12 أغسطس 2008

حروفك المنثورة

غاليتي، مُبدعتي، رائعي، ............................
ما الذي حدث للأساليب القديمة حين كان المرء يكتُب - بكُل وقار -: عزيزي/عزيزتي؟
لا يبدو أن أحداً يُريد أن يستخدم أسلوباً وقوراً في الكتابة هذه الأيام، فالمرء بات يرى من العجب ما يكفيه عن الدوران حول العالم ولو في ثمانمائة يوم. ما إن يجتازَ أحدٌ محنة قراءة مجموعة كلماتٍ مُركبةٍ فوق بعضها البعض تحاول أن تبدو أدباً جديداً (رفيعاً)، حتى تُصادفه مصائبُ التعليقات على الأحداث المؤسفة المذكورة آنفاً، فيرى مجموعة استعراضاتٍ مُنفرةٍ لسيرك غريبي خلقةٍ أو مشوهين. حيثُ يبدو أن الجميع يتعلم العربية، ولا أحد منهم اجتاز الابتدائية، غير أنهم - كمعظم من يدرسون اللغات الأجنبية - يُحبون التبجح بالكلمات الطنانة التي عثروا عليها في القواميس ثُنائية اللغة. الكلمات الطنانة أقصرُ طريقٍ لاكتشاف الطالب الجاهل - كما يقول أحد أساتذة المستعمرة دائماً - فلا خطر من استعمال كلمة جيد - التي تدلُ على مزاجٍ معتدلٍ أيضاً - بينما الخطرُ كُل الخطر في استخدام كلمةٍ مثل مُذهل، فإن لم يكن وضعها شاذاً في الجُملة، فهي ولا شك مُتبجحة، ولا أحد يُحب المتبجحين.
بدءاً من مُخاطبة صاحب المُشكلة الأساسي - الذي لم يكتب شيئاً يختلف عن استعراض المشوهين في التعليقات، وإن كتب فقد غطى عليه الاستعراض -، يتفنن لاعبو السيرك في انتقاء التعابير الأكثر شذوذاً وتبجحاً، باحثين عن كلماتٍ طنانةٍ لا داعي لها في السياق، تخلوا تماماً من الوقار، وتنمُ عن أشخاصٍ وحيدين مُحبطين في حيواتهم، يعوضون عن نقصهم الدائم باستخدام الكلمات الطنانة، وبنفخ فقاعة حول أنفسهم حتى لا يقترب منهم أحد.
يُصر أطفال الفقاعة هؤلاء على تجنب استخدام الكلمةِ القديمة (يكتب) كما يتجنب المرء البذاءات في حضور والديه، فلا أحد عندهم يرتكب مثل ذلك الفعل الذي يخلو من التجديد والتفرد، بل إنه غالباً ما (ينثر حروفه) أو (ينثر الحرف) في تنويعٍ أكثر تطرفاً، (يصوغ)، أو (يُرصع) - وهذه قدحٌ صريح، لأن الترصيع إضافة الجواهر للزينة، أي أن الكلمات مُضافة إلى الفضاء لمجرد الزينة، لا المعنى -. هذا دون البدء في سرد قائمة الكلمات المبتذلة التي تصف القطعة الأدبية، فزمن الشعر والنثر وما يدخل في قائمتهما من كلماتٍ انقضى، وهذا زمن نزف القلم والحروف المنثورة والأفكار المبعثرة والكلمات المبثوثة - والأخيرتان خرجتا من الاستخدام مؤخراً لصالح الأوليين -.
نثر الحروف ذمٌ وليس مدحاً، لأن الحروف إذا انتثرت فقدت معناها، فالكلمات حاملة المعنى لا الحروف، والكلمات لا تحمل المعنى إلا في عباراتٍ، والعبارات لا تكتمل إلا في جملٍ، فلماذا يُضيع أي إنسان عاقلٍ وقته في نثر الحروف؟ ولماذا قد يُضيع إنسانٌ عاقلٌ آخر وقته في قراءة حروفٍ منثورة؟ هُناك مثلٌ يقول: "إذا كان المتحدث مجنوناً، فليكن المستمع عاقلاً".
أما نزيف القلم فيدخل ضمن التخصصات الطبية، وأهل مكة أدرى بشعابها مني. لكن، قد يكون لانتشار مصطلحات النزيف - حيث تنزف الأقلام والنفوس والأفكار - علاقة بكثرة المتأدبين من الأطباء، الأمر الذي أدى إلى افتتاح قسم طوارئ نقدي لاستقبال حالات النزيف المفاجئة.
(المُذهل) في هذا كُله، عبقرية لاعبي السيرك وأطفال الفُقاعة، فكُل كلامهم ذمٌ لما يُعلقون عليه، لكنه ذمٌ لا يُفهم بسهولة. حين يوجهون الخطاب إلى: غاليتي، رائعي، فإنهم يتبسطون ويتحببون. ستبقين غالية على قلبي حتى وأنت تكتبين هذا الهُراء، وأنت ستبقى رائعاً بالنسبة لي رغم كم السخافات الخانق الذي تكتبه. ثُم يُسربون ذماً يصلُ حد التقريع في هيئةٍ غامضة، لا يفهمها الكاتب، ولا يفهمها القارئ، فتُصبح عُرضة للتفسير والتأويل، ويُريحون أنفسهم مُرضيين إياها والدائرة الاجتماعية المُقدسة التي ينتمون إليها وينتمي إليها الكاتب.
من يُريد أشياء سخيفة كالمعنى أو الوقار بعد هذا؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق