15 ديسمبر 2011

شفاء عين المُبتلى

في فيلم ممر إلى الهند (١٩٨٤) مشهدٌ شهير: يذهب مُدير المدرسة المتعاطف مع الهنود - ومع الطبيب عزيز على وجه الخصوص - لزيارة الطبيب عزيز في بيته - وعيادته - بعد أن أسقطت الآنسة كويستِد التُهَم الموجهة إليه، ليُهنِئه بالبراءة ويطلب منه ألّا يواصل قضية التعويض التي قرر محاميه (السياسي) رفعها ضدها. يُقابله الطبيب عزيز وهو يُنهي استعداداته للخروج لحفل انتصاره، مُكَتحلاً، مُرتدياً ثياباً هندية تقليدية، ويقول له: "لقد اكتفيت من الإنكليز! أنا الآن هندي." 
يبدو المشهدُ وكأنه شفاء عزيز من عُقدته الإنكليزية، واعتناقه لهنديته، بعد أن حوكِم، وأُهِين، وأُهدِرَت آدميته في قضيةٍ تورط فيها بسبب عُقدته الإنكليزية ذاتها. لكن عزيزاً - في آخر الفيلم - يصرخ: "مسز مور! مسز مور!" بعد أن قطع ريتشارد فيلدنغ - مدير المدرسة - البحور ليقابله هو وزوجته، ابنة السيدة مور. لَم يُشَفَ عزيز من مرضه الإنكليزي، ولن يُشفى، مثل كُل أبناء المُستعمرات.

ضمير استعماري
ممرٌ إلى الهند - الفيلم - تُحفة سينمائية، لكن هُناك بضع خُرافاتٍ قد شاعت عنه، أهمها أنّه يتعاطف مع المُستعمرات وسكانها، وأنّه يُقدم نقداً للكولونيالية الأوروبية من حيثُ تعاملها مع المُستعمرات. الخُرافةُ ذاتها تشيعُ عن الرواية، غير أنّه لا إي. إم. فورستر ولا ديفد لين مُتعاطفان حقاً مع أبناء المُستعمرات، ولا يعنيهما حقاً ما أصابَ الطبيب عزيز. فيلم ممرٍ إلى الهند - مثله مثل المريض الإنكليزي (١٩٩٦) وحفنةِ أفلامٍ أخرى تدور في المُستعمرات - فيلمٌ عن أزمةِ ضميرٍ تتعرض لها شخصياتٌ أوروبية بيضاء، ويكون دور المُستعمرات فيها شبيهاً بدور الأحراش في قلب الظلام: نزعٌ للشخصيات من سياقها المكاني وجعلها تواجِه سياقها الفكري في مكانٍ جديد، displacement. (مثيرٌ للاهتمام أنّه في قلب الظلام وممر إلى الهند، هُناكَ حديثٌ عن "ضربة الشمس" التي تصرعُ الرجال البيض والنساء).
غير أن ممر إلى الهند فيلمٌ ممتازُ الصنعة، وعرضه لطبيعة العلاقة بين المُستَعمِر والمُستَعمَر جديرٌ بالتمعِن فيه. في البداية، هُناك سياقان مُختلفان: السيدة مور والآنسة كويستد ذاهبتان إلى الهند لزيارة ابن السيدة مور من زوجها الأول ويُفترَض أن الآنسة كويستد ستتزوج ابن السيدة مور. في الهند، الطبيب عزيز أرملٌ يعيش بعيداً عن ولديه، ويعتني جيداً بأفراد مُجتمعه الفقير. واضحٌ منذ البداية أن عزيزاً ليس كاسمه أبداً في مواجهةِ البريطانيين، إذ يصله أمرُ استدعاء في وقتٍ مُتأخر فيهرع من دون تأخير، وتأخذ سيدتان إنكليزيتان عربة الرِكشا التي استأجرها. قبل ذلك، تُسقطه عربةٌ بريطانية هو وصديقٌ له، وهما يرتديان ثياباً أوروبية بالكامل، ويتحدثان بالإنكليزية. الإنكليز يحتقرون عزيزاً، وعزيز يتعامل معهم باستخذاء تام.
يلتقي عزيز بالسيدة مور حين يذهب إلى المسجد، ويجلس ليتأمل البحر، فتدخل السيدة مور وقد وضعت وشاحاً على رأسها وخلعت حذاءيها. ويُقدم الفيلم دخولها كأنه أمرٌ ميتافيزيقي. (في الفيلم حملٌ ميتافيزيقي كبيرٌ يُخفف من حدة لومِ الكولونيالية). يحاول عزيز أن يُخرجِها من المسجد لأنّه مُعتادٌ على السيدات الإنكليزيات اللائي يتسللن بأحذية إليه، ويُفاجأ بأنها تحترم التقاليد الإسلامية. مُحاولةُ عزيز الدفاع عن المسجد الأمرُ الوحيدُ الذي سيبدو فيه مُقاوماً للإنكليز، وفيما عدا ذلك، فإنه تابعٌ للإنكليز. منذ لقائه بالسيدة مور، يتعلق عزيز بها كما لو كانت قديسة، وهو هنديٌ محروم، يُثبت نظرية غُلاة الاستعماريين البريطانيين عن وجوب تجنب أخذِ أبناء المُستعمرات باللين والرقة.

عزيز وفيلدِنغ
واحدٌ من مشاهِد الفيلم الرئيسية المشهدُ الذي يُدعى فيه عزيز لمُقابلة السيدة مور والآنسة كويستد في منزل مُدير المدرسة، ريتشارد فيلدنغ. عزيز منبهرٌ بكُل شيء يراه، فضولي إزاء كُل شيء، ولا يتحلى بالكياسة لينتظر حتى يفرُغ فيلدنغ من ارتداء ملابِسه. مع ذلك، فإنه يخلع دبوس ياقته ويُعطيه لفيلدنغ عندما ينكسر دبوسه، مُدعياً أن لديه دبوساً آخر. تخلي عزيز عن جُزءٍ من هندامه ليُحسَن من هندام الإنكليزي مشهدٌ كان ليجعل نيتشه يقفز من مقعده صارخاً: "هذه أخلاق العبيد! هذه أخلاق العبيد!" (وفيما بعد يقول هِسلوب - ابن السيدة مور - إن عزيزاً جاء مرتدياً ثياب الأحد ونسي دبوس الياقة، لأنه يستحيل أن يفعل أبناء المُستعمرات شيئاً لائقاً، أو أن يفهموا معنى أن يكون الإنسان "جنتلمان").
عزيزٌ مأخوذٌ باللطف الذي يتعامل به معه الإنكليز الثلاثة، السيدة مور والآنسة كويستد والسيد فيلدنغ، ويرغب في أن يُعبر عن امتنانه لهم. فيدعوهم إلى بيته، ثم يتذكر أن بيته حقيرٌ مُقارنة ببيوت الإنكليز الفاخرة - وينسى أن الإنكليز يُقيمون في بلده، ويبنون بيوتهم الفاخرة من عرق أبناء جلدته - فيدعوهم إلى رحلةٍ نحو منطقة كهوفٍ قريبة من المدينة (تشاندرابور) لم يزُرها في حياته أبداً. توافق الآنسة كويستد فوراً، لأنها ترغب في رؤية تلك المنطقة مُذ كانت في إنكلترا، ويتورط عزيز في تدبير تكاليف الرحلة.
قبل الرحلة، ثمة حدثٌ مهمٌ آخر. يمرضُ عزيز فيعوده فيلدنغ، ويُفاجأ عزيز - وقومه - بالزيارة، ويتصرفون بقلق وارتباك، ويقدمون له عدة مقاعد، ويفقد عزيز أعصابه فيصرخ في بني جلدته. ثم يصرخ في محامٍ شاب (يُزعج) السيد فيلدنغ بسؤالٍ عن الاستعمار، يتملص منه فيلدنغ بطريقة الغربيين في (الفهلوة) الفكرية.
ثم يتدبر عزيز أمرَ إبقاء فيلدنغ عنده في مناسبةٍ أخرى، وحدهما، ويعرض عليه بيته، وصورة زوجته الراحلة، ليُشرِكَه أعزَ ما يملك. يُحاول عزيز بذلك أن يبني جسراً بينه وبين فيلدنغ، وأن يردَ لفيلدنغ لطفه وكرمه، لأنه لا يرى نفسه مساوياً له، ولذلك فإنّه يحاول إيجادَ أرضية مُشتركة بينهما. ويقترح على فيلدنغ الزواج بالآنسة كويستد وإنجاب ابناء، ثم يتحدث عمّا "لا يفهمه الشرقي" حين يقول فيلدنغ إنّه لا يكترث بالحفاظ على اسمه. عزيز يمضي - بعد أن عرض صورة زوجته على فيلدنغ - ويعرض عليه بعضاً من نساء بلده، الأمرُ الذي يرفضه فيلدنغ.

إمبراطور المغول
يُرسل هِسلوب أحد خدمه ليحرسَ أمه وخطيبته، لكن عزيزاً يصرفه، ويُعطيه بعض المال. عزيز يُريد أن يظهر بمظهر صاحِب السُلطة مع (أصدقائه) الأوروبيين، لذلك يصرفُ مواطِنه بـ(قرشين). تركب السيدة مور والآنسة كويستد القطار معه - وإن كان هو في عربة الدرجة الثالثة، بطبيعة الحال - وتفاجآن به يقفز متعلقاً بنافذة القطار كأنه قرد، جيئةً وذهاباً بين مقصورته ومقصورتهما ليطمئن عليهما. مُنزِعجاً من عدم استطاعة فيلدنغ اللحاق بهما. عزيز يعتبر السيدة مور قديسته، ويرى في فيلدنغ مثلاً أعلى له، لكن الآنسة كويستد لا تملكُ مكاناً واضحاً في علاقته بالبيض، وعلاقته بها تتأرجح ما بين الإعجاب بها بوصفها امتداداً للسيادة البيضاء، وعداء لها لأنها امرأة عزباء وغير جذابة.
في منطقة الكهوف، يستأجِر عزيز فيلاً ويركب عليه مع المرأتين الأوروبيتين. تتحول الزيارة إلى موكب شعبي، ويقول عزيز إنه يشعر وكأنه إمبراطور، مثل أسلافه المغول. هو يركب الفيل مُنتصراً مع امرأتين بيضاوين هما (ضيفتاه)، ويُحيط به أبناء شعبه الذين يعتبرونه قادماً من عالمٍ آخر بسبب الصُحبة التي تُرافقه. عزيز يُحقق نفسه من خلال خيالٍ (هونتولوجي) يعود إلى الماضي، لا ليقاوم المُستعمر، وإنما ليقول له: إنظر، أنا أيضاً كُنت آمرُ وأنهى وأضطهد. عزيز يتمثل المستعمر البريطاني في خيال إمبراطور المغول، والقمعُ لا يقع إلا على أبناء جلدته. فالمثالُ الذي يستخدمه إنمّا يرمي إلى إثارة دهشة الأوروبيين، وإرضاء خيالاتهم عن الشرق الغرائبي بأباطرته.
تنزعج السيدة مور من الصدى والازدحام، فتذهب لترتاح، وتطلب من عزيز التخلص من (الحاشية) والذهاب لاستطلاع بقيةِ الكهوف مع الآنسة كويستد والدليل. عقب صعود الجبل، تحصلُ الكارثة. عزيز يذهب للتدخين، الآنسة كويستد تنزل راكضة مجروحة.

ربع قرنٍ قبل الاستقلال
يُعتقَل عزيز، تُصادر مُحتويات منزله، وتبدأ إجراءات المُحاكمة، فيما الشارِع الهندي يغلي. أبناء جلدةِ عزيز الذين (يشخط فيهم) هُم من يجمعون مالاً ليساعدوه في (المنظرة) على الأجانب، وهم من يثورون لاعتقاله. يتطوع اثنان من المحامين للدفاع عنه، منهما صديقه الذي صرخ فيه لسؤاله فيلدنغ عن الاستعمار، ويُكاتبان مُحامياً شهيراً اسمه أمريت رو للدفاع عن عزيز، فيتبرع بأجره ووقته. حين يعلم فيلدنغ بذلك، يصرف الفكرة لأن أمريت رو "سياسي أكثر من اللازم". قد يكون موقف فيلدنغ مُنطلقاً مما يراه الأصلح لنجاة عزيز، لكنه كذلك يتفق مع الرؤية البريطانية لما يصورونه على أنّه "ألاعيب أمريت رو السياسية". 
مُشكلةُ البريطانيين مع أمريت رو أنّه يربطُ كُل شيء باستعمارهم للهند، وهم يرغبون في (الترفع) على هذه القضية، والانتقال نحو أرضية مُشتركة للحوار تؤدي إلى التقدم. نفسُ الخطاب الاستعماري يُعاد إلى اليوم. مع ذلك، يستعين المحاميان المُسلمان حميد الله وعلي بالمحامي الهندوسي أمريت رو لأنّه سياسي حاذق ومُحامٍ شهير، يعرف كيف يتعامل مع الإنكليز.
تعود السيدة مور إلى إنكلترا لأن هذا موعِد رحلة عودتها، ولأنها لا ترغب في البقاء لشهود المهزلة، مهزلةِ عدالة الهنود. ثمة مقولة شهيرة من زمن الاحتلال البريطاني عن "عدالة الهنود"، ففي تاريخ بريطانيا الاستعماري، حظي الهنود بمُحاكمات ذات قضاة مستقلين ومُحلفين ومحامين، لكن العدالة الاستعمارية لم تُبرئ مُتهماً هندياً في تاريخها. لقد حظي الهنود بمحاكمات (الرجال الإنكليز) من دون حقوقهم. 
هِسلوب - ابن السيدة مور وخطيب الآنسة كويستد - هو قاضي المدينة المحلي، لذلك يُنيب عنه نائبه، ويحضر المُحاكمة مع خطيبته، الآنسة كويستد. نائبه هندي - كالعادة في المستعمرات - وهو قاضٍ مُتوتر يزدريه الإنكليز ويرفضون احترامه في المحكمة، ويحتاج إلى إيماءةِ من هسلوب ليعمل. الهنودُ في المحكمة - القاضي والمُتهم والمحامون - قلقون، خارج المكان، بحاجة إلى تأكيد لوجودهم، وكأنهم ضيوف ثُقلاء على أصحاب المكان. (باستثناء أمريت رو، الخبير بالحيل الإنكليزية).
مُحامي الادعاء عسكري بريطاني يُقيم قضية على أدلة ظرفية. بين الادعاء والدفاع تُرمى ورقة السيدة مور، مع إنها ليست حاضرة. ينفعل مُحامي عزيز الشاب ويسب المحكمة، ثم يخرج ويخاطب الجماهير: "لقد أخفوا عنّا السيدة مور!" تهتف الجماهير: "مسز مور! مسز مور!" يُطالب الهنود بالعدالة البريطانية، بالسيدة مور. إنهم بحاجة إلى قديسة تُعيد لهم ابنهم الذي سيأكله المستعمرون، قومها.
في النهاية، تُسقِط الآنسة كويستد الاتهامات، فينفض عنها المُجتمع البريطاني في الهند بأكمله، ويُدينها. ويرتاح القاضي الهندي، لأنّه قد أُعفي من أن يكون أداة لتطبيق "عدالة الهنود"، مع أن هذا الدور الذي يختصُ به المُستعمرون موظفيهم من أبناء البلد. وحين تخرج مُترنحة من الباب، يُرحب بها الهنود ظانين أنها السيدة مور. الوضع مأساوي، من حيث كونه نقمة ورحمة في الآن ذاته. نعمةً لأن أديلا كويستد كانت في حالٍ يُرثى لها، ونقمةً لأن الجماهير قد حُرِمَت من أن تكون "مُحسِنة". لقد ظنت المُسيء مُحسناً، وباركت جلادتها على أنها قديستها.
بعدها، أخذ أمريت رو في ألاعيبه السياسية التي قادت إلى المشهد الذي تُفتتح به هذه التدوينة. شفاء عزيز من مرضه الإنكليزي، واعتناقه لهنديته. يقول عزيز لفيلدنغ: "قُل لها أن تشتري زوجاً بالمال." ويُبكته: "سيقولون، هذا رجلٌ نبيل، كان ليكون رجلاً جنتلمان لولا لون وجهه!"

ضمير استعماري
غير أن القصة ليست قصة شفاء الطبيب الهندي عزيز أحمد من مرضه الإنكليزي، وإنما قصة الشمس التي تصرّع الأوروبيين في المُستعمرات. القصةُ عن التعرض للتجربة في الشرق، ونقد المُجتمع البريطاني لذاته، من حيثُ الكيفية التي يقمع بها رغباتِ بعض أفرادِه في العيشِ كما يروقهم في المُستعمرات. ريتشارد فيلدنغ وأديلا كويستد والسيدة مور لا يحملون أجنداتٍ استعمارية كالتي يحملها هِسلوب والحاشية البريطانية، لكنهم جزءٌ من النسيج الاستعماري، والشرقُ بالنسبة لهم رحلةُ تطهيرٌ روحية. إنّه مكانٌ أنثروبولوجي، مكانٌ محفوظٌ في التاريخ وفقِ هيئةٍ مُعينة، تُتيح لهم رؤية حضارتهم هم وفق نسقِ الانتزاع من السياق المكاني للتأكيد على السياق الحضاري.
لا يعني هذا أنّه على الإنكليز أن يكفوا عن كونهم كذلك، لكن عليهم أن يكفوا عن تحويل الشرق مسرحاً لتطهيرِ أرواحهم هم، مُقابِل سحق روح سُكان المكان. إذ أن مُمارستهم هم لنزع أنفسهم من السياق المكاني لحضارتهم، ينزع السُكان الأصليين من السياق الحضاري لمكانهم. إنّه إخلالٌ بالمكان والزمان الحضاري للآخر.

