31 أكتوبر 2008

دليل الفانتازيا الميداني!


عادت سينما الفانتازيا لتتألق بعد أن أثبتت لمُنتجي الأفلام أنها مصدر دخلٍ لا يُمكن إهماله، فبات على السينما الأمريكية أن تُقدم فيملي فانتازيا كُل عامٍ على الأقل، مما أدى إلى ارتفاع الطلب على الكُتب الفانتازية، وتحول السوق من أرضٍ تحتكرها أسماء (الكبار) مثل تولكن ولويس ورولنغ إلى فضاءٍ مفتوح يستهلك العديد من المُخيلات، ويحتاج إلى مُخيلاتٍ جديدة كُل مرة. تحتوي الفانتازيا على عُنصر رُعب لا شك فيه ينشأ عن غرابة وخوارقية أحداثها، وإذا كانت الفانتازيا من مُخيلة طفلٍ، فإن الرُعب حتمي كما في فيلم سجلات سبايدرويك.
مُنذ بدايته، يُبشر فيلم سجلات سبايدرويك بأنه مخيفٌ، ويقترب كثيراً من كونه فيلم رعب. في سجلات سبايدرويك، لا حاجة للعبور إلى العالم الخُرافي. لن يأخذك قطارٌ إلى هُناك، ولن تعبر الخزانة. العالم الخُرافي حولك لكنك لا تستطيع رؤيته، وإن رأيته فلن يسُرك ما تراهُ أبداً. العالم الخُرافي قبيحٌ ومعادٍ، ولا يحميك منه سوى رموزٍ واهنة. هذا العالم الخُرافي قادمٌ لإيذائك سواء كُنت تعرف عنه أم لم تعرف، أنت مُحاصر، والأعداء شرسون وبشعون. خيالُ الفيلم طفولي بكُل ما في خيال الطفولة من عناصر مُرعبةٍ، ويُعيدُ مُشاهِدهُ إلى زمنٍ قد يكون ظن أنه بَعُدَ، لكن ليس بهذا القدر. يُعيد الفيلم المرء إلى الأوقات التي كان يخشى فيها الغيلان الطويلة التي تنثني تحت الأسرة، والوحوش في خزانة الملابس، والشيطان الذي سيخرج من الحمام إذا لم يهرب منه قبل أن يصل في العد إلى العدد سبعة، والوحش الذي يهدر مستغلاً هدير الثلاجة ثُم يسكُن ليبحث عن الأطفال الصغار ويلتهمهم خفية عن آبائهم الذين لا يصدقونهم. الأبواب التي يُحاصرُ عندها المرء عند منتصف الليل، والوحوش التي تلعب في الشارع، والقطط التي تتحول إلى نساء. كُل ما يراه الطفلُ بوضوحٍ ولا يراه الكبار، فيُصبح عليه أن يحمي نفسه برموزٍ بسيطة. بالعد، بالملح، بصلصة الطماطم، وبدائرة من الفطر عليه ألا يتخطاها وإلا افترسته المخلوقات الشرسة التي تقبع عند أطراف الدائرة.
يحكي فيلمُ سجلات سبايدرويك عن أمٍ تنتقل مع ابنتها الكُبرى وابنيها التوأمين من نيويورك إلى ضيعة خالتها الكُبرى في نيو إنغلند - حزام الخوارق كما يعتقد نُقاد الفانتازيا وأفلام الرُعب - بعد أن تطلقت من زوجها الذي هجر أسرته ليُقيم مع عشيقته. يلومها ابنها جاريد على الانفصال لتعلقه بأبيه، ويلومها على انتقالهم إلى ضيعة سبايدرويك الغريبة، وبسبب مشكلته في التحكم بغضبه، تُصبح علاقته بأخيه التوأم سايمون وأخته الكُبرى مالوري سيئة، مما يُفقده دعمهما في مواجهة الأشياء الغريبة التي تُحاصر ضيعة سبايدرويك، وتعيش فيها. يعثر جاريد على كتابٍ مكتوب بخط اليد (بعد مغامرة مخيفة) بعنوان: دليل آرثر سبايدرويك الميداني إلى العالم المُذهل حولك، وعلى الكتاب تحذيرٌ من العواقب المميتة التي تلي معرفة مُحتوى الكتاب، التحذير الذي لم يردع أبداً الساعين إلى المعرفة في تاريخ الإنسانية، مهما كانت كلماته مُنذرة بأوخم العواقب. رغم الجو المُخيف المُحيط، يقرأ جاريد الكتاب، ويخرج ليُفاجأ بالأحداث الغريبة التي حدثت. يتعرف على المخلوق الذي يُقيم في المنزل والذي كان حيوان آرثر الأليف، والحارس الذي يُفترض به إبقاء الكتاب ضمن الدائرة. تختطف الغيلان أخاه التوأم الغافل سايمون فيضطر إلى الذهاب لنجدته، وهُناك يُقابل الغول مُتحول الأشكال مالغوراث الذي يسعى للحصول على الدليل ليُبيد كُل أشكال الحياة التي عرفها آرثر سبايدرويك، وتبدأ مغامرته الحقيقية مع أخيه وأخته الذين يتأكدان من وجود المخلوقات، ويُصبح عليهما تدمير مالغوراث. الشرُ واضحٌ في الفيلم مهما تنكر أو تخفى، فعينا مالغوراث متحول الشكل تفضحانه، سواء كان شيخاً مهدماً أم غراباً أم والد الأطفال مُدعياً أنه قد جاء لنجدتهم. مالغوراث الغول الشرُ بكُل قُبحه وشراسته وتوحشه. الشرُ المُدمر الذي لا يتخفى ولا يُغير شكله، الشرُ البهيمي الذي يُميزه الأطفال ويعرفونه، فالشرُ عندهم لم يتنكر بعد في صورٍ لطيفةٍ أليفة، وهو قبيحٌ في أي شكلٍ أو صورة. يلوم بعض النقاد مُخرج الفيلم مارك واترز على استخدام الرسوم المولدة حاسوبياً في الفيلم بشكلٍ كبير، وهي ملامة لا موجب لها، فبأي طريقةٍ أخرى كان واترز سيُحيي عالم الطفولة المخيف الذي يكمن عند أطراف أصابع المرء؟ كما أن استخدام الرسوم المولدة حاسوبياً في الأفلام الآن أمرٌ طبيعي كاستخدام المونتاج، فمن غير المُستساغ أن يلوم ناقدٌ مُخرجاً ما لأنه قام بمنتجة فيلمه! فيلم سجلات سبايدرويك مُنتجٌ آخر من مُنتجات الفن الرقمي الذي لا يوحي أبداً، ويُصر على أن ينقل تفاصيل القُبح الدقيقة. القُبح المُروِع والشر الذي يختفي بين أوراق الخريف بريئة المظهر. الشر الهائل الذي لا يتوقف عند حد، والقُبح الذي يُثير الغثيان. لكنه يبقى مُغامرة ذات نكهةٍ مُميزة في عوالم الطفولة شديدة الرهافة.

