في معرض تعليقه على أزمة الركود الاقتصادي العالمية، تحدث أليستر دارلنغ، وزير الخزانة البريطاني السابق، عن حقيقة جوهرية تتتعلق بالاقتصاد العالمي قائلاً إن الشركات الكبرى والبنوك تكون عالمية في أزمنة الازدهار والرخاء، وتنقلب محليةً تماماً في أزمنة الشدة، فتطرق أبواب خزائن دولها الأصلية لإنقاذها من إنهيارٍ قد يُسقط الاقتصاد الدولي بُرمته.
تذكرت حديث دارلنغ بينما كُنت أتصفح ردود الأفعال المستنكرة لتصرفات شركاتٍ مثل أمازون وماستر كارد وفيزا - ولاحقاً، آبل - إزاء موقع ويكيليكس، فالدبلوماسية الأمريكية في حالة أزمةٍ بسبب تسريبات ويكيليكس - بغض النظر عن كون هذه الأزمة حقيقية أم مفتعلة، وفي حالة الأزمة هذه، فإن جميع الشركات العالمية أمريكية المنشأ تعود إلى جذورها الأصلية، وتصير محليةً تماماً، وخاضعةً للقانون الأمريكية، وعرضةً ليد الإدارة الأمريكية الباطشة. يُذكِرُ هذا بما قاله إريك شميدت - الرئيس التنفيذي لغوغل - عن موقف شركته من الخصوصية، إذ أشار إلى أن غوغل مُلزمةٌ بالكشف عن كافة بيانات عُملائها للسلطات الأمريكية عندما يُطلب منها ذلك بموجب قانون باتريوت الأمريكي، وبالأخبار التي نُشرت مؤخراً عن طلب الحكومة الأمريكية بيانات حساب ويكيليكس في تويتر.
إشكاليةُ الشركات العالمية - بما فيها المؤسسات المصرفية - تكمن في أنها تُقدِمُ خدماتها لزبائن من مُختلف دول العالم، وتحتفظ ببيانات هؤلاء الزبائن، وتفاصيل استخدامهم لخدماتها، مما يجعلهم خاضعين - بشكلٍ ما - إلى قوانين بلد المنشأ للشركة، إضافةً إلى القوانين المحلية لبُلدانهم. ونتيجةً لنظام التقسيم الإقليمي الذي تعتمده بعض الشركات العالمية، فتربط خدماتها في إقليمٍ جغرافي معين بمقرٍ إقليمي واحدٍ في دولةٍ معينة، تُضاف قوانين دولة المقر الإقليمي إلى القوانين التي يلتزم بها زبائن الشركات العالمية، فيصبحون خاضعين للمساءلة بُمقتضى تشريعين أو أكثر. الأمر الذي يعني أن عصر السماوات المفتوحة قد قاد إلى فوضى قضائية مُعينة، قد تقود - في سيناريو الحالة الأسوأ - إلى تعطيل سُلطة القانون على مُمارسات الشركات العالمية المُضرة بالاقتصاد، وعلى السلطات السياسية في بلدٍ مُعين، مما يُبطل العقد الذي قامت على أساسه العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الدول الديموقراطية، ويُخضع مواطني دولةٍ إلى قوانين دولةٍ أُخرى من دون رضاهم، ومن دون أن يكون بينهم وبين حكومة الدولة الأخرى عقدٌ تشريعي يضمن حقوقهم. (لذلك تُطارد الولايات المُتحدة الأمريكية جوليان أسانج الأسترالي بموجب قوانين أمريكية محلية، لا بموجب تشريعٍ دولي).
في هذا السياق، تكتسب معركة غوغل مع السلطاتِ الصينية بُعداً آخر، فدفاع غوغل المفترض عن الخصوصية ضد رقابة الحكومة الصينية الشمولية فرضٌ باطل لأن غوغل خاضعة لقانون باتريوت الأمريكي الذي يُعدُ شكلاً من أشكالِ الرقابة الشمولية، ومُلزمةٌ بالكشف عن بيانات عُملائها الصينيين - ضمن عملائها من جميع أنحاء العالم - للسلطات الأمريكية. ما طالبت به الصين خضوع غوغل للتشريعات الصينية التي تُجبرها على الكشف عن بيانات عُملائها للحكومة الصينية عند الطلب - كما هو الحال مع السلطات الأمريكية. غير أن غوغل رفضت ذلك لأسبابٍ عديدةٍ ليس هُنا محلُ تبيانها، ليس منها حرصها الشديد على خصوصية زبائنها وأمنهم كما في الدعاية الأمريكية المُناهضة للصين التي صاحبت خروج غوغل منها.
موضوعُ المحلية والعالمية يتصل بمواضيع أخرى من ضمنها الهوية الثقافية لمُجتمعٍ ما، والعلاقة بين السلطة السياسية ورأس المال، والعلاقة بين التنظيمات الاقتصادية الدولية وبين المجتمعات المحلية الحاضنة لها. وفي العالم العربي أمثلة واضحة على بُنىً اقتصادية تختلفُ اختلافاً بيناً عن القيم المحلية للُمجتمع، مما يؤدي إلى نشوء إشكالياتٍ عديدةٍ مُتعلقة بقدرةِ هذه النماذج على البقاء، وبهويتها الثقافية. ظاهرياً، فإن هذه أماكن كوزموبوليتانية يقطنها أفرادٌ جاءوا من ثقافاتٍ مُختلفة، لكن ما تحت السطح يُبطِن اختلالاتٍ في التركيبة الديموغرافية للمكان، وصورةً مشوهةً لفكرة الهوية، وخللاً تشريعياً، فالخلفية الدينية لتشريع البلد قد تتعارضُ مع الطبيعة متعددة الثقافات لسُكانها، وقد يقود إلى ازدواجٍ تشريعي بحيثُ تختلف قوانين أهل البلد الأصليين عن قوانين المُقيمين فيها.
في الطائرة، أصغيتُ لحديثٌ طويلٍ يُحذِرُ مِن مغبة سيادة اللغة الإنكليزية في مطار الدوحة الدولي، ومن العواقب الوخيمة لفوز قطر باستضافة كأس العالم 2022، واختلال التركيبة الديموغرافية في دولِ الخليج، والكارثة التي سيحملها إلغاء نظامِ الكفيل. قال لي مُحدثي في معرِض كلامه: "إن هؤلاء الآسيويين والهنود والأمريكان الذين يعملون اليومَ في دول الخليج قد تصلُ بِهِمِ الوقاحةُ والجرأة غداً لأن يُطالبوا بحقوقهم في البلد، وأن يطالبوا بالحصول على جنسياتِ البُلدانِ التي عملوا فيها بزعم أنهم شاركوا فيها وعمروها". لم أختلف مع محدثي، ومع غيره ممن ساهَم في الحديث، فالنغمةُ السائدة كانت الرفض التام لكُلِ من هو غير عربي - مع أن العرب مثل الآسيويين والأمريكيين والهنود، لا يحصلون على جنسياتِ الدولِ الخليجية التي يعملون فيها حالياً - والتحذيرَ من كارثةٍ مُحدقةٍ بنا تأتي من هؤلاء الأجانب الذين يقيمون في البلدان العربية، ولومُ بلدانٍ مُعينةٍ على سماحها بسيادة الإنكليزية وسماحها للأوروبيين بممارسة عاداتهم الأوروبية فيها، مُقابل أن تكون محطاتٍ للأعمالِ الدولية.
إن النظر إلى المُستقبل يعني التجرد من الأوهام العاطفية، والنظر للأمور بواقعيةٍ وبشكلٍ عملي: النفطُ مُعرضٌ للنضوب، كما أن مخزوناتِ دولِ المنطقة منه تتفاوتُ تفاوتاً بيناً، المساحاتُ الصغيرةُ لبعض الدول وتهديدُ الاحترارِ العالمي لها بالغرق في غضونِ قرنٍ أو اثنين وعدد السكان الأصليين القليل - ورفضهم للقيامِ ببعض الأعمال بوصفها تتعارض مع مفهومهم للوجاهة الاجتماعية. كُل هذه عواملٌ تجعلُ من واجب هذه الدولِ البحثُ عن مصادر أخرى للبقاء بالتحولِ إلى محطاتِ أعمالٍ عالمية، وبتشجيعِ السياحةِ التي لا تعتمدُ على الجمالِ الطبيعي أو الخلفيات التاريخية: سياحة الأحداث الرياضية والسياحة الفندقية. لتضمن هذه الدولُ بقاءها، ينبغي أن تنفتحَ على ثقافاتٍ عالمية، وأن تسمح بسيادة للإنكليزية، ليس بوصفها رمزاً للنصر الأنكلوسكسوني، وإنما بوصفها أداةَ تفاهمٍ مُشتركة في بُرجِ بابل الناشئ عن اجتماعِ أعراقٍ وثقافاتٍ ولغاتٍ مُختلفةٍ في مكانٍ واحد. مع ذلك، يفرض البلدُ محليته بعلاماتٍ مثل حضور العربيةِ بجوارِ الإنكليزية في اللافتاتِ والإرشادات العامة - الأمرُ الذي يُذكِرُ الزائر بخلفية البلد. من يزورُ محطة أعمالٍ دوليةٍ أخرى مثل هونغ كونغ أو ماليزيا سيجُد علاماتٍ أخرى غير العربية تدلُ على محلية البلد حاضرة بجوار الإنكليزية، لغة كل الغرباء.
تحولُ بعضِ البُلدانِ العربية إلى محطاتِ أعمالٍ دولية يقودُ إلى الحديث عن إشكالية المواطنة بشكلٍ واضح: ما المواطنة، من المواطن، وما الذي يمنعُ هذه المحطاتِ من التحولُ إلى بُلدانٍ ينتمي إليها المقيمون فيها. الأمرُ شبيهٌ بالهوية اللندنية الجديدة، فلندن محطةٌ دوليةٌ للأعمال وعاصمةٌ للغرباء. صحيحٌ أن اللغة الإنكليزية اللغةُ الأصلية في بريطانيا، لكن إنكليزية لندن ليست إنكليزية الإنكليز، وإنما إنكليزية الغرباء التي نشأت في سياقٍ يختلف عن السياق العام للثقافات البريطانية المحلية. مع ذلك، فإن لندن تحتضن المُقيمين فيها بوصفهم مواطنين، بغض النظر عن خلفياتهم، مما يجعل لندن المحطة الأكثر جاذبيةً للأعمال الدولية، ويُقلل من مشاكِل التعامل الناشئة عن اجتماعِ أعراقٍ عديدة في مكانٍ واحد. الطبيعة الاستيعابية للثقافة اللندنية لم تحمِ لندن من تبعاتِ الأزمة الاقتصادية العالمية، ولم تحمِ المصارف البريطانية من اللجوء إلى الخزانة، لكنها سمحت للحكومة البريطانية بلي ذراعِ الحكومة الأمريكية، وفرضِ حلولها للأزمة على الولايات المُتحدة وعلى بقيةِ الدول الأوروبية، مُستخدمة الطبيعة المزدوجة للشركاتِ العالميةِ لإلزامِ الشركات البريطانية العالمية بحلولها، ومن ثم فرض هذه الحلول على بقيةِ الشركات العالمية، الأمر الذي اضطر الإدارة الأمريكية - بالتبعية - إلى إصدارِ تشريعاتِ تحمي شركاتها من التشريعات البريطانية بتدابيرَ شبيهةٍ بالتدابير البريطانية ذاتها. التدابيرُ الأمريكيةُ المحلية أجبرت دولاً أخرى على اتخاذ تدابيرَ مُشابهةٍ في سلسلةٍ طويلةٍ من التداخل بين ما هو دولي وبين ما هو محلي. تحملُ هذه الواقعة أملاً بأن يستطيع من يفهم قواعد اللعبة استخدام ما هو دولي لخدمة ما هو محلي، وأن تظفر دولٌ مُختلفةٌ بأسباب الرفاه التي كان يحتكرها اللاعبون الكبار. الأملُ الأكبر الذي قد ينشأ عن الفوضى التشريعية العالمية، وإشكاليات الهوية والمواطنة، نشوء مناطق عالمية بحتة، تحكمها قوانينُ دوليةٌ لا تخضع لتشريعاتِ أي دولةٍ مستقلةٍ، تُنظِمُ طبيعة الأعمالِ فيها، وطبيعة العلاقات بين المُقيمين فيها على أسسٌ عادلة مجردةٍ من الخلفيات التاريخية والخصوصيات المحلية. هكذا، يُمكِن للعالم أن يتنفس بعيداً عن الارتباط القاتل للسياسة بالاقتصاد.
تذكرت حديث دارلنغ بينما كُنت أتصفح ردود الأفعال المستنكرة لتصرفات شركاتٍ مثل أمازون وماستر كارد وفيزا - ولاحقاً، آبل - إزاء موقع ويكيليكس، فالدبلوماسية الأمريكية في حالة أزمةٍ بسبب تسريبات ويكيليكس - بغض النظر عن كون هذه الأزمة حقيقية أم مفتعلة، وفي حالة الأزمة هذه، فإن جميع الشركات العالمية أمريكية المنشأ تعود إلى جذورها الأصلية، وتصير محليةً تماماً، وخاضعةً للقانون الأمريكية، وعرضةً ليد الإدارة الأمريكية الباطشة. يُذكِرُ هذا بما قاله إريك شميدت - الرئيس التنفيذي لغوغل - عن موقف شركته من الخصوصية، إذ أشار إلى أن غوغل مُلزمةٌ بالكشف عن كافة بيانات عُملائها للسلطات الأمريكية عندما يُطلب منها ذلك بموجب قانون باتريوت الأمريكي، وبالأخبار التي نُشرت مؤخراً عن طلب الحكومة الأمريكية بيانات حساب ويكيليكس في تويتر.
إشكاليةُ الشركات العالمية - بما فيها المؤسسات المصرفية - تكمن في أنها تُقدِمُ خدماتها لزبائن من مُختلف دول العالم، وتحتفظ ببيانات هؤلاء الزبائن، وتفاصيل استخدامهم لخدماتها، مما يجعلهم خاضعين - بشكلٍ ما - إلى قوانين بلد المنشأ للشركة، إضافةً إلى القوانين المحلية لبُلدانهم. ونتيجةً لنظام التقسيم الإقليمي الذي تعتمده بعض الشركات العالمية، فتربط خدماتها في إقليمٍ جغرافي معين بمقرٍ إقليمي واحدٍ في دولةٍ معينة، تُضاف قوانين دولة المقر الإقليمي إلى القوانين التي يلتزم بها زبائن الشركات العالمية، فيصبحون خاضعين للمساءلة بُمقتضى تشريعين أو أكثر. الأمر الذي يعني أن عصر السماوات المفتوحة قد قاد إلى فوضى قضائية مُعينة، قد تقود - في سيناريو الحالة الأسوأ - إلى تعطيل سُلطة القانون على مُمارسات الشركات العالمية المُضرة بالاقتصاد، وعلى السلطات السياسية في بلدٍ مُعين، مما يُبطل العقد الذي قامت على أساسه العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الدول الديموقراطية، ويُخضع مواطني دولةٍ إلى قوانين دولةٍ أُخرى من دون رضاهم، ومن دون أن يكون بينهم وبين حكومة الدولة الأخرى عقدٌ تشريعي يضمن حقوقهم. (لذلك تُطارد الولايات المُتحدة الأمريكية جوليان أسانج الأسترالي بموجب قوانين أمريكية محلية، لا بموجب تشريعٍ دولي).
في هذا السياق، تكتسب معركة غوغل مع السلطاتِ الصينية بُعداً آخر، فدفاع غوغل المفترض عن الخصوصية ضد رقابة الحكومة الصينية الشمولية فرضٌ باطل لأن غوغل خاضعة لقانون باتريوت الأمريكي الذي يُعدُ شكلاً من أشكالِ الرقابة الشمولية، ومُلزمةٌ بالكشف عن بيانات عُملائها الصينيين - ضمن عملائها من جميع أنحاء العالم - للسلطات الأمريكية. ما طالبت به الصين خضوع غوغل للتشريعات الصينية التي تُجبرها على الكشف عن بيانات عُملائها للحكومة الصينية عند الطلب - كما هو الحال مع السلطات الأمريكية. غير أن غوغل رفضت ذلك لأسبابٍ عديدةٍ ليس هُنا محلُ تبيانها، ليس منها حرصها الشديد على خصوصية زبائنها وأمنهم كما في الدعاية الأمريكية المُناهضة للصين التي صاحبت خروج غوغل منها.
موضوعُ المحلية والعالمية يتصل بمواضيع أخرى من ضمنها الهوية الثقافية لمُجتمعٍ ما، والعلاقة بين السلطة السياسية ورأس المال، والعلاقة بين التنظيمات الاقتصادية الدولية وبين المجتمعات المحلية الحاضنة لها. وفي العالم العربي أمثلة واضحة على بُنىً اقتصادية تختلفُ اختلافاً بيناً عن القيم المحلية للُمجتمع، مما يؤدي إلى نشوء إشكالياتٍ عديدةٍ مُتعلقة بقدرةِ هذه النماذج على البقاء، وبهويتها الثقافية. ظاهرياً، فإن هذه أماكن كوزموبوليتانية يقطنها أفرادٌ جاءوا من ثقافاتٍ مُختلفة، لكن ما تحت السطح يُبطِن اختلالاتٍ في التركيبة الديموغرافية للمكان، وصورةً مشوهةً لفكرة الهوية، وخللاً تشريعياً، فالخلفية الدينية لتشريع البلد قد تتعارضُ مع الطبيعة متعددة الثقافات لسُكانها، وقد يقود إلى ازدواجٍ تشريعي بحيثُ تختلف قوانين أهل البلد الأصليين عن قوانين المُقيمين فيها.
في الطائرة، أصغيتُ لحديثٌ طويلٍ يُحذِرُ مِن مغبة سيادة اللغة الإنكليزية في مطار الدوحة الدولي، ومن العواقب الوخيمة لفوز قطر باستضافة كأس العالم 2022، واختلال التركيبة الديموغرافية في دولِ الخليج، والكارثة التي سيحملها إلغاء نظامِ الكفيل. قال لي مُحدثي في معرِض كلامه: "إن هؤلاء الآسيويين والهنود والأمريكان الذين يعملون اليومَ في دول الخليج قد تصلُ بِهِمِ الوقاحةُ والجرأة غداً لأن يُطالبوا بحقوقهم في البلد، وأن يطالبوا بالحصول على جنسياتِ البُلدانِ التي عملوا فيها بزعم أنهم شاركوا فيها وعمروها". لم أختلف مع محدثي، ومع غيره ممن ساهَم في الحديث، فالنغمةُ السائدة كانت الرفض التام لكُلِ من هو غير عربي - مع أن العرب مثل الآسيويين والأمريكيين والهنود، لا يحصلون على جنسياتِ الدولِ الخليجية التي يعملون فيها حالياً - والتحذيرَ من كارثةٍ مُحدقةٍ بنا تأتي من هؤلاء الأجانب الذين يقيمون في البلدان العربية، ولومُ بلدانٍ مُعينةٍ على سماحها بسيادة الإنكليزية وسماحها للأوروبيين بممارسة عاداتهم الأوروبية فيها، مُقابل أن تكون محطاتٍ للأعمالِ الدولية.
إن النظر إلى المُستقبل يعني التجرد من الأوهام العاطفية، والنظر للأمور بواقعيةٍ وبشكلٍ عملي: النفطُ مُعرضٌ للنضوب، كما أن مخزوناتِ دولِ المنطقة منه تتفاوتُ تفاوتاً بيناً، المساحاتُ الصغيرةُ لبعض الدول وتهديدُ الاحترارِ العالمي لها بالغرق في غضونِ قرنٍ أو اثنين وعدد السكان الأصليين القليل - ورفضهم للقيامِ ببعض الأعمال بوصفها تتعارض مع مفهومهم للوجاهة الاجتماعية. كُل هذه عواملٌ تجعلُ من واجب هذه الدولِ البحثُ عن مصادر أخرى للبقاء بالتحولِ إلى محطاتِ أعمالٍ عالمية، وبتشجيعِ السياحةِ التي لا تعتمدُ على الجمالِ الطبيعي أو الخلفيات التاريخية: سياحة الأحداث الرياضية والسياحة الفندقية. لتضمن هذه الدولُ بقاءها، ينبغي أن تنفتحَ على ثقافاتٍ عالمية، وأن تسمح بسيادة للإنكليزية، ليس بوصفها رمزاً للنصر الأنكلوسكسوني، وإنما بوصفها أداةَ تفاهمٍ مُشتركة في بُرجِ بابل الناشئ عن اجتماعِ أعراقٍ وثقافاتٍ ولغاتٍ مُختلفةٍ في مكانٍ واحد. مع ذلك، يفرض البلدُ محليته بعلاماتٍ مثل حضور العربيةِ بجوارِ الإنكليزية في اللافتاتِ والإرشادات العامة - الأمرُ الذي يُذكِرُ الزائر بخلفية البلد. من يزورُ محطة أعمالٍ دوليةٍ أخرى مثل هونغ كونغ أو ماليزيا سيجُد علاماتٍ أخرى غير العربية تدلُ على محلية البلد حاضرة بجوار الإنكليزية، لغة كل الغرباء.
تحولُ بعضِ البُلدانِ العربية إلى محطاتِ أعمالٍ دولية يقودُ إلى الحديث عن إشكالية المواطنة بشكلٍ واضح: ما المواطنة، من المواطن، وما الذي يمنعُ هذه المحطاتِ من التحولُ إلى بُلدانٍ ينتمي إليها المقيمون فيها. الأمرُ شبيهٌ بالهوية اللندنية الجديدة، فلندن محطةٌ دوليةٌ للأعمال وعاصمةٌ للغرباء. صحيحٌ أن اللغة الإنكليزية اللغةُ الأصلية في بريطانيا، لكن إنكليزية لندن ليست إنكليزية الإنكليز، وإنما إنكليزية الغرباء التي نشأت في سياقٍ يختلف عن السياق العام للثقافات البريطانية المحلية. مع ذلك، فإن لندن تحتضن المُقيمين فيها بوصفهم مواطنين، بغض النظر عن خلفياتهم، مما يجعل لندن المحطة الأكثر جاذبيةً للأعمال الدولية، ويُقلل من مشاكِل التعامل الناشئة عن اجتماعِ أعراقٍ عديدة في مكانٍ واحد. الطبيعة الاستيعابية للثقافة اللندنية لم تحمِ لندن من تبعاتِ الأزمة الاقتصادية العالمية، ولم تحمِ المصارف البريطانية من اللجوء إلى الخزانة، لكنها سمحت للحكومة البريطانية بلي ذراعِ الحكومة الأمريكية، وفرضِ حلولها للأزمة على الولايات المُتحدة وعلى بقيةِ الدول الأوروبية، مُستخدمة الطبيعة المزدوجة للشركاتِ العالميةِ لإلزامِ الشركات البريطانية العالمية بحلولها، ومن ثم فرض هذه الحلول على بقيةِ الشركات العالمية، الأمر الذي اضطر الإدارة الأمريكية - بالتبعية - إلى إصدارِ تشريعاتِ تحمي شركاتها من التشريعات البريطانية بتدابيرَ شبيهةٍ بالتدابير البريطانية ذاتها. التدابيرُ الأمريكيةُ المحلية أجبرت دولاً أخرى على اتخاذ تدابيرَ مُشابهةٍ في سلسلةٍ طويلةٍ من التداخل بين ما هو دولي وبين ما هو محلي. تحملُ هذه الواقعة أملاً بأن يستطيع من يفهم قواعد اللعبة استخدام ما هو دولي لخدمة ما هو محلي، وأن تظفر دولٌ مُختلفةٌ بأسباب الرفاه التي كان يحتكرها اللاعبون الكبار. الأملُ الأكبر الذي قد ينشأ عن الفوضى التشريعية العالمية، وإشكاليات الهوية والمواطنة، نشوء مناطق عالمية بحتة، تحكمها قوانينُ دوليةٌ لا تخضع لتشريعاتِ أي دولةٍ مستقلةٍ، تُنظِمُ طبيعة الأعمالِ فيها، وطبيعة العلاقات بين المُقيمين فيها على أسسٌ عادلة مجردةٍ من الخلفيات التاريخية والخصوصيات المحلية. هكذا، يُمكِن للعالم أن يتنفس بعيداً عن الارتباط القاتل للسياسة بالاقتصاد.
تحولُ بعضِ البُلدانِ العربية إلى محطاتِ أعمالٍ دولية يقودُنا إلى الحديث بالإضافة لكل ما ذكرت في هذا المقال القيم ـ إلى القيمة المضافة التي يضيفها كل ما هو غربي لكل ما هو عربي ، فلو ركزنا على جانب الأخلاق مثلا لوجدنا أن السياحة جرت على بلداننا العربية ما لا يحمد عقباه من انحلال خلقي وأمية ثقافية واستبدال لشخصية عربية مثقفة بشخصية تابعة تستهلك كل شيئ دون أن تنتج شيئا .....
ردحذففي بلدي المغرب مثلا حين خوصصنا قطاعات حيوية في البلد ما ذا وقع ؟؟؟
نسينا ـ كطبقة عريضة محدودة الدخل ـ كل شيئ ولم نعد نفكر إلا في كيفية البقاء على قيد الحياة وفي طرق البحث عن سبل تكفي لسد الرمق بعدما كان الآباء ـ قبل الخوصصة ـ يعيشون في رخاء ما بعده رخاء
أي نعم الانفتاح على الآخر ضرورة شرعية واجتماعية واقتصادية وسياسية لكن الذوبان فيه هو ما يهدد وجودنا ككل
بالتوفيق والسداد
تحيتي ومودتي