08 سبتمبر 2007

مُنْتَصَفُ اللَيْلِ فِيْ حَدَائِقِ الخَيْرِ وَالشَر: الْشَيْطَان والْعَابِد

تميل إحدى أستاذات الأدب الإنكليزي في مستعمرة الهنود بكلية الكعب العالي إلى وعظنا بشأن الشيطان والإيمان والخلاص؛ لتخليص أرواحنا من دنس الدنيا بأسلوب يقترب من أسلوب التبشير المسيحي. إحدى حكاياتها عن الشيطان -وهي حكاية لا مصدر لها كما هي الحكايات من هذا النوع- كانت قوية ومؤثرة بحق، لذا سأُعيد روايتها بأسلوبي:

"يُروى أن عابداً مؤمناً كان يُقيم وحده في جبل يطل على مدينة. كان يُصلي مُعظم يومه، ويصوم يوماً ثم يفطرالذي يليه، وهكذا تمضي حياته مكرسة لعبادة الله. عَرَفَ عنه الشيطان ففكر في نفسه أن إفساد هذا العابد الذي يعيش وحده ولا يفعل غير الصلاة والصيام سيكون تزجية حسنة لوقت فراغه. وهكذا رسم خطته، فاتخذ هيئة شيخ سمح المظهر، ومضى يطرق باب العابد. قال للعابد أنه سمع عن تقواه وزهده، وأنه يرغب في أن يسمح له بالعيش معه والتعلم منه ليعبد الله بشكل أفضل، فسُر العابد منه، وسمح له بالإقامة معه ليتعلم منه. تعلم الشيطان العبادات بسرعة كبيرة، وسرعان ما فاق العابد الذي كان يُصلي ويتعب، يصوم ويفطر، يصحو وينام؛ بينما كان الشيطان صائماً أبداً، مُصلياً أبداً، صاحياً أبداً. وجد العابد أنه خيرٌ منه في الصلاة والعبادة، وأنه أقرب إلى الله منه، فارتأى أن يُصارحه بذلك، وأن يَطلُب إليه أن يُعلمه ليُصبح مثله. سُر الشيطان بكلام العابد، وإن كان قد تظاهر بالحكمة والتواضع، واشترط على العابد أن يُطيعه مُطلقاً ولا يعصي له أمراً، ووهبه القُدرة على شفاء الممسوسين والمرضى، ثم أوصاه أن يواصل الصلاة والعبادة وفارقه، فنزل إلى المدينة، وهناك صرع رجلاً فسقط يتخبط وقد أصابته جنةٌ. تصايح الناس عما أصابه، وكيف يكون خلاصه، فصاح الشيطان معهم، ثم اتخذ سيماء الحكمة وطلب إليهم أن يأخذوه إلى العابد فوق الجبل فيشفيه مما أصابه. أخذوه إلى الجبل حيث استشار العابد صاحبه الشيطان، فأشار عليه بعلاجه، فمسه وشفي، ومن يومها تهاتف الناس أن العابد فوق الجبل يشفي من مسهم الضر، فكان كُلما أصاب واحداً منهم الضر، مضى إلى العابد فشفاه. وهكذا انشغل العابد نهاراً وليلاً بعلاج الممسوسين والمرضى دون أن يتاح له الوقت الكافي للعبادة. ثم ذهب الشيطان إلى قصر ملك البلاد، فصرع ابنته الجميلة، وحار الأطباء والسحرة والأولياء في علاجها، ثم ذكر لهم الشيطان العابد في الجبل، فحملوها إليه. همس له الشيطان أن يأمرهم بتركها معه زمناً حتى يشفيها تماماً، فوافقوا ومضوا. ولما وجد العابد نفسه وحيداً مع الأميرة الجميلة الصغيرة، اشتهاها فقضى وطره منها. وبعد فترة بدأت أعراض الحمل تظهر على الأميرة، فاستشار العابد صاحبه الشيطان ليسعفه بالحل لمُعضلته، فأشار عليه بقتل الأميرة ودفنها في الجبل، ثم اختفى. وعندما جاء الملك ورجاله ليستردوا الأميرة، أخبرهم العابد أنها ماتت ودفنها، فجُن جنون الملك، وعندئذٍ تمثل الشيطان له في هيئة مستشاره، وهمس في أذنه أن احفروا وراء مسكن العابد، عندئذٍ تجدون جثة الأميرة، وترون أنه قتلها، وأنها كانت حبلى. بعد إخراج جثة الأميرة، أمر الملك بإنزال العابد من جبله، وإحراقه حياً في وسط حاضرة البلاد. فحملوه، وربطوه في العمود، وأشعلوا النيران، وهو يتلفت ويتخبط وينادي صاحبه الشيطان. فظهر له والنار تحيطه من كل جانب، فسأله الغوث. عندها قال له الشيطان، أحررك شرط أن تحني رأسك لي وتؤمن بي، فأحنى العابد رأسه للشيطان مؤمناً به، وإذ ذاك قُبض."

يقول مفستوفيليس لفاوست في فاوست غوته أن السُذج لا يُحسون بحضور الشيطان حتى ومخالبه تطوق أعناقهم، وكذا لا يُحس العابد بحضور الشيطان حتى وهو يحترق بالنار عاقبة لكيده؛ فيمضي إلى خاتمة فاجعة، والأمور بخواتمها.

مثل الشيخ شزالت، فشل العابد في امتحان إيمانه البسيط. هذه المرة، لم يأته أمرٌ بالخروج كما جاء شزالت الذي كان يَرجو أن يبلغ طريق الحق، بل جاءه الشيطان يطرق بابه. الشيطان في الحكاية لم يتظاهر بأنه يُصلي، بل إنه صلى حقاً؛ ولم يتظاهر بالصيام، بل إنه صام حقاً، فمخلوق النار عابدٌ أفضل، وقيل أنه خير العابدين المُسبحين بحمد الله قبل أن يُطرد من السماء، ويُقسم بجلال الله أنه سيغوي بني آدم أجمعين، إلا العبيد المُخلصين. لم يكن العابد قادراً على هزيمة الشيطان في الصلوات، فآمن بأنه خير منه، وأنه أقرب إلى الله منه، فمضى يؤمن به إيماناً مُطلقاً، دون أن يتساءل هُنيهة عن حقيقة صاحبه، أيكون ملاكاً أم شيطاناً؟ إنه يُصلي خيراً منه، ويصوم خيراً منه. هو الأفضل المُطلق، وكما قال مفستوفيليس، طوق عُنقَ العابِدِ بمخالبه، دون أن يُحس الأخير بالهوة التي تردى فيها، والزيف الذي تكشف عنه إيمانه الذي لم يصمد أمام التجربة.

كقصة الشيخ شزالت، تنتقد هذه القصة التسليم المُطلق بدون تدقيق أو اختبار، والأخذ بالظاهر دون السؤال عما وراءه. العابد الساذج فريسة سهلة للشيطان لأنه لا يتوقع وجوده، وإذا وجده، لا يُحس بوجوده.

"طوبى للذين يعرفون الشيطان فينأون عنه!"

02 سبتمبر 2007

القِيَامَةُ الآن!



اختبار شخصية آخر أديته من باب الفضول - غير العلمي - البحت الذي جعلني أؤدي اختبار القادة من قبل. هذه المرة، كان الهدف هو معرفة الفيلم الكلاسيكي الذي يشبهني، وكالمرة السابقة، كانت النتيجة مُلائمة جداً، فلم أحمل يوماً كثير تقدير لأفلام كقائمة شندلر أو غزاة التابوت المفقود، بينما اعتبرت فيلم القيامة الآن فيلماً عظيماً مُنذ حداثتي.
ذكرياتي الأولى عن فيلم القيامة الآن ضبابية جداً، أتذكر عسكريين، غابة، ونهراً مُقبضاً أغرق نفسي الغضة وقتها في بحر من الكآبة والضجر. أتذكر رجالاً مخيفين، وعالماً مُظلماً جداً. أظنني كُنت في الخامسة وقتها، ورُبما دونها، وأتذكر أن أبي كان يُشاهد الفيلم من جديد، وأنا برفقته، وهو يُعلق من حين لآخر على الأحداث ليشرحها لي بطريقته التي تأخذ الأطفال على محمل الجد، ولا تحاول إهانة ذكائهم بتسخيف الأمور. كان يُخبرني عن الضابط الفظ كيلغور، ويشرح لي أن النهر المُخيف وسط الأدغال تمثيل لظلمات النفس الإنسانية.
لم أفهم الفيلم وقتها، ولم يتوقع مني أحد أن أفهمه. رأيته فيلماً مُضجراً ومٌفزعاً إلى حد كبير. فيلماً كئيباً يحتوي على نهر كبير مُخيف يُذكرني بالنهر الذي غرق فيه أبطال مُسلسل كارتوني شاهدته في سن أبكر - كانت أفلام الكارتون في أيامي أكثر عُمقاً وإدراكاً لأكثر جوانب الحياة غموضاً وقسوة من أفلام الكارتون الحالية الميالة إلى الإفزاع المجاني غالباً، والتي ينجو فيها الأبطال دائماً -، لكنني بقيت أُكن احتراماً للفيلم نما في داخلي مع السنين.
في 2001 شاهدت مع أبي - مرة أخرى - فيلم القيامة الآن بُمناسبة إعادة عرضه باسم عودة القيامة الآن Apocalypse Now Reduxوعُدنا إلى النقاش بشأنه. عندها عرفت بأن للفيلم جذراً روائياً في رواية قلب الظلام للبولندي جوزيف كونراد، وبدأت في البحث عنه.
فيلم القيامة الآن لم يتغير، لا زال رحلة في أكثر مناطق النفس الإنسانية غموضاً وظلمة.إبحاراً فلسفياً لاقتناص دقائق العلاقة بين المُستَعْمِرِ والمُستَعْمَر، المُستَغِلِ والمُستَغَل، المُؤْلَهِ والمُؤْلِه. نظرة في أعماق العُنصرية والجنون والشر. بحثاً عن ماهية الحقيقة. ماهية الوجود. ماهية الحياة. ما تغير هو العقل الذي يُشاهده. الفِكرُ الذي يتأمله. التجربة التي رُوكِمتْ قبله، وأثناءه، وبعده. التجربة التي تجعل من مشاهدته مُتعة بصرية وذهنية، رحلة شجاعة وجريئة في أعماق الخيال.
يقول فرانسيس فورد كوبولا مُخرج الفيلم أنه جهد لتصوير الفيلم بشكل خيالي بحت. الأدخنة، الأضواء، الزوايا، غير حقيقية. أشياء لا تراها في الحياة اليومية. أمورٌ تجعل الرمز أقوى، أكثر سيطرة وحضوراً في الذهن. تجربة صادمة تَهزُ أُسس الإدراك للمفاهيم البشرية المجردة عن الحياة والحقيقة والحرية. قيامة حقيقية تُنهي العالم القائم، تحشدُه في بؤرة مُطلقة، وتكشف جوهراً آخر مكنوناً في عمق سحيق.
رُبما كانت الكلمات التي تصف شخصية القيامة الآن أقرب تعبير ممكن عن جوهر الفيلم، وأقرب وصف مُمكن للذين رأوا في تصويره الباذخ الخيالي للحياة تصويراً يكاد يلامس صورة الوجود في دواخلهم:
"أنت القيامة الآن. أنت جوال شديد الإحساس بالشر في نهر الحياة المُتعرج، باحثاً في ظُلمة ذاتك."

31 أغسطس 2007

فِيْ عَالَمِ مَا وَرَاء الطَبِيْعَة: سيِنَمَا، سيِنَمَا، نُوْسْتَالْجِيَا، نُوْسْتَالْجِيَا

سلسلة ما وراء الطبيعة للكاتب المصري أحمد خالد توفيق واحدة من أقدم السلاسل العربية التي لا تزال تصدر حتى الآن، وحتى وقت قريب نسبياً، كانت السلسلة العربية الوحيدة التي تتحدث عن عوالم ما وراء الطبيعة. للسلسلة مكانة رفيعة تصل إلى مرتبة القداسة لدى شريحة واسعة من قُرائها الذين نشأوا على عوالم السلسلة، وسخريتها القوية عالية النبرة من كل شيء. السخرية التي لم يصل كثيرون من المتأثرين بالسلسلة إلى إدراك عُمقها الحقيقي، واستبدلوها بسودواية مُقبضة، ونظرة فوقية شديدة للواقع الحالي، مع نوع من الاعتقاد شبه الديني بقداسة رموز أدبية مُعينة لها ارتباط بالسلسلة.
لعل المطالبات الأعلى نبرة مع اقتراب السلسلة من نهايتها -التي قد تتأخر خمس سنوات قادمة[1]- اقتباسها للعرض على الشاشة السينمائية أو التلفزيونية، باعتبارها تمتلك المقومات اللازمة للعرض المرئي. المُطالبات التي تصطدم بشكل دائم بحالة السينما المصرية التي لا تبدو قادرة -في المدى المنظور- على استلهام أجواء السلسلة ابتداء من الخمسينات حتى السبعينات، والعودة بالزمن إلى الحالة النوستالجية لمغامرات رفعت إسماعيل في عالم الستينات والسبعينات، في مصر، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، ورومانيا، وغيرها.لا يبدو حال التلفزيون أفضل كثيراً من حال السينما، فالإمكانيات التلفزيونية المتوفرة لإنتاج السلسلة قد لا تُفلح إلا في تشويهها تشويها بالغاً يقتل أي أبعاد فنية للسلسلة، وينتزع منها جوهرها الصميم الذي يحن إلى أزمنة كان فيها العالم مليئاً بالرعب، لكنه حميمي وأصيل ومُبدع. العالم الذي كان يضطرب بالثورات الحقيقية بعد الحرب العالمية الثانية، قبل أن يستقر على وضعه الحالي المزري الذي ابتدأ في مرحلة ما من الثمانينات ثم استمر حتى وصل أقصى امتداد له في الوقت الحاضر، جثة متفسخة لعملاق ينخره الفساد والنفاق وزيف القيم الجمالية والإبداعية. عالم لا يمتلك ترف الرعب، ولا ترف الإبتكار. عالم لاهث مسعور في واقع فوق-كارثي أحاله إلى مستنقع آسن[2].
مقابل التقدير الذي يصل مرتبة التقديس للسلسلة بين قرائها، تُقابل كُتيبات السلسلة دائماً بتجاهل تام من قبل نقاد الأدب وكثير من المتأدبين، باعتبار أن أدب الرعب فرع سيء السمعة من الأدب، يخجل منه أفراد الأسرة رغم ثرائه وسعة نفوذه، كأنه القريب الذي ظن به الجميع الفشل، فإذا به يحصل على المال والنفوذ عن طريق غير شرعي يضمن له مكاناً في المجتمع، لكن ليس ضمن الأفراد اللائقين.[3]
من جهة، قد يبدو هذا التجاهل منطقياً لافتقار السلسلة إلى الأصالة في حبكاتها. النقد الذي يُثير غضب معجبيها الذين يردون دائماً بالإدعاء الجاهز: "لا حبكات أصلية تماماً في الأدب.[4] وهو ادعاء منطقي إلى حد بعيد على مستوى الثيمات، فثيمات الفن متقاربة دائماً، ومواضيعه الأساسية هي ذاتها: الحياة/الموت، الخير/الشر، الحب/البغض، الجمال/القبح... ليس بشكل ثنائيات متضادة سافر غالباً، لكن استدعاء ثيمة واحدة من ثيمات الفن الأساسية يستحضر (ضمناً) نقائضها ومكملاتها بشكل أو بآخر. في حقيقته، فإن الفن محاولة للبحث في جوهر الوجود، وهذه -كما أفترض- هي الثيمة الأساسية لكل الأعمال الفنية مُنذ عهد رسوم الكهوف، وحتى عصر ثورة الوسائط. يسقط إدعاء "لا حبكات أصلية" في مواجهة الأعمال الأدبية والسينمائية التي يفترض بها النُقاد أنها "حقيقية" و"ذات قيمة أصيلة"، فمع استلهام منابع الحكايات الأساسية في الأدب الشعبي والميثولوجيا، تظهر الخصائص المتفردة للسرد (بمفهومه المكتوب والمعروض) مع الإمكانيات اللامتناهية للتجريب في إطار الثيمات الرئيسية الكُبرى، والثيمات المتفرعة عنها، للفن. وحتى مع وجود التناص الأدبي، فإن النص الأدبي (أو السينمائي) يؤسس ذاتيته، ويؤسس أفكاره وحبكاته الخاصة مُتآمراً على القارئ/المُشاهد المُطل على المنظر، وداعياً إياه للمشاركة في عالمه، متواطئاً معه، ومتآمراً عليه في الوقت عينه[5].
مرجعية سلسلة ما وراء الطبيعة الأساسية سينمائية غالباً، مع بعض التأثر بالقصص الشعبي والميثولوجيا (وقليل من إدغار آلان بو حسب معالجات كورمان السينمائية لأعماله غالباً، مع إشارات مستمرة إلى هوارد فيليبس لفكرافت بدون الاقتراب الحقيقي من عوالمه حتى حاز كتاب العزيف دوراً محورياً في حبكة العلامات الدامية) ، وحيث أن السينما تستمد مرجعيتها الأساسية من الأدب، فإن عكس المرجعية في سلسلة ما وراء الطبيعة يضر بإمكاناتها الفنية ضرراً بالغاً، ويفقدها شطراً كبيراً من أصالتها الإبداعية، كما أنه ستار يحجب خصائصها الأصيلة عمن يحاولون الاقتراب منها بمنطلقات نقدية.
المرجعية السينمائية لقصص السلسلة
إلى حد كبير، فإن السلسلة ذات أصل سينمائي [6] يُشير إليه أحمد خالد توفيق من حين لآخر في أعداد متفرقة من السلسلة، وفي كُتب أخرى (موسوعة الظلام ، سلسلة فانتازيا)، فيتحدث عن أفلام ديفد كروننبرغ، وروجر كورمان، وتأثير أفلام مثل ليلة الموتى الأحياء Night of Living Dead (فيلم جورج راميرو الذي أنتج في 1968وهو عام مُهم في تاريخ السينما الغرائبية التي تستند عليها السلسلة، وفي السلسلة نفسها باعتباره العام الذي يُقابل فيه رفعت إسماعيل العامل المُضاد الرئيسي في السلسلة فرانتز لوسيفر).
بالرغم من الإشارة للرعب غير المُسبَب الذي نشره الفيلم (الذي يُصور أمريكا تأكل نفسها)[7]، فإن تأثيره الظاهر على السلسلة لم يمتد لأبعد من الإنكار التام لوجود الزومبي باعتبار أن الفكرة مُنافية للدين، فالموتى يظلون في قبورهم إلى أن يغادروها بأمر خالقهم للحساب (فكرة يتكرر التعبير عنها في أسطورة الفصيلة السادسة، وقصة أمنية واحدة في حلقة الرعب وراء الباب المغلق، بعد أن يسبق التأكيد عليها في أسطورة الموتى الأحياء)، بينما جاء التأثير الأطغى لفيلم الزومبي الأبيض White Zombie من إخراج فيكتور هالبيرين عن رواية الجزيرة المسحورة لويليام سيربروك، حيث تستخدم أسطورة الموتى الأحياء أفكار الفيلم حول استغلال الزومبي كرقيق لدى شخص شرير ذي سلطة، وحيل الفودو الظاهرية المخادعة، والزوجات المختطفات. تضيف السلسلة حضور رفعت إسماعيل، والتسخيف التام لفكرة الزومبي.
يُشكل فيلم المساحون Scanners لديفد كروننبرغ المرجع الأساسي لثُلاثية إيجور تاركوفسكي (أسطورة إيجور، أسطورة الجنرال العائد، أسطورة المواجهة)، بفكرته حول قوى التخاطر الذهني، ومشهد تفجير الدماغ سيء السمعة في بدايته (يوجد مشهد مماثل في نهاية أسطورة المواجهة). فيما يُشكل الصراع بين أخوين يمثلان الخير والشر (ويتداخلان في نهايته) محور فيلم كروننبرغ، فإن سعي إيجور تاركوفسكي للانتقام من الجنرال النازي سيدلتز جابلر الذي تسبب في دمار عالمه خلال الحرب العالمية الثانية هو محور الثلاثية التي تحتل مكانة هامة في السلسلة باعتبارها أوبرا ما-بعد-المحرقة باردة ومقبضة[8] عن إيجور البولندي الضائع في عالم جديد مُعاد وغير مُرحب. عالم يمن عليه بأنه استضافة، ويُعذبه، ويستغله في النهاية إلى أقصى الحدود. في النهاية، يتغلب إيجور على عدوه، ويجري جراحة يتحول بعدها إلى شخص عادي يدرس الحالات المشابهة لحالته، ويعود فيما بعد ليُقدم استشارة في الحالات النفسية المعقدة في السلسلة.[9]
واحد من أوضح اقتباسات السلسلة جاء في القصة التي لم تحظ بقبول واسع، أسطورة الغرباء، حيث سقوط النيزك، والتغيرات النفسية التي تطرأ على سكان المنطقة، والدوائر الخالية من الشعر، والنهاية الحلمية. استخدمت القصة تقنية لاهثة في البداية بين قصاصات الصحف، ثم عادت إلى أسلوب السرد التقليدي ذي النهاية المُخيبة نسبياً. ثيمة الحُلم مُهمة جداً في الأدب والسينما على حد سواء، فحالة اختلاط الوعي في الأحلام ومنطقها الخاص يسمحان بتقديم رؤية فنية عميقة لأكثر النزعات الإنسانية جموحاً وسوداوية، لكن الحلم لا ينجح كثيراً كحل لحبكة مستعصية على الحل.
في أسطورة فرانكشتاين، يُذكر الأصل الروائي للأسطورة بدون أدنى مواربة، ويُرجع إليه من حين لآخر خلال القصة، لكن أسطورة فرانكشتاين إذ تذكر أصلها الروائي، تُغفل ذكر أحد مرجعياتها السينمائية المُهمة، فيلم 1935 الكلاسيكي للمخرج جيمس ويل عروس فرانكنشتاين The Bride of Frankenstein حيث يُماثل فيكتور فرانكنشتاين العالم المضحك غريب الأطوار شخصية دكتور سبتموس بريتورياس المضحك غريب الأطوار في الفيلم بشكل يثير الريبة إلى حد بعيد.
حلقات الرعب
يعتبر توفيق حلقة المُتحف الأسود أفضل حلقات الرعب التي كتبها حتى الآن[10] لأنها: "مُحكمة ورشيقة" و"[تخلص] فيها من عيوب الحلقات السابقة". أعتقد أنني أخالف المؤلف هُنا، فبالنسبة لي، يمثل المُتحف الأسود أضعف حلقات الرعب في السلسلة، فقالب المتحف "الأسود" الذي يعرض متعلقات مرعبة وغالباً له صاحب فخور تكررت في عدد من الأفلام حتى كادت تصبح من الكليشيهات. صاحب المتحف هُنا "شبح" - كما يمكن الجزم منذ بداية الحلقة -، وهي ثيمة تكررت في السلسلة نفسها، حيث كان المُحفز الأكبر لأعضاء حلقة الرعب الأولى شبحاً أيضاً. قصة ابن أبراكساس إعادة لفيلم طفل روزماري Rosemary's Baby الذي أخرجه رومان بولانسكي (في 1968 أيضاً) عن رواية لإيرا ليفين، بنفس الثيمات الأساسية. الجو المُريب، الزوجة الساذجة المخدوعة، الجيران الودودون بشكل مريب، الطائفة الدينية التي تسعى لإعادة أبراكساس/الشيطان عن طريق ابنه، مولد الابن المُفترض في النهاية، وجو الشك العام الذي يلف الحكاية. بشكل عام، افتقدت الحلقة للأصالة بشكل شبه تام (مُكتفية بإدخال عناصر مصرية إلى قصص عالمية)، وامتلأت بسرد مترهل افتقر إلى حيوية الحلقات السابقة، التي احتوت عناصر فنية أكثر أصالة (رغم أنها لم تخلُ من الاقتباس بدورها)، وسرداً أكثر حيوية.
امتازت حلقة الرعب الأولى - التي تحمل عنوان حلقة الرعب - بطزاجة الاقتراب الأول من تجارب خوارقية يشترك فيها أشخاص عاديون. معارف وأصدقاء يجتمعون ويلجأون إلى حكاية أسوأ مخاوفهم ووساوسهم وتجاربهم ليتغلبوا على جو التوتر الطبيعي العام الذي يحيط بهم. جو حلقة الرعب حميمي خالص برغم العداء المُتزايد بين رفعت إسماعيل وشكري. وتظهر أكثر اقتباساته جودة في القصة التي اعتبرت أفضل قصص الحلقة، قصة هويدا عبدالمنعم عن الطفل الذي يعتبر نفسه "العاو"، والمُتأثرة بفيلم مارتين Martin لراميرو دون أن يفسدها هذا الاقتباس كثيراً (تُشكل الطاقة النفسية للعاو -الذي يرمز في المخيلة الشعبية إلى رُعب غير محدد الملامح أو معروف المصدر- المصدر الأول للتوتر الدرامي في القصة، وتصبغها ببارانويا واضحة هي جُزء من تراث الرعب). قصة سهام شقيقة هويدا هي الأخرى ذات مصدر سينمائي، حيث تنقل المرآة المسكونة صوراً من الماضي إلى الحاضر، وتبذر الشك والريبة في نفس الزوج تجاه زوجته. بينما قصة رفعت إسماعيل نفسها عن صديقه ومغامرة حشرة الإنتوفاجا التي تتحول إلى الإنثروفاجا مأخوذة عن فيلم جينو شوارز (عن رواية توماس بيج وباء الهيفايستوس) الحشرة Bug، حيث يستنبط عالم مجنون سلالة جديدة آكلة للحوم من حشرات فتاكة شديدة الذكاء.
تمتاز حلقة الرعب الثانية، حكايات التاروت، بغرابة مُركبة، فبطل الحلقة، د. لوسيفر، شخصية قد بُشر بها من قبل في موضعين على الأقل (مُقدمة وحش البحيرة، وخاتمة حلقة الرعب)، ويُفترض أنه الشيطان أو -في أحسن الأحوال- ممثله على الأرض (يأتي استطراد عن شخصية لوسيفر لاحقاً)، كما أن الحلقة نفسها قد بُشر بها باعتبارها عالماً من السحر الخفي الذي يجهل رفعت إسماعيل عنه كُل شيء تقريباً. غرابة الحلقة - بعيداً عن الإرهاصات - موروثة من المغامرة السابقة لها، أسطورة بو، وهي جولة "كورمانية" في عوالم إدغار آلان بو، أنقذتها الاقتباسات الشعرية الجميلة. تعقيد آخر يُضاف إلى غرابة الحلقة، هو ثيمة "الحفلة" التي ترتكز عليها الحلقة. تحتل الحفلات مكانة هامة في الفن المقروء والمرئي باعتبارها البؤرة التي تحتشد فيها ذروة عبثية السلوك الإنساني وغرابة أطواره وشذوذه، وفي حكايات التاروت، كان الاغتراب ثيمة هامة، حيث أن رفعت إسماعيل غريب ووحيد في وسط مُعادٍ يثير حنقه وسخريته، ويواجه عدواً وُجد من فوره. المثير للاهتمام هُنا أن العداء المُفترض بين رفعت إسماعيل وفرانتز لوسيفر نشأ فوراً، وبدون سابق معرفة، بسبب تصادم الاغتراب الداخلي والخارجي لإسماعيل مع المظهر البراق المُدعي والمتحذلق للوسيفر. لوسيفر هُنا "يتسفسط" بالحديث عن الحُب في مكان بارد مليء بالغرباء، ويُثير الحنق بثرائه المُبالغ فيه مُقابل فقر كولبي الواضح (إسماعيل وشلدون أيضاً)، وبانتمائه إلى المكان (الانتماء الذي يوحي بأنه جاء على حساب كولبي، وبالتالي إسماعيل وشلدون). جاء العداء مباشراً، بدون سابق معرفة أو تخطيط, وكانت الاحتكاكات بين الشخصيتين طيلة الحلقة مُجرد نتيجة لعداء-النظرة-الأولى الناشيء بينهما. غرابة الحلقة التي تجتمع حول لوسيفر في الصومعة تُضيف إلى تركيب غرابة حكايات التاروت بشكل عام، وتزيد من شعور العداء والاغتراب. رفعت إسماعيل مُجبر على البقاء في مكان لا يريد البقاء فيه/ يحدوه فضول لمعرفة حقيقة لوسيفر/ غريب في جو شرقي مُفتعل يُشعره بنوع من الإهانة/ يفقد أسس موقفه العقلاني البارد شيئاً فشيئاً.
مع جوها الغريب والمعادي، وقصصها الكابوسية التي يُضيف إلى ثقلها روايتها على لسان آخر خارجي يُفترض ألا علاقة له بأصحاب القصص (الأمر الذي يُضيف ظلاً من بارانويا انتهاك الخصوصية، وعرض الذات على الملأ بالبرود القاتل لشخص خارجي مهيمن)، تقتبس الحلقة فيلم 64 البريطاني منزل أهوال دكتور تيرور Dr. Terror's House of Horrors من إخراج فريدي فرانسيس الذي يحكي فيه غريب في قطار مصائر زملائه عن طريق الورق، وفيه قصص المذؤوب ومصاص الدماء وفودو. الأمر الذي يحد من قوة الحلقة الرمزية العبثية بشكل كبير. مع ذلك، تبقى حكايات التاروت واحدة من أهم أركان السلسلة التي تُقدم جانباً آخر مرتبطاً بالرعب والخوارق، العبثية المسيطرة للشر، والتي يوجه لوسيفر عن طريقها مصائر رفاقه لإثبات معتقداته المانوية حول ماهية الخير والشر.[11]
تتأثر حلقة الرعب الثالثة، بعد منتصف الليل، بالعديد من الأفلام أيضاً. أهم وأوضح تأثير يظهر في قصة (بس بس ناو) المتأثرة بفيلمي الناس القطط Cat People ولعنة الناس القطط The Curse of Cat People بشدة.[12] في هذه الحلقة، رفعت إسماعيل ومقدم البرنامج الشاب شريف السعدني يصغيان إلى الرُعب، ويلعبان دور المشارك السلبي. يُعلق إسماعيل بسخرية وملل على الاتصالات الواردة، ويتفاعل بشكل بارد مع المتصلين بالبرنامج، حتى يرده اتصال من نفسه يحاول رده إلى أسباب طبيعية واهية (خُدعة من أصدقائه أو من لوسيفر)، وتسقط أسبابه جميعاً.
عادت حلقة الرابعة، وراء الباب المُغلق، إلى أجواء الحفلات. هذه المرة في مصر، ومع أناس غرباء عن إسماعيل إنسانياً، لكنه يعرفهم إلى حد ما. طبيب يحتجز سبعة من ضيوفه، ومنهم زوجته، ويغلق عليهم جميع الأبواب مُهدداً إياهم بالهلاك إن فتحوا باباً خاطئاً، فيضطرون لإمضاء الليلة مع بعضهم البعض، ويزجونها بالحديث عن مخاوفهم الكامنة وراء الأبواب المُغلقة. إطار الحلقة جيد إجمالاً، ومتميز إذا ما قورن بإطار المتحف الأسود، لكن سؤالاً هاماً يطرأ؛ إذا كان مُحتجز السبعة طبيباً يحتجزهم في فيلا معروفة في مصر كانت ممتلئة بالضيوف حتى وقت قريب، فما هو نوع الخطر الذي قد ينتظرهم وراء أبوابه المغلقة؟ كان السجناء السبعة في غاية السذاجة، أما القارئ فعليه أن يخضع لقاعدة "دعني أخدعك-دعني أنخدع" التي يتحدث عنها توفيق غالباً. امتازت الحلقة بجو حميمي بدد العداء الأولي بين رفعت إسماعيل وبقية الضيوف، كما أنه قربهم من بعضهم البعض إنسانياً، وكشف مدى هشاشة الأقنعة التي يختبئ وراءها الإنسان اجتماعياً. وحفلت بإشارات عديدة إلى شخصيات وأحداث محلية تماماً.[13]
بُشر بالحلقة الخامسة، في جانب النجوم، من قبل كما بُشر بحكايات التاروت وبلوسيفر. هذه الحلقة أكثر حلقات الرعب - وأعداد السلسلة عموماً - غموضاً وضبابية، ببداية مغبشة على طريق ليلي مع أم كلثوم ومسافر لا يُحب البرق، وبيت يظهر من حيث لا يعلم أحد كما في قصص الجنيات.[14] رفعت إسماعيل يجرح نفسه، ينام ويجد نفسه في جانب النجوم عندما يستيقظ، وتُعقد محكمة لمحاكمته مع آخرين من الفانين. هذه المرة، تدور الحلقة في عالم آخر لا أبعاد له ولا أزمنة، حيث الشر هو الغالب، ممتداً، حقيقياً، وبشعاً، دون الحاجة لأي قناع يخفي خلفه حقيقته. علناً، يُطلب من الفانين رواية أكثر آثامهم شراً ليظفروا بالنجاة والخلود في جانب النجوم، وتبدأ قصص الحلقة المُقبضة إلى حد بعيد. مرة أخرى يحضر لوسيفر، ويعتبر المحاكمة حفلة أكثر منها محكمة. المرجعيات الفلمية مموهة بعناية في هذا العدد، ومُستبدلة بمرجعيات تاريخية وميثولوجية. أوضح تأثر فيلمي جاء في قصة (ابتعدوا عن البئر)، فيما احتوت بقية القصص على إشارات مرجعية إلى كاليجولا، الثورة الفرنسية، والنازية.[15] جاءت نجاة رفعت إسماعيل مبررة إلى حد ما، حيث أُنبئ بأنه أشر الموجودين، وأن خطيئته الأشد شراً هي الكبرياء وتجاهل الخطأ. لوسيفر هُنا يضع إسماعيل في موقف الشرير الأكبر الذي لا يعترف بشره لأنه متمترس وراء قناع من الفضيلة المُخادعة، ويحسب نفسه على صواب.[16]
في حلقة الرعب السابعة، يعود برنامج بعد مُنتصف الليل ويعود معه شريف السعدني والجو المصري. يُذكر في مُقدمة الحلقة أن برنامج بعد مُنتصف الليل هو المُقابل العربي لمسلسل منطقة الشفق The Twilight Zone، لكنه يختلف عنه في أن تجاربه صادقة وحقيقية تعتمد على تفاعل المستمعين الحي دون إعداد مُسبق. تُفلح هذه الحلقة في نسج جو الاستديو المُغلق على اثنين هُما رفعت إسماعيل ومُقدم البرنامج شريف السعدني الذين يستمعان إلى روايات المُستمعين دون أن يُقدما حلولاً حقيقية (فيما عدا قصة "على الإيقاع" حيث يشخص رفعت شكوى المُتصلة فيفي الشوربجي على أنها وسواس قهري سمعي، ثم يستنتج وجود أفعى تحت فراشها بسبب إصرارها على أنها تسمع لحن حا حا للشيخ إمام)، ويستمران في محاورات طويلة حول فلسفة كُلٌ منهما في الحياة، حيث أن شريف مُتفائل دائماً، بينما رفعت عصبي ومُتشكك ومُتشائم. تقع مُعظم قصص الحلقة الغريبة في خانة البارانويا، حيث تقود البارانويا الزوج في القصة الأولى إلى قتل زوجته، وفي قصتي بيسة وسوسو إلى روايتين مُتناقضتين حول شر سيعم الأرض بسبب فشل سوسو في قتل بيسة، كما في قصة كامل الذي يعتقد بوجود من يقيمون في الأسفل. أولئك الذين يظفرون به في النهاية. في قصة (محموووود!) يقود الشعور بالذنب الزوجة إلى حالة متقدمة من البارانويا حيث تعتقد أن قط زوجها القبيح قد تقمصته روح زوجها الذي قتلته. وفي قصة (نوبتجية) يروي الطبيب مقلباً دبره للانتقام من زميله المُستهتر الذي تسبب في وفاة مريضة، ثم يتضح أنه يتحمل قسطاً من المسؤولية عن وفاة المريضة، وتنتهي القصة بالمريضة التي تطلب من الطبيب أن ينتبه إليها وتخبره باسمها الذي ينساه الطبيب وشريف ورفعت رغم أن الاثنين يتباهيان بأنهما لا ينسيان الأصوات والأحداث، وأنهما يتذكران المتصلين بهما من أسبوع لآخر، ما يُمثل نقطة ضعف في بنية الحكاية إلا بفرض ادعائهما نسيان الاسم لئلا يُفزعا المُتصل. هُناك نقطة ضعف حيوية في هذه السلسلة تتعلق بحكاية خزانة خريولسن التي يبدأ أحدهم في روايتها لرفعت وزميله بنفس المُقدمة التي استخدمها رفعت من قبل. يموت المُتصل ويُعلن رفعت أنه لن يروي الحكاية إلا حين يكون متيقناً من قرب موته برغم أنه بدأ في روايتها من قبل في حلقة الرعب الرابعة (وراء الباب المُغلق).
التنين والضفدعة
في العدد الخاص الأول من ما وراء الطبيعة، في كهوف دراجوسان، استأثرت بُنية الرواية غير المعهودة في اللغة العربية بالقسط الأكبر من الاهتمام، على حساب قصة دراجوسان الذي هو تنين إذا اختار القارئ ممراً، ونكرومانسر إذا اختار القارئ الممر الآخر.[17] فكرة النكرومانسر وردت في السلسلة قبلاً، حيث يصبح (هـ) بطل أسطورة الجاثوم واحداً في النهاية. أما فكرة دراجوسان وكهوفه وقلعته وكونه تنيناً وإقطاعياً في الوقت ذاته، فمصدرها طريف بعض الشيء، حيث يأتي من الفيلم الأمريكي المتاهة The Maze الذي أخرجه ويليام كاميرون مينزيس عن رواية موريس ساندوز، وهو فيلم غريب الأطوار عن شاب إسكتلندي يرث قلعة ليكتشف أن السيد الحقيقي لها لا يزال حياً، وأنه ضفدعة كبيرة عمرها مائتا عام، تعيش في متاهة القلعة...! قصة طريفة وغريبة جاء اقتباسها غريباً هو الآخر، لم يعجبني بشكل خاص، لكنه تطوير ذكي ولماح لقصة غريبة تُروى بطريقة غريبة، حافلة بنهايات غاية في الكابوسية. دراجوسان هو الكهف الذي يبتلع كُل شيء، ولا مهرب منه إطلاقاً. حكاية مُقبضة وطموحة عن الشر المُهيمن الباحث عن الخلود.
عنوان سخيف ومُراهق، لكنه ثيمة أساسية في مغامرة رفعت إسماعيل الساخرة "ما أمام الطبيعة"، ومع أن مغامرة "ما أمام الطبيعة" واحدة من سخريات سلسلة فانتازيا، إلا أنها تحمل أوضح الإشارات إلى تأثر سلسلة ما وراء الطبيعة بالأفلام السينمائية، والأفلام التي يُطلق عليها نُقاد السينما أسماء مثل: "قاذورات الفيديو" و"أفلام الجياللو". بالإضافة إلى تصنيفها السينمائي للمسوخ والكوارث التي يقابلها رفعت إسماعيل. أنا أبصق على قبرك فيلم من أشهر أفلام قاذورات الفيديو، كانت الإشارة إليه في نطاق السلسلة الأصلي صعبة إلى حد ما، فجاءت الإشارة إليه في المحاكاة الساخرة للسلسلة.[18]
نوستالجيا
داخل الإطار الخوارقي لسلسلة ما وراء الطبيعة، يكمن عالم حافل بالتفاصيل الحميمية زمنه سابق لزمن مُعظم قُراء السلسلة، وحتى مؤلفها. مُغامرات رفعت إسماعيل الذي ينتمي إلى جيل الأجداد ابتدأت في الخمسينات، واستمرت عبر الستينات والسبعينات. عاصر الملكية، والحرب العالمية الثانية، والثورة المصرية (وثورات العالم السياسية والثقافية والاجتماعية التي حدثت مُنذ الثلاثينات وحتى التسعينات)؛ وعبر رؤيته الساخرة للعالم، تتحسس سلسلة ما وراء الطبيعة عالماً قديماً بحنين زائد يتخفى خلف قناع من اللامبالاة والاعتقاد بسخف وضآلة البشرية.
ربما يكون عالم الستينات والسبعينات الذي تدور فيه معظم أحداث السلسلة هو الجوهر الأصيل فيها. حيث تعيش السلسلة فيه، تحن إليه، وتنتقده في الآن ذاته. في ذلك الزمن، كان العالم أكثر فخراً وبراءة. كان أصيلاً ومُفعماً بالأمل. كانت الحياة أقل تعقيداً، والثقافة حقيقية عميقة. لم يكن المجتمع قد انقلب إلى مُجتمع زائف مُنافق كما حدث فيما بعد في الثمانينات وما بعدها، حين سقط القناع عن القناع عن القناع كما يقول محمود درويش في مديح الظل العالي.
ينجح أحمد خالد توفيق في إحكام نسج التفاصيل الدقيقة الشفافة للفترات التي تدور السلسلة فيها، ولا ينسى أنه يكتب لقراء لم يعش غالبيتهم تلك الفترة، لذا يُذكرهم من حين لآخر بزمن الأحداث، طالباً منهم الصبر والتمهل لتذوق تفاصيل حُقبِ ما قبل العولمة. حيث يوظف الرموز الفنية والسياسية والإجتماعية لتلك الحُقب بشكل حقيقي فعال لاستكمال خلق صورة مُتكاملة حية لزمن لم يبق منه إلا الفٌتات.[19] الأمر الذي يخلق تفرد سلسلة ما وراء الطبيعة ببعدها الإنساني العميق، ويجعل الاقتراب منها نقدياً لتحليل بُناها السردية وتطور شخصياتها درامياً شيئاً ضرورياً للوصول إلى العمق الذي يمكن أن تبلغه السلاسل الخيالية التي تحاول بناء عالمها الخاص، سواء بمحاولة الإنطباق على العالم الواقعي، أو النأي عنه إلى أبعد مدى مُمكن.


[1] مُعدل الصدور الحالي للسلسلة هو عددان في السنة، وباقٍ منها عشرة أعداد.
[2] رُبما تجدر الإشارة في هذا السياق إلى مقال لأحمد خالد توفيق له نفس الفكرة بمعالجة مختلفة نسبياً: عن أدب الرعب في بلد مرعوب.
[3] استخدم الكوميدي البريطاني ريكي غيرفيز تعبيراً مشابهاً عن مسلسل كوميدي مشتق من عمل له في مجلة نيوزويك، ومنه استوحيت هذا التعبير، كما أن بيتر نيكولز Peter Nicholls مؤلف كتاب السينما الخيالية Fantastic Cinema يستخدم تعبيراً مشابهاً لدى الحديث عن السينما الخيالية مقارنة بأنواع السينما الأخرى، واصفاً إياها بالقريب الفقير الذي تحول إلى نادي الأغنياء الجدد ولم يخل من فظاظتهم.
[4] معظم مناقشات المعجبين والنقاد موجودة في منتديات عشاق السلسلة، ويمكن للمهتمين الوصول إليها بالبحث عن طريق غوغل.
[5] كلمة Plot بالإنكليزية تعني حبكة، وتعني مؤامرة. والحبكة في أبسط تعريف لها عبارة عن مؤامرة لإنشاء بنية قصصية تنفخ الحياة في عوالم لم تكن لتوجد قبل مؤامرة السرد التي يشترك فيها القارئ/المشاهد على اعتبار أن تفاعله/تآمره مع السرد هو مُبتغى العمل الفني النهائي، أو يُفترض أن يكون.
[6] هُناك استثناءات قليلة لافتة متناثرة في السلسلة، خصوصاً بعد كُتيب العلامات الدامية.
[7] أغلب الظن أن صاحب هذا التعبير هو بيتر نيكولز مؤلف كتاب السينما الخيالية.
[8] تنويع على مُصطلحات: الأوبرا الصابونية (المسلسلات النهارية الطويلة ذات المواضيع الاجتماعية)، الأوبرا الفضائية (الأفلام والمسلسلات التي تدور في الفضاء الخارجي)، وأوبرا الأحصنة (أفلام الويسترن).
[9] لشدة تأثره بالسينما، يقطع رفعت إسماعيل سرد وصول إيجور تاركوفسكي إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليُشير إلى فيلم آخر ليوسف شاهين، يظهر فيه تمثال الحرية على هيئة فاسقة ملطخة بالأصباغ وهي إشارة فجة وساذجة - من شاهين بوصفه مخرج الفيلم -، ومُقاطعة غير مؤثرة - من توفيق بوصفه كاتب القصة -.
[10] تبقى حلقة الرعب التي يُتوقع أن تُنهي السلسلة، ويُفترض أنها ستكون "الأفضل".
[11] يقول بيتر نيكولز في معرض حديثه عن ديفد كروننبرغ أن نظرته للشر في العالم نظرة مانوية، حيث الشر قوي وقادر، ويختار ضحاياه بشكل عشوائي، وهو قيمة خالصة في حد ذاته كالخير.
[12] تعبير "مقطوطة" الوارد في القصة، يرد في كتاب نيكولز، والغالب أن الكلمة تعود لمترجم الكتاب مدحت محفوظ.
[13] أوضح الإشارات إلى شخصيات وأحداث معروفة جاءت في قصص: المُطرب والمُخرج والصحفي.
[14] Fairy Tales
[15] أبشع قصص المجموعة يرويها الطبيب النازي فيرنز فرايمان الذي عمل مع جوزيف منجيل. عموماً، فإن جميع النازيين في سلسلة ما وراء الطبيعة أشرار إلى أبعد مدى، لكن هذه القصة المسوخية - المستندة على واحدة من الأساطير التي تُروى عن تجارب النازيين على السجناء، وشخصية جوزيف منجل الذي يُعرف بملاك الموت Angel of Death - تفوق الحد. هُناك رواية كابوسية رائعة رُبما تجدر الإشارة إليها في هذا السياق هي البحر والسم للياباني شوساكو إندو عن تجارب بشعة يجريها مجموعة من الأطباء اليابانيين على أسرى أمريكيين خلال الحرب العالمية الثانية.
[16] تنعكس الآية هُنا، فخطيئة لوسيفر الأساسية هي الكبرياء كما يُفترض. هنا يُزيح لوسيفر خطيئته إلى إسماعيل. الشرير الذي يحسب نفسه على صواب ويعتبر نفسه ممثلاً للخير يظهر حتى في أفلام الكارتون الموجهة للأطفال في الأساس. القاضي كلود فرولو من فيلم والت ديزني لعام 1996 أحدب نوتردام مثال جيد على هذا النمط من الشخصيات الشريرة في الفن وعلى تمثيلها حتى في قصص الكارتون.
[17] أظن أنني قرأت تعبيراً مشابهاً في مكان ما، وإن كُنت لا أذكر أين بالضبط. للأمانة، لم أنتبه إلى أن دراجوسان يُصبح نكرومانسر في الممر الآخر لأنني علقت في جهة التنين!
[18] يُقدم كتاب نيكولز، السينما الخيالية، معلومات وافرة عن أفلام الجياللو، وقاذورات الفيديو، ورعب الجسد؛ ويمثل مرجعاً هاماً حول الأفلام السينمائية الواقعة ضمن هذه التصنيفات حتى العام 1983. مُترجم الكتاب، مدحت محفوظ، قدم خدمة كبيرة لقراء العربية عندما ترجم الكتاب في 1993. من وجهة نظر شخصية، فإن هذا الكتاب لبنة أساسية لبناء رؤية نقدية متكاملة حول أفلام السينما الخيالية مُنذ نشأتها، حتى الآن. ومع الفيلموجرافيا التي يقدمها، يُصبح من السهل العثور على معظم الأفلام الواقعة ضمن تصنيف السينما الخيالية. تشمل إسهامات نيكولز الأخرى في مجال الخيال العلمي: موسوعة الخيال العلمي The Encyclopedia of Science Fiction. أيضاً، يُقدم أحمد خالد توفيق معلومات هامة عن هذه الأفلام، وأهم مخرجي وممثلي الرعب في موسوعة الظلام. الاهتمام الأكبر لموسوعة الظلام هو الرعب ورموزه، وليس السينما الخيالية على وجه التحديد.
[19] أعتقد أنه تنبغي الإشارة إلى أن فكرة السلسلة عن شر النازيين المُطلق هي فكرة رفعت إسماعيل عنهم بشكل عام، وهي فكرة تعود إلى قُرب العهد بالحرب العالمية الثانية وزمن سطوة النازية، وإلى الزمن الذي يسبق زمن ظهور النازيين الجُدد والثقافة التي تُمجد النازية، أو تعتقد أن النازية لم تكن بالسوء الذي يُروى عنها، وأن سمعتها السيئة عائدة إلى دعاية الحُلفاء السلبية، وتأثر أجيال كاملة من العجائز - الذين وصلوا إلى مرحلة المومياوات حالياً - بهذه الدعاية السلبية. بشكل عام، فإن مذابح الصهيونية - وهي حركة عُنصرية كالنازية - تحمل الجيل الجديد على التفكير جدياً في حقيقة النازية، وإضرارها بالإنسانية مُقارنة بالضرر التي تُحدثه الصهيونية وهي حركة لم تُجرم دولياً حتى الآن.

22 يوليو 2007

هاري بوتر وآثار الموت: خَاتِمةُ مُحبٍطَةٌ لِعَقْدٍ سَاحِر..

منتصف ليل الجمعة/السبت 21 يوليو 2007، صدر الكتاب الأخير من سلسلة هاري بوتر، هاري بوتر وآثار الموت لتنتهي بصدوره حقبة بوتر العالمية. عقد كامل منذ صدرت أولى مغامرات الصبي الساحر هاري بوتر، حتى صدرت مغامرته الأخيرة التي احتوت على معركته الأخيرة ضد لورد فولدمورت.

بغض النظر عن التقييمات الإيجابية للكتاب في نيويورك تايمز وياهو، أرى أن الخاتمة كانت مُحبطة إلى حد كبير. نهاية على الطراز القديم الذي يخبر القارئ بأن الجميع عاشوا في تبات ونبات، ويتمنى له نوعاً سعيداً، قد يراها البعض رائعة، وأراها شخصياً دون مستوى التوقعات، وتتفوق عليها الكثير من كتابات المعجبين التي تخيلت نهاية السلسلة.

السؤال الأساسي في الكتاب هو: هل سيموت هاري بوتر؟

الجواب كان "لا"، الأمر الذي يحرم هاري بوتر كشخصية من مقومات البطل المأساوي الذي يقوده قدره إلى نهايته. هاري بوتر يهزم فولدمورت، ويتزوج من جيني ويزلي، وينجب ثلاثة أبناء، ويعيش في سعادة بعد ذلك.

من يموت في الكتاب؟

فولدمورت وسنيب! من المتوقع طبعاً أن يموت فولدمورت، فالشر لا ينتصر أبداً. موت فولدمورت جاء غريباً وباهتاً إلى حد كبير. ليست الميتة المتوقعة للشخصية المتوجة على رأس الشخصيات الأدبية الشريرة في العالم. وموت سنيب جاء على يد سيده بشكل ميلودرامي سمح له بتسليم ذكرياته إلى هاري بوتر، ليعرف هاري كم كان سنيب شخصاً شجاعاً وطيباً! ولكل أولئك الذين توقعوا أنه يحب ليلي بوتر: "أنتم على حق!" تلك هي القصة ليس أكثر!

ألباس دمبلدور: مُحبِط!

حضور ألباس دمبلدور في الكتاب جاء غريباً أيضاً، مُحبطاً ومخيباً للآمال إلى حد كبير. في هذا الكتاب جاءت تفسيرات قراراته السابقة التي أثارت جدلاً كبيراً. سنيب قتل دمبلدور باتفاق بينهما كما كان واضحاً طبعاً، لينقذه من احتضار طويل ومذل بلعنة جلبها على نفسه. عصاه السحرية تسببت في موت سنيب، ووصاياه حركت الأحداث لتقود إلى موت فولدمورت، لكن، ليس بالزخم الذي كان مُنتظراً ومُتوقعاً.

المقدسات المميتة؟ الأقداس المميتة؟ آثار الموت؟

آثار الموت هي الترجمة الأسلم بعد أن أصدرت ج. ك. رولنغ عنواناً بديلاً ليعين المترجمين هو: Harry Potter and the Relics of Death . هذه الآثار عبارة عن ثلاثة أغراض سحرية تلعب دوراً هاماً في القضاء على فولدمورت بعد أن أصبحت لعبة الهوركروكسات قصة قديمة!

النهاية: الكل سعداء، فلم الإحباط؟

كان الكتاب السادس مُخيفاً إلى حد كبير، ومليئاً بالأحداث والمنحنيات التي شكلت بنية ملحمية فعلية، ثُُم جاء الكتاب السابع ليهدم ما بُني سابقاً، ويُقدم قصة ميتة ومطولة ومُرهقة تنتهي نهاية تقليدية بحتة لا تتفق مع المقدمات الملحمية للسلسلة.

يبدو أن رولنغ قد اطلعت على كتاب سد فيلد عن السيناريو، والذي يقول فيه أن عصر النهايات المبتكرة والمفتوحة قد ولى مع الستينات، وأن الجمهور يريد أن يعرف بالتفصيل ما حدث لكل شخصية، ويريد نهاية على الطراز القديم الشبيه بطراز ديكنز. وقررت الإلتزام بما يقول حرفياً، فقدمت خاتمة تتبع مصائر شخصياتها التقليدية في حكاية تُشبه حكايات سندريلا، وتحيد تماماً عن الطراز الملحمي.

ما الذي خيب الآمال؟

ببساطة! التوقع! انتظار كتاب لا يُمكن وصفه بالإنكليزية إلا بكلمة من أربعة حروف EPIC، فإذا بالكتاب مجرد حكاية سندريلا أخرى تغلبت على ساحرة قبيحة المنظر في حبكة مُترهلة ومُزعجة.

والآن؟

انتهت حُقبة سحرية كاملة امتدت عشر سنين نهاية أقرب إلى السخف. نهاية أدنى من التوقعات والآمال التي غذتها هذه الحقبة. كأي شيء آخر في هذه الحقبة. العالم تغير في نهاية هذه السنوات العشر، لكنه لم يتغير بنحو ما أوحت به مسيرة السنين العشر. انتهى كرباعية ميشيما، في حديقة ساكنة تخلو من الذكريات، كأن شيئاً لم يكن.

28 يونيو 2007

باي باي بلير!!

بسبب الامتحانات المُضرة بالصحة - كما هو معلوم بالضرورة - (والتي انتهت أمس بأقل الخسائر الممكنة؛ فقدان ذاكرة مزمن، وانخفاض في مستوى الذكاء)، نمت نومة أهل الكهف وانقطعت تماماً عن أخبار العالم، فحتى لو احتلت كوبا أمريكا وسحل فيدل كاسترو التكساسي السعران في الشوارع، ما كنت لأعرف!

لهذا السبب (وله وحده) لم أعرف بأن السيد الموقر بلير قد انقلع إلى اللجنة الرباعية، وترك رئاسة الوزراء البريطانية إلى غير رجعة، إلا اليوم!

"إلى حيث ألقت أم قشعم!" كان يجب أن أقول، لكن ما العمل؟ وقد انطبق علي قول المتنبي:

خُلقت ألوفاً لو رحلت إلى الصبا/ لفارقت شيبي موجع القلب باكياً

توني ذي الابتسامة العريضة والأذنين الكبيرتين كان رئيس الوزراء مُذ كُنت في التاسعة من عمري، أي أنني قد تعودت عليه، وقد أفتقده بذات المنطق الذي يجعل الإنسان يفتقد أفعى اعتاد فحيحها المرعب في بيته زمناً طويلاً جداً، رغم أنه يتمنى زوالها من حياته.

توني بلير مُجرم وقح مثل التكساسي السعران، ولا زال بدني يقشعر عندما أفكر في الحركة الرمزية المُهيبة التي قام بها المُعارضون لسياسته في العراق عندما وضعوا أحذية أطفال عند باب مسكنه لتذكيره بأنه قاتل أطفال. الحركة التي ستقضي على أعصاب أي شخص أقل وقاحة من بلير. لكن بلير ظهر مبتسماً على شاشات التلفزة ولسان حاله يقول: "يا جبل ما يهزك ريح" (!) وأرسل تصريحات غرامية إلى التكساسي السعران مفادها: "ما يهزك ريح يا مركب هوانا، طول ما نحنا على بحرك مشينا." (!)

قيل (والعهدة على غوغل الإخبارية، التي نقلت عن الأنوار اللبنانية عن الصن البريطانية، مسنداً إلى جريدتي الحقائق والوطن) أن التكساسي السعران صرح بأن الولد توني ليس كلبه المدلل كما جاء في مُعلقة جورج مايكل أطلق الرصاص على الكلب - Shoot the Dog، أو ورد من المأثور: "يقول بوش لبلير اقفز، فيسأل بلير: لأي ارتفاع يا سيدي؟" بل الحقيقة أن التكساسي السعران وتوني البودل كلبان يقفزان معاً. الأمر الذي ذكرني بقول أحد أعضاء فريق محور الشر الكوميدي أنه يرغب في تقديم رسالة شكر إلى بوش لإنعاشه عمل الكوميديين بمزيد من النكات. فالتكساسي السعران يُصرح بأنه هو الآخر كلب، يُمارس القفز مع صديقه توني للحصول على أكبر قدر ممكن من العظام. وهو تصريح لم يحلم أي كوميدي بأن يطلع رئيس به على الإطلاق!

قيل والعهدة على الإسناد السابق، أن التكساسي السعران طلب من صاحبه توني البودل أن يبقى معه حتى يتقاعد الاثنان معاً، لكن البودل رفض ذلك بسبب اهتراء أسنانه، فما كان من التكساسي الشهم الأصيل إلا أن أرسل صديقه إلى اللجنة الرباعية لينهش لحم العرب الطري الذي لن يُزعج أسنانه، ويمارس هوايته الأثيرة في التصريحات الوقحة المراوغة حيث أن أسلوبه في النباح أكثر أناقة من أسلوب التكساسي. وقد كُنت أحسب توني البودل ذكياً مثل زميله السابق الولد بيلي الذي تحول إلى آلة لجمع المال من المحاضرات بعد خروجه من البيت الأزرق. لكنه آثر الإصغاء إلى زميله في النٌباح، وترك المحاضرات لأنها عمل النواعم. والتفرغ لقتل مزيد من الأطفال، العمل الذي صار أكثر أماناً بسبب خروجه من عشرة داوننغ ستريت، وفقدان مناوئيه القدرة على وضع أحذية الأطفال عند باب مسكنه.

باي باي B-Lair!

نراك في اللجنة!..

17 يونيو 2007

العوالم الخيالية

كنت أقرأ روايات أغاثا كريستي وشرلوك هولمز بنهم، كما أنني أقرأ مغامرات بطوط وعم دهب بولع شديد منذ طفولتي، وفي سن مبكرة، بدأت أدرك أن لكل من هذه السلاسل عالم خيالي خاص، تمتاز شخصياته بسمات معينة، وتحدث فيه أحداث معينة لا تحدث في غيره. قد يصلح في عالم ما لا يصلح في العالم الأخرى، وقد تتشابه عوالم مع الواقع إلى حد التطابق شبه التام، إلا أنها في النهاية تتسم بسمات خاصة تميزها.

بدأت أدرك وجود الكون الخيالي، قبل أن استوعب هذا المفهوم الذي يمتزج بمفاهيم أخرى كالشخصية، والحدث، والمكان. ثم بدأت أستوعبه وأدرك قواعده عن طريق التعامل مع سلسلة هاري بوتر، وثلاثية سيد الخواتم. حيث تتضح سمات هذين العالمين الخياليين بوضوح تام، ففي سلسلة هاري بوتر، هناك عالم فيه السحرة والعامة، ويسير بقواعد معينة لا تنطبق على الواقع الحقيقي، لكنها تحاكيه، وتقيم منطقها الخاص المستقيم. أما في ثلاثية سيد الخواتم (وغيرها من ملاحم الأرض الوسطى)، فيأخذ مفهوم العالم الخيالي بعداً أوسع، حيث يتحول إلى كون كامل غير عادي، لكنه -بشكل أو بآخر- يحاكي الواقع الإنساني. ففي كون الأرض الوسطى، هناك أقوام وأعراق عديدة مختلفة، هناك شعوب وممالك مقامة بكاملها من الخيال، هناك تواريخ وعصور، تستقي مادتها من التواريخ والعصور الأرضية، لكنها ترتبها وفق منطق خاص بها، يبني شبكة كاملة من العلاقات المتبادلة بين عناصر السرد لينشئ كوناً خيالياً متكاملاً له قواعده وقوانينه الخاصة، وله نمط شخصياته ومثله وأفكاره الخاصة.

أمثلة الأكوان والعوالم الخيالية في الأدب لا تكاد تُحصى، فالبنيويون يعتقدون أن الرواية كون من ورق، وبالتالي فإن كل قطعة أدبية هي عالم خيالي خاص بها. الأمر الذي يوجب تحديد مفهوم الكون الخيالي بشكل أكثر دقة.

كثيراً ما توصف عوالم سردية بأنها عوالم كافكاوية، أو دوستويفسكية، أو توكنية نسبة إلى الأدباء الذين ارتبطت بهم هذه الأجواء السردية أكثر من غيرهم، الأمر الذي يمكن البدء منه في تحديد مفهوم العالم الخيالي. فحين يوصف عالم ما بأنه غوغولي، هل يعني هذا أنه عالم خيالي أنشأه نيقولاي غوغول وجاء آخرون من بعده ليبنوا على أساسه ويقوموا بتوسيعه؟ أم أنه يعني وجود سمات معينة لعالم شبيه-واقعي امتاز غوغول بنشرها في أدبه، أو كان أول من ركز عليها؟

ما هي خصائص الكون الخيالي؟ والكون الأدبي؟ كيف تطور كل منهما؟ وكيف يمكن التفريق بينهما؟

لا أدعي حرفية النقد، لكنني سأحاول فيما يلي من الأيام، بإذن الله، تحليل مجموعة مما اصطلح على أنها أكوان خيالية، ومجموعة أخرى من الأكوان الأدبية لاكتناه ماهيتها.

18 مايو 2007

بقايا النهار

تُخلف قراءة رواية بقايا النهار للياباني كازو إيشيغيرو لذعة في النفس، وغصة ما لا تُمحى بسهولة.
حين بدأت قراءتها، لم أكن في مزاج جيد للقراءة، لكن اسم الكاتب الياباني عليها شكل عامل إغراء قوي مع عنوانها الملفت The Remains of the Day وحملني على قراءتها لأرحل في الحياة برفقة ستيفنز الذي يكتشف أن النهار يوشك على الإنقضاء، نهاره هو بالذات، ولم يبق إلا البقايا.
تستخدم رواية بقايا النهار أسلوب تيار الوعي الحديث لتنسج حياة ستيفنز، رئيس الخدم الكهل، والحيوات الأخرى التي ارتبطت به. ستيفنز الذي أصبح الآن كبير خدم عند رجل أعمال أمريكي اسمه فارادي، يقترض سيارته ويذهب ليكتشف الريف بناء على مقترح مخدومه، يحدوه أمل في استعادة الآنسة كنتون لتعود وتعمل معه في دارة دارلنغتون. أمل في أن يستعيد اللحظات الضائعة، ويصحح خياراته، مُقنعاً نفسه بأن النهار لا يزال طويلاً.
خلال رحلته لتأمل الريف، يتأمل ستيفنز حياته هو بالذات، ويستعيد اللحظات التي يعتقد أنها أثرت عليها بشكل مباشر. تكتسب ذكرياته صيغة تبريرية باردة، هو هكذا لأنه لا يعرف كيف يكون شخصاً آخر. لقد فعل ما بوسعه ليكون من المتميزين في مجاله، وفي سبيل هذا، ضحى بوجوده الخاص وإرادته الخاصة كإنسان حر. ووجد نفسه في النهاية على حافة النهار، دون أن يملك حتى الحق في الاعتراف بأنه كان على خطأ.
على حافة النهار يجلس ستيفنز، لا يزال هُناك وقت قبل حلول الظلمة، وبرغم الغصة، ينبغي ألا تضيع بقايا النهار كما ضاع هو.
قرأت هذه الرواية مترجمة إلى العربية في 2006، وفي نفس العام حصلت على نسخة مختصرة لها باللغة الإنكليزية، واحتفظت بها لأغراض تحسين لغتي. منذ 2006 وحتى هذه اللحظة تغير الكثير، وأصبح الشعور بقرب انقضاء النهار أقوى من أي وقت مضى. حسبتني نسيت الرواية، لكنني حين كُلفت بنقد عمل أدبي من اختياري، أمضيت أسبوعين أتقلب بين الكتب من الحيرة، أفكر تارة، هل أكتب عن قصة غراهام غرين المدمرون؟ هل أكتب عن القوة والمجد؟.. أم أشد رحالي بعيداً عنه لأكتب عن شيطان جيرمي ليفنز؟.. أو ربما، من الأفضل أن أكتب عن محبوبة توني موريسون؟.. أو السيدة دالواي رفيقة فرجينيا وولف؟.. لم أستطع أن أكتب شيئاً نهائياً، حتى تذكرت بقايا النهار، حينها، وفي ساعة واحدة فقط. أنجزت واجبي الجامعي الثقيل، وسلمته في موعده على غير ما كنت أتوقع. أُهنئ نفسي، فقد استفدت من تأرجحي على حافة النهار، وربما أستطيع التشبث به حتى النهاية.
أُنتج عن هذه الرواية فيلم قام ببطولته الرائعان أنتوني هوبكنز وإيما ثومبسون، ولم أره حتى الآن.

11 مايو 2007

النُفُوسُ المَيِتَةْ...

عندما يُصادف المرء موتاً يأخذ منه كل معنى للوجود، فإنه يصبح أكثر حذراً وخوفاً عندما يحل حضوره القاتم.
يصبح ساخراً جداً، أو مولعاً بكل ما يمت للموت بصلة.. لكنه في الحالين يشعر برهبة خاصة إزاء الموت والموتى.
للمرة الثانية في حياتي، أقرأ النفوس الميتة لنيقولاي غوغول، الأديب الروسي العظيم الذي قيل عنه مرة أن الأدب الروسي كله خرج من معطفه، وكنت قد نويت قراءتها قبل أشهر، ثم لم أستطع القيام بذلك إلا قريباً.
لطالما اعتبرت غوغول ساخراً ذا خيال مدهش، لكن قراءة النفوس الميتة للمرة الثانية، تفتح آفاقاً هائلة للتأمل في طبائع النفوس ودواخلها، وتحير المرء بين التعاطف مع تشتشيكوف وتجارته الرهيبة بالنفوس الميتة وبين ذمه وذم كل ما يمت له بصلة. الأمر الذي يرهق أصحاب تصنيف الأبيض والأسود للأمور، مع كونه حياً وحقيقياً ونابضاً.
السخرية أفضل ما توصلت له البشرية في تاريخ تطورها، وهذه قناعة تذكرني بقناعة أستاذ الرياضيات الفلسطيني أبو أيمن الذي لم يفلح في تعليمي كيف أجد حلولاً للدوال الرياضية المزعجة، لكنه عرفني على لوباتشفسكي وهندسته، وعلى ريمان وجنونه؛ القناعة التي كان يرددها دائماً:
"أعظم اختراعات البشرية هي العجلة والبنكنوت والشتيمة"

حين يمتلك الإنسان أن يسخر من نفسه، ومن ألمه، وأن ينتزع الضحكة من بين أسنان الألم. حينذاك يكون قد تمكن من قهر الوحشة والألم والكذب وخداع الذات، فهذا الشخص يرى الحقيقة، ويحب برغم أنه يرى الحقيقة. يستخرج وجه السخرية من أكثر الأمور كآبة فيعرف الجوهر دون أن تغره الأقنعة.
غوغول ساخر عظيم يملك أن يرسم النفوس بعظمة، النفوس الميتة التي يتحدث عنها لم تكن نفوس فلاحي الموجيك الموتى الذين تتعامل الحكومة معهم على أنهم أحياء. النفوس الميتة هي نفوس تشتشيكوف وسكان مدينة النونين وشخصيات الروايات التي فرغت تماماً من جوهرها الإنساني حتى أصبحت نفوساً ميتة تُعامل وتُعامِل على أنها حية.
غوغول بنفسه أحرق بقية عمله، وكاد يأتي على المخطوطات بكاملها. لم يفعل هذا يأساً كأبي حيان التوحيدي الذي أحرق أعماله يأساً من العالم الذي لم يعترف بعبقريته وتحدياً له، ولم يحرق مخطوطته كما فعل مواطنه بولغاكوف ليأسه من إمكانية نشرها. فعل ذلك قبل موته لأسباب تتعلق برغبته في الخلاص الديني.
السخرية هي أن أحد أعظم الساخرين في العالم أحرق أعماله الساخرة لأنه تشرب قناعات الناس القائلة بأن السخرية عمل يوجب طرد المرء من رحمة الله، ولأنه كان على حافة الموت، لم يكن مستعداً للدفاع عن سخريته إلى آخر لحظة. جندل غوغول نفسه عندما استسلم لما يقوله الناس من حوله، وهو الذي كان لا يأبه إلا للحقيقة، لكن هذا لم يكن إلا لكون الموت.. يغير النفوس!

