الحرب العالمية الثانية
أُنتجت أفلامٌ كثيرة كانت الحرب العالمية الثانية في خلفية أحداثها، وكثيرٌ منها يستحق المُشاهدة، غير أنني أتذكر اثنين منها بشكلٍ خاص: المريض الإنكليزي والكفارة. كِلا الفيلمين مُكيفٌ عن روايةٍ بنفس الاسم. المريض الإنكليزي عن رواية مايكل أونداتجي الحاصلة على جائزة بوكر، والكفارة عن رواية إيوان مكيوان التي يعتبرها البعض أفضل رواياته قاطبة. لا يتوقف التشابه بين الفيلمين عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى ثيمة الحب الذي لا يتحقق الموجودة في كلا الفيلمين، وموقع الحدث الذي لا يتعلق بالجنود والقتال بقدر ما يتعلق بالأفراد الذين اعترضت الحرب حيواتهم. تشابه آخر بين الفيلمين يكمن في اقتحام الحرب للحصون البعيدة التي تحتمي بها الشخصيات، الصحراء في المريض الإنكليزي، ودارة آل تالس في الكفارة.
غير التشابه في الثيمات والمُعالجات، يتشابه الفيلمان في عدد الترشيحات لجوائز الأوسكار، وتقريباً، فقد ترشح الفيلمان في نفس الفئات. يختلف الفيلمان فقط في أن عدد الجوائز التي فاز بها المريض الإنكليزي تزيد عن عدد تلك التي فاز بها الكفارة.
على أن تشابه الفيلمين لا يُقلل من قيمة أيٍ منهما الفنية كعملٍ مستقلٍ، فخصائص الفيلمين الأسلوبية مميزة، ومساراتهما الحكائية مختلفة، كما أن المعمار الفيلمي يختلف في الفيلمين الذين يقدمان قراءتين مختلفتين للحرب العالمية الثانية تشتركان في عرضهما للمعضلة الأخلاقية التي تعاني منها شخصيات وجدت نفسها في خضم حربٍ طاحنةٍ.
المريض الإنكليزي
المريض الإنكليزي The English Patient واحدٌ من أكثر الأفلام التي حُط من قدرها في تاريخ السينما، ومع ذلك نالت ثناء نقدياً ودخلت سجل الأوسكار بعددٍ كبيرٍ من الجوائز. أقدم ذكرياتي عن هذا الفيلم تعود إلى الموجة الساخرة التي اجتاحت برامج التلفاز والأفلام التي سخرت من المريض الإنكليزي، وفي طفولتي اعتقدت أن المريض الإنكليزي فيلمٌ عن شخصٍ مريضٍ بمرضٍ لا علاج له. أخيراً شاهدت الفيلم ووجدته مكتمل العناصر الفنية، بحيث كانت السخريات الكثيرة منه مجحفة.
يدور الفيلم في الصحراء العربية خلال الحرب العالمية الثانية. عقدته الأساسية علاقة حبٍ تنشأ بين كاثرين كليفتون المستكشفة البريطانية وزوجة أحد عملاء المخابرات البريطانية وبين زميلها في الحملة الجغرافية لاستكشاف الصحراء المغربية الكونت المجري لازلو دو ألماشي. تنشأ علاقة الحُب في الصحراء، وتعيش كاثرين علاقة محرمة مع ألماشي في القاهرة أثناء غياب زوجها جيوفري الذي يؤدي مُهماتٍ للمخابرات البريطانية. تنفجر الحرب وتأخذ المجر جانب ألمانيا في دول المحور، فيصبح ألماشي العدو. تستمر ثيمة العدو في السيطرة على علاقة ألماشي برفاقه السابقين - وكاثرين - حتى تصل ذروتها في مشهد اعتقاله من قبل من جاء يطلب منهم العون، ثم خيانته الكلية.
