أبطال المسرح، ولم يعودوا أبطالاً، بل صاروا إلى الشر أقرب بحيث أصابوا النُقاد بالإعياء. بطلُ المسرحية ينبغي أن يكون (بطلاً)، لكن الأبطال الجُدد ليسوا كذلك. ظهرت مصطلحات جديدة تُحاول التغلب على معضلة الأبطال الأشرار هؤلاء فأصبح لدينا بطلٌ مُضاد Anti-hero، ثم حاول النُقاد التخلي أخيراً عن ثنائية بطل - شرير Hero - Villain لصالح ثُنائية العامل الرئيسي - العامل المُضاد Protagonist - Antagonist، تاركين أحكام البطولة والشر، فصار ممكناً أن يكون العامل المُضاد في العمل ممثلاً للخير، طالما أن أفعاله تُعارض أفعال العامل الرئيسي الذي بدأ الحدث منه، وبشكلٍ طبيعي، فإن الجمهور سيهتف للعامل الرئيسي.
رغم أن العاملين الرئيسي والمضاد قدما خدمة كبيرة للتصنيفات النقدية، إلا أن الشرير لم يختف، بل نال اهتماماً أكثر من السابق، فكما وُجدت مُصطلحات: بطل مأساوي Tragic hero وبطل مضاد Anti-hero، وُجدت في المقابل مصطلحات: شريرٍ مأساوي Tragic villain وشرير مُضاد Anti-villain، حين قرر النقاد اتباع الجانب الغامض الذي أغراهم صغاراً بالتعاطف مع الشرير في سعيه الملحمي لإيقاف البطل. كان بوسع شكسبير أن يقلب أحداث مكبث، فيقدمها من وجهة نظر مكدَف، لكنه لم يفعل، لأن مكبث (الشرير) إنساني في خوفه ووحدته وعجزه، إنساني في رثائه لنفسه، إنساني في طغيانه وعزله، إنساني في موته. مكبث ليس مجرد صخرةٍ صماء تُحيل حياة مكدَف إلى جحيمٍ دون سببٍ ظاهر غير أغراض الحكاية، بل إنه شخصية من لحمٍ ودم. شخصية تُغري الدارسين بالبحث في الشرير المسكوت عنه طويلاً في الفن.
بدون شريرٍ لا يوجد بطلٌ، وبدون سعيهما الملحمي، لا توجد حكاية لتُروى.