نزعُ الإنسانية
في الفيلمِ إيحاءات كثيرةٌ تخلطُ البشر بالقرود في الهند. من القردة التي تُهاجِم الآنسة كويستد في المعبد الهندي المهجور - المليء بتماثيل شهوانية - إلى البشرِ الذين يرتدون هيئات القردة، إلى عزيز نفسه الذي يتعلق على القطار، ويتحرك بطريقةٍ أقرب للحيوانات منها إلى البشر. الفيلمُ يترك الأسئلة مُعلقة: من هاجم الآنسة كويستد؟ هل كانت ضربة شمس؟ لماذا طاردتها القردة؟ لماذا يُلاحقها الذي يتزيا بهيئة القردة؟ 
الهندُ كُلها هاجمت أديلا كويستد. الهند الحسية، المُزدحمة، التي يُخالِط البشرُ فيها الحيوانات. الهندُ التي تقطنها أعراقٌ غريبة، عاداتها غريبة، أرضها مرصودة للسحر. الهندُ التي يصورها الخيالُ الاستعماري البريطاني موطناً لكُل ما هو غرائبي و"شرقي". ويتصورها تسترق النظر إلى نسائه بعين حيوانية شرهةٍ.

الرُعب! الرُعب!
يُمضي الطبيب عزيز سنيناً في كشمير، بعيداً جداً عن تشاندرابور وأحداثها، وبعيداً عن ريتشارد فيلدنغ الذي يعود إلى بريطانيا. يأتي فيلدنغ لزيارته بعد أن توصل إلى مكانه أخيراً، ويرفض عزيز في البداية الحديث معه، ثم يواجهه بما يجده في نفسه عليه، من أنّه تزوج عدوته التي لطخت سمعته وسرقت ماله. لكن فيلدنغ لم يتزوج الآنسة كويستد - كما توقع عزيز - وإنما تزوج ابنة السيدة مور من زوجها الثاني، إستيلا مور. يتغير ميزانُ الأمورِ من وجهة نظرِ عزيز. فيلدنغ تزوج من ابنة القديسة، السيدة مور - التي ماتت في البحر أيام مُحاكمته - وبذلك عاد إلى كونه "صديقاً". 
في النهاية، يصرُخ عزيز، مثل الجماهير التي كانت تنتظر عند المحكمة، "مسز مور! مسز مور!" لقد عادت إليه الثقة بالإنكليز، وبإحسانهم. لقد مدّت المُحسنة إليه يداً من الرحمة حتى بعد موتها. عزيز يرتدي الثياب الهندية الآن، لكنه لا يزال عزيز نفسه الذي يصرخ في ولديه، ويتوتر في مواجهة الإنكليز. حتى أنّه - في النهاية - يُسامح الآنسة كويستد، ويُقدر شجاعتها في إسقاط التُهَم.
في قلب الظلام، يصرخ كرتز: "الرعب! الرعب!" عند وفاته، لأنه يُدرك الهول الاستعماري الذي كان جزءاً منه في حياته. الردُ على "الرُعب! الرُعب!" يأتي في هيئة الصرخة: "مسز مور! مسز مور!" لقد أدرك المُستعمِر الرُعب، لكن من وقَع عليه العذاب، لا يزال - ياللرعب! - يأملُ في رحمته.

08 ديسمبر 2011

زومبي

رأسٌ آخر يتدلى خفيضاً،
طفلٌ آخر يُدّمَر ببطء.
والعُنف يُعقِبُ صمتاً كهذا.
بحق مَن نحنُ مُخطئون؟

غير أنّك ترى، أنه ليس أنا، وليس عائلتي.
في رأسك، يتقاتلون في رأسك،
بدباباتهم وقنابلهم
وقنابلهم وبنادقهم
في رأسك، في رأسك، صارخين!

في رأسك، في رأسك،
زومبي، زومبي، زومبي!
هيه، هيه، هيه!
ماذا في رأسك؟
في رأسك؟
زومبي؟ زومبي؟ زومبي؟

وقلبُ أمٍ مفطورٌ آخر، يَعُم.
حين يُعقِبُ العنف صمتاً،
فإننا مخطئون، ولا شك!

إنه الفريق القديم ذاته،
منذ ١٩١٦*،
في رأسك، لا يزالون يتقاتلون في رأسك،
بدباباتهم وقنابلهم
وقنابلهم وبنادقهم.
في رأسك، في رأسك يموتون!

في رأسك، في رأسك،
زومبي، زومبي، زومبي!
هيه، هيه، هيه!
ماذا في رأسك؟
في رأسك؟
زومبي؟ زومبي؟ زومبي؟

* انتفاضة عيد الفصح الإيرلندية في ١٩١٦، نتجت عنها مذبحة بشعة قامت بها القوات البريطانية، وحملة إعدامات بالجملة حصدت مُعظم من لهم علاقة بحركة التحرر الإيرلندية، حتى أن شاعراً مثل ويليام بتلر ييتس قد كتب عنها واحدةً من أجمل قصائد الشعر الإنكليزي بعنوان "عيد الفصح، ١٩١٦"، وفيها السطر الذي يُعتبر علامة على القرن العشرين: "وُلِد جمالٌ رهيب".

25 يوليو 2011

قارعة

بالصدفة، وقع بين يدّي كتاب منير العكَش، حق التضحية بالآخر: أميركا والإبادات الجماعية (بيروت:2002)، فشرعتُ في قراءته، ووجدتُ محتواه مُرعباً، حتى أنني أجبرتُ نفسي على قراءة فصله الثالث: "من المتوحش؟" إجباراً. وقبل قراءته، كُنت قد فرغت من قراءة ترجمة لكتاب ويليام نوك: عالم جديد جريء (القاهرة: 2007). للوهلة الأولى، قد يبدو الكتابان عن موضوعين مُختلفين، لكنهما - بإمعان النظر - يعضدان بعضهما بعضاً لتقديم صورةٍ عن العقلية التي تحكُم بها الولايات المتحدة الأمريكية العالم. صدر كتاب نوك بالإنكليزية في 1996، أي قبل كتاب العَكَش، ليُقدم ما يُفترض أنه "خارطة طريق" للقرن الحادي والعشرين، فيما جاء كتاب العكَش لينظر في الماضي، ويُقدم "خطوطاً عريضة" لقرنٍ جديد كئيب. مصداقاً لما يذهب إليه العكَش في كتابه، يأتي فيلم في وادي إيلاه (2007) الذي يحكي قصةً مروعة عن جنودٍ أمريكيين عائدين من العراق.

من دون أي معلومةٍ سابقة عن ويليام نوك، يسهُل على من يقرأ كتابه - إذا كان له بعض الإطلاع على أحوال الولايات المتحدة الأمريكية -  أن يعرف أنه WASP، أي: أبيض، أنكلوسكسوني، بروتستانتي. هذه الطبقة البيضاء، البروتستانتية، الأنكلوسكسونية تحكُم الولايات المُتحدة منذ إنشائها حتى اليوم، وفي دولةٍ قائمة على مبدأ الحرية الفردية، فإن الـ WASP هم الدم الأزرق (sangre azul) الأمريكي. لهجة نوك تُفصح - من دون مواربة - عن خلفيته الفكرية والعرقية، ذلك أنّه يرى العالم كله "ملكاً" للولايات المتحدة الأمريكية، تتصرف في موارده ومصائر شعوبه كما يحلو لها، لأن أحداً لا يستطيع إيقاف ركب الحضارة. ويزدري جميع شعوب العالم وفقاً لهذا، فالنفط العربي - مثلاً - مادة خام استغلتها الولايات المتحدة لمصلحتها، ولم يستفد العرب منه شيئاً، الأمرُ الذي يعني - وفقاً لنوك - أنّه لا مكان لهم في العالم الجديد الذي يعتمد على مصادر بديلة للطاقة، أو على نفطٍ أرخص من النفط العربي. يقول نوك بصراحة إن هناك شعوباً كثيرة ستُعاني في القرن الحادي والعشرين، لكن هذا عرضٌ جانبي للحضارة لا يستحق أن يؤبه له، وفي مقابل هذه الشعوب "الخاسرة" فإن شعوباً أخرى (الولايات المتحدة) "رابحة" ستصير أغنى وأقوى.

