يعشق مُعظم أساتذة المُستعمرة تي. إس. إليوت، ويُشيرون إليه كُلما استطاعوا وأمكنهم حشره في سياقٍ منطقي، بل إن بعضهم يحشر إليوت بأي طريقة، فيتحدث عن الجُبنة:
"وبمناسبة الحديث عن أنواع الجُبنة، فإن تي. إس. إليوت قد أشار في قصيدته "الأرض اليباب" إلى خراب المجتمعات التي تخلوا من الجُبنة".
إليوت - بالنسبة لأساتذة المستعمرة - مُنتهى النقد، وصاحب الكلمة الفصل في كُل مسائل الأدب. مع ذلك، يجد أساتذة المستعمرة أنفسهم مضطرين - ولو على استحياء - إلى مُخالفته في بعض آرائه، فيتحفظ هذا على هجوم إليوت الشنيع على الشعراء الرومانتيكيين في القرنين الثامن والتاسع عشر، ويختلف ذاك مع استحسان إليوت لأدب الكلاسيكيين الجُدد. عندها يقول الواحد منهم:
"إليوت عظيمٌ حقاً، لكننا نجد أنفسنا غير قادرين على الاتفاق معه مائة بالمائة في هذا السياق".
الاتفاق مع إليوت مائة بالمائة غير مُمكن، لأنه نفسه لا يتفق مع نفسه مائة بالمائة، وكثيراً ما يُعدل آراءه ويراجعها. والاختلاف معه - أو مع غيره - واجبٌ لأن العقول تختلف، ولا أحد يملك الحقيقة المطلقة - إن وُجِدَت -. ومع أن إليوت يكاد يكون معبود الكثيرين من النقاد ودارسي النقد الأدبي، إلا أن نقاداً آخرين في زمنه وبعده مزقوه بشراسة، ولم يُبقوا على شيء من ميراثه النقدي باستثناء المعادل الموضوعي.
لو أن إليوت قدم اختباراً في النقد، أكان يحصل على مائة من المائة؟
المنطق يقول إن إليوت لن يحصل على مائة، فلا بُدَ من أن يُنقصه هذا المُعلم درجتين لكراهيته المُطلقة للشُعراء الرومانتيكيين، ولا بُدَ من أن يُنقصه ذاك خمس درجات لأنه يُفضل سطحية القرن الثامن عشر على غنائية تاليه. هل يعني عدم حصول إليوت على مائة في المائة أنه ناقدٌ فاشل؟
سيُجيب الطُلاب بنعم، إليوت ناقدٌ فاشل، فلو كان ذكياً كان ليحصل على مائة.
بأخذ ناقدٍ آخر، أرسطو مثلاً - حيث أنني لا أطيق أفلاطون -. وضع أرسطو قواعد الدراما التي لا تزال سارية إلى اليوم، فهل سيحصل أرسطو على مائة بالمائة في الدراما؟ لن يفعل، لأن وحداته الثلاث (الزمان، المكان، الحدث) انتُهِكت ولا تزال تُنتهَك على المسرح مراراً، ولأن المسرحيين الجُدد تجاوزوه، ولأن التلفاز ظهر ليدعم الحبكة المتسلسلة التي استبعدها هو لعدم إمكان تطبيقها عملياً. هل صار أرسطو فاشلاً؟
تمضي العجلة، فلا أحد سيحصل على مائة في امتحان النقد. لا يوجد قولٌ غير مُختلف فيه، ولا يوجد تأويل أوحد. لا أحد يستطيع أن يحتكر الحقيقة أبداً. قُلت إنني لا أطيق أفلاطون، فهل يُجرد قولي أفلاطون من عظمة إنجازه؟ وهل يعني نقد أرسطو وإليوت أنهما فاشلان؟
إذا كان النقد - وهو علمٌ - لا يُمكن أن يُقيَم بنظام درجات، لا بعشر نقاطٍ، ولا بعشرين، ولا بمائة. لا يُقيَم بنظام درجات أو نجومٍ أو تفاحاتٍ أو ما شابه من وسائل التقييم التي يعتمدها البعض لتصنيف الأعمال الأدبية، فكيف يُمكن أن تُقيَم الأعمال الأدبية؟
كيف يُمكن أن نُقرر أن عبد الله البردوني قد حصل على تسعة من عشرة، أو أن إليوت يحصل على أربع نجمات وربع من خمس نجمات؟ لماذا لم تكن أربع نجماتٍ ونصف؟
تُضحكني التقييمات للأعمال الأدبية والفنية على مقاييس رياضية، وتبدو اعتباطية في مُعظمها. إذا أعجبني العمل سأمنحه خمس نجمات، ثم أفكر مُجدداً، يجب أن أكون (موضوعية)! سأمنحه أربع نجماتٍ ونصف! لم يُعجبني ذاك، حسناً، سأمنحه نجمتين، ونصف نجمة لأكون كريمة و(موضوعية)!
هُراء!
من السُخف بمكان تقييم أي عملٍ إبداعي بمقياس نجماتٍ أو تفاحاتٍ أو درجاتٍ أو ما شابه! حتى في فيزياء الكم لا يُمكن حساب موقع الإلكترون وسرعته في الآن ذاته، مما يُوجد مبدأ "عدم التيقن" الشهير، فكيف يُمكن أن تُقاس عظمة عملٍ أدبي؟ وكيف يُمكن أن يُترجم هذا القياس إلى درجاتٍ؟
يُذكرني هذا بمشهدٍ من فيلم جمعية الشُعراء الموتى Dead Poets Society يبدأ فيه الأستاذ كبلنغ (روبن ويليامز) تطبيق مُعادلة في كتاب الأدب لقياس عظمة قصيدة، ثُم يشطب الكلام واصفاً إياه بأنه (هُراء) ويطلب من تلاميذه تمزيق الصفحة، لأن عظمة الأدب لا تُقاس بالمعادلات الرياضية. الأدب العظيم ما يترك أثراً في نفس الإنسان، والنفس الإنسانية أعمق بكثير وأعقد من أن يُحاول المرء قياسها بالحساب، فإذا كان مبدأ "عدم التيقن" ينطبق على فيزياء الكم، فإنه ينطبق كذلك على الأدب، لأنه لا شيء فيه يقيني.
خُدع الناس طويلاً ليؤمنوا بالأرقام، بينما الأرقام ليست سوى تبسيطات مُخادعةٍ تُشيء الإنسان وتحرمه من أي خيارٍ.
يُضحكني كثيراً التبجح والإدعاء الذي يُشع ممن يُعطون درجاتٍ ونجماتٍ للإبداع. رُبما، سيتكرم أحدهم بمنح مائة لإليوت، وسيرد عليه آخر بمنحه واحداً. كُل هذا غرورٌ لا يُصدق، وفشلٌ في إدراك حقيقة الإبداع.
"وبمناسبة الحديث عن أنواع الجُبنة، فإن تي. إس. إليوت قد أشار في قصيدته "الأرض اليباب" إلى خراب المجتمعات التي تخلوا من الجُبنة".
إليوت - بالنسبة لأساتذة المستعمرة - مُنتهى النقد، وصاحب الكلمة الفصل في كُل مسائل الأدب. مع ذلك، يجد أساتذة المستعمرة أنفسهم مضطرين - ولو على استحياء - إلى مُخالفته في بعض آرائه، فيتحفظ هذا على هجوم إليوت الشنيع على الشعراء الرومانتيكيين في القرنين الثامن والتاسع عشر، ويختلف ذاك مع استحسان إليوت لأدب الكلاسيكيين الجُدد. عندها يقول الواحد منهم:
"إليوت عظيمٌ حقاً، لكننا نجد أنفسنا غير قادرين على الاتفاق معه مائة بالمائة في هذا السياق".
الاتفاق مع إليوت مائة بالمائة غير مُمكن، لأنه نفسه لا يتفق مع نفسه مائة بالمائة، وكثيراً ما يُعدل آراءه ويراجعها. والاختلاف معه - أو مع غيره - واجبٌ لأن العقول تختلف، ولا أحد يملك الحقيقة المطلقة - إن وُجِدَت -. ومع أن إليوت يكاد يكون معبود الكثيرين من النقاد ودارسي النقد الأدبي، إلا أن نقاداً آخرين في زمنه وبعده مزقوه بشراسة، ولم يُبقوا على شيء من ميراثه النقدي باستثناء المعادل الموضوعي.
لو أن إليوت قدم اختباراً في النقد، أكان يحصل على مائة من المائة؟
المنطق يقول إن إليوت لن يحصل على مائة، فلا بُدَ من أن يُنقصه هذا المُعلم درجتين لكراهيته المُطلقة للشُعراء الرومانتيكيين، ولا بُدَ من أن يُنقصه ذاك خمس درجات لأنه يُفضل سطحية القرن الثامن عشر على غنائية تاليه. هل يعني عدم حصول إليوت على مائة في المائة أنه ناقدٌ فاشل؟
سيُجيب الطُلاب بنعم، إليوت ناقدٌ فاشل، فلو كان ذكياً كان ليحصل على مائة.