12 أغسطس 2008

حروفك المنثورة

غاليتي، مُبدعتي، رائعي، ............................
ما الذي حدث للأساليب القديمة حين كان المرء يكتُب - بكُل وقار -: عزيزي/عزيزتي؟
لا يبدو أن أحداً يُريد أن يستخدم أسلوباً وقوراً في الكتابة هذه الأيام، فالمرء بات يرى من العجب ما يكفيه عن الدوران حول العالم ولو في ثمانمائة يوم. ما إن يجتازَ أحدٌ محنة قراءة مجموعة كلماتٍ مُركبةٍ فوق بعضها البعض تحاول أن تبدو أدباً جديداً (رفيعاً)، حتى تُصادفه مصائبُ التعليقات على الأحداث المؤسفة المذكورة آنفاً، فيرى مجموعة استعراضاتٍ مُنفرةٍ لسيرك غريبي خلقةٍ أو مشوهين. حيثُ يبدو أن الجميع يتعلم العربية، ولا أحد منهم اجتاز الابتدائية، غير أنهم - كمعظم من يدرسون اللغات الأجنبية - يُحبون التبجح بالكلمات الطنانة التي عثروا عليها في القواميس ثُنائية اللغة. الكلمات الطنانة أقصرُ طريقٍ لاكتشاف الطالب الجاهل - كما يقول أحد أساتذة المستعمرة دائماً - فلا خطر من استعمال كلمة جيد - التي تدلُ على مزاجٍ معتدلٍ أيضاً - بينما الخطرُ كُل الخطر في استخدام كلمةٍ مثل مُذهل، فإن لم يكن وضعها شاذاً في الجُملة، فهي ولا شك مُتبجحة، ولا أحد يُحب المتبجحين.
بدءاً من مُخاطبة صاحب المُشكلة الأساسي - الذي لم يكتب شيئاً يختلف عن استعراض المشوهين في التعليقات، وإن كتب فقد غطى عليه الاستعراض -، يتفنن لاعبو السيرك في انتقاء التعابير الأكثر شذوذاً وتبجحاً، باحثين عن كلماتٍ طنانةٍ لا داعي لها في السياق، تخلوا تماماً من الوقار، وتنمُ عن أشخاصٍ وحيدين مُحبطين في حيواتهم، يعوضون عن نقصهم الدائم باستخدام الكلمات الطنانة، وبنفخ فقاعة حول أنفسهم حتى لا يقترب منهم أحد.
يُصر أطفال الفقاعة هؤلاء على تجنب استخدام الكلمةِ القديمة (يكتب) كما يتجنب المرء البذاءات في حضور والديه، فلا أحد عندهم يرتكب مثل ذلك الفعل الذي يخلو من التجديد والتفرد، بل إنه غالباً ما (ينثر حروفه) أو (ينثر الحرف) في تنويعٍ أكثر تطرفاً، (يصوغ)، أو (يُرصع) - وهذه قدحٌ صريح، لأن الترصيع إضافة الجواهر للزينة، أي أن الكلمات مُضافة إلى الفضاء لمجرد الزينة، لا المعنى -. هذا دون البدء في سرد قائمة الكلمات المبتذلة التي تصف القطعة الأدبية، فزمن الشعر والنثر وما يدخل في قائمتهما من كلماتٍ انقضى، وهذا زمن نزف القلم والحروف المنثورة والأفكار المبعثرة والكلمات المبثوثة - والأخيرتان خرجتا من الاستخدام مؤخراً لصالح الأوليين -.
نثر الحروف ذمٌ وليس مدحاً، لأن الحروف إذا انتثرت فقدت معناها، فالكلمات حاملة المعنى لا الحروف، والكلمات لا تحمل المعنى إلا في عباراتٍ، والعبارات لا تكتمل إلا في جملٍ، فلماذا يُضيع أي إنسان عاقلٍ وقته في نثر الحروف؟ ولماذا قد يُضيع إنسانٌ عاقلٌ آخر وقته في قراءة حروفٍ منثورة؟ هُناك مثلٌ يقول: "إذا كان المتحدث مجنوناً، فليكن المستمع عاقلاً".
أما نزيف القلم فيدخل ضمن التخصصات الطبية، وأهل مكة أدرى بشعابها مني. لكن، قد يكون لانتشار مصطلحات النزيف - حيث تنزف الأقلام والنفوس والأفكار - علاقة بكثرة المتأدبين من الأطباء، الأمر الذي أدى إلى افتتاح قسم طوارئ نقدي لاستقبال حالات النزيف المفاجئة.
(المُذهل) في هذا كُله، عبقرية لاعبي السيرك وأطفال الفُقاعة، فكُل كلامهم ذمٌ لما يُعلقون عليه، لكنه ذمٌ لا يُفهم بسهولة. حين يوجهون الخطاب إلى: غاليتي، رائعي، فإنهم يتبسطون ويتحببون. ستبقين غالية على قلبي حتى وأنت تكتبين هذا الهُراء، وأنت ستبقى رائعاً بالنسبة لي رغم كم السخافات الخانق الذي تكتبه. ثُم يُسربون ذماً يصلُ حد التقريع في هيئةٍ غامضة، لا يفهمها الكاتب، ولا يفهمها القارئ، فتُصبح عُرضة للتفسير والتأويل، ويُريحون أنفسهم مُرضيين إياها والدائرة الاجتماعية المُقدسة التي ينتمون إليها وينتمي إليها الكاتب.
من يُريد أشياء سخيفة كالمعنى أو الوقار بعد هذا؟

05 أغسطس 2008

إفلاس!