محور كتاب منير العكَش ما فعله (الواسبس) بأمم أمريكا الأصلية بمبرر إدخال الحضارة إلى الأرض الجديدة، ورؤيتهم الإبادة العرقية التي تعرضت لها أمم أمريكا الأصلية  بوصفها "أضرار[اً] هامشية تواكب انتشار الحضارة وطريقة حياتها". وفي فصول كتابه السبعة، يعرض العكَش السياق الثقافي لنشأة "الحضارة" الأمريكية، وجذور العُصاب الديني الذي يُعاني منه الـ"واسبس" ويربط الولايات المتحدة الأمريكية بإسرائيل، ويوضح لِمَ سيأتي العملاق الأمريكي عاجلاً أم آجلاً لـ"يأكل" العرب. (نُشر الكِتاب قبل غزو العراق وما صاحبه من أعمال إبادة وتدمير لأسس المجتمع العراقي، غير أنّه تنبأ بحدوث الاحتلال، كما تنبأ بأن أمريكا ستشن مزيداً من الحملات على العالم العربي، وتوسع قواعدها وراء البحار).

كتاب العكَش مهم بسبب موضوعه: عقلية الولايات المتحدة الأمريكية، والطريقة التي تنظر بها إلى نفسها والعالم. ومهمٌ كذلك بسبب الوثائق الدالة على وحشية الواسبس تجاه أمم أمريكا الأصلية، وامتداد هذه الوحشية إلى القرن العشرين - والحادي والعشرين. ثمة زاوية ثالثة يُمكِن اعتبارُ الكتاب هاماً بالنظر إليها: لطالما ظهر (مفكرون) و(منظرون) و(مثقفون) و(محللون) و(سياسيون) و(فنانون) عرب على شاشاتِ الفضائيات المختلفة، وكتبوا في وسائل الإعلام المكتوبة المختلفة، دائرين في حلقةٍ واحدة: أمريكا تريدُ أن تعامل العرب وكأنهم "هنود حمر"، والعرب لم يكونوا - ولن يكونوا - هنوداً حمراً. الخطاب العربي بخصوص أمم أمريكا الأصلية - عموماً - ينحو منحى العنصرية. ويرى الهنود الحمر مستحقين لما جرى لهم، هذا إن كان يأبه بما حدث لهم من الأساس. لقد تشرّب العرب رؤية الدبابير (wasp تعني دبوراً - أو زنبوراً - باللغة الإنكليزية، ويتبنى العكَش وصف "الزنابير" للواسبس منذ الفصل الأول) لأمم أمريكا الأصلية، وأعادوا إنتاجها، فحتى أولئك الذين يرون أنفسهم منصفين بحق أمم أمريكا الأصلية، ورُبما متعاطفين معها، يفعلون ذلك بطريقة الدبابير، أي بتحويل أمم أمريكا الأصلية إلى "نكتة فلكلورية". ومن ذلك أن واحدةً من مغامرات ما وراء الطبيعة، أسطورة الطوطم (72)، تتحدّث عن أمة الأوجيبوا من أمم أمريكا الأصلية، وأسطورة الوِندِغو - بشكلٍ تسطيحي - تُختم بهذه العبارة: "أعتقد أن لعنة ( أوجيبوا ) ستتوقف عند هذا الحد ، بعد ما تجاوز انتقامهم من الرجل الأبيض الحدود ليفتك بالرجل الأسمر وقمحي البشرة .." (أسطورة الطوطم، ص 229).

هناك الكثير مما يُمكِن قوله عن هذه العبارة، وعن الرواية كُلها، غير أن الأهم مرور العبارة - والرواية - من دون أن تستثير في قراءها أي أسئلةٍ عن العنصرية المستترة فيها والظاهرة، وعن تقديم (الهندي الأحمر) فيها بوصفه (متوحشاً) ذا طبيعة انتقامية، تنال من الأبيض والأسمر وقمحي البشرة معاً: أي أن الأبيض والأسمر والقمحي في خانةٍ واحدة، وكلهم يطالهم انتقام هذا الوثني المتوحش. قراءةٌ أخرى للأمرِ ترى أن الرواية تعتبر الأوجيبوا مُحقين حين انتقموا من الجيش الأمريكي، لكنها تُحذر من انتقامهم الذي جاوز الحد. في الأمرِ تدليس: أمم أمريكا الأصلية لم تكُن منتقمة إلا في أفلام الكاوبوي، والمتوحش الحقيقي الذي "يتجاوز الحدود ليفتك بالرجل الأسمر وقمحي البشرة" هو الرجل الأبيض الذي فتك بالرجل الأحمر في البداية.

الأمرُ يعود إلى طبيعة النظرة العربية لأمم أمريكا الأصلية - وللفيتناميين والهنود وغيرهم من شعوب العالم - إذ أنهم غيرُ معنيين بإدانة عمليات الإبادة التي تعرضت لها هذه الشعوب على أساسٍ أخلاقي، ولما كان الأساس الأخلاقي مفقوداً في الضمير العربي، فإن الفكر العربي يبقى هامشياً، وغير ذي تأثيرٍ في العالم، كما أن القضايا العربية - على عدالتها - تلقى تهميشاً عالمياً، لأن العرب مشغولون بإنكار كونهم هنوداً حمراً عن إدانة أمريكا لما فعلته بالهنود الحمر، ولما فعلته بالفيتناميين، ولما فعلته بالعراقيين، وتدعم فعله بالفلسطينيين. كذلك، ينطوي الأمرُ على تمثل الضحية بالجلاد: الأسمر وقمحي البشرة يصطف صفاً واحداً مع الأبيض، مع أن الأبيض يحتقر العرق الأسمر والقمحي والأصفر.

وفي ذات السياق، فإن مُترجم كتاب عالم جديد جريء يأخذه كما هو، من دون أن يُضيف حواشي تُفنّد ما يقوله نوك، أو تُعلّق عليه. ومن دون أن يضع تعليقاً على الترجمة غير التعريف بأهمية الكتاب من حيث كونه "الأكثر مبيعاً". بينما المُترجم ليس ناقلاً فحسب، وإنما ناقداً ومُحللاً وشريكاً في العمل، وعليه تقع مسؤولية تقديم تقييم فكري للمادة التي يُترجمها، يُحاور كاتب النص الأصلي، ويُعلق عليه - من دون أن يُحرف كلامه.

لكن العكَش يخرج عن التصور العربي لأمم أمريكا الأصلية بوصفهم مجموعة من الخونة والجبناء الذين أزاحتهم أمريكا عن الوجود بحركةٍ من كفها الحضارية، ويُقدم صورةً للحضارات الأصلية لأمريكا، مقابل توحش الدبابير، ويروي طرفاً من القمع الثقافي الذي تمارسه حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ضد أمم أمريكا الأصلية، عن طريق "مكتب الشؤون الهندية"، ومجموعة من القوانين المختلفة، والتشويه الثقافي الذي تمارسه الآلة الإعلامية الأمريكية ضدهم. ولعل ذلك راجعٌ إلى مُعايشة العكَش لأفرادِ من أمم أمريكا الأصلية، وتعرفه على حياتهم عن كثب. في واحدٍ من كتب رحلاته، يتحدث محمود السعدني عن (هندي أحمر) التقاه فحدّثه عمّا لحق بأمم أمريكا الأصلية على يد البيض الذين جاءوا إلى الأرض الجديدة يحملون المسدس والإنجيل. وكما يتحدث العكش عن "المعنى الإسرائيلي لأمريكا"، يقول السعدني إن أمريكا تُحب إسرائيل لأنها تُذكرها بشبابها، وإن إسرائيل لا تزالُ تلميذة للولايات المتحدة الأمريكية، عاجزةً عن التفوق عليها، أو اللحاق بها.

تنكيل
في الرسوم المتحركة الأمريكية، خصوصاً القديمة منها، يظهر الهنود الحمر بوصفهم جماعاتٍ تغير فجأة على الأبطال الطامحين إلى العيش الكريم، ويُميز أفرادها بلهٌ شديد يجعل الأبطال ينتصرون عليهم بحيل ساذجة أحياناً، وبكثير من طلقات الرصاص أحياناً أخرى. وفي واحدٍ من هذه الأفلام الكارتونية - من إنتاج شركة وورنر بروذرز - تمتد السخرية من الهنود الحمر إلى تراثهم الحربي - الذي يعرضه العكَش بكثير من الاحترام - فيصور تبخترهم على صهوات الجياد كمن يركب أحصنة الملاهي، ويسخر من توقفهم عن الهجوم ومسارعتهم للتخفيف عن أحدهم، عندما يصاب بسهمٍ في مؤخرته - من شدة غبائه.

