ليس ثمة قصة جيدة بدون شرير جيد.مع أن ثُنائية البطل - الشرير صارت أقرب إلى الهرطقة في النقد الحديث - وصار الاعتقاد بها في درجة الاعتقاد بوجود أبو رجل مسلوخة -، إلا أنها لا تزال محور الحكاياتِ غالباً، والمُقترب الأساسي لقراءة كُتب الخيال، أو مُشاهدة الأفلام، وما إلى ذلك. أولُ ما يفعله المرء التفكير:
من الأبطال؟ ماذا يُريدون؟تُركز غالبية كُتب النقد على الأبطال دون الأشرار، فلتكون عند المرء قصةٍ، ينبغي أن يكون لها بطلٌ يجذب اهتمام القارئ وتعاطفه، بينما يحلُ الشرير في المرتبة الأخيرة، باعتباره العائق الذي يمنع البطل من تحقيق ما يُريده. حين ينتقل المرء إلى التطبيق، يجد أن القصة تفشل إذا لم يكُن الشرير مُتقناً. وغالباً ما يعلقُ الشرير في أذهان الجمهور أكثر من البطل، حتى يكاد يُنازعه مكانته، كما حدث مع فاوستوس ومفستوفيليس، فالأصل أن مفستوفيليس باعتباره الشيطان - أو وكيله - الشرير المُطلق في القصة، لكن مفستوفيليس هجر فاوستوس، وخرج من عباءته ليقوم وحده بوصفه رمزاً متفرداً في الفن.
من الأشرار؟ ماذا يُريدون؟
تتخفى ثُنائية البطل - الشرير أحياناً، وتتزيا بأزياء مختلفة، فبطلٌ تراجيدي مثل مكبث شريرٌ إذا نُظِرَ إلى أفعاله من قتله لملكه وابن عمه دنكن، وقتله لصديقه بانكو، وذبح رجاله لأسرة مناوئه مكدَف. وفي المُقابل، فإن مكدَف هو البطل لأنه يُناوئ طاغية دموياً مثل مكبث، ويُحارِبُ لإعادة العرش المُغتصب إلى صاحبه الحقيقي، ولأنه - في سعيه البطولي - يتعرض لنكباتٍ أنزلها به الشرير (مكبث). ومع ذلك، فإن الأحداث جميعها تدور من وجهة نظر مكبث، وتُصبح محاولات مكدف ومالكولم ودونالبين للنيل منه اعتداءاتٍ (شريرةٍ) لإيقاف مكبث (البطل)، الأمر الذي أثار جنون النُقاد، وجعل لمسرحية مكبث مكاناً متفرداً بوصفها متمردةً على التصنيف النقدي الكلاسيكي، ووقحةٍ في تجرؤها على تقديم قاتلٍ جبان كمكبث في مكان البطل. وفي محاولةٍ منهم للتغلب على الكمين الذي نصبه لهم شكسبير بمسرحيته، (عَيَنَ) النُقاد ليدي مكبث شرير المسرحية الرسمي، والساحرة الرابعة الشمطاء، وحملوها وِزرَ أفعال مكبث جميعاً، فعاد مكبث البطل، وتحولت زوجته إلى شرير. وبغض النظر عن ضعف إحلال الأدوار هذا، وإغفاله لثيمة الشر الذي يأتي من الداخل، فإنه لم يحل مشكلةً هامة تتعلق بمكدَف (الشرير)، فلا جدال في أن أهدافه نبيلة، إذن، لماذا يأخذ مكانة الشرير في المسرحية؟
ليس غريباً أن تُلقب مسرحية مكبث بالمسرحية الإسكتلندية تحاشياً لذكر اسمها، فالمسرحية تُخيف النُقاد - والعاملين في المسرح - أكثر مما يُخيف أنتم-تعرفون-من عالم السحر.
تطور المسرح كثيراً، وتغير منذ أيام شكسبير، لكن المسرحيين لم يتوقفوا عن نصب الفخاخ والكمائن للقُراء والنُقاد، فغوته يحرمُ فاوست من الخصائص الإنسانية بينما يهبها لمفستوفيليس، بحيث تُصبح نجاته في النهاية غير مُبررة، ومُجحفةً بحق مفستوفيليس الذي يتحول من جلادٍ إلى ضحية. وهنريك إبسن يكتب براند الذي يسعى إلى الخلاص بالتضحية بزوجته وابنه وكُل من يعني له شيئاً في العالم. جُنَ أبطال المسرح، ولم يعودوا أبطالاً، بل صاروا إلى الشر أقرب بحيث أصابوا النُقاد بالإعياء. بطلُ المسرحية ينبغي أن يكون (بطلاً)، لكن الأبطال الجُدد ليسوا كذلك. ظهرت مصطلحات جديدة تُحاول التغلب على معضلة الأبطال الأشرار هؤلاء فأصبح لدينا بطلٌ مُضاد Anti-hero، ثم حاول النُقاد التخلي أخيراً عن ثنائية بطل - شرير Hero - Villain لصالح ثُنائية العامل الرئيسي - العامل المُضاد Protagonist - Antagonist، تاركين أحكام البطولة والشر، فصار ممكناً أن يكون العامل المُضاد في العمل ممثلاً للخير، طالما أن أفعاله تُعارض أفعال العامل الرئيسي الذي بدأ الحدث منه، وبشكلٍ طبيعي، فإن الجمهور سيهتف للعامل الرئيسي.
رغم أن العاملين الرئيسي والمضاد قدما خدمة كبيرة للتصنيفات النقدية، إلا أن الشرير لم يختف، بل نال اهتماماً أكثر من السابق، فكما وُجدت مُصطلحات: بطل مأساوي Tragic hero وبطل مضاد Anti-hero، وُجدت في المقابل مصطلحات: شريرٍ مأساوي Tragic villain وشرير مُضاد Anti-villain، حين قرر النقاد اتباع الجانب الغامض الذي أغراهم صغاراً بالتعاطف مع الشرير في سعيه الملحمي لإيقاف البطل. كان بوسع شكسبير أن يقلب أحداث مكبث، فيقدمها من وجهة نظر مكدَف، لكنه لم يفعل، لأن مكبث (الشرير) إنساني في خوفه ووحدته وعجزه، إنساني في رثائه لنفسه، إنساني في طغيانه وعزله، إنساني في موته. مكبث ليس مجرد صخرةٍ صماء تُحيل حياة مكدَف إلى جحيمٍ دون سببٍ ظاهر غير أغراض الحكاية، بل إنه شخصية من لحمٍ ودم. شخصية تُغري الدارسين بالبحث في الشرير المسكوت عنه طويلاً في الفن.
بدون شريرٍ لا يوجد بطلٌ، وبدون سعيهما الملحمي، لا توجد حكاية لتُروى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق