فيلم الصبي في المنامة المقلمة The Boy in the Striped Pyjamas واحدٌ من الأفلام التي ظُلمت لأسباب غير فنية، إذ أن الفيلم يحظى بكل ما يُمكن أن يجعل منه فيلماً ناجحاً للغاية، ومحبوباً من النقاد والجمهور. مع ذلك، فلم يُرشح الفيلم لأي من الجوائز الكُبرى - الأوسكار، الغولدن غلوب، وجوائز نقابة الممثلين - ولم يحظ بأي مكافأة لتكامل عناصره الفنية - وشأنه في ذلك شأن فيلم الحب في زمن الكوليرا، وإن كان الصبي في المنامة المُقلمة أكثر إحكاماً من ناحية السيناريو - وفوق ذلك، فالفيلم واحدٌ من الأفلام التي اصطلح على تسميتها "أفلام المحرقة" مثله مثل أفلام: قائمة شندلر، والحياة حلوة، ومنذ فترة قريبة القارئ، وجميعها أفلامٌ تحظى بانتشارٍ واسع وقبول عامٍ بين النقاد. ومع أن فيلم الصبي في المنامة المقلمة يتفوق على فيلم القارئ كثيراً، إلا أن الأخير نال الكثير من الثناء النقدي وحصل على عددٍ كبيرٍ من الجوائز، منها جائزة أوسكار أفضل ممثلة لكيت وينسلت.
مع ذلك، فالأفلام الجيدة لا تصنعها الجوائز، وفيلم الصبي في المنامة المقلمة واحدٌ من الأفلام التي تدل على أن العصر الحالي للسينما عصرٌ زاهٍ قادرٌ على إنتاج أفلامٍ جميلة مشغولة بحرفيةٍ عالية، كما أنه فيلمٌ ذو قيمة إنسانية عالية. وإن كانت ثيمة (المحرقة) التي يدور حولها عاملاً يصد عنه النقاد، أولئك الذين يؤمنون بالمحرقة كأنها دين، وأولئك الذين ينكرون حدوثها على حدٍ سواء. والواقع أن لادعاءات كلا الطرفين أساس: فمن يُنكر المحرقة - أو يراها في أحسن الأحوال ذريعة يهودية لابتزاز العالم - سيرفض الفيلم كإضافة جديدة إلى تراث الابتزاز اليهودي عن طريق الأفلام، ومن يؤمن بها يراه عرضاً لمأساة أسرةٍ نازية "يُصادر المحرقة ويحولها إلى قصةٍ عن النازية وطفلها الجميل كالدمية" كما فعلت مانولا دارجِس، ناقدة الأفلام في جريدة "نيويورك تايمز".
الفيلم مأخوذ عن رواية جيمس بوين بالعنوان ذاته، وله العمق الذي يُميز الأفلام المأخوذة عن أعمالٍ أدبية. ويعمل فيه المخرج مارك هرمان - الذي كتب السيناريو أيضاً - على تقديم فيلمٍ مشدود الأطراف، مع الاحتفاظ بكاميرا مُحلقة تتبع طفلاً صغيراً كثير الحركة. يحكي الفيلم قصة صبي في الثامنة من عُمره يُسمى برونو، يحب الاستكشاف والمغامرة ويريد أن يُصبح مستكشفاً، أبوه ضابطٌ نازي عالي الرتبة، وأمه ربة بيت لطيفة، وشقيقته الكبرى فتاة عادية تحب الدُمى. تتغير حياة برونو وأسرته حينما ينال أبوه ترقية وتنتقل أسرته إلى منطقة ريفية معزولة حيث لا أصدقاء هُناك، بل جنودٌ نازيون مخيفون. من نافذته، يرى برونو مزرعة غريبة حيث المزارعون يرتدون (مناماتٍ مقلمة) ويُخبر أمه بذلك، ليتضح أن أباه انتقل ليُدير معسكر اعتقالٍ نازي وأن المزارعين ذوي المنامات المقلمة ليسوا إلا السجناء اليهود في المعسكر. لا يُخبر أحدٌ برونو بالحقيقة، بل يتركونه يعتقد أن المعسكر البعيد مزرعة فعلاً. غير أن الصبي كثير الحركة يتسلل لاستكشاف الغابة وما وراءها ليصل إلى أسوار المعسكر، حيث يقابل صبياً في مثل سنه يُسمى شمو. ومع الوقت، يُصبح برونو وشمو صديقين من خلال أسوار السياج، ويظل برونو يعتقد أن المنامات المقلمة والأرقام التي عليها لعبة يلعبها شمو ورفاقه في المعسكر.