الشريرُ حقاً بخصوص هذا الفيلم الأمريكي - نموذجاً لأفلام أخرى على شاكلته - المفارقة التي ينطوي عليها، إذ يعترف بأن التقليد الحربي لأمم أمريكا الأصلية - الذي ينبني على استعراض الفروسية والمهارة أمام الخصم، لا إيقاع الأذى به مباشرة - ما أودى بها إلى الخراب. إذ ينشغلون بمداواةِ بعضهم بعضاً، وبالتبختر، بينما يفرغ فيهم اليانكي رصاص بندقيته، ويعيد تعميرها، ثم يطلق الرصاص عليهم من جديد، فيبيدهم، رغم كثرتهم، ورغم أنّه واحد - وجاهل جلف. يعترف الأبيض للأحمر بفروسيته، لكنه يعدها ضرباً من الحمق الذي لا يمكن علاجه. ويُقرُ صُناع الفيلم بأن المستوطنين كانوا رعاعاً أجلافاً، وأنّ جلافتهم ما قضى على الهنود الحمر.

تُبث برامج الكارتون باستمرارٍ في الولايات المتحدّة الأمريكية، وتُنقل إلى العالم العربي، مُنشئة وعياً جمعياً عالمياً يزدري أمم أمريكا تلقائياً. غير أن هذه الصورة النمطية لأمم أمريكا، بصيحاتهم وحماقاتهم وتبخترهم وهجومهم المفاجئ على البيض ما جعلني أهتم بالمسألة (الهندية الحمراء) منذ سنٍ مُبكر - حتى أنني كُنت أعتقد أن أسعد صور الحياة حياة الهنود الحمر، فمن ذا الذي يكره أن يتبختر على صهوة جواد ليلاً ونهاراً ويُغِير على البيض الأجلاف؟ ثم جاء فيلم ديزني - التي تفطّنت إلى أن المادة البدائية التي أنشأها صُناع أفلام الكارتون منذ بداية القرن العشرين تعمل في اتجاهين - ليُقدم صورة "رومانتيكية" لأسطورةٍ من أساطير البيض عن أمم أمريكا الأصلية، بوكاهونتاس (1995) الذي صاغت فيه ديزني (الإطار الفكري) لما يجب أن يكون عليه تصور العلاقة بين أمم أمريكا الأصلية، وبين المستوطنين الأوائل، منكلةً بأمم أمريكا الأصلية تنكيلاً أبشع مِما نكلته به الأعمالُ السابقة لها: الأعمال البدائية التي صورت الهنود الحمر بوصفهم كائنات حمراء غبية صارخة.

أعتقد أن فهم التنكيل الحضاري الذي تعرضت له أمم أمريكا الأصلية، ومقدماته وأعراضه وما ينبني عليه، والأساطير المؤسسة التي قامت عليها الولايات المُتحدة أمرٌ مهم، إذ أنّه يوفر سياقاً يُمكِن عن طريقه رؤية الطريقة التي تعملُ بها الإمبراطوريات، واختلافها بعضها عن بعض، ومصائر الشعوب التي تُقرر الإمبراطوريات سحقها. تجاهل الفكر العربي لمصائر الشعوب الأخرى تاريخياً، وعجزه عن إدانة ما جرى لها لأسبابٍ أخلاقية، يُنبئ بأن ويليام نوك - الذي قد يكون دبوراً متغطرساً - سيكون مُحقاً آخر الأمر، وستتعرض شعوبٌ جديدة للإزالة بوصفها ضرراً هامشياً من أضرار الحضارة، وحدثاً "يؤسف له".

15 يونيو 2011

كراية خفّاقة

عندما أكبُر، سأكون أقوى،
سيدعونني "حرية"
كراية خفّاقة.

وُلِدتُ لعرشٍ يَعظُمُ روما -
غير أنه منذور للعنف:
حيُ الفقراء.
لكنه وطني، كُل ما أعرفه،
حيث نشأت،
شوارعه التي جُلتُ فيها.

من الظُلمة، خرجت إلى الأقصى،
نجوتُ من الأقسى،
تعلمتُ من هذه الشوارع،
أن الوحشة كائنة.
لا تُسلِم لغالبٍ، 
لا تستسلم، لا تتقهقر.

وهكذا، نُجالد،
نقاتل لقوتنا،
ونتساءل:
متى سنكون أحراراً؟
وهكذا، نرتقب - صابرين - يومنا الحق،
ما ليس نائياً عنّا، غير أننا الآن نقول:
عندما أكبر، سأكون أقوى
سيدعونني "حرية"
كراية خفّاقة.

حروبٌ كثيرة، تُسوي ديوناً قديمة،
تعدنا كثيراً، وتذرُنا فقراء،
سمعتهم يقولون، الحُب طريقنا،
الحب الحَلُ، يقولون
لكن، انظر كيف يعاملوننا، يخضعوننا لمعتقداتهم
نخوض معاركهم، ومن ثم يخدعوننا
يحاولون التحكم فينا، لكن حبسنا ليس بمقدورهم،
إذ نمضي قُدماً مثل كتيبة بوفالو.


ولكننا نجالد،
نُقاتل لقوتنا،
ونتساءل:
متى سنكون أحراراً؟
وهكذا، نرتقب - صابرين - يومنا الحق،
ما ليس نائياً عنّا، غير أننا الآن نقول:
عندما أكبر، سأكون أقوى
سيدعونني "حرية"
كراية خفّاقة.

14 فبراير 2011

وثيقة الحقوق

مُشكلة ثورات العالم العربي أنها ساومت على حقوقٍ أساسية: الحرية، العدالة، والمساواة، مُقابِل ضمانات غير حقيقية: الأمن، الاستقرار، ولقمة العيش - التي لا تتوفر لكل الشعب بشكلٍ كريم - تحولت مع الوقت إلى بؤرة فسادٍ يستنزف الثروات العربية، ويقتل الروح العربية، ويجعل العرب في ذيل أممِ العالم ثقافياً. بينما الحرية والعدالة والمساواة الضامن الحقيقي للأمن والاستقرار ولقمة العيش على المدى البعيد، والضامن لاستمرارية الثورة، ينبغي أن يكون الضامن للثورة مجموعة مبادئ لا خلافَ عليها تستمر لقرونٍ، لا مجموعة أشخاصٍ تنتهي الثورة برحيلهم.
ثمة الآن فرصة لكتابة دساتير جديدة، وأهمُ ما ينبغي أن يكون في الدساتير الجديدة وثيقة حقوقٍ لا مراء فيها، تُنشَر موادها في كُلِ وسائل الإعلام، وتُطبَع في المناهج المدرسية، وتُوزَع على المواطنين في الشوارع، وتُقرَأ على من لا يستطيعون القراءة، حتى يعرف كُلُ مواطنٍ - ومقيم - حقوقه، فلا يظلمه أحد، ولا يتجاوزه أحد، ولا يُغرر به أحدٌ ليسلبه حقوقه، أو يُزيَن له الباطل على أنه حق. وجود وثيقة حقوقٍ في الدستور تثبيتٌ لسلطة الشعب - عن طريق ممثليه في برلمانٍ مُنتخبٍ بشفافية - وضمانة أساسية تمنع تكون حزب دولة يتغول ويسيطر على حياة البلد سياسياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، ويمنع بقاء أي فردٍ في السلطة بعد انتهاء مدة ولايته الدستورية بأي ذريعة، ويمنع تمديد ولاية أي فردٍ على رأس الدولة، ويقوي الرقابة الشعبية على كُل أجهزة الدولة، بحيث لا يتسلط أحدٌ فوق رقاب العباد.
مفهومُ وثيقة الحقوق - التي تحمي الشعب من تسلط الحكومة - قديمٌ في الثقافة الغربية، وإن بقي دوره محدوداً بمنع الملك من التعدي على الطبقة الأرستقراطية، إلى أن جاءت وثيقة الحقوق الإنكليزية في 1689 لتُرسِخ مبادئ الديموقراطية الشعبية، وتحد من طغيان الملكية والأرستقراطية على الشعب. سبقت وثيقة 1689 زمانها بالإعلان عن مفاهيم ديموقراطية بالمعنى الذي نفهمه اليوم، ولعلها ما جعلت الثورة الإنكليزية تستقر حتى زماننا هذا، من دون أن يُلتَفَ عليها، أو تُفرَغ من معناها - وكذلك حال الثورة الأمريكية.
أولُ ما جاء في وثيقة 1689 أنها تضمن حقوق "كُل إنكليزي"، ما يُساوي بين كافة طبقات الشعب الإنكليزي، الأمرُ الذي كان سابقةً في التاريخ البريطاني. احتوت الوثيقة على موادٍ تُجرِم بعض قوانين الملك، وتحد من سلطته، ومن سلطة الكنيسة، وتُلغي مفهوم "التفويض الإلهي" لتستبدله بأن "مصدر شرعية العرش الشعب، لا الإله". وجاء في بعض بنودها:
- إبطال التدخل الملكي في شؤون القانون. فبرغم أن العاهل يبقى منبع العدالة، إلا أنه - أو أنها - لا يستطيع إنشاء المحاكم منفرداً، ولا يحق له أن يعمل عمل القاضي.
- لا يُمكِن فرض الضرائب بالامتياز الملكي. موافقة البرلمان ضرورية لتطبيق أي ضرائب جديدة.
- وحدها المحاكم المدنية، لا الكنسية، قانونية.
- حرية تقديم المُطالبات إلى الملك من دون مخافة الانتقام.
- لا يُمكِن بقاء الجيش على أهبة الاستعداد في أوقات السِلم من دون موافقة البرلمان.
- إبطال التدخل الملكي في حرية حمل الناس للسلاح دفاعاً عن أنفسهم، بما يُلائم أوضاعهم الاجتماعية، وبحسب ما يسمح به القانون. (ما يُلغي منع الملك جيمس الثاني [الكاثوليكي] حمل البروتستانت للسلاح).
- ابطال التدخل الملكي في انتخاب أعضاء البرلمان.
- حرية التعبير والنقاش؛ لا يُمكِن إبطال إجراءات البرلمان أو مساءلتها خارج البرلمان.
- حظر فرض أي غراماتٍ مُبالغٍ فيها، أو عقوباتٍ وحشية، أو استثنائية.
أشهر وثيقة حقوقٍ في العالم، وثيقة الحقوق الأمريكية المُقرَة في 1791 - بعد قرنٍ من وثيقة الحقوق الإنكليزية، ولا تزالُ إلى اليوم جزءاً حيوياً من حياة المواطنين الأمريكيين - والمقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية - يضمن حرية كل فردٍ أمريكي وحقوقه، ويُبقي الولايات المتحدة الأمريكية مستقرة رغم التغييرات التي تعصف بالعالم، ويمنع تغول الدولة الأمريكية - رغم كل مصادرها - ويُحافظ على التداول السلمي للسلطة داخل الولايات المتحدة الأمريكية. وثيقة الحقوق الأمريكية أول عشرة تعديلاتٍ للدستور الأمريكي، والركيزة الثالثة للولايات المتحدة الأمريكية بعد إعلان الاستقلال ودستور الولايات المتحدة - الذي تعمل به جميع الولايات، ويُحتَكمُ إليه عند وجود اختلافاتٍ قانونية بين ولايةٍ وأخرى.

وثيقة الحقوق الأمريكية
- التعديل الأول: حرية العقيدة، حرية التعبير، والصحافة، والتجمع، حق تقديم المُطالبات إلى الحكومة
يحظر على الكونغرس الأمريكي سن قانون يدعم أي دين، أو يمنع حرية ممارسة أي دين، أو يحد من حرية التعبير أو حرية الصحافة، أو من حق الشعب في التجمع والتجمهر، وفي تقديم المُطالبات إلى الحكومة لرفع الظلم عنهم.
- التعديل الثاني: المليشيا الأمريكية، سيادة الولاية، الحق في امتلاك السلاح وحمله
حيث أن وجود ميليشيا منظمة ضروري لحماية الولايات الحرة، فإن حق الناس في امتلاك السلاح وحمله ينبغي ألا يُمَس.
- التعديل الثالث: الحماية من الإيواء الإجباري للجنود
لا يحق لأي جندي في زمن السلم أن ينزل في أي منزل من دون موافقة مالكه، ولا في زمن الحرب، إلا بالكيفية التي يُحددها القانون
- التعديل الرابع: الحماية من التفتيش غير المسبب والاعتقال
حق الناس في أمن أنفسهم ومنازلهم ووثائقهم وأعمالهم من أي عمليات تفتيشٍ غير مُسببة أو اعتقالات، ينبغي ألا يُخرَق، ولا يُمكِن إصدار أي مذكرات تفتيشٍ إلا بموجب سببٍ قوي محتمل، يدعمه قسمٌ أو تأكيد، وينبغي أن يصف المكان الذي سيُفتَش بالتحديد، والأشخاص الذين سيُقبض عليهم أو الأشياء التي ستؤخذ دليلاً.
- التعديل الخامس: الإجراءات العدلية، المحاكمة مرتين بنفس التهمة، تجريم الذات، حجز الممتلكات
لا يجوز استجواب أي شخصٍ في جريمة كبرى، أو جريمة تخل بالشرف والأمانة، إلا بأمر هيئة محلفين عليا أو بإدانتها، إلا في حالة القضايا التي تحدث في القوات البرية أو البحرية، أو في المليشيا، عندما تكون في الخدمة الفعلية في زمن الحرب أو الخطر العام؛ ولا يجوز أن يُحاكم شخصٌ بنفس التهمة مرتين؛ ولا يجوز أن يُجبر على الشهادة ضد نفسه في أي قضية جنائية، أو أن يحرم من حياته، أو حريته، أو ممتلكاته من دون محاكمة عادلة وفق إجراءات عدلية تحفظ حقوقه؛ ولا يجوز أخذ الممتلكات الخاصة للاستخدام العام من دون تعويض عادل.
- التعديل السادس: المحاكمة بواسطة هيئة محلفين وحقوق المتهم؛ المحاكمة السريعة، المحاكمة العلنية، وحق توكيل محامٍ
في كُل القضايا الجنائية، يحق للمتحم بمحاكمة سريعة وعلنية، بواسطة هيئة محلفين غير منحازة من الولاية والمقاطعة حيث ارتكبت الجريمة، سبق أن حُددت مقاطعتهم بواسطة القانون، وأعلِموا بطبيعة القضية وسبب الاتهام؛ ويحق للمتهم أن يواجه الشهود ضده؛ وأن يُجبِر المحكمة على قبول شهودٍ لصالحه، وأن يحصل على عون محامٍ للدفاع عنه.
- التعديل السابع: المحاكمة المدنية بواسطة هيئة محلفين
في قضايا القانون العام، التي يتجاوز فيها التقاضي عشرين دولاراً، يبقى حق المحاكمة بواسطة هيئة محلفين موجوداً، ولا يجوز أن يُعاد النظر في أي واقعة قد تداولتها هيئة محلفين، بواسطة أي محكمة في الولايات المتحدة، إلا بما يحدده القانون العام.
- التعديل الثامن: منع الغرامات المفرطة والعقوبات الوحشية أو الاستثنائية
لا يجوز المبالغة في قيمة الكفالات، ولا فرض غرامات باهظة، أو إنزال عقوباتٍ وحشية واستثنائية.
- التعديل الدستور: حماية الحقوق التي لم تُحدَد صراحة في الدستور
تعداد حقوقٍ معينة في الدستور ينبغي ألا يُفسَرَ على أنه انكارٌ لأي حقوق أخرى يتمتع بها الشعب أو انتقاصٌ منها.
- التعديل العاشر: سلطات الولايات والشعب
السلطات التي لم يُنِطها الدستور بالولايات المتحدة، ولم يمنعها عن الولايات المنفردة، محفوظة لكل ولاية، أو للشعب.
مسألةٌ هامةٌ ينبغي التنبه لها في هذا السياق، إذ أنه لا توجد سابقةٌ - على حد علمي - في التاريخ العربي تُنظِمُ العلاقة بين الدولة والشعب، وتحفظ حقوق الشعب الأساسية. في بداية تكونِ الدولة الإسلامية، تحدث الخليفتان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب عن أن "الضعيف [عند الخليفة] قويٌ حتى يقتص له"، أي أن حق المواطن تحفظه الدولة - أو شخص الخليفة، ثم غُضَ الطرف عن الإشارة إلى علاقة الحاكم بالمحكوم حتى جاء مُعاوية بن أبي سفيان وأعلن في خطبة توليه: "إنني ما وليتها عن محبةٍ منكم، وإنما جالدتكم بسيفي هذا مجالدة"، مُلغياً حق المواطن عند الدولة - أو شخص الخليفة. عدم وجود وثيقة حقوقٍ في التاريخ العربي - حتى بمفهومها الضيق الذي يحمي الأرستقراطية من تعدي الملك - قد يكون سبباً فيه عدم قيامِ ثورةٍ شعبية - حتى ثورة تونس، في القرن الحادي والعشرين - فالمواطن العربي لا يرى أن له حقاً عند الدولة، ولا تعترفُ له الدولة بأي حق. جميعُ الثورات والانقلابات العربية كانت لأسبابٍ سياسية، لا لأسبابٍ حقوقية، فعندما قامت الدولة العباسية - مثلاً - على أنقاض الدولة الأموية، فإنها قد قامت على السيف والحكم لبني العباس، لا على حفظ حقوق المواطن.
الآن، فرصة تاريخية لتصحيح الحيف اللاحق بالأمة العربية من عدم وجود وثيقة حقوق تضمن حقوق الشعب، وتحميه من جور الحاكم، ومن بطش الدولة، وتعيد الحق لأهله، فالشعب مصدر كل سلطة، والشعب مالك كل السلطات. ينبغي للعقلِ العربي أن يرد الاعتبار للفرد العربي، ويُعيد له آدميته التي أهدرها الحُكام عبر قرونٍ طويلة من الطغيان والحكم الثيوقراطي، الأحادي، القمعي، الذي - بتعطيله للمسؤولية الجمعية للشعب عن الدولة، وبالتالي مسؤولية الفرد الأخلاقية تجاه نفسه وتجاه من حوله - قد تسبب في التأخر الثقافي، والتخاذل الذي تعانيه العقلية العربية، ويجعلها عاجزة عن اتخاذ موقفٍ أخلاقي شجاع تتحمل فيه مسؤولياتها كاملة.
ينبغي أن تكون وثيقةُ حقوقٍ واضحة ومحددة على رأس مطالب كُلِ طالبي تعديل الدستور، في كل أرضٍ عربية تحلُ فيها رياح التغيير: لأجل الحاضر، ولأجل المستقبل.