01 مايو 2007

طَمَاس القُوّيني

طماس القويني (1100 ش - 1150 ش) أحد أهم فلاسفة الشخبطية، وصاحب منهج خاص في الشخبطية عُرف بالمدرسة الطماسية الشخبطية، ومن أهم مقولاتها: "الجوهر سابق الماهية في الوجود كما يسبق الزيت الماء في الغليان".
يُجادل البعض بأن طماس القويني قد خرج عن الشخبطية في حياته، الأمر الذي استوجب إخراجه من زمرة فلاسفتها بعد مماته، غير أن المنظرين المحدثين للشخبطية يرون أن طرد القويني من دائرة فلاسفة الشخبطية يُعد قلة ذوق واضحة، وذلك لإسهاماته الجلية والواضحة في تطوير الفكر الشخبطي بشكل شبه منحرف، بعد أن كان التطور الشخبطي يتم عبر أشكال منحنيات مقفلة فقط، وجاءت أعمال طماس القويني لتعاكس اتجاه الفيلسوف الشخبطي الأكبر ابن شيما الذي ذهب إلى أن الشخبطية تطور حلزوني مرتبط بالوجود، غايته هي الاتحاد بالكون اللا نهائي. ويرى بعض دارسي الشخبطية المحدثين أن خروج طماس القويني عن خط ابن شيما الذي أخرجه من زمرة الشخبطيين في رأي بعض غلاة الشخبطيين الشيميين، جاء بسبب رغبته في الانتقام من ابن شيما الذي وضع علم تربيع الشخبطة، وهو العلم الذي تسبب بطرد طماس القويني من المدرسة الابتدائية.
بالرغم من إخفاقاته نادرة المثال في علم تربيع الشخبطة، فإنه قد برع بشكل خاص في علم الخبال الشخبطي. وكان أول من أثبت نظرية الشاخباطي الشهيرة: "جنان يخارجك ولا عقل يحنبك"، الأمر الذي حفظ له مكانة بين فلاسفة الشخبطية، وعلماء الخبال من كافة المدارس الفلسفية والحكومية الأخرى.
في أواخر حياته، مال طماس القويني إلى المدرسة الشعططية، وعُد هذا انحرافاً خطيراً، حيث أنه دعا إلى إصلاح الشخبطية من داخلها، الأمر الذي لم يرق الكثيرين، واضطر أستاذه العجوز برطس المبرطس إلى الخروج من بيته رغم آلام المفاصل المبرحة التي كان يعاني منها ليبعد الفتية الذين اجتمعوا حول طماس القويني وهم يهتفون: "طماس المحتاس... شعطاط بعد الشخباط".. وبعد وفاة طماس المثيرة للجدل، هشم برطس المبرطس رؤوس أفراد المجمع الشخبطي الأكبر فقبلوا إعلان طماس القويني فيلسوفاً شخبطياً من المعلمين الكبار، خوفاً من عصا برطس المبرطس الذي كان قد بلغ سن الجنون والعنف، بالإضافة إلى تمتعه بقوة هرقلية لم تأت عليها السنون بسبب مداومته على تناول عسل إكسترا ألفا من شركات إكسترا ألفا العالمية.
حياة طماس القويني ووفاته:
وُلد طماس القويني في رقوصة، وكان الابن الأصغر لأسرة تضم خمسة وأربعين ابناً وابنة. وفي طفولته المبكرة أبدي نجابة وذكاء نادري المثال حيث أنه كان قادراً على التفريق بين الصراصير وحبات التمر، فلم يكن يتناول الأولى حسب عادة الأطفال من أقرانه. بل إنه كان يفضل تناول السحالي، ويصطادها دون هوادة حتى لقد أفنى جنسها في رقوصة.
بينما كان القويني يطارد سحلية شهية، ظهرت له هي-التي-يجب-ألا-تؤكل، أو السحلية الأم لكل سحالي العالم، منذ خلق السحالي، وحتى نهاية الأرض. ونهته عن أكل بناتها إلى الأبد، كما كشفت له بعض أمور جلت عن عينيه الغشاوة فعرف مهمته في الحياة ومكانه، واستعد لإبلاغ رسالته العظيمة.
وكان أبوه، عداس القويني، بلطجياً لا يُشق له غبار، جمع ثروة طائلة من البلطجة فأصبح شيخ رقوصة، ولهذا شعر بأن رسالة ابنه المجنون تهديد له، فقام بحبسه في كوخ مهجور، وأجمع أهل رقوصة على أن القويني طماس مجنون ينبغي حبسه هناك للأبد.
طال حبس القويني، ولم يقبل أحد بأن يفك أسره، فاستغل الوقت في تنمية قواه التخاطرية، وعن طريق التخاطر، درس فلسفة ابن شيما، والشاخباطي، وابن نرد، وغيرهم من كبار فلاسفة الشخبطية. كما تعرف على الأستاذ الكبير برطس المبرطس، فقرر الالتحاق به، لكن قدراته التخاطرية الفذة لم تمكنه من الحصول المفتاح للخروج من الكوخ، ومع ذلك فإن مبادئه الشخبطية لم تتحطم.
جاء الفرج إلى طماس القويني عن طريق عابر سبيل مجهول يفد رقوصة لأول مرة، فقد طلب القويني منه أن يفتح له الباب بالمفتاح الذي عُلق في سلسلة حديدية على قمته، قائلاً أن بعض الأشقياء حبسوه بينما كان نائماً. ولم يكذب طماس القويني فإنهم قد حبسوه على غفلة، وما كان من الرجل الطيب إلا أن فتح للقويني الباب.
تختلف بعض المصادر في بعض التفاصيل، لكن الإطار العام لما حدث بعد خروج طماس القويني من الكوخ واحد، حيث أنه صاح في الرجل بصوت كالرعد: "إني أصطفيك لتكون الشخبطي من بعدي!" فُذُهل الرجل، وسأل: "ماذا؟"، عندها أجبره القويني على الركوع، وباركه ببركة الشخبطية، فمات الرجل من الفرحة.
بعدها ركض طماس القويني حتى عثر على برطس المبرطس يتشاجر مع بعض الشعططيين، فساعده على غلبتهم، فأحبه المبرطس واصطفاه وعلمه كيف يستحم ويرتدي ثياباً نظيفة مرة في الشهر، وعُد هذا من أعظم إنجازات المبرطس.
بعدها رحل طماس القويني ليجمع تلاميذه، وقد اتُهِم تلاميذه بأنهم قطاع طرق، لكن طماس القويني لم يكن ممن يهتمون بالمظاهر، بل بالجوهر، وكان يعرف أن تلاميذه شخبطيون طيبون في حقيقة أمرهم وجليتهم، لهذا فإنه شاركهم بعض أعمال السلب والنهب، وتحطيم رؤوس بعض المعارضين للمذهب الطماسي في إطار الفلسفة الشخبطية.
تختلف الروايات حول أسباب وفاة القويني وكيفيتها، فتقول رواية تلاميذه التي أيدها برطس المبرطس، رغم أنه لم يحضر الوفاة، أن القويني شعر بانبساط كبير ناجم عن مشروب صوفي في زجاجة، فخرج في وسط العاصفة ليلاً، وتسلق بعض الصخور ثم وقف، وأخذ يصيح: "أنا طماس القويني!.. أنا هو الوجود!" فأخذته الصاعقة وهم ينظرون. وتقول رواية أخرى يؤيدها شيخ فلاسفة الشيميين الشهروري أن القويني قد تشاجر مع تلاميذه على تقسيم غنيمة نهبوها، فهشموا رأسه. فيما يقول شيخ الفلاسفة ضد-الشيميين ابن النفاش أن القويني قد تدحرج من رأس الجبل بسبب زلة من قدمه. وتوجد رواية ضعيفة الاسناد يتبناها الشخبطيون المحدثون وهي أن معطاس القويني، شقيق طماس الأكبر، قد استأجر من يقتل أخاه المجنون بعد أن أعلن رغبته في العودة إلى رقوصة والإستيلاء على مشيخة رقوصة لفرض المذهب الطماسي عليها.
أعمال طماس القويني:
- شخبطة الكون
- الرد الواضح على ابن شيما المناطح
- تفتيت النرد في تفنيد فلسلفة ابن نرد
- نفش المنفاش في تحطيم رأس ابن النفاش
- البيان العام الطماسي
- إباحة تهشيم رؤوس الشعططيين
- برطسة المبرطس البرطوس
- في المسألة الرقوصية
- اشكالية الفلسفة بين الشخبطة والشعططة
- الرد على ابن خشنون الفشنون
- الخطوط المنكسرة تقابل الخطوط المنحنية
- مائة طريقة وطريقة لطهي لحوم الشيميين والخشنونيين والبراطسة والشعاططة وغيرهم من الملاحدة
- الحق الطماسي في إقطاع الرقوصي
- تحمية الطاسة في سلخ جلود البراطسة