تُروى قصة كاثرين وألماشي عن طريق استعادة تشبه الحلم، فعقدة الفيلم تبدأ بقيام بعض القبائل الصحراوية بتسليم طيارٍ متفحم للقوات البريطانية التي تفشل في معرفة أي شيء عن هويته، فتلقبه بالمريض الإنكليزي وتُسلمه للأطباء الذين يأخذونه معهم في رحلتهم عائدين إلى بريطانيا. تقرر ممرضة كندية اسمها هانا البقاء معه في ديرٍ إيطالي يتعرض للقصف بعد أن عانت خسارة المقربين إليها، وبعد أن أصبح المريض الإنكليزي عبئاً على الفريق الطبي. في الدير الإيطالي ينضم إليهم عميل مخابرات كندي يتعرف على ألماشي من كتاب التواريخ لهيردوت الذي يحمله معه دائماً، وينوي قتله لأنه فقد أصابعه بسبب تواطؤ ألماشي مع القوات الألمانية. يظهر أن ألماشي عميلٌ ألماني مطلوب من قبل الحلفاء، لكن ألماشي لا يؤكد شيئاً في استعادته لقصته مع كاثرين. ينضم إلى المقيمين في الدير ضابط سيخي من وحدة نزع الألغام يقع في حب هانا، ويعقد صحبة مع المريض الإنكليزي والعميل الكندي لتتشابك قصص الأربعة وتقدم خلفية إنسانية غنية لأحداث الحرب العالمية الثانية. في النهاية، تتفرق الصحبة بعد أن تحرر الجميع من عبء الحرب.
إخراج أنتوني منغيلا - الذي كتب السيناريو كذلك - للفيلم رائع، فجميع عناصره متآلفة في نسيج جميل لتخلق صورة مليئة بالتفاصيل الدقيقة والحية للحرب العالمية الثانية وتدخلاتها القدرية في حياة البشر، ووقوع أشخاصٍ عاديين ضحايا لمؤامرات دولية لا علاقة لهم بها، ومن ثم محاولة التعافي من حالة الدمار الإنساني التي سببتها الحرب. لا تظهر مشاهد الحرب الفعلية من إطلاق رصاصٍ وقصف بالقنابل إلا في بداية الفيلم، ولا تظهر الحشود العسكرية إلا في لقطاتٍ محدودة، غير أن الحرب حاضرة في كُل مكان حضوراً كُلياً. ولا يكاد يُفلت من الحرب غير الصحراء الساكنة مترامية الأطراف، قبل أن تصبح الصحراء نفسها مسرحاً للحرب والخراب الذي يُصيب النفوس.
في فيلم المريض الإنكليزي تضافرت عوامل الإخراج والتصوير والتمثيل لتُنتج فيلماً مُكتمل العناصر الفنية. فريق التمثيل قدم شخصياتٍ لا تُنسى من لحمٍ ودم، وقدم التصوير السينمائي مشهدية بصرية غنية تُصبح فيها الصحراء وزخرفة معمار القاهرة القديمة أجزاء من صورة بصرية شديدة الغنى في الشكل وفي الرموز الجمالية. الكاميرا في فيلم المريض الإنكليزي لا تُثرثر أبداً، بل تأخذ موقفاً من السرد وتدخل في نسيج الفيلم.
يظهر العرب في الفيلم في خلفيات باهتة وقليلة التأثير، فهم شخصيات شبحية، إما تخدم الأوروبيين، أو تُنقذ واحداً منهم لأسبابٍ غير مفهومة. تأثير الحرب على العرب لا يظهر، لأنهم آخر خارج المُعادلة، لكن الفيلم لا يروي قصة عربية، بل يروي قصة الضمير الأوروبي الذي مزقته الحرب العالمية الثانية، بعد أن أثقل تاريخه الاستعماري كاهله.
