02 سبتمبر 2007

القِيَامَةُ الآن!



اختبار شخصية آخر أديته من باب الفضول - غير العلمي - البحت الذي جعلني أؤدي اختبار القادة من قبل. هذه المرة، كان الهدف هو معرفة الفيلم الكلاسيكي الذي يشبهني، وكالمرة السابقة، كانت النتيجة مُلائمة جداً، فلم أحمل يوماً كثير تقدير لأفلام كقائمة شندلر أو غزاة التابوت المفقود، بينما اعتبرت فيلم القيامة الآن فيلماً عظيماً مُنذ حداثتي.
ذكرياتي الأولى عن فيلم القيامة الآن ضبابية جداً، أتذكر عسكريين، غابة، ونهراً مُقبضاً أغرق نفسي الغضة وقتها في بحر من الكآبة والضجر. أتذكر رجالاً مخيفين، وعالماً مُظلماً جداً. أظنني كُنت في الخامسة وقتها، ورُبما دونها، وأتذكر أن أبي كان يُشاهد الفيلم من جديد، وأنا برفقته، وهو يُعلق من حين لآخر على الأحداث ليشرحها لي بطريقته التي تأخذ الأطفال على محمل الجد، ولا تحاول إهانة ذكائهم بتسخيف الأمور. كان يُخبرني عن الضابط الفظ كيلغور، ويشرح لي أن النهر المُخيف وسط الأدغال تمثيل لظلمات النفس الإنسانية.
لم أفهم الفيلم وقتها، ولم يتوقع مني أحد أن أفهمه. رأيته فيلماً مُضجراً ومٌفزعاً إلى حد كبير. فيلماً كئيباً يحتوي على نهر كبير مُخيف يُذكرني بالنهر الذي غرق فيه أبطال مُسلسل كارتوني شاهدته في سن أبكر - كانت أفلام الكارتون في أيامي أكثر عُمقاً وإدراكاً لأكثر جوانب الحياة غموضاً وقسوة من أفلام الكارتون الحالية الميالة إلى الإفزاع المجاني غالباً، والتي ينجو فيها الأبطال دائماً -، لكنني بقيت أُكن احتراماً للفيلم نما في داخلي مع السنين.
في 2001 شاهدت مع أبي - مرة أخرى - فيلم القيامة الآن بُمناسبة إعادة عرضه باسم عودة القيامة الآن Apocalypse Now Reduxوعُدنا إلى النقاش بشأنه. عندها عرفت بأن للفيلم جذراً روائياً في رواية قلب الظلام للبولندي جوزيف كونراد، وبدأت في البحث عنه.
فيلم القيامة الآن لم يتغير، لا زال رحلة في أكثر مناطق النفس الإنسانية غموضاً وظلمة.إبحاراً فلسفياً لاقتناص دقائق العلاقة بين المُستَعْمِرِ والمُستَعْمَر، المُستَغِلِ والمُستَغَل، المُؤْلَهِ والمُؤْلِه. نظرة في أعماق العُنصرية والجنون والشر. بحثاً عن ماهية الحقيقة. ماهية الوجود. ماهية الحياة. ما تغير هو العقل الذي يُشاهده. الفِكرُ الذي يتأمله. التجربة التي رُوكِمتْ قبله، وأثناءه، وبعده. التجربة التي تجعل من مشاهدته مُتعة بصرية وذهنية، رحلة شجاعة وجريئة في أعماق الخيال.
يقول فرانسيس فورد كوبولا مُخرج الفيلم أنه جهد لتصوير الفيلم بشكل خيالي بحت. الأدخنة، الأضواء، الزوايا، غير حقيقية. أشياء لا تراها في الحياة اليومية. أمورٌ تجعل الرمز أقوى، أكثر سيطرة وحضوراً في الذهن. تجربة صادمة تَهزُ أُسس الإدراك للمفاهيم البشرية المجردة عن الحياة والحقيقة والحرية. قيامة حقيقية تُنهي العالم القائم، تحشدُه في بؤرة مُطلقة، وتكشف جوهراً آخر مكنوناً في عمق سحيق.
رُبما كانت الكلمات التي تصف شخصية القيامة الآن أقرب تعبير ممكن عن جوهر الفيلم، وأقرب وصف مُمكن للذين رأوا في تصويره الباذخ الخيالي للحياة تصويراً يكاد يلامس صورة الوجود في دواخلهم:
"أنت القيامة الآن. أنت جوال شديد الإحساس بالشر في نهر الحياة المُتعرج، باحثاً في ظُلمة ذاتك."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق