فقد العالم بوصلته الأخلاقية!
برغم أنني لا أؤمن بالعبارات المعممة، وأعتقد أنها تؤدي دوراً مزعجاً شبيهاً بالدور الذي يؤديه الزميل المزعج عالي الصوت عندما يقول: "نيابة عن زملائي، أُعبر عن دعمنا لفلان بن فلان"، متجاهلاً زملاء مثلي لم يدعموا فلاناً المذكور، ولن يدعموه أبداً. مع ذلك، أرى بوضوحٍ (مُزعج) أن هذا العالم يترنح فاقداً بوصلته الأخلاقية.
كُنت قد كتبت عن ردود الأفعال التي تفضح لا أخلاقية فاجعة عند موت نجيب محفوظ، والآن أعود للموضوع نفسه مع أصوات النُباح المسعورة التي نبشت قبر يوسف شاهين ولم تبرد جثته بعد فيه. لم أُتعب نفسي بقراءة أي مقالات لأي من التيارين المتشابهين اليميني واليساري، فقد وصلت المقالات التي أعقبت موت الرجل إلى قارئ خلاصاتي، حاملة عناوين فاجعة من قبيل: وأخيراً، رحل يوسف شاهين (!)، يوسف شاهين هالكاً (!)، وعناوين أخرى لن أذكرها حفاظاً على احترام الموت.
ليس شاهين أفضل مخرج في العالم - ولا يوجد فنانٌ يُمكن أن يكون أفضل فنانٍ في العالم - لكن هذا الكلام غيرُ ضروري الآن، ولا داعي لقوله. لا فائدة من شحذ المخالب ومهاجمة يوسف شاهين بمجرد موته، فالأمر يتحول إلى شماتةٍ وتشفٍ: "أنت ميت الآن يا جو، ولا تستطيع أن تقول عن النقاد (احمرة). حاول الآن أن تفتح فمك وتنطق. الآن حانت ساعة انتقامنا منك". لا قيمة للهجوم على الرجل بمناسبة موته، فلا شيء سيُقال سيكون تقييماً حقيقياً ذا قيمةٍ لتجربة يوسف شاهين - أو تجربة أي مُبدعٍ آخر -، بل ستكون مجرد طعناتٍ مسمومةٍ تُمثل بجثة ميت، مع أن الطعن في الميت حرام.
الوقت الوحيد الصالح لتقييم تجربة أي مُبدعٍ يحلُ حين يُمكن تحييد واقعة الموت وتجاوزها، ليُنظر إلى خلود التجربة وخلود المبدع بعد اجتياز ارتباك الموت البدائي. حين يُمكن النظر إليه كما يُنظر إلى تي. إس. إليوت وويليام شكسبير وستانلي كوبريك بوصفهم حاضرين دوماً في التقليد الثقافي للعالم، لا بوصفهم موتى حانت ساعة تصفية الحساب معهم.
في السياق نفسه، تابعت قبل أشهر زوبعة في فنجان على مجموعة من المدونات المصرية أعقبت وفاة روائي اسمه محمد ربيع، وحذف بعض السباب المتبادل معه على إحدى المدونات. أحدهم نبش واقعة الحذف، وقرر أن يُثير بلبلة بسببها باعتبار أن موت ربيع لا ينفي خلافهم معه، وأن الخلاف ينبغي أن يستمر، والصراع ينبغي أن يبقى دائراً. حاصل الجعجعة كان فضح الإفلاس الأخلاقي لجميع الأطراف المشاركة فيها، ليس الإفلاس الأخلاقي لأفرادٍ بأعينهم شملتهم هذه الوقائع فقط، بل الإفلاس الأخلاقي الذي يعم العالم، والذي يُدمر تماماً فكرة (الشرف).
من حق المرء أن يختلف، وأن يُحافظ على الاختلاف، لكنه ليس على حقٍ في الاحتفاظ بالسباب والشجارات المتبادلة بين طرفين. بعد وفاة ألبرت آينشتاين، لم يُغير نيلز بور مبادئه ويعتنق أفكار آينشتاين ليُلغي الاختلاف معه، لكنه توقف عن تبادل السباب معه، فآينشتاين لم يعد موجوداً ليُرد له الصاع صاعين، وليبرر نفسه، وليداور ويحاور ويناور ويُطاول ويختلف ويُقدم نسخته من الوقائع. الناجون هُم من يروون الوقائع، ويحرفونها كما يشاؤون معتمدين على أن الموتى لا يتكلمون. ومن المُخالف للشرف أن تبقى الشجارات والخلافات بعد موت أحد أطرافها. كُل ما في الأمر ليس سوى أحقادٍ تافهةٍ ومشاحناتٍ تتواصل ضد موتى. خطبٌ طويلةٌ في هجاء رجلٍ لن يرد لأنه قد رحل. أشياء لا تهم أحداً سوى مجموعة صحافيين مفلسين فكرياً وأخلاقياً ينشرون إفلاسهم في عالمٍ أشهر إفلاسه الأخلاقي بالفعل.
في الغرب، لم تجد باربرا والترز شيئاً تقوله عن زميلٍ راحلٍ لها سوى أنه كان عصبياً، وأنها لا تزال غاضبة لأنه صرخ في وجهها ذات خلاف! حسناً، حين تلحقين به إلى العالم الآخر، اصرخي في وجهه بالمقابل، أما هذا العالم، فلا يحتمل مزيداً من التصريحات المُفلسة.
اختلف الغزالي وابن رشد، ولا يزال التاريخ يحفظ خلافهما، لأنه كان اختلاف فكرٍ، لا خلافاً بين اثنين يُصفي كُلٌ منهما حساباته مع رفيقه في المقهى بالسباب، أو ينتهز فيه الناجي فرصة الموت ليُمثل بالميت، ويُسقِط عن الموت هيبته، ناسياً أن الموت يجوز حتى على الموت.
برغم أنني لا أؤمن بالعبارات المعممة، وأعتقد أنها تؤدي دوراً مزعجاً شبيهاً بالدور الذي يؤديه الزميل المزعج عالي الصوت عندما يقول: "نيابة عن زملائي، أُعبر عن دعمنا لفلان بن فلان"، متجاهلاً زملاء مثلي لم يدعموا فلاناً المذكور، ولن يدعموه أبداً. مع ذلك، أرى بوضوحٍ (مُزعج) أن هذا العالم يترنح فاقداً بوصلته الأخلاقية.
كُنت قد كتبت عن ردود الأفعال التي تفضح لا أخلاقية فاجعة عند موت نجيب محفوظ، والآن أعود للموضوع نفسه مع أصوات النُباح المسعورة التي نبشت قبر يوسف شاهين ولم تبرد جثته بعد فيه. لم أُتعب نفسي بقراءة أي مقالات لأي من التيارين المتشابهين اليميني واليساري، فقد وصلت المقالات التي أعقبت موت الرجل إلى قارئ خلاصاتي، حاملة عناوين فاجعة من قبيل: وأخيراً، رحل يوسف شاهين (!)، يوسف شاهين هالكاً (!)، وعناوين أخرى لن أذكرها حفاظاً على احترام الموت.
ليس شاهين أفضل مخرج في العالم - ولا يوجد فنانٌ يُمكن أن يكون أفضل فنانٍ في العالم - لكن هذا الكلام غيرُ ضروري الآن، ولا داعي لقوله. لا فائدة من شحذ المخالب ومهاجمة يوسف شاهين بمجرد موته، فالأمر يتحول إلى شماتةٍ وتشفٍ: "أنت ميت الآن يا جو، ولا تستطيع أن تقول عن النقاد (احمرة). حاول الآن أن تفتح فمك وتنطق. الآن حانت ساعة انتقامنا منك". لا قيمة للهجوم على الرجل بمناسبة موته، فلا شيء سيُقال سيكون تقييماً حقيقياً ذا قيمةٍ لتجربة يوسف شاهين - أو تجربة أي مُبدعٍ آخر -، بل ستكون مجرد طعناتٍ مسمومةٍ تُمثل بجثة ميت، مع أن الطعن في الميت حرام.
الوقت الوحيد الصالح لتقييم تجربة أي مُبدعٍ يحلُ حين يُمكن تحييد واقعة الموت وتجاوزها، ليُنظر إلى خلود التجربة وخلود المبدع بعد اجتياز ارتباك الموت البدائي. حين يُمكن النظر إليه كما يُنظر إلى تي. إس. إليوت وويليام شكسبير وستانلي كوبريك بوصفهم حاضرين دوماً في التقليد الثقافي للعالم، لا بوصفهم موتى حانت ساعة تصفية الحساب معهم.
في السياق نفسه، تابعت قبل أشهر زوبعة في فنجان على مجموعة من المدونات المصرية أعقبت وفاة روائي اسمه محمد ربيع، وحذف بعض السباب المتبادل معه على إحدى المدونات. أحدهم نبش واقعة الحذف، وقرر أن يُثير بلبلة بسببها باعتبار أن موت ربيع لا ينفي خلافهم معه، وأن الخلاف ينبغي أن يستمر، والصراع ينبغي أن يبقى دائراً. حاصل الجعجعة كان فضح الإفلاس الأخلاقي لجميع الأطراف المشاركة فيها، ليس الإفلاس الأخلاقي لأفرادٍ بأعينهم شملتهم هذه الوقائع فقط، بل الإفلاس الأخلاقي الذي يعم العالم، والذي يُدمر تماماً فكرة (الشرف).
من حق المرء أن يختلف، وأن يُحافظ على الاختلاف، لكنه ليس على حقٍ في الاحتفاظ بالسباب والشجارات المتبادلة بين طرفين. بعد وفاة ألبرت آينشتاين، لم يُغير نيلز بور مبادئه ويعتنق أفكار آينشتاين ليُلغي الاختلاف معه، لكنه توقف عن تبادل السباب معه، فآينشتاين لم يعد موجوداً ليُرد له الصاع صاعين، وليبرر نفسه، وليداور ويحاور ويناور ويُطاول ويختلف ويُقدم نسخته من الوقائع. الناجون هُم من يروون الوقائع، ويحرفونها كما يشاؤون معتمدين على أن الموتى لا يتكلمون. ومن المُخالف للشرف أن تبقى الشجارات والخلافات بعد موت أحد أطرافها. كُل ما في الأمر ليس سوى أحقادٍ تافهةٍ ومشاحناتٍ تتواصل ضد موتى. خطبٌ طويلةٌ في هجاء رجلٍ لن يرد لأنه قد رحل. أشياء لا تهم أحداً سوى مجموعة صحافيين مفلسين فكرياً وأخلاقياً ينشرون إفلاسهم في عالمٍ أشهر إفلاسه الأخلاقي بالفعل.
في الغرب، لم تجد باربرا والترز شيئاً تقوله عن زميلٍ راحلٍ لها سوى أنه كان عصبياً، وأنها لا تزال غاضبة لأنه صرخ في وجهها ذات خلاف! حسناً، حين تلحقين به إلى العالم الآخر، اصرخي في وجهه بالمقابل، أما هذا العالم، فلا يحتمل مزيداً من التصريحات المُفلسة.
اختلف الغزالي وابن رشد، ولا يزال التاريخ يحفظ خلافهما، لأنه كان اختلاف فكرٍ، لا خلافاً بين اثنين يُصفي كُلٌ منهما حساباته مع رفيقه في المقهى بالسباب، أو ينتهز فيه الناجي فرصة الموت ليُمثل بالميت، ويُسقِط عن الموت هيبته، ناسياً أن الموت يجوز حتى على الموت.
مقالة رائعة . وأتفق معكِ ...
ردحذفشكراً جزيلاً لك...
ردحذف