المريض الإنكليزي (1996) - أنتوني منغيلا (سيناريو وإخراج) - تمثيل: ريف فاينز (لازلو دو ألماشي)، كريستين سكوت توماس (كاثرين كليفتون)، جولييت بينوش (هانا) - ميراماكس (إنتاج)
الكفارة
الحُب أيضاً محورٌ في فيلم الكفارة Atonement، لكن الفيلم الذي يرصد تجربة الحرب العالمية الثانية المروعة في إنكلترا يدور حول ثيمة أخرى أكثر سيطرة هي ثيمة النُضج. الطفولة والانتقال إلى مرحلة المُراهقة أمرٌ صعب، ولينضج الإنسان لا بُد من كفارةٍ ينبغي دفعها. كذلك، فإن بعض الأخطاء المُرتكبة في تشوش الطفولة مُدمرة إلى الحد الذي يجعلها تتطلب كفارة تستمر حتى نهاية العمر.
تدور أحداث فيلم الكفارة خلال الحرب العالمية الثانية، وتكشف تأثيراً يمتد حتى زمنٍ قريب. ويُروى بطريقتين: واحدة مُحايدة تروي الأحداث كما هي، والأخرى تروي الأحداث ذاتها من وجهة نظر فتاة عمرها ثلاثة عشر عاماً هي براوني تالس التي ترى العالم – على أعتاب الحرب العالمية الثانية – مشوشاً وغامضاً، وتحاول في هذا التشوش تفسير ما تراه أمامها، لكن تفسيراتها تسبب تعقيداتٍ كثيرة.
شقيقة براوني الكُبرى، سيسليا، تحب روبي ترنر ابن مدبرة منزلهم الذي يطلب من براوني توصيل رسالة إلى أختها. يُرسل روبي بالخطأ رسالة تحتوي على كلماتٍ بذيئة تقرؤها براوني وتُقرر مع ابنة عمها لولا أن روبي مهووس، وأنه لا شك سيؤذي سيسيليا. تُسيء براوني تفسيرٌ أمورٍ أخرى تجري بين شقيقتها وبين روبي. وحين يُكتشف أن لولا قد اغتُصِبت في حديقة دار تالِس، تتهم براوني – الشاهدة الوحيدة – روبي وتُكرر اتهامها، فيُقبض عليه ويُرسل إلى الجبهة في فرنسا.
تنفصل سيسليا عن أسرتها التي لم تصدق براءة روبي، وتتصدع الصلات العائلية التي تربط آل تالس. بعد خمس سنوات، تتطوع براوني كممرضة لتمرض الجنود الجرحى، وتحاول التكفير عن جزء من ذنبها تجاه روبي وسيسليا، بينما يتبادل الاثنان الرسائل على خلفية المعارك التي يخوضها روبي في الجبهة.
آخر الفيلم تظهر براوني تالس روائية في السبعين من عمرها، ويُجري معا مذيع – المخرج أنتوني منغيلا في آخر ظهور له قبل وفاته – مقابلة ليسألها فيها عن عملها الأخير الكفارة، فتخبره بأنها روت في روايتها الأخيرة قصتها مع شقيقتها وحبيب شقيقتها في محاولة للتكفير عن الذنب الذي ارتكتبه بحقهما منذ ما يقرب من ستين عاماً.
يُصور المُخرج جو رايت فيلم الكفارة من وجهتي نظر مختلفتين، هما وجهة نظر براوني وما حدث حقاً، وفي معظم الفيلم تتداخل وجهتا النظر، فلا يعود مُمكناً التفريق بينما حدث حقاً، وبين ما تعتقد براوني أنه قد حدث، بالإضافة إلى تداخل مشاهد الحرب العالمية خصوصاً موقعة دنكرك حيث يبدو أن العالم كُله قد تداخل بحيث صار مُتعذراً معرفة ما حدث حقاً، أو لماذا حدث.
تُرافق أحداث الفيلم موسيقى داريو مارينيلي – الحائز على جائزة أوسكار أفضل موسيقى أصلية (2008) – لتزيد من عُمق الفيلم، فمارينيلي يوظف صوت الآلة الكاتبة الذي يُشكل خلفية أحداث الفيلم المفصلية ويُحوله إلى موسيقى سريعة خاطفة متوترة، كأنها ضربات القدر تكتب حيوات الشخصيات. بعيداً عن الآلة الكاتبة التي تكتب القدر، تُرافق موسيقى مارينيلي المعنونة "مرثاة دنكرك" مشاهد وصول جنود الحلفاء إلى دنكرك، وتُضيف إلى الشعور الحلمي الذي يحيط بها. مشاهد الجنود في دنكرك مرثاة لعبثية الحرب وعدم يقينية الحياة في ظلها. ومع تقدم أحداث الفيلم، يتضح الدور الهام الذي تلعبه مقطوعات داريو مارينيلي في الأحداث كأداة فيلمية تُستخدم لتحقيق الأثر الدرامي المطلوب، كالحوار والحدث والصورة.
تصوير شيموس مكغارفي يدخل ضمن نسيج الفيلم ليُكمل بقية عناصره الفنية، فالكاميرا عنصرٌ فيلمي رئيسي تُشارك في إظهار اختلاط الحقائق وتشوش وجهات النظر. تقف الكاميرا أحياناً موقفاً مُحايداً لتُشاهد من بعيد، لكنها في طريقة تقديمها للمشهد تأخذ دوماً موقع الرائي، ويتحول موقع الرائي إلى موقع المُتهِم في المشهد الذي تكشف فيه براوني الحقيقة بشأن المُعتدي الحقيقي على ابنة عمها، إذ تفاجئها الكاميرا كمن قُبض عليه يرتكب ذنباً.
الكفارة التي أمضت براوني تالس حياتها تدفعها، شبيهة بكفارة أوروبا تجاه الحرب العالمية الثانية التي أعادت تشكيل الشخصية الأوروبية من جديد. ومحاولتها تلطيف الوقائع التي عاشتها لتجعل الذكرى أكثر قابلية للاحتمال شبيهٌ بمحاولات إعادة رواية تاريخ الحرب بطريقة تستبعد عبثيتها وهمجيتها في محاولة لحمل ما تبقى من الضمير الإنساني على السُبات.
الكفارة (2007) – جو رايت (إخراج) – كريستوفر همبتون (سيناريو) – داريو مارينيلي (موسيقى) – تمثيل: سيرشيه رونن (براوني في سن الثالثة عشرة)، كيرا نايتلي (سيسليا) ، جيمس مكفوي (روبي) – يونيفرسال (إنتاج)
تدوينة سابقة عن فيلم الكفارة.
غير التشابه في الثيمات والمُعالجات، يتشابه الفيلمان في عدد الترشيحات لجوائز الأوسكار، وتقريباً، فقد ترشح الفيلمان في نفس الفئات. يختلف الفيلمان فقط في أن عدد الجوائز التي فاز بها المريض الإنكليزي تزيد عن عدد تلك التي فاز بها الكفارة.
على أن تشابه الفيلمين لا يُقلل من قيمة أيٍ منهما الفنية كعملٍ مستقلٍ، فخصائص الفيلمين الأسلوبية مميزة، ومساراتهما الحكائية مختلفة، كما أن المعمار الفيلمي يختلف في الفيلمين الذين يقدمان قراءتين مختلفتين للحرب العالمية الثانية تشتركان في عرضهما للمعضلة الأخلاقية التي تعاني منها شخصيات وجدت نفسها في خضم حربٍ طاحنةٍ.
المريض الإنكليزي
المريض الإنكليزي The English Patient واحدٌ من أكثر الأفلام التي حُط من قدرها في تاريخ السينما، ومع ذلك نالت ثناء نقدياً ودخلت سجل الأوسكار بعددٍ كبيرٍ من الجوائز. أقدم ذكرياتي عن هذا الفيلم تعود إلى الموجة الساخرة التي اجتاحت برامج التلفاز والأفلام التي سخرت من المريض الإنكليزي، وفي طفولتي اعتقدت أن المريض الإنكليزي فيلمٌ عن شخصٍ مريضٍ بمرضٍ لا علاج له. أخيراً شاهدت الفيلم ووجدته مكتمل العناصر الفنية، بحيث كانت السخريات الكثيرة منه مجحفة.
يدور الفيلم في الصحراء العربية خلال الحرب العالمية الثانية. عقدته الأساسية علاقة حبٍ تنشأ بين كاثرين كليفتون المستكشفة البريطانية وزوجة أحد عملاء المخابرات البريطانية وبين زميلها في الحملة الجغرافية لاستكشاف الصحراء المغربية الكونت المجري لازلو دو ألماشي. تنشأ علاقة الحُب في الصحراء، وتعيش كاثرين علاقة محرمة مع ألماشي في القاهرة أثناء غياب زوجها جيوفري الذي يؤدي مُهماتٍ للمخابرات البريطانية. تنفجر الحرب وتأخذ المجر جانب ألمانيا في دول المحور، فيصبح ألماشي العدو. تستمر ثيمة العدو في السيطرة على علاقة ألماشي برفاقه السابقين - وكاثرين - حتى تصل ذروتها في مشهد اعتقاله من قبل من جاء يطلب منهم العون، ثم خيانته الكلية.
تُروى قصة كاثرين وألماشي عن طريق استعادة تشبه الحلم، فعقدة الفيلم تبدأ بقيام بعض القبائل الصحراوية بتسليم طيارٍ متفحم للقوات البريطانية التي تفشل في معرفة أي شيء عن هويته، فتلقبه بالمريض الإنكليزي وتُسلمه للأطباء الذين يأخذونه معهم في رحلتهم عائدين إلى بريطانيا. تقرر ممرضة كندية اسمها هانا البقاء معه في ديرٍ إيطالي يتعرض للقصف بعد أن عانت خسارة المقربين إليها، وبعد أن أصبح المريض الإنكليزي عبئاً على الفريق الطبي. في الدير الإيطالي ينضم إليهم عميل مخابرات كندي يتعرف على ألماشي من كتاب التواريخ لهيردوت الذي يحمله معه دائماً، وينوي قتله لأنه فقد أصابعه بسبب تواطؤ ألماشي مع القوات الألمانية. يظهر أن ألماشي عميلٌ ألماني مطلوب من قبل الحلفاء، لكن ألماشي لا يؤكد شيئاً في استعادته لقصته مع كاثرين. ينضم إلى المقيمين في الدير ضابط سيخي من وحدة نزع الألغام يقع في حب هانا، ويعقد صحبة مع المريض الإنكليزي والعميل الكندي لتتشابك قصص الأربعة وتقدم خلفية إنسانية غنية لأحداث الحرب العالمية الثانية. في النهاية، تتفرق الصحبة بعد أن تحرر الجميع من عبء الحرب.
إخراج أنتوني منغيلا - الذي كتب السيناريو كذلك - للفيلم رائع، فجميع عناصره متآلفة في نسيج جميل لتخلق صورة مليئة بالتفاصيل الدقيقة والحية للحرب العالمية الثانية وتدخلاتها القدرية في حياة البشر، ووقوع أشخاصٍ عاديين ضحايا لمؤامرات دولية لا علاقة لهم بها، ومن ثم محاولة التعافي من حالة الدمار الإنساني التي سببتها الحرب. لا تظهر مشاهد الحرب الفعلية من إطلاق رصاصٍ وقصف بالقنابل إلا في بداية الفيلم، ولا تظهر الحشود العسكرية إلا في لقطاتٍ محدودة، غير أن الحرب حاضرة في كُل مكان حضوراً كُلياً. ولا يكاد يُفلت من الحرب غير الصحراء الساكنة مترامية الأطراف، قبل أن تصبح الصحراء نفسها مسرحاً للحرب والخراب الذي يُصيب النفوس.
في فيلم المريض الإنكليزي تضافرت عوامل الإخراج والتصوير والتمثيل لتُنتج فيلماً مُكتمل العناصر الفنية. فريق التمثيل قدم شخصياتٍ لا تُنسى من لحمٍ ودم، وقدم التصوير السينمائي مشهدية بصرية غنية تُصبح فيها الصحراء وزخرفة معمار القاهرة القديمة أجزاء من صورة بصرية شديدة الغنى في الشكل وفي الرموز الجمالية. الكاميرا في فيلم المريض الإنكليزي لا تُثرثر أبداً، بل تأخذ موقفاً من السرد وتدخل في نسيج الفيلم.
يظهر العرب في الفيلم في خلفيات باهتة وقليلة التأثير، فهم شخصيات شبحية، إما تخدم الأوروبيين، أو تُنقذ واحداً منهم لأسبابٍ غير مفهومة. تأثير الحرب على العرب لا يظهر، لأنهم آخر خارج المُعادلة، لكن الفيلم لا يروي قصة عربية، بل يروي قصة الضمير الأوروبي الذي مزقته الحرب العالمية الثانية، بعد أن أثقل تاريخه الاستعماري كاهله.
المريض الإنكليزي (1996) - أنتوني منغيلا (سيناريو وإخراج) - تمثيل: ريف فاينز (لازلو دو ألماشي)، كريستين سكوت توماس (كاثرين كليفتون)، جولييت بينوش (هانا) - ميراماكس (إنتاج)
الكفارة
الحُب أيضاً محورٌ في فيلم الكفارة Atonement، لكن الفيلم الذي يرصد تجربة الحرب العالمية الثانية المروعة في إنكلترا يدور حول ثيمة أخرى أكثر سيطرة هي ثيمة النُضج. الطفولة والانتقال إلى مرحلة المُراهقة أمرٌ صعب، ولينضج الإنسان لا بُد من كفارةٍ ينبغي دفعها. كذلك، فإن بعض الأخطاء المُرتكبة في تشوش الطفولة مُدمرة إلى الحد الذي يجعلها تتطلب كفارة تستمر حتى نهاية العمر.
تدور أحداث فيلم الكفارة خلال الحرب العالمية الثانية، وتكشف تأثيراً يمتد حتى زمنٍ قريب. ويُروى بطريقتين: واحدة مُحايدة تروي الأحداث كما هي، والأخرى تروي الأحداث ذاتها من وجهة نظر فتاة عمرها ثلاثة عشر عاماً هي براوني تالس التي ترى العالم – على أعتاب الحرب العالمية الثانية – مشوشاً وغامضاً، وتحاول في هذا التشوش تفسير ما تراه أمامها، لكن تفسيراتها تسبب تعقيداتٍ كثيرة.
شقيقة براوني الكُبرى، سيسليا، تحب روبي ترنر ابن مدبرة منزلهم الذي يطلب من براوني توصيل رسالة إلى أختها. يُرسل روبي بالخطأ رسالة تحتوي على كلماتٍ بذيئة تقرؤها براوني وتُقرر مع ابنة عمها لولا أن روبي مهووس، وأنه لا شك سيؤذي سيسيليا. تُسيء براوني تفسيرٌ أمورٍ أخرى تجري بين شقيقتها وبين روبي. وحين يُكتشف أن لولا قد اغتُصِبت في حديقة دار تالِس، تتهم براوني – الشاهدة الوحيدة – روبي وتُكرر اتهامها، فيُقبض عليه ويُرسل إلى الجبهة في فرنسا.
تنفصل سيسليا عن أسرتها التي لم تصدق براءة روبي، وتتصدع الصلات العائلية التي تربط آل تالس. بعد خمس سنوات، تتطوع براوني كممرضة لتمرض الجنود الجرحى، وتحاول التكفير عن جزء من ذنبها تجاه روبي وسيسليا، بينما يتبادل الاثنان الرسائل على خلفية المعارك التي يخوضها روبي في الجبهة.
آخر الفيلم تظهر براوني تالس روائية في السبعين من عمرها، ويُجري معا مذيع – المخرج أنتوني منغيلا في آخر ظهور له قبل وفاته – مقابلة ليسألها فيها عن عملها الأخير الكفارة، فتخبره بأنها روت في روايتها الأخيرة قصتها مع شقيقتها وحبيب شقيقتها في محاولة للتكفير عن الذنب الذي ارتكتبه بحقهما منذ ما يقرب من ستين عاماً.
يُصور المُخرج جو رايت فيلم الكفارة من وجهتