08 سبتمبر 2007

مُنْتَصَفُ اللَيْلِ فِيْ حَدَائِقِ الخَيْرِ وَالشَر: الْشَيْطَان والْعَابِد

تميل إحدى أستاذات الأدب الإنكليزي في مستعمرة الهنود بكلية الكعب العالي إلى وعظنا بشأن الشيطان والإيمان والخلاص؛ لتخليص أرواحنا من دنس الدنيا بأسلوب يقترب من أسلوب التبشير المسيحي. إحدى حكاياتها عن الشيطان -وهي حكاية لا مصدر لها كما هي الحكايات من هذا النوع- كانت قوية ومؤثرة بحق، لذا سأُعيد روايتها بأسلوبي:

"يُروى أن عابداً مؤمناً كان يُقيم وحده في جبل يطل على مدينة. كان يُصلي مُعظم يومه، ويصوم يوماً ثم يفطرالذي يليه، وهكذا تمضي حياته مكرسة لعبادة الله. عَرَفَ عنه الشيطان ففكر في نفسه أن إفساد هذا العابد الذي يعيش وحده ولا يفعل غير الصلاة والصيام سيكون تزجية حسنة لوقت فراغه. وهكذا رسم خطته، فاتخذ هيئة شيخ سمح المظهر، ومضى يطرق باب العابد. قال للعابد أنه سمع عن تقواه وزهده، وأنه يرغب في أن يسمح له بالعيش معه والتعلم منه ليعبد الله بشكل أفضل، فسُر العابد منه، وسمح له بالإقامة معه ليتعلم منه. تعلم الشيطان العبادات بسرعة كبيرة، وسرعان ما فاق العابد الذي كان يُصلي ويتعب، يصوم ويفطر، يصحو وينام؛ بينما كان الشيطان صائماً أبداً، مُصلياً أبداً، صاحياً أبداً. وجد العابد أنه خيرٌ منه في الصلاة والعبادة، وأنه أقرب إلى الله منه، فارتأى أن يُصارحه بذلك، وأن يَطلُب إليه أن يُعلمه ليُصبح مثله. سُر الشيطان بكلام العابد، وإن كان قد تظاهر بالحكمة والتواضع، واشترط على العابد أن يُطيعه مُطلقاً ولا يعصي له أمراً، ووهبه القُدرة على شفاء الممسوسين والمرضى، ثم أوصاه أن يواصل الصلاة والعبادة وفارقه، فنزل إلى المدينة، وهناك صرع رجلاً فسقط يتخبط وقد أصابته جنةٌ. تصايح الناس عما أصابه، وكيف يكون خلاصه، فصاح الشيطان معهم، ثم اتخذ سيماء الحكمة وطلب إليهم أن يأخذوه إلى العابد فوق الجبل فيشفيه مما أصابه. أخذوه إلى الجبل حيث استشار العابد صاحبه الشيطان، فأشار عليه بعلاجه، فمسه وشفي، ومن يومها تهاتف الناس أن العابد فوق الجبل يشفي من مسهم الضر، فكان كُلما أصاب واحداً منهم الضر، مضى إلى العابد فشفاه. وهكذا انشغل العابد نهاراً وليلاً بعلاج الممسوسين والمرضى دون أن يتاح له الوقت الكافي للعبادة. ثم ذهب الشيطان إلى قصر ملك البلاد، فصرع ابنته الجميلة، وحار الأطباء والسحرة والأولياء في علاجها، ثم ذكر لهم الشيطان العابد في الجبل، فحملوها إليه. همس له الشيطان أن يأمرهم بتركها معه زمناً حتى يشفيها تماماً، فوافقوا ومضوا. ولما وجد العابد نفسه وحيداً مع الأميرة الجميلة الصغيرة، اشتهاها فقضى وطره منها. وبعد فترة بدأت أعراض الحمل تظهر على الأميرة، فاستشار العابد صاحبه الشيطان ليسعفه بالحل لمُعضلته، فأشار عليه بقتل الأميرة ودفنها في الجبل، ثم اختفى. وعندما جاء الملك ورجاله ليستردوا الأميرة، أخبرهم العابد أنها ماتت ودفنها، فجُن جنون الملك، وعندئذٍ تمثل الشيطان له في هيئة مستشاره، وهمس في أذنه أن احفروا وراء مسكن العابد، عندئذٍ تجدون جثة الأميرة، وترون أنه قتلها، وأنها كانت حبلى. بعد إخراج جثة الأميرة، أمر الملك بإنزال العابد من جبله، وإحراقه حياً في وسط حاضرة البلاد. فحملوه، وربطوه في العمود، وأشعلوا النيران، وهو يتلفت ويتخبط وينادي صاحبه الشيطان. فظهر له والنار تحيطه من كل جانب، فسأله الغوث. عندها قال له الشيطان، أحررك شرط أن تحني رأسك لي وتؤمن بي، فأحنى العابد رأسه للشيطان مؤمناً به، وإذ ذاك قُبض."