فقد العالم بوصلته الأخلاقية!
برغم أنني لا أؤمن بالعبارات المعممة، وأعتقد أنها تؤدي دوراً مزعجاً شبيهاً بالدور الذي يؤديه الزميل المزعج عالي الصوت عندما يقول: "نيابة عن زملائي، أُعبر عن دعمنا لفلان بن فلان"، متجاهلاً زملاء مثلي لم يدعموا فلاناً المذكور، ولن يدعموه أبداً. مع ذلك، أرى بوضوحٍ (مُزعج) أن هذا العالم يترنح فاقداً بوصلته الأخلاقية.
كُنت قد كتبت عن ردود الأفعال التي تفضح لا أخلاقية فاجعة عند موت نجيب محفوظ، والآن أعود للموضوع نفسه مع أصوات النُباح المسعورة التي نبشت قبر يوسف شاهين ولم تبرد جثته بعد فيه. لم أُتعب نفسي بقراءة أي مقالات لأي من التيارين المتشابهين اليميني واليساري، فقد وصلت المقالات التي أعقبت موت الرجل إلى قارئ خلاصاتي، حاملة عناوين فاجعة من قبيل: وأخيراً، رحل يوسف شاهين (!)، يوسف شاهين هالكاً (!)، وعناوين أخرى لن أذكرها حفاظاً على احترام الموت.
ليس شاهين أفضل مخرج في العالم - ولا يوجد فنانٌ يُمكن أن يكون أفضل فنانٍ في العالم - لكن هذا الكلام غيرُ ضروري الآن، ولا داعي لقوله. لا فائدة من شحذ المخالب ومهاجمة يوسف شاهين بمجرد موته، فالأمر يتحول إلى شماتةٍ وتشفٍ: "أنت ميت الآن يا جو، ولا تستطيع أن تقول عن النقاد (احمرة). حاول الآن أن تفتح فمك وتنطق. الآن حانت ساعة انتقامنا منك". لا قيمة للهجوم على الرجل بمناسبة موته، فلا شيء سيُقال سيكون تقييماً حقيقياً ذا قيمةٍ لتجربة يوسف شاهين - أو تجربة أي مُبدعٍ آخر -، بل ستكون مجرد طعناتٍ مسمومةٍ تُمثل بجثة ميت، مع أن الطعن في الميت حرام.
الوقت الوحيد الصالح لتقييم تجربة أي مُبدعٍ يحلُ حين يُمكن تحييد واقعة الموت وتجاوزها، ليُنظر إلى خلود التجربة وخلود المبدع بعد اجتياز ارتباك الموت البدائي. حين يُمكن النظر إليه كما يُنظر إلى تي. إس. إليوت وويليام شكسبير وستانلي كوبريك بوصفهم حاضرين دوماً في التقليد الثقافي للعالم، لا بوصفهم موتى حانت ساعة تصفية الحساب معهم.
في السياق نفسه، تابعت قبل أشهر زوبعة في فنجان على مجموعة من المدونات المصرية أعقبت وفاة روائي اسمه محمد ربيع، وحذف بعض السباب المتبادل معه على إحدى المدونات. أحدهم نبش واقعة الحذف، وقرر أن يُثير بلبلة بسببها باعتبار أن موت ربيع لا ينفي خلافهم معه، وأن الخلاف ينبغي أن يستمر، والصراع ينبغي أن يبقى دائراً. حاصل الجعجعة كان فضح الإفلاس الأخلاقي لجميع الأطراف المشاركة فيها، ليس الإفلاس الأخلاقي لأفرادٍ بأعينهم شملتهم هذه الوقائع فقط، بل الإفلاس الأخلاقي الذي يعم العالم، والذي يُدمر تماماً فكرة (الشرف).
من حق المرء أن يختلف، وأن يُحافظ على الاختلاف، لكنه ليس على حقٍ في الاحتفاظ بالسباب والشجارات المتبادلة بين طرفين. بعد وفاة ألبرت آينشتاين، لم يُغير نيلز بور مبادئه ويعتنق أفكار آينشتاين ليُلغي الاختلاف معه، لكنه توقف عن تبادل السباب معه، فآينشتاين لم يعد موجوداً ليُرد له الصاع صاعين، وليبرر نفسه، وليداور ويحاور ويناور ويُطاول ويختلف ويُقدم نسخته من الوقائع. الناجون هُم من يروون الوقائع، ويحرفونها كما يشاؤون معتمدين على أن الموتى لا يتكلمون. ومن المُخالف للشرف أن تبقى الشجارات والخلافات بعد موت أحد أطرافها. كُل ما في الأمر ليس سوى أحقادٍ تافهةٍ ومشاحناتٍ تتواصل ضد موتى. خطبٌ طويلةٌ في هجاء رجلٍ لن يرد لأنه قد رحل. أشياء لا تهم أحداً سوى مجموعة صحافيين مفلسين فكرياً وأخلاقياً ينشرون إفلاسهم في عالمٍ أشهر إفلاسه الأخلاقي بالفعل.
في الغرب، لم تجد باربرا والترز شيئاً تقوله عن زميلٍ راحلٍ لها سوى أنه كان عصبياً، وأنها لا تزال غاضبة لأنه صرخ في وجهها ذات خلاف! حسناً، حين تلحقين به إلى العالم الآخر، اصرخي في وجهه بالمقابل، أما هذا العالم، فلا يحتمل مزيداً من التصريحات المُفلسة.
اختلف الغزالي وابن رشد، ولا يزال التاريخ يحفظ خلافهما، لأنه كان اختلاف فكرٍ، لا خلافاً بين اثنين يُصفي كُلٌ منهما حساباته مع رفيقه في المقهى بالسباب، أو ينتهز فيه الناجي فرصة الموت ليُمثل بالميت، ويُسقِط عن الموت هيبته، ناسياً أن الموت يجوز حتى على الموت.

02 أغسطس 2008

قابل للمشاهدة!