الفيلم من إخراج: مارك واترز، إنتاج: باراماونت ونيكلوديون، موسيقى: جيمس هورنر، بطولة: فريدي هايمور (جاريد/سايمون)، سارة بولغر (مالوري)، نِك نولتي (مالغوراث)، ماري-لويس باركر (هيلين)، جوان بلورايت (لوسيندا)، وديفد ستريتايرن (آرثر سبايدرويك).

تريلر الفيلم من موقع يوتيوب.

24 أكتوبر 2008

مائة لإليوت!

يعشق مُعظم أساتذة المُستعمرة تي. إس. إليوت، ويُشيرون إليه كُلما استطاعوا وأمكنهم حشره في سياقٍ منطقي، بل إن بعضهم يحشر إليوت بأي طريقة، فيتحدث عن الجُبنة:
"وبمناسبة الحديث عن أنواع الجُبنة، فإن تي. إس. إليوت قد أشار في قصيدته "الأرض اليباب" إلى خراب المجتمعات التي تخلوا من الجُبنة".
إليوت - بالنسبة لأساتذة المستعمرة - مُنتهى النقد، وصاحب الكلمة الفصل في كُل مسائل الأدب. مع ذلك، يجد أساتذة المستعمرة أنفسهم مضطرين - ولو على استحياء - إلى مُخالفته في بعض آرائه، فيتحفظ هذا على هجوم إليوت الشنيع على الشعراء الرومانتيكيين في القرنين الثامن والتاسع عشر، ويختلف ذاك مع استحسان إليوت لأدب الكلاسيكيين الجُدد. عندها يقول الواحد منهم:
"إليوت عظيمٌ حقاً، لكننا نجد أنفسنا غير قادرين على الاتفاق معه مائة بالمائة في هذا السياق".
الاتفاق مع إليوت مائة بالمائة غير مُمكن، لأنه نفسه لا يتفق مع نفسه مائة بالمائة، وكثيراً ما يُعدل آراءه ويراجعها. والاختلاف معه - أو مع غيره - واجبٌ لأن العقول تختلف، ولا أحد يملك الحقيقة المطلقة - إن وُجِدَت -. ومع أن إليوت يكاد يكون معبود الكثيرين من النقاد ودارسي النقد الأدبي، إلا أن نقاداً آخرين في زمنه وبعده مزقوه بشراسة، ولم يُبقوا على شيء من ميراثه النقدي باستثناء المعادل الموضوعي.
لو أن إليوت قدم اختباراً في النقد، أكان يحصل على مائة من المائة؟
المنطق يقول إن إليوت لن يحصل على مائة، فلا بُدَ من أن يُنقصه هذا المُعلم درجتين لكراهيته المُطلقة للشُعراء الرومانتيكيين، ولا بُدَ من أن يُنقصه ذاك خمس درجات لأنه يُفضل سطحية القرن الثامن عشر على غنائية تاليه. هل يعني عدم حصول إليوت على مائة في المائة أنه ناقدٌ فاشل؟
سيُجيب الطُلاب بنعم، إليوت ناقدٌ فاشل، فلو كان ذكياً كان ليحصل على مائة.
بأخذ ناقدٍ آخر، أرسطو مثلاً - حيث أنني لا أطيق أفلاطون -. وضع أرسطو قواعد الدراما التي لا تزال سارية إلى اليوم، فهل سيحصل أرسطو على مائة بالمائة في الدراما؟ لن يفعل، لأن وحداته الثلاث (الزمان، المكان، الحدث) انتُهِكت ولا تزال تُنتهَك على المسرح مراراً، ولأن المسرحيين الجُدد تجاوزوه، ولأن التلفاز ظهر ليدعم الحبكة المتسلسلة التي استبعدها هو لعدم إمكان تطبيقها عملياً. هل صار أرسطو فاشلاً؟
تمضي العجلة، فلا أحد سيحصل على مائة في امتحان النقد. لا يوجد قولٌ غير مُختلف فيه، ولا يوجد تأويل أوحد. لا أحد يستطيع أن يحتكر الحقيقة أبداً. قُلت إنني لا أطيق أفلاطون، فهل يُجرد قولي أفلاطون من عظمة إنجازه؟ وهل يعني نقد أرسطو وإليوت أنهما فاشلان؟
إذا كان النقد - وهو علمٌ - لا يُمكن أن يُقيَم بنظام درجات، لا بعشر نقاطٍ، ولا بعشرين، ولا بمائة. لا يُقيَم بنظام درجات أو نجومٍ أو تفاحاتٍ أو ما شابه من وسائل التقييم التي يعتمدها البعض لتصنيف الأعمال الأدبية، فكيف يُمكن أن تُقيَم الأعمال الأدبية؟
كيف يُمكن أن نُقرر أن عبد الله البردوني قد حصل على تسعة من عشرة، أو أن إليوت يحصل على أربع نجمات وربع من خمس نجمات؟ لماذا لم تكن أربع نجماتٍ ونصف؟
تُضحكني التقييمات للأعمال الأدبية والفنية على مقاييس رياضية، وتبدو اعتباطية في مُعظمها. إذا أعجبني العمل سأمنحه خمس نجمات، ثم أفكر مُجدداً، يجب أن أكون (موضوعية)! سأمنحه أربع نجماتٍ ونصف! لم يُعجبني ذاك، حسناً، سأمنحه نجمتين، ونصف نجمة لأكون كريمة و(موضوعية)!
هُراء!
من السُخف بمكان تقييم أي عملٍ إبداعي بمقياس نجماتٍ أو تفاحاتٍ أو درجاتٍ أو ما شابه! حتى في فيزياء الكم لا يُمكن حساب موقع الإلكترون وسرعته في الآن ذاته، مما يُوجد مبدأ "عدم التيقن" الشهير، فكيف يُمكن أن تُقاس عظمة عملٍ أدبي؟ وكيف يُمكن أن يُترجم هذا القياس إلى درجاتٍ؟
يُذكرني هذا بمشهدٍ من فيلم جمعية الشُعراء الموتى Dead Poets Society يبدأ فيه الأستاذ كبلنغ (روبن ويليامز) تطبيق مُعادلة في كتاب الأدب لقياس عظمة قصيدة، ثُم يشطب الكلام واصفاً إياه بأنه (هُراء) ويطلب من تلاميذه تمزيق الصفحة، لأن عظمة الأدب لا تُقاس بالمعادلات الرياضية. الأدب العظيم ما يترك أثراً في نفس الإنسان، والنفس الإنسانية أعمق بكثير وأعقد من أن يُحاول المرء قياسها بالحساب، فإذا كان مبدأ "عدم التيقن" ينطبق على فيزياء الكم، فإنه ينطبق كذلك على الأدب، لأنه لا شيء فيه يقيني.
خُدع الناس طويلاً ليؤمنوا بالأرقام، بينما الأرقام ليست سوى تبسيطات مُخادعةٍ تُشيء الإنسان وتحرمه من أي خيارٍ.
يُضحكني كثيراً التبجح والإدعاء الذي يُشع ممن يُعطون درجاتٍ ونجماتٍ للإبداع. رُبما، سيتكرم أحدهم بمنح مائة لإليوت، وسيرد عليه آخر بمنحه واحداً. كُل هذا غرورٌ لا يُصدق، وفشلٌ في إدراك حقيقة الإبداع.

13 أكتوبر 2008

Senior Citizen

العام الرابع في مُستعمرة الهنود.
كمواطنين شيوخ في المستعمرة، يتوقع المرء أن نُعامَلَ بشكلٍ مُختلفٍ ولو قليلاً، وفعلاً، اختلفت المُعاملة عن السنين السابقة، لكن اختلاف المُعاملة لا يعني تحسنها بالضرورة، وآخر الأمر نحن (رهائن) في المستعمرة ولا حقوق لنا.
مضى العُمر في المستعمرة، وما بقي ليس إلا محاولة لمسابقة الزمن، ليحاول المرء أن يدعي عند خروجه بعض العلم. يقول أستاذ الترجمة: "الله أكبر! كُل شيء تدرسونه هذا التيرم! ماذا فعلتم في بقية السنين؟" والحق أنه لا جواب غير عند أهل الحل والربط في المُستعمرة، فما نحنُ إلا (رهائن) ليس لنا إلا ما يجود كرمهم علينا به. هذه المرة فاض الكرم، فأفاضوا في المواد إفاضة. ثلاث سنين مضت ولم يُفكر أحدٌ بتعليمنا كيف نكتب بحثاً، وهذا العام وضعوا منهجاً، ثم بات علينا أن نطبقه في بحثين لا واحد. وكعادتهم، فإنهم بُخلاء بالثواب للحسن، أسخياء في العقاب لغيره. تذكروا أن هُناك شعراً ورواية وتاريخاً وترجمة وأدباً مقارناً، بل - ويا للهول! - هُناك أدبٌ أمريكي كذلك!
كُل هذا الضغط على مواطني المُستعمرة الشيوخ مُضحك، كالشيخ الذي يرتدي قميصاً أحمر مزيناً بالورود وبنطالاً قصيراً ويصبغ وجنتيه وشفتيه ثم يدعي أن العُمر لم يفته، بل ويدعي أنه لا يبدو كمهرج.
لم يبقَ إلا قبض الريح.