يقول مفستوفيليس لفاوست في فاوست غوته أن السُذج لا يُحسون بحضور الشيطان حتى ومخالبه تطوق أعناقهم، وكذا لا يُحس العابد بحضور الشيطان حتى وهو يحترق بالنار عاقبة لكيده؛ فيمضي إلى خاتمة فاجعة، والأمور بخواتمها.

مثل الشيخ شزالت، فشل العابد في امتحان إيمانه البسيط. هذه المرة، لم يأته أمرٌ بالخروج كما جاء شزالت الذي كان يَرجو أن يبلغ طريق الحق، بل جاءه الشيطان يطرق بابه. الشيطان في الحكاية لم يتظاهر بأنه يُصلي، بل إنه صلى حقاً؛ ولم يتظاهر بالصيام، بل إنه صام حقاً، فمخلوق النار عابدٌ أفضل، وقيل أنه خير العابدين المُسبحين بحمد الله قبل أن يُطرد من السماء، ويُقسم بجلال الله أنه سيغوي بني آدم أجمعين، إلا العبيد المُخلصين. لم يكن العابد قادراً على هزيمة الشيطان في الصلوات، فآمن بأنه خير منه، وأنه أقرب إلى الله منه، فمضى يؤمن به إيماناً مُطلقاً، دون أن يتساءل هُنيهة عن حقيقة صاحبه، أيكون ملاكاً أم شيطاناً؟ إنه يُصلي خيراً منه، ويصوم خيراً منه. هو الأفضل المُطلق، وكما قال مفستوفيليس، طوق عُنقَ العابِدِ بمخالبه، دون أن يُحس الأخير بالهوة التي تردى فيها، والزيف الذي تكشف عنه إيمانه الذي لم يصمد أمام التجربة.

كقصة الشيخ شزالت، تنتقد هذه القصة التسليم المُطلق بدون تدقيق أو اختبار، والأخذ بالظاهر دون السؤال عما وراءه. العابد الساذج فريسة سهلة للشيطان لأنه لا يتوقع وجوده، وإذا وجده، لا يُحس بوجوده.

"طوبى للذين يعرفون الشيطان فينأون عنه!"

02 سبتمبر 2007

القِيَامَةُ الآن!