12 فبراير 2011

الشاعر

إذن-
في البدء كانت همهمة
من شاعرٍ كان نبضه
درم درم درم!

كان يؤدي صلواته وطقوسه
حتى سمع صوتاً - في يومٍ - يُناديه
جئ جئ جئ!

متشككاً، تحرك بحذرٍ شديد،
لم يصرف الصوت، لم يأبه.

تكبح الناسَ الأصواتُ
التي يسمعونها.

أنت-
قال الصوت: أنا مُعلقٌ بالكلام داخلك،
ابتهج، و-رجاء- دعني أدعك
للشر، للجشع، وللكذب أيضاً.

نعم-
خالطاً الأيام مشى في طرقٍ حتى مر شهر.
بُم بُم بُم!
ولم يعد إلهه يطرق بابه أبداً،
ولم تعد روحه تطرق بابه أبداً.

لا لا لا لا – نعم
لا لا لا لا – كان ذلك في البدء
لا لا لا لا – والقصة تستمر
لا لا لا لا –

إذن إذن إذن -
تلقى الشاعر عرضاً:
سيأمل دوماً، لكنه لن يعرف أبداً
معنى أن يكون حراً.

سيكون المتحجر المفروض مُختاراً على كل المعارضين
لكنه كان جشعاً،
وهكذا جروه إلى هناك،
لأنه متعطش للسلطة، ومتغطرس أيضاً.

الناس لا يأبهون، الناس خائفون.
الناس لا يأبهون، الناس يصلون.

لا لا لا لا – نعم
لا لا لا لا – كان ذلك في البدء
لا لا لا لا – كانت هناك همهمة
لا لا لا لا – والأمور تتغير
لا لا لا لا –

نعم، نعم، نعم –
قالوا -
خيرٌ أن تضيء شمعة من أن تلعن الظلمة.
في عيون الصغار علامات استفهام
مثل الحرية
حرية العقل والروح
لا نراهم
كما يستحقون أن نراهم
لهذا نقودهم
نقودهم إلى هذه الحروب وما نطعمهم
نطعمهم دنسنا وكيف نعاملهم
نعاملهم كأنهم العدو ستحتاجهم البشرية
تحتاجهم ليكونوا الدم الذي نريقه على كلمة الحرية

حرية للقلوب التي نملؤها منهم
نضللهم
هم جوعى للحب ونحن نهب
لكننا نغشهم

الشرطة يضربونهم بينما لا يريدون غير حريتهم
بذلك يهزمونهم
بكل روحٍ لهم
يهزمونهم
ويعلمونهم أن بقية العالم لا يحتاجهم
ويُصدق أنه مرضٌ وأنه وثني
أشهر قبضتك إذا كان ما تريده الحرية
أشهر قبضتك إذا كان كل ما تريده –

لا لا لا لا – كان ذلك في البدء
لا لا لا لا – والأمور تتغير
لا لا لا لا –

نعم، نعم، نعم -
ونبقى صامدين،
ونبقى أقوياء،
ونواصل طريقنا
قدماً وقدماً وقدماً...

09 يناير 2011

Global Locality

في معرض تعليقه على أزمة الركود الاقتصادي العالمية، تحدث أليستر دارلنغ، وزير الخزانة البريطاني السابق، عن حقيقة جوهرية تتتعلق بالاقتصاد العالمي قائلاً إن الشركات الكبرى والبنوك تكون عالمية في أزمنة الازدهار والرخاء، وتنقلب محليةً تماماً في أزمنة الشدة، فتطرق أبواب خزائن دولها الأصلية لإنقاذها من إنهيارٍ قد يُسقط الاقتصاد الدولي بُرمته.
تذكرت حديث دارلنغ بينما كُنت أتصفح ردود الأفعال المستنكرة لتصرفات شركاتٍ مثل أمازون وماستر كارد وفيزا - ولاحقاً، آبل - إزاء موقع ويكيليكس، فالدبلوماسية الأمريكية في حالة أزمةٍ بسبب تسريبات ويكيليكس - بغض النظر عن كون هذه الأزمة حقيقية أم مفتعلة، وفي حالة الأزمة هذه، فإن جميع الشركات العالمية أمريكية المنشأ تعود إلى جذورها الأصلية، وتصير محليةً تماماً، وخاضعةً للقانون الأمريكية، وعرضةً ليد الإدارة الأمريكية الباطشة. يُذكِرُ هذا بما قاله إريك شميدت - الرئيس التنفيذي لغوغل - عن موقف شركته من الخصوصية، إذ أشار إلى أن غوغل مُلزمةٌ بالكشف عن كافة بيانات عُملائها للسلطات الأمريكية عندما يُطلب منها ذلك بموجب قانون باتريوت الأمريكي، وبالأخبار التي نُشرت مؤخراً عن طلب الحكومة الأمريكية بيانات حساب ويكيليكس في تويتر.
إشكاليةُ الشركات العالمية - بما فيها المؤسسات المصرفية - تكمن في أنها تُقدِمُ خدماتها لزبائن من مُختلف دول العالم، وتحتفظ ببيانات هؤلاء الزبائن، وتفاصيل استخدامهم لخدماتها، مما يجعلهم خاضعين - بشكلٍ ما - إلى قوانين بلد المنشأ للشركة، إضافةً إلى القوانين المحلية لبُلدانهم. ونتيجةً لنظام التقسيم الإقليمي الذي تعتمده بعض الشركات العالمية، فتربط خدماتها في إقليمٍ جغرافي معين بمقرٍ إقليمي واحدٍ في دولةٍ معينة، تُضاف قوانين دولة المقر الإقليمي إلى القوانين التي يلتزم بها زبائن الشركات العالمية، فيصبحون خاضعين للمساءلة بُمقتضى تشريعين أو أكثر. الأمر الذي يعني أن عصر السماوات المفتوحة قد قاد إلى فوضى قضائية مُعينة، قد تقود - في سيناريو الحالة الأسوأ - إلى تعطيل سُلطة القانون على مُمارسات الشركات العالمية المُضرة بالاقتصاد، وعلى السلطات السياسية في بلدٍ مُعين، مما يُبطل العقد الذي قامت على أساسه العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الدول الديموقراطية، ويُخضع مواطني دولةٍ إلى قوانين دولةٍ أُخرى من دون رضاهم، ومن دون أن يكون بينهم وبين حكومة الدولة الأخرى عقدٌ تشريعي يضمن حقوقهم. (لذلك تُطارد الولايات المُتحدة الأمريكية جوليان أسانج الأسترالي بموجب قوانين أمريكية محلية، لا بموجب تشريعٍ دولي).
في هذا السياق، تكتسب معركة غوغل مع السلطاتِ الصينية بُعداً آخر، فدفاع غوغل المفترض عن الخصوصية ضد رقابة الحكومة الصينية الشمولية فرضٌ باطل لأن غوغل خاضعة لقانون باتريوت الأمريكي الذي يُعدُ شكلاً من أشكالِ الرقابة الشمولية، ومُلزمةٌ بالكشف عن بيانات عُملائها الصينيين - ضمن عملائها من جميع أنحاء العالم - للسلطات الأمريكية. ما طالبت به الصين خضوع غوغل للتشريعات الصينية التي تُجبرها على الكشف عن بيانات عُملائها للحكومة الصينية عند الطلب - كما هو الحال مع السلطات الأمريكية. غير أن غوغل رفضت ذلك لأسبابٍ عديدةٍ ليس هُنا محلُ تبيانها، ليس منها حرصها الشديد على خصوصية زبائنها وأمنهم كما في الدعاية الأمريكية المُناهضة للصين التي صاحبت خروج غوغل منها.
موضوعُ المحلية والعالمية يتصل بمواضيع أخرى من ضمنها الهوية الثقافية لمُجتمعٍ ما، والعلاقة بين السلطة السياسية ورأس المال، والعلاقة بين التنظيمات الاقتصادية الدولية وبين المجتمعات المحلية الحاضنة لها. وفي العالم العربي أمثلة واضحة على بُنىً اقتصادية تختلفُ اختلافاً بيناً عن القيم المحلية للُمجتمع، مما يؤدي إلى نشوء إشكالياتٍ عديدةٍ مُتعلقة بقدرةِ هذه النماذج على البقاء، وبهويتها الثقافية. ظاهرياً، فإن هذه أماكن كوزموبوليتانية يقطنها أفرادٌ جاءوا من ثقافاتٍ مُختلفة، لكن ما تحت السطح يُبطِن اختلالاتٍ في التركيبة الديموغرافية للمكان، وصورةً مشوهةً لفكرة الهوية، وخللاً تشريعياً، فالخلفية الدينية لتشريع البلد قد تتعارضُ مع الطبيعة متعددة الثقافات لسُكانها، وقد يقود إلى ازدواجٍ تشريعي بحيثُ تختلف قوانين أهل البلد الأصليين عن قوانين المُقيمين فيها.
في الطائرة، أصغيتُ لحديثٌ طويلٍ يُحذِرُ مِن مغبة سيادة اللغة الإنكليزية في مطار الدوحة الدولي، ومن العواقب الوخيمة لفوز قطر باستضافة كأس العالم 2022، واختلال التركيبة الديموغرافية في دولِ الخليج، والكارثة التي سيحملها إلغاء نظامِ الكفيل. قال لي مُحدثي في معرِض كلامه: "إن هؤلاء الآسيويين والهنود والأمريكان الذين يعملون اليومَ في دول الخليج قد تصلُ بِهِمِ الوقاحةُ والجرأة غداً لأن يُطالبوا بحقوقهم في البلد، وأن يطالبوا بالحصول على جنسياتِ البُلدانِ التي عملوا فيها بزعم أنهم شاركوا فيها وعمروها". لم أختلف مع محدثي، ومع غيره ممن ساهَم في الحديث، فالنغمةُ السائدة كانت الرفض التام لكُلِ من هو غير عربي - مع أن العرب مثل الآسيويين والأمريكيين والهنود، لا يحصلون على جنسياتِ الدولِ الخليجية التي يعملون فيها حالياً - والتحذيرَ من كارثةٍ مُحدقةٍ بنا تأتي من هؤلاء الأجانب الذين يقيمون في البلدان العربية، ولومُ بلدانٍ مُعينةٍ على سماحها بسيادة الإنكليزية وسماحها للأوروبيين بممارسة عاداتهم الأوروبية فيها، مُقابل أن تكون محطاتٍ للأعمالِ الدولية.
إن النظر إلى المُستقبل يعني التجرد من الأوهام العاطفية، والنظر للأمور بواقعيةٍ وبشكلٍ عملي: النفطُ مُعرضٌ للنضوب، كما أن مخزوناتِ دولِ المنطقة منه تتفاوتُ تفاوتاً بيناً، المساحاتُ الصغيرةُ لبعض الدول وتهديدُ الاحترارِ العالمي لها بالغرق في غضونِ قرنٍ أو اثنين وعدد السكان الأصليين القليل - ورفضهم للقيامِ ببعض الأعمال بوصفها تتعارض مع مفهومهم للوجاهة الاجتماعية. كُل هذه عواملٌ تجعلُ من واجب هذه الدولِ البحثُ عن مصادر أخرى للبقاء بالتحولِ إلى محطاتِ أعمالٍ عالمية، وبتشجيعِ السياحةِ التي لا تعتمدُ على الجمالِ الطبيعي أو الخلفيات التاريخية: سياحة الأحداث الرياضية والسياحة الفندقية. لتضمن هذه الدولُ بقاءها، ينبغي أن تنفتحَ على ثقافاتٍ عالمية، وأن تسمح بسيادة للإنكليزية، ليس بوصفها رمزاً للنصر الأنكلوسكسوني، وإنما بوصفها أداةَ تفاهمٍ مُشتركة في بُرجِ بابل الناشئ عن اجتماعِ أعراقٍ وثقافاتٍ ولغاتٍ مُختلفةٍ في مكانٍ واحد. مع ذلك، يفرض البلدُ محليته بعلاماتٍ مثل حضور العربيةِ بجوارِ الإنكليزية في اللافتاتِ والإرشادات العامة - الأمرُ الذي يُذكِرُ الزائر بخلفية البلد. من يزورُ محطة أعمالٍ دوليةٍ أخرى مثل هونغ كونغ أو ماليزيا سيجُد علاماتٍ أخرى غير العربية تدلُ على محلية البلد حاضرة بجوار الإنكليزية، لغة كل الغرباء.
تحولُ بعضِ البُلدانِ العربية إلى محطاتِ أعمالٍ دولية يقودُ إلى الحديث عن إشكالية المواطنة بشكلٍ واضح: ما المواطنة، من المواطن، وما الذي يمنعُ هذه المحطاتِ من التحولُ إلى بُلدانٍ ينتمي إليها المقيمون فيها. الأمرُ شبيهٌ بالهوية اللندنية الجديدة، فلندن محطةٌ دوليةٌ للأعمال وعاصمةٌ للغرباء. صحيحٌ أن اللغة الإنكليزية اللغةُ الأصلية في بريطانيا، لكن إنكليزية لندن ليست إنكليزية الإنكليز، وإنما إنكليزية الغرباء التي نشأت في سياقٍ يختلف عن السياق العام للثقافات البريطانية المحلية. مع ذلك، فإن لندن تحتضن المُقيمين فيها بوصفهم مواطنين، بغض النظر عن خلفياتهم، مما يجعل لندن المحطة الأكثر جاذبيةً للأعمال الدولية، ويُقلل من مشاكِل التعامل الناشئة عن اجتماعِ أعراقٍ عديدة في مكانٍ واحد. الطبيعة الاستيعابية للثقافة اللندنية لم تحمِ لندن من تبعاتِ الأزمة الاقتصادية العالمية، ولم تحمِ المصارف البريطانية من اللجوء إلى الخزانة، لكنها سمحت للحكومة البريطانية بلي ذراعِ الحكومة الأمريكية، وفرضِ حلولها للأزمة على الولايات المُتحدة وعلى بقيةِ الدول الأوروبية، مُستخدمة الطبيعة المزدوجة للشركاتِ العالميةِ لإلزامِ الشركات البريطانية العالمية بحلولها، ومن ثم فرض هذه الحلول على بقيةِ الشركات العالمية، الأمر الذي اضطر الإدارة الأمريكية - بالتبعية - إلى إصدارِ تشريعاتِ تحمي شركاتها من التشريعات البريطانية بتدابيرَ شبيهةٍ بالتدابير البريطانية ذاتها. التدابيرُ الأمريكيةُ المحلية أجبرت دولاً أخرى على اتخاذ تدابيرَ مُشابهةٍ في سلسلةٍ طويلةٍ من التداخل بين ما هو دولي وبين ما هو محلي. تحملُ هذه الواقعة أملاً بأن يستطيع من يفهم قواعد اللعبة استخدام ما هو دولي لخدمة ما هو محلي، وأن تظفر دولٌ مُختلفةٌ بأسباب الرفاه التي كان يحتكرها اللاعبون الكبار. الأملُ الأكبر الذي قد ينشأ عن الفوضى التشريعية العالمية، وإشكاليات الهوية والمواطنة، نشوء مناطق عالمية بحتة، تحكمها قوانينُ دوليةٌ لا تخضع لتشريعاتِ أي دولةٍ مستقلةٍ، تُنظِمُ طبيعة الأعمالِ فيها، وطبيعة العلاقات بين المُقيمين فيها على أسسٌ عادلة مجردةٍ من الخلفيات التاريخية والخصوصيات المحلية. هكذا، يُمكِن للعالم أن يتنفس بعيداً عن الارتباط القاتل للسياسة بالاقتصاد.