غير أن حياة برونو تتعقد أكثر بمعاملة الملازم كوتلر - مرافق العائلة - للعامل اليهودي في المنزل، وبإصرار معلمه وأخته وأبيه على أن اليهود هم العدو. ويزداد الأمر سوءاً حين تكتشف أمه بالصدفة سر الرائحة الكريهة التي تنتشر في المكان، فتتسمم علاقاتها بأبيه. ثم يُصدم برونو في أبيه حينما يتغاضى أبوه عن قيام الملازم كوتلر بضرب العامل اليهودي حتى الموت. يتحول اندفاع برونو الطفولي إلى خوفٍ ممن حوله، وشعورٍ بالذنب لصداقته لشمو الذي يُفترض أن يكون عدوه. حتى يجد شمو في منزله مكان العامل السابق، فيقدم إليه بعض الحلوى ببراءة ويخبره عما تقوله أخته عن اليهود ويقوله المعلم. يدخل الملازم كوتلر ويتهم شمو بسرقة الطعام، فيدافع شمو عن نفسه بأن صديقه برونو أعطاه أياه. ويُنكر برونو الخائف أن يكون قد عرف شمو من قبل، ليسقط الطفل هو الآخر في مهلكة الإنكار والذنب.
يحاول برونو الاعتذار من شمو - الذي يتعرض لضربٍ مبرح يختفي على إثره فترة طويلة - ويعودان صديقين. ثم تقرر أم برونو أنها يجب أن تعود بطفليها من المعسكر قبل أن تخسرهما، فابنتها غريتل قد بدأت تتحول إلى نازية نموذجية، وابنها برونو محاصر بالذنب والإنكار. يذهب برونو لوداع شمو، لكنه يُقرر أن يُساعده في إيجاد والده أولاً ليعوضه عن إنكاره إياه من قبل، ويرفع عن نفسه شعوره بالذنب.
الفيلم مبني على التفاصيل الصغيرة في علاقة برونو بشمو، والشر الذي يدور في المكان الجميل والهادئ ينكشف تدريجياً من دون أن يُدركه الطفل الذي يُحب الاستكشاف، غير أن براءته لا تحميه من الشعور بالخوف والذنب. والأسرة النازية في الفيلم أسرة عادية ومحبة، لا يتميز أيٌ من أفرادها بأي شرٍ ظاهر. غير أن الأب يسقط في قبوله للممارسات النازية وتعطيله لضميره بدعوى أن هذا واجبه الوطني، ويسقط في سكوته عن قتل كوتلر للعامل اليهودي في بيته، ويسقط عندما يبلغ بكوتلر نفسه لأن كوتلر لم يشِ بأبيه المعارض للحزب النازي. ويأتي سقوط الأب الأكبر، حين يقتنع برونو - من مشاهدته لفيلمٍ عن المعسكرات النازية - أن المساجين مثل شمو ينعمون بحياةٍ جميلة تغريه باستكشافها.
رغم بساطة الفيلم الظاهرية، فإنه يدور على مستوياتٍ عديدة، وطبقاته كثيرة التعقيد. فالفيلم عن البراءة التي تعيش قرب الشر الذي يبتلعها في النهاية، والفيلم عن التوحش الإنساني الذي يبلغ مبلغاً يجعل الإنسان ينزع الإنسانية عن الآخرين ليعذبهم. لا توجد شخصية نازية أحادية البعد في الفيلم - باستثناء المعلم هر ليتس - ولعل ذلك ما أحنق النقاد اليهود، بينما الشخصيات اليهودية غائبة، أو أحادية البعد. فرولف - قمندان المعسكر - أبٌ وزوجٌ مُحب، وليس مجرد ضابطٍ نازي بلا روح. والملازم كوتلر النازي العدواني إنسانٌ بطريقته، فبسبب رفضه الوشاية بأبيه يُرسل إلى الجبهة، ورغم معاملته الكريهة لشمو فإنه يحب برونو - على طريقته. وإلسا - الأم - امرأة لطيفة ومُحبة، وأمٌ عظيمة. وغريتل التي تتحول من فتاة مُحبة للدمى إلى فتاة مخلصة للنازية ضحية للبروباغندا التي تشيع في البيت.
فيلم الصبي في المنامة المقلمة ليس عن المحرقة التي تقضي على اليهود فحسب، وإنما عن المحرقة التي تلتهم الأسرة النازية. فالصبي في المنامة المقلمة برونو كما هو شمو. (ما يُذكر بانتقال الأدوار في فيلم ابنة بولين الأخرى، ففي البداية تكون الأخرى ماري بولين، ثم تصبح آن بولين). والمحرقة آذت اليهود، لكنها سلبت روح ألمانيا أيضاً. والناتج، فيلمٌ يُقدم رؤية إنسانية للنازيين واليهود، ولألمانيا التي مزقتها المحرقة. كما أنه يُقدم رؤية للكيفية التي يبيع بها الإنسان روحه تدريجياً للشر بسبب ضعفه، والأكاذيب التي ينسجها لنفسه، أو ينسجها الآخرون حوله.
أداء الممثلين في الفيلم آسر، بحيث يصعُب أن ينأى المشاهد بنفسه عن الشخصيات، ويجد نفسه متعاطفاً معها إلى النهاية. كما أن الإخراج وتصوير بنوي ديلوم في غاية الجمال، حيث تصبح الكاميرا أداة للتعبير، فتحلق مع برونو حينما ينطلق ليستكشف العالم، وتدور معه مندهشة من عالم الكبار، وتخاف من الجنود معه. ثم تتحول إلى شاهدةٍ عليه حين يُنكر صديقه، وحين يتسلل ليشاهد كيف تُقدم النازية حياة الجنود. تواجه الكاميرا الأب في النهاية، وتتعاطف مع الأم. لكنها تنتهي شاهدة محايدة. أما موسيقى جيمس هورنر المصاحبة للفيلم فترافق الكاميرا منذ المشهد الأول لتحلق مع برونو في مقطوعاتٍ جميلةٍ متفردة تدخل في نسيج الفيلم، وتخدمه. الفيلمُ من إنتاجٍ بريطاني ساهمت فيه هيئة الإذاعة البريطانية BBC وشركة ميراماكس، وأنتجه ديفد هيمان، مُنتج سلسلة أفلام هاري بوتر الشهير.
الصبي في المنامة المقلمة (2008) - مارك هرمان (إخراج وسيناريو) - تمثيل: آسا بترفيلد (برونو)، جاك سكانلون (شمو)، فيرا فارميغا (الأم)، ديفد ثويلز (الأب)، آمبر بيتي (غريتل)، روبرت فريند (الملازم كوتلر) - ديفد هيمان (منتج) - بنوي ديلوم (تصوير) - جاك هورنر (موسيقى) - BBC وHeyday (إنتاج) - ميراماكس (توزيع)
شريط الصبي في المنامة المقلمة الصوتي - موسيقى: جاك هورنر - من موقع يوتيوب
مع ذلك، فالأفلام الجيدة لا تصنعها الجوائز، وفيلم الصبي في المنامة المقلمة واحدٌ من الأفلام التي تدل على أن العصر الحالي للسينما عصرٌ زاهٍ قادرٌ على إنتاج أفلامٍ جميلة مشغولة بحرفيةٍ عالية، كما أنه فيلمٌ ذو قيمة إنسانية عالية. وإن كانت ثيمة (المحرقة) التي يدور حولها عاملاً يصد عنه النقاد، أولئك الذين يؤمنون بالمحرقة كأنها دين، وأولئك الذين ينكرون حدوثها على حدٍ سواء. والواقع أن لادعاءات كلا الطرفين أساس: فمن يُنكر المحرقة - أو يراها في أحسن الأحوال ذريعة يهودية لابتزاز العالم - سيرفض الفيلم كإضافة جديدة إلى تراث الابتزاز اليهودي عن طريق الأفلام، ومن يؤمن بها يراه عرضاً لمأساة أسرةٍ نازية "يُصادر المحرقة ويحولها إلى قصةٍ عن النازية وطفلها الجميل كالدمية" كما فعلت مانولا دارجِس، ناقدة الأفلام في جريدة "نيويورك تايمز".
الفيلم مأخوذ عن رواية جيمس بوين بالعنوان ذاته، وله العمق الذي يُميز الأفلام المأخوذة عن أعمالٍ أدبية. ويعمل فيه المخرج مارك هرمان - الذي كتب السيناريو أيضاً - على تقديم فيلمٍ مشدود الأطراف، مع الاحتفاظ بكاميرا مُحلقة تتبع طفلاً صغيراً كثير الحركة. يحكي الفيلم قصة صبي في الثامنة من عُمره يُسمى برونو، يحب الاستكشاف والمغامرة ويريد أن يُصبح مستكشفاً، أبوه ضابطٌ نازي عالي الرتبة، وأمه ربة بيت لطيفة، وشقيقته الكبرى فتاة عادية تحب الدُمى. تتغير حياة برونو وأسرته حينما ينال أبوه ترقية وتنتقل أسرته إلى منطقة ريفية معزولة حيث لا أصدقاء هُناك، بل جنودٌ نازيون مخيفون. من نافذته، يرى برونو مزرعة غريبة حيث المزارعون يرتدون (مناماتٍ مقلمة) ويُخبر أمه بذلك، ليتضح أن أباه انتقل ليُدير معسكر اعتقالٍ نازي وأن المزارعين ذوي المنامات المقلمة ليسوا إلا السجناء اليهود في المعسكر. لا يُخبر أحدٌ برونو بالحقيقة، بل يتركونه يعتقد أن المعسكر البعيد مزرعة فعلاً. غير أن الصبي كثير الحركة يتسلل لاستكشاف الغابة وما وراءها ليصل إلى أسوار المعسكر، حيث يقابل صبياً في مثل سنه يُسمى شمو. ومع الوقت، يُصبح برونو وشمو صديقين من خلال أسوار السياج، ويظل برونو يعتقد أن المنامات المقلمة والأرقام التي عليها لعبة يلعبها شمو ورفاقه في المعسكر.
غير أن حياة برونو تتعقد أكثر بمعاملة الملازم كوتلر - مرافق العائلة - للعامل اليهودي في المنزل، وبإصرار معلمه وأخته وأبيه على أن اليهود هم العدو. ويزداد الأمر سوءاً حين تكتشف أمه بالصدفة سر الرائحة الكريهة التي تنتشر في المكان، فتتسمم علاقاتها بأبيه. ثم يُصدم برونو في أبيه حينما يتغاضى أبوه عن قيام الملازم كوتلر بضرب العامل اليهودي حتى الموت. يتحول اندفاع برونو الطفولي إلى خوفٍ ممن حوله، وشعورٍ بالذنب لصداقته لشمو الذي يُفترض أن يكون عدوه. حتى يجد شمو في منزله مكان العامل السابق، فيقدم إليه بعض الحلوى ببراءة ويخبره عما تقوله أخته عن اليهود ويقوله المعلم. يدخل الملازم كوتلر ويتهم شمو بسرقة الطعام، فيدافع شمو عن نفسه بأن صديقه برونو أعطاه أياه. ويُنكر برونو الخائف أن يكون قد عرف شمو من قبل، ليسقط الطفل هو الآخر في مهلكة الإنكار والذنب.
يحاول برونو الاعتذار من شمو - الذي يتعرض لضربٍ مبرح يختفي على إثره فترة طويلة - ويعودان صديقين. ثم تقرر أم برونو أنها يجب أن تعود بطفليها من المعسكر قبل أن تخسرهما، فابنتها غريتل قد بدأت تتحول إلى نازية نموذجية، وابنها برونو محاصر بالذنب والإنكار. يذهب برونو لوداع شمو، لكنه يُقرر أن يُساعده في إيجاد والده أولاً ليعوضه عن إنكاره إياه من قبل، ويرفع عن نفسه شعوره بالذنب.
الفيلم مبني على التفاصيل الصغيرة في علاقة برونو بشمو، والشر الذي يدور في المكان الجميل والهادئ ينكشف تدريجياً من دون أن يُدركه الطفل الذي يُحب الاستكشاف، غير أن براءته لا تحميه من الشعور بالخوف والذنب. والأسرة النازية في الفيلم أسرة عادية ومحبة، لا يتميز أيٌ من أفرادها بأي شرٍ ظاهر. غير أن الأب يسقط في قبوله للممارسات النازية وتعطيله لضميره بدعوى أن هذا واجبه الوطني، ويسقط في سكوته عن قتل كوتلر للعامل اليهودي في بيته، ويسقط عندما يبلغ بكوتلر نفسه لأن كوتلر لم يشِ بأبيه المعارض للحزب النازي. ويأتي سقوط الأب الأكبر، حين يقتنع برونو - من مشاهدته لفيلمٍ عن المعسكرات النازية - أن المساجين مثل شمو ينعمون بحياةٍ جميلة تغريه باستكشافها.
رغم بساطة الفيلم الظاهرية، فإنه يدور على مستوياتٍ عديدة، وطبقاته كثيرة التعقيد. فالفيلم عن البراءة التي تعيش قرب الشر الذي يبتلعها في النهاية، والفيلم عن التوحش الإنساني الذي يبلغ مبلغاً يجعل الإنسان ينزع الإنسانية عن الآخرين ليعذبهم. لا توجد شخصية نازية أحادية البعد في الفيلم - باستثناء المعلم هر ليتس - ولعل ذلك ما أحنق النقاد اليهود، بينما الشخصيات اليهودية غائبة، أو أحادية البعد. فرولف - قمندان المعسكر - أبٌ وزوجٌ مُحب، وليس مجرد ضابطٍ نازي بلا روح. والملازم كوتلر النازي العدواني إنسانٌ بطريقته، فبسبب رفضه الوشاية بأبيه يُرسل إلى الجبهة، ورغم معاملته الكريهة لشمو فإنه يحب برونو - على طريقته. وإلسا - الأم - امرأة لطيفة ومُحبة، وأمٌ عظيمة. وغريتل التي تتحول من فتاة مُحبة للدمى إلى فتاة مخلصة للنازية ضحية للبروباغندا التي تشيع في البيت.
فيلم الصبي في المنامة المقلمة ليس عن المحرقة التي تقضي على اليهود فحسب، وإنما عن المحرقة التي تلتهم الأسرة النازية. فالصبي في المنامة المقلمة برونو كما هو شمو. (ما يُذكر بانتقال الأدوار في فيلم ابنة بولين الأخرى، ففي البداية تكون الأخرى ماري بولين، ثم تصبح آن بولين). والمحرقة آذت اليهود، لكنها سلبت روح ألمانيا أيضاً. والناتج، فيلمٌ يُقدم رؤية إنسانية للنازيين واليهود، ولألمانيا التي مزقتها المحرقة. كما أنه يُقدم رؤية للكيفية التي يبيع بها الإنسان روحه تدريجياً للشر بسبب ضعفه، والأكاذيب التي ينسجها لنفسه، أو ينسجها الآخرون حوله.
أداء الممثلين في الفيلم آسر، بحيث يصعُب أن ينأى المشاهد بنفسه عن الشخصيات، ويجد نفسه متعاطفاً معها إلى النهاية. كما أن الإخراج وتصوير بنوي ديلوم في غاية الجمال، حيث تصبح الكاميرا أداة للتعبير، فتحلق مع برونو حينما ينطلق ليستكشف العالم، وتدور معه مندهشة من عالم الكبار، وتخاف من الجنود معه. ثم تتحول إلى شاهدةٍ عليه حين يُنكر صديقه، وحين يتسلل ليشاهد كيف تُقدم النازية حياة الجنود. تواجه الكاميرا الأب في النهاية، وتتعاطف مع الأم. لكنها تنتهي شاهدة محايدة. أما موسيقى جيمس هورنر المصاحبة للفيلم فترافق الكاميرا منذ المشهد الأول لتحلق مع برونو في مقطوعاتٍ جميلةٍ متفردة تدخل في نسيج الفيلم، وتخدمه. الفيلمُ من إنتاجٍ بريطاني ساهمت فيه هيئة الإذاعة البريطانية BBC وشركة ميراماكس، وأنتجه ديفد هيمان، مُنتج سلسلة أفلام هاري بوتر الشهير.
الصبي في المنامة المقلمة (2008) - مارك هرمان (إخراج وسيناريو) - تمثيل: آسا بترفيلد (برونو)، جاك سكانلون (شمو)، فيرا فارميغا (الأم)، ديفد ثويلز (الأب)، آمبر بيتي (غريتل)، روبرت فريند (الملازم كوتلر) - ديفد هيمان (منتج) - بنوي ديلوم (تصوير) - جاك هورنر (موسيقى) - BBC وHeyday (إنتاج) - ميراماكس (توزيع)
شريط الصبي في المنامة المقلمة الصوتي - موسيقى: جاك هورنر - من موقع يوتيوب
سعيد بعودتك بعد كل هذا الغياب. وممتنّ كثيرا على العرض الرائع الذي قرأته هنا عن الفيلم.
ردحذفأتصوّر أن الفيلم يختلف كثيرا عن أفلام المحرقة التي تظهر عادة الجانب المظلم من الحادثة، أي أعمال القتل والتعذيب والترويع التي تعرّض لها اليهود في الحرب العالمية الثانية. وربّما لهذا السبب لم يرق الفيلم لذلك الصنف من النقاد الذين دأبوا على محاولة إقناع الآخرين أن أي عمل سينمائي عن الهولوكوست لا يكون مكتملا ولا ناجحا ما لم يكن مملوءا بمشاهد الحرق والذبح والتنكيل وما لم يتضمّن رسائل سياسية أو دعائية تؤكّد مظلومية اليهود ومن ثم تبرير ما يفعله اليهود بحقّ غيرهم.
هذا الفيلم ينحو منحنى مختلفا لأنه يحكي عن قصّة إنسانية ويصور الآخر أو ما يُفترض انه العدو تصويرا واقعيا وهذا برأيي ينسجم مع الحالة الإنسانية، فالإنسان في النهاية هو مزيج من الخير والشر وليس هناك في هذا العالم إنسان محض شرّير أو إنسان خيّر بالمطلق. وطبعا السينما الغربية في غالبيتها لا ترى هذا التوصيف منطبقا على النازية فالنازيون كلهم وبالمطلق كائنات شرّيرة والشرّ ظاهرة تشمل الكلّ ولا تستثني حتى نساءهم وأطفالهم. ومرّة أخرى هذا لا يروق لماكينة الدعاية اليهودية ولا للمتعاطفين بشكل أعمى مع اليهود في الغرب.
من خلال عرضك المشوّق للفيلم استنتجت انه لا يحاول اللعب على وتر المشاعر الإنسانية ابتغاء خدمة غاية أو اجندة سياسية أو إيديولوجية وإنما يحاول إخراج قصّة المحرقة من نسقها الفانتازي والإيديولوجي الذي أصبح مبتذلا ليركّز على الغوص في الطبيعة الإنسانية المركّبة وما يعتريها من مشاعر وانفعالات متضاربة ومتباينة.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر أتساءل لماذا لا ينتج العرب فيلما مماثلا عن أحداث غزّة لان ما حدث هناك مؤخّرا مليء فعلا بكل ما يطمح إليه كتاب ومخرجو السينما من عناصر الإثارة والمفارقة، فما جرى هناك كان مثالا آخر ساطعا عن توحّش الإنسان و"هولوكوست" حقيقيا رآه الناس رأي العين على شاشات التلفزيون ولم يكن ترجمة لرواية متخيّلة أو نقلا لروايات متناقضة أدلى بها جماعة من الناس. مع العلم أنني هنا لا انفي حصول المحرقة كما لا افرح لموت أيّ إنسان ظلما كائنا ما كانت ديانته أو هويّته.
على فكرة، الموسيقى رائعة كما هي الحال مع موسيقى جاك هورنر عموما.
تحياتي لك وتسلم يا عزيزي على القراءة المعمّقة والجميلة كعادتك.
بروميثيوس
http://prom2000.blogspot.com
تُسعدني عودتك وتعليقاتك اللماحة والمفيدة، ومناقشاتك التي تغني المواضيع بالأفكار التي تولدها، يا بروميثيوس.
ردحذفأتمنى أن تُشاهد الفيلم قريباً لأعرف رأيك فيه من ناحية فنية وفكرية. وذكرني حديثك عن تضمين أفلام المحرقة "رسائل سياسية أو دعائية تؤكّد مظلومية اليهود ومن ثم تبرير ما يفعله اليهود بحقّ غيرهم." بفيلم [قائمة شندلر] الشهير الذي ينتهي بالإشارة إلى ضريح أوسكار شندلر في القدس، وكأن العذاب اليهودي الذي قدمه الفيلم الضريبة التي دفعها اليهود للوصول إلى جنتهم الموعودة فلسطين، من دون أدنى إشارة إلى العرب الذين يعيشون الآن الشتات الذي يُفترض أن اليهود قد عاشوه من قبل. ويغض الضمير الأوروبي والعالمي بصره عن واقع الحال اليوم لأنهم يعتقدون أن هذه ضريبة الخطيئة الأوروبية في حق اليهود. ما يجعل التعاطف مع المحرقة أمراً في غاية الصعوبة، فمن منطلق إنساني شامل، يتعاطف المرء مع الوحشية التي تعرض لها اليهود والاشتراكيون وكل من اعتبرته النازية غير مرغوبٍ فيه في جنتها، إلا أن المتعاطف - مع اليهود خصوصاً - لا يستطيع سوى أن يشعر بغضاضة شديدة: ماذا عن شعبي أنا؟ لماذا يدفع شعبي ثمن المحرقة ولم يكن له فيها ناقة ولا جمل؟
يمتاز فيلم [الصبي في المنامة المقلمة] بأنه لا يطرح هذه الرسائل التي تجعل المتلقي عدائياً إزاء الفيلم - وأصدقك القول هنا بأنني لا أستطيع حتى اليوم تقبل فيلم [قائمة شندلر] على أنه فيلمٌ عظيمٌ حتى اليوم، بل إنني أراه فيلماً كفيلم [انتصار الإرادة] النازي - وبأنه لا يحاول إظهار اليهودي على أنه الضحية الوحيدة. ميزة الفيلم في الصورة المنذرة للنازية التي فقدت روحها، فالفيلم مأساة نازية بقدر ما هو مأساة يهودية، وقد يعتقد البعض أن في نكبة العائلة النازية نوعاً من العدالة السماوية، إلا أن الفيلم لا يحصر المسألة بالقصاص، وإنما يُعبر عن السقوط الإنساني التام. كثيرون هُم من ماثلوا بين النازية ومفستوفلس - شيطان فاوست - غير أن النازية - في الفيلم - فاوست الذي يُعاني فجيعة فقد روحه بعد أن باعها للشيطان.
ما ذكرته عن أحداث غزة يدور في ذهني منذ أن بدأت أتعرف على أفلام المحرقة، لكن، ليس عن أحداث غزة تحديداً، وإنما عن وقائع مختلفة من القهر الصهيوني للشعب العربي. ما نحتاجه تيارٌ آخر لأفلام المحرقة، أفلام المحرقة العربية. نحنُ بحاجة، لا إلى فيلمٍ أو اثنين، ولكن إلى نوعٍ سينمائي كامل. ينطق بالإنكليزية، ويخاطب الآخر. فليس كل اليهود يتحدثون الإنكليزية، ومع ذلك تصدر أفلامهم بهذه اللغة. نحتاج إلى دعاية كالدعاية التي أحدثها ستيفن سبيلبرغ عندما رفض قبول أجره عن فيلمه الشهير، قائلاً إن تلقي أجرٍ عن هذا الفيلم شبيه بقبض دية الدم اليهودي.
حصار كنيسة المهد يملك كل مقومات الفيلم السينمائي - ليس كقصة فحسب، وإنما كموقع تصوير كذلك. ماذا عن الأطفال الذين يفقدون أهلهم؟ البلدة القديمة؟ عرب إسرائيل؟
الكثير والكثير مما يُمكن الكتابة عنه. وهذا يُذكرني بأن أفلام المحرقة مقتبسة عن أعمال أدبية في الغالب، فأين الجدل الفكري الذي يولد أعمالاً على هذا العمق؟
مشكلة القضية اليوم أنها قد صودرت من قبل تُجار الحروب، وبعد رحيل إدوارد سعيد لم يعد هُناك من له ذات الثقل الفكري ليقدم القضية في سياقها الفكري والتاريخي الذي ينبغي تجذيره لتُصبح كالمحرقة. نحن عالقون بين شقي الرحى: الاقتتال الفلسطيني الداخلي، والمد الديني المتطرف - الذي تدعمه حركاتٌ فلسطينية كثيرة - الذي يُغرق العالم العربي، ويأتي على كل نسقٍ فكري عالمي يحاول أن يضع القضية العربية كما هي، حقيقة.
قالت مثقفة ألمانية ذات مرة إن النازية كانت نعمة على ألمانيا، فألمانيا كانت الشرير، ولم يكن لديها أحدٌ لتلومه، والجدل الذي فجرته النازية، مع عقدة الذنب الألمانية الشهيرة ولدا مناخاً فكرياً خصباً وحافلاً بالسجال الذي حرر الألمان من وهم أحادية الرؤية، وامتلاك جهة ما للحقيقة كاملة، والقول بوجود جماعة مقدسة فوق النقد. (ومن هذا السجال جاءت أعمالٌ كرواية [القارئ]) ثم انتقل الجدل إلى أوروبا وأمريكا، وصار منبعاً للكثير من الأعمال الفنية التي تصوغ، لا الذائقة الجمالية والفنية لشعوبٍ كاملة فحسب، وإنما أيضاً ضمير هذه الشعوب.
(وبهذه المناسبة، فقد كتب أستاذٌ جامعي كُتيباً في جدلية الأخلاق مستنداً على فيلم [الصبي في المنامة المقلمة]، حيث يعرض مشاهد من الفيلم، ويطرح أسئلة أخلاقية شديدة الوعورة على طُلابه، ويحلل استجاباتهم - واستجاباتنا - التي قد تبدو أخلاقية، لكنها تخفي تحتها كثيراً من اللا أخلاقية، أو الأخلاقية المعكوسة.)
شكراً لك على ردك الجميل، وحضورك المتألق دائماً.
تحياتي القلبية..
شكرا لك يا عزيزي على كل هذه الإشارات المضيئة والرائعة.
ردحذفواثني على ما ذكرته عن حصار كنيسة المهد الذي يمكن أن يكون موضوعا لفيلم يحدث جدلا ويلقي الضوء على معاناة العرب وجرائم الصهاينة بحق الفلسطينيين، بالنظر إلى رمزية الكنيسة والى حقيقة أن من سيتوجه إليهم الفيلم بالدرجة الأولى هم الجمهور الغربي المسيحي في معظمه.
لفت انتباهي أيضا إشارتك الموفقة إلى ادوارد سعيد. صحيح، غيابه اثر كثيرا على قضية فلسطين بفكره وثقافته ونظرته الإنسانية الثاقبة. ولا أرى أن هناك من يمكن أن يملأ مكانه الذي ظلّ شاغرا منذ غيابه.
على فكرة، لم أشاهد قائمة شندلر ولم اكن حريصا على مشاهدته بعد ان علمت ان مخرجه هو سبيلبيرغ وان الفيلم مجرّد حلقة أخرى في سلسلة الهولوكوست ومظلومية اليهود التي أصبحت مثل النكتة السخيفة، باعتبار ما فعلوه وما يفعلونه بالفلسطينيين.
تحياتي وخالص مودتي لك.
بروميثيوس
الشكر دائماَ لك يا عزيزي بروميثيوس على إضاءاتك الجميلة والمستمرة التي تُغني مواضيع النقاش دوماً.
ردحذفوأضيف إلى ما ذكرتَه عن رمزية كنيسة المهد أنها وكنيسة القيامة من أهم المعالم المسيحية على الإطلاق، فقيمتها الدينية تفوق قيمة كنائس روما والفاتيكان والإسكندرية مجتمعة، ذلك أن كنيسة المهد ترتبط بمهد السيد المسيح عليه السلام، وكنيسة القيامة ترتبط بقيامته من بين الأموات. إن المعنى الرمزي للكنيستين يُمكن أن يُحول ليُصبح رمزاُ إنسانياً عالمياً. ما يلفت النظر أيضاً في حصار كنيسة المهد أن المستجيرين بها مسلمون، فأي فيلمٍ يتناول الحصار، ينبغي أن يستثمر فكرة التوحش الصهيوني الذي لا يعترف بمقدسات (الأُمم) الأخرى، ويتوحش ضد المسلمين والمسيحيين – الذين هم المُستهدف الأكبر من عقيدة الابتزاز اليهودية.
أعتقد أنه تقع على عاتقنا جميعاُ مسؤولية إحياء تراث الراحل إدوارد سعيد، فالفكرة لن تموت إذا بقي من يُحافظ عليها. مشكلتنا أن القضية الفلسطينية مُحتكرة من قبل أشخاصٍ مُعينين حشروا الحديث عن القضية في كليشيهات معينة، بينما نحتاج إلى مثقفين أصحاب فكرٍ حُرٍ في كُل المجالات. إن بعضاً من كبار دعاة إسرائيل في الغرب ملحدون، أما هُنا، فلو قرر مفكر ملحد مناصرة القضية الفلسطينية لوجدنا أول من نبيح دمه!
مشكلتنا مع القضية الفلسطينية تذكرني بمشكلتنا مع ويكيبيديا العربية. نحن نحاول إغناء محتوى ويكبيديا العربية بالمقالات المختلفة، لكن ويكيبيديا العربية نبت شيطاني، فليس هُناك امتداد للمحتوى العربي على شبكة الإنترنت يدعم ويكيبيديا العربية، لذا تجد أن معظم الروابط من النص العربي بالإنكليزية، وتجد معظم المراجع بالإنكليزية إلا فيما ندر. إن محتوى الويب العربي ركيك للغاية، ولا يُمكنه أن يدعم ويكيبيديا العربية، ويمنحها الثقل والعمق الثقافي المطلوب. الأمر نفسه بالنسبة للقضية الفلسطينية، فاحتكارها من قبل فئة معينة قد جعلها مفرغة من المعنى كأنها نبتٌ شيطاني. ينبغي أن يكون هُناك امتداد واسع للمثقفين العرب في العالمين العربي والغربي، بسقف حرية عالٍ يسمح للجميع بتناول القضية من منظورات مختلفة، عندها سيكون بإمكاننا غرس ثقافة محرقة فلسطينية في أذهان أبنائنا، وتنبيه العالم إلى أن العرب ليسوا مجموعة إرهابيين. إن العربي يحتاج لأن يكون فاعلاً مؤثراً، لا لأن يكون آخر، وهذا لن يتحقق من دون أن يتواجد العرب في كل مجالٍ معرفي وثقافي.
العربي دوماً آخر، فحتى في رواية غابرييل غارسيا ماركيز [سرد وقائع موت معلن]، يحضر العرب كآخر ناءٍ وغريب، رغم أن بطل الرواية، سانتياغو نصار، عربي. والجريمة ارتُكبت ضد عربي. ماذا عن [الخيميائي] لباولو كويلهو؟ في كل الأحوال نحن آخر غرائبي، ولأجل أن نصبح قادرين على التأثير في ضمير العالم، يجب أن نصير جزءاً من نسيج هذا العالم، لا بقايا زمنٍ بائد كالهنود الحمر.
بخصوص فيلم [قائمة شندلر]، لم تخسر الكثير بعدم مشاهدته. الفيلم دعاية سيئة بالفعل، وكما قلت أنت: نكتة سخيفة! العنصر الوحيد الذي يُمكن ابتلاعه في الفيلم ريف فاينز الذي أدى دور ضابط معسكر الاعتقال النازي آمون غوث. مع ذلك، علينا أن نتعلم أصول الدعاية لقضايانا من سبيبلبرغ وفناني المحرقة.
شكري الجزيل لك، وأمنياتي بعامٍ جديد سعيد.