يَعِدُ الفيلم الدعائي الذي صدر أخيراً للفيلم السادس من أفلام سلسلة هاري بوتر الشهيرة،هاري بوتر والأمير الخليط، بأن يكون الفيلم قابلاً للمشاهدة، على غير عادة أفلام هاري بوتر الخمسة السابقة.
مُخرج الفيلم - الذي سيُعرض في نوفمبر - ديفد ييتس أخرج الفيلم الخامس، جماعة العنقاء، وسيُخرج الفيلمين القادمين من هاري بوتر (وللأسف، لا يُفكر مُدراء إستوديوهات وورنر بروذرز جدياً في قبول اقتراح نيوزويك تسميتهما: هاري بوتر وإستوديو الأفلام المقرف بجشعه) ما سيسجله رسمياً كمُخرج هاري بوتر، ويسحب الأضواء من بقية مُخرجي السلسلة: كريس كولمبوس، ألفونسو كورون، ومايك نويل - على الترتيب -. لم يتغير مُخرج الجزء الخامس، ولم يتغير مُنتج السلسلة ديفد هيمان، وعاد كاتب السيناريو ستيف كلوفيس ليكتب سيناريو الفيلم السادس بعد توقفه في الفيلم الخامس. لا يزال دانييل رادكليف هاري بوتر، ولم يتغير أحد، فلماذا يبدو الفيلم السادس مختلفاً؟
لأول مرة في سلسلة هاري بوتر، يعد الفيلم الدعائي بشيء إنساني، شيء يختلف عن تكسير الزجاج والصراخ - كما في فيلم جماعة العنقاء الدعائي، وللأمانة فقد كان فيلماً دعائياً يشد الأعصاب حتى أن كثيراً ممن شاهدوا الفيلم شعروا بخيبة أملٍ كبيرة -، أو تتابعات الاحتفالات والمسابقات - كما في فيلم كأس النار الدعائي الذي احتوى على مشاهد من الدورة الثلاثية أكثر مما في الفيلم نفسه -.
"في كُل السنوات التي قضاها توم هُنا، لم يزره أحدٌ أبداً."
مدخلٌ لمقابلة لورد فولدمورت الطفل، توم ريدل الصغير الذي يُقابل لأول مرة ساحراً من نوعه. دمبلدور مقابل الصبي، أكثر شباباً، ورُبما أكثر إهمالاً. دمبلدور كرجال العصابات الذين يحاولون أن يبدو مقبولين اجتماعياً بثيابٍ مبالغٍ في فخامتها، تتناقض تماماً مع الفقر البادي في المكان والصبي أمامه. جو سحري يُغلف كُل شيء، ليس السحر الذي يُمارسه السحرة في ذروة معركتهم - معركة البرج الذي ضربه البرق في هوغوورتس ذروة معارك سلسلة هاري بوتر، لا مهزلة هوغوورتس في كتاب مقدسات الموت -، بل سحر الذكرى التي تُغبش كُل شيء بظلالها. ذكرى طفلٍ مُعذب مفتون.
هيرو فاينز-تيفن اقتسم الفيلم الدعائي مع مايكل غامبون في دوري توم ريدل وألباس دمبلدور ما يُشير إلى أن الديفدين - هيمان وييتس - قد استعادا صوابهما، وأدركا أن هُناك أشياء أهم ليتمحور حولها الفيلم ممن خرج مع من، ومن قبل من، ومن ضرب من. يبدو الصبي والشيخ متكافئين، متقنين، في مكانهما الصحيح، وقادرين على تجسيد المسكوت عنه في علاقة دمبلدور وفولدمورت التي امتدت لأكثر من خمسين عاماً بدأها لقاؤهما في حجرة الأخير في الميتم.
فقدت اهتمامي بالسلسلة بعد آثار الموت الذي كان نهاية مؤسفة في هزليتها لعقدٍ ساحر، وفقدت اهتمامي بمشاهدة أفلام هاري بوتر بعد مغامرة ديفد ييتس المضحكة في جماعة العنقاء، ثم بعد تصريحاتٍ سابقة لرادكليف وييتس بأن الفيلم السادس سيكون أطرف أفلام السلسلة، وأكثرها بعثاً على الضحك - مع أن الكتاب السادس أكثرها كآبة وحزناً -، لكنني بت أعتقد أن الفيلم السادس قابلٌ للمشاهدة فعلاً، ففيه توترٌ إنساني وتمثيل حقيقي، لا مجرد انفجارات تقنية، وهيرو فاينز-تيفن الصغير يظهر قادراً على أن يكون فولدمورت، وقادراً على منافسة خاله المختفي تحت أحمال الماكياج والعمليات الجراحية الحاسوبية ريف فاينز في نفس الدور. (وتقول الشائعات إن جوزيف فاينز - شقيق ريف وخال هيرو الآخر - سيؤدي دور فولدمورت في الثلاثينات من عُمره، وأن كلب العائلة مكدورماك فاينز سيؤدي دور كلب فولدمورت الدانماركي العملاق.)
هُنا مشكلةٌ أكيدة، ماذا لو كان الفيلم الدعائي خُدعة - كالعادة-؟
هي حكمة جون بيكر الأكيدة: "لا توقعات، لا خيبات أمل."