اختبار شخصية آخر أديته من باب الفضول - غير العلمي - البحت الذي جعلني أؤدي اختبار القادة من قبل. هذه المرة، كان الهدف هو معرفة الفيلم الكلاسيكي الذي يشبهني، وكالمرة السابقة، كانت النتيجة مُلائمة جداً، فلم أحمل يوماً كثير تقدير لأفلام كقائمة شندلر أو غزاة التابوت المفقود، بينما اعتبرت فيلم القيامة الآن فيلماً عظيماً مُنذ حداثتي.
ذكرياتي الأولى عن فيلم القيامة الآن ضبابية جداً، أتذكر عسكريين، غابة، ونهراً مُقبضاً أغرق نفسي الغضة وقتها في بحر من الكآبة والضجر. أتذكر رجالاً مخيفين، وعالماً مُظلماً جداً. أظنني كُنت في الخامسة وقتها، ورُبما دونها، وأتذكر أن أبي كان يُشاهد الفيلم من جديد، وأنا برفقته، وهو يُعلق من حين لآخر على الأحداث ليشرحها لي بطريقته التي تأخذ الأطفال على محمل الجد، ولا تحاول إهانة ذكائهم بتسخيف الأمور. كان يُخبرني عن الضابط الفظ كيلغور، ويشرح لي أن النهر المُخيف وسط الأدغال تمثيل لظلمات النفس الإنسانية.
لم أفهم الفيلم وقتها، ولم يتوقع مني أحد أن أفهمه. رأيته فيلماً مُضجراً ومٌفزعاً إلى حد كبير. فيلماً كئيباً يحتوي على نهر كبير مُخيف يُذكرني بالنهر الذي غرق فيه أبطال مُسلسل كارتوني شاهدته في سن أبكر - كانت أفلام الكارتون في أيامي أكثر عُمقاً وإدراكاً لأكثر جوانب الحياة غموضاً وقسوة من أفلام الكارتون الحالية الميالة إلى الإفزاع المجاني غالباً، والتي ينجو فيها الأبطال دائماً -، لكنني بقيت أُكن احتراماً للفيلم نما في داخلي مع السنين.
في 2001 شاهدت مع أبي - مرة أخرى - فيلم القيامة الآن بُمناسبة إعادة عرضه باسم عودة القيامة الآن Apocalypse Now Reduxوعُدنا إلى النقاش بشأنه. عندها عرفت بأن للفيلم جذراً روائياً في رواية قلب الظلام للبولندي جوزيف كونراد، وبدأت في البحث عنه.
فيلم القيامة الآن لم يتغير، لا زال رحلة في أكثر مناطق النفس الإنسانية غموضاً وظلمة.إبحاراً فلسفياً لاقتناص دقائق العلاقة بين المُستَعْمِرِ والمُستَعْمَر، المُستَغِلِ والمُستَغَل، المُؤْلَهِ والمُؤْلِه. نظرة في أعماق العُنصرية والجنون والشر. بحثاً عن ماهية الحقيقة. ماهية الوجود. ماهية الحياة. ما تغير هو العقل الذي يُشاهده. الفِكرُ الذي يتأمله. التجربة التي رُوكِمتْ قبله، وأثناءه، وبعده. التجربة التي تجعل من مشاهدته مُتعة بصرية وذهنية، رحلة شجاعة وجريئة في أعماق الخيال.
يقول فرانسيس فورد كوبولا مُخرج الفيلم أنه جهد لتصوير الفيلم بشكل خيالي بحت. الأدخنة، الأضواء، الزوايا، غير حقيقية. أشياء لا تراها في الحياة اليومية. أمورٌ تجعل الرمز أقوى، أكثر سيطرة وحضوراً في الذهن. تجربة صادمة تَهزُ أُسس الإدراك للمفاهيم البشرية المجردة عن الحياة والحقيقة والحرية. قيامة حقيقية تُنهي العالم القائم، تحشدُه في بؤرة مُطلقة، وتكشف جوهراً آخر مكنوناً في عمق سحيق.
رُبما كانت الكلمات التي تصف شخصية القيامة الآن أقرب تعبير ممكن عن جوهر الفيلم، وأقرب وصف مُمكن للذين رأوا في تصويره الباذخ الخيالي للحياة تصويراً يكاد يلامس صورة الوجود في دواخلهم:
"أنت القيامة الآن. أنت جوال شديد الإحساس بالشر في نهر الحياة المُتعرج، باحثاً في ظُلمة ذاتك."