بأخذ ناقدٍ آخر، أرسطو مثلاً - حيث أنني لا أطيق أفلاطون -. وضع أرسطو قواعد الدراما التي لا تزال سارية إلى اليوم، فهل سيحصل أرسطو على مائة بالمائة في الدراما؟ لن يفعل، لأن وحداته الثلاث (الزمان، المكان، الحدث) انتُهِكت ولا تزال تُنتهَك على المسرح مراراً، ولأن المسرحيين الجُدد تجاوزوه، ولأن التلفاز ظهر ليدعم الحبكة المتسلسلة التي استبعدها هو لعدم إمكان تطبيقها عملياً. هل صار أرسطو فاشلاً؟
تمضي العجلة، فلا أحد سيحصل على مائة في امتحان النقد. لا يوجد قولٌ غير مُختلف فيه، ولا يوجد تأويل أوحد. لا أحد يستطيع أن يحتكر الحقيقة أبداً. قُلت إنني لا أطيق أفلاطون، فهل يُجرد قولي أفلاطون من عظمة إنجازه؟ وهل يعني نقد أرسطو وإليوت أنهما فاشلان؟
إذا كان النقد - وهو علمٌ - لا يُمكن أن يُقيَم بنظام درجات، لا بعشر نقاطٍ، ولا بعشرين، ولا بمائة. لا يُقيَم بنظام درجات أو نجومٍ أو تفاحاتٍ أو ما شابه من وسائل التقييم التي يعتمدها البعض لتصنيف الأعمال الأدبية، فكيف يُمكن أن تُقيَم الأعمال الأدبية؟
كيف يُمكن أن نُقرر أن عبد الله البردوني قد حصل على تسعة من عشرة، أو أن إليوت يحصل على أربع نجمات وربع من خمس نجمات؟ لماذا لم تكن أربع نجماتٍ ونصف؟
تُضحكني التقييمات للأعمال الأدبية والفنية على مقاييس رياضية، وتبدو اعتباطية في مُعظمها. إذا أعجبني العمل سأمنحه خمس نجمات، ثم أفكر مُجدداً، يجب أن أكون (موضوعية)! سأمنحه أربع نجماتٍ ونصف! لم يُعجبني ذاك، حسناً، سأمنحه نجمتين، ونصف نجمة لأكون كريمة و(موضوعية)!
هُراء!
من السُخف بمكان تقييم أي عملٍ إبداعي بمقياس نجماتٍ أو تفاحاتٍ أو درجاتٍ أو ما شابه! حتى في فيزياء الكم لا يُمكن حساب موقع الإلكترون وسرعته في الآن ذاته، مما يُوجد مبدأ "عدم التيقن" الشهير، فكيف يُمكن أن تُقاس عظمة عملٍ أدبي؟ وكيف يُمكن أن يُترجم هذا القياس إلى درجاتٍ؟
يُذكرني هذا بمشهدٍ من فيلم جمعية الشُعراء الموتى Dead Poets Society يبدأ فيه الأستاذ كبلنغ (روبن ويليامز) تطبيق مُعادلة في كتاب الأدب لقياس عظمة قصيدة، ثُم يشطب الكلام واصفاً إياه بأنه (هُراء) ويطلب من تلاميذه تمزيق الصفحة، لأن عظمة الأدب لا تُقاس بالمعادلات الرياضية. الأدب العظيم ما يترك أثراً في نفس الإنسان، والنفس الإنسانية أعمق بكثير وأعقد من أن يُحاول المرء قياسها بالحساب، فإذا كان مبدأ "عدم التيقن" ينطبق على فيزياء الكم، فإنه ينطبق كذلك على الأدب، لأنه لا شيء فيه يقيني.
خُدع الناس طويلاً ليؤمنوا بالأرقام، بينما الأرقام ليست سوى تبسيطات مُخادعةٍ تُشيء الإنسان وتحرمه من أي خيارٍ.
يُضحكني كثيراً التبجح والإدعاء الذي يُشع ممن يُعطون درجاتٍ ونجماتٍ للإبداع. رُبما، سيتكرم أحدهم بمنح مائة لإليوت، وسيرد عليه آخر بمنحه واحداً. كُل هذا غرورٌ لا يُصدق، وفشلٌ في إدراك حقيقة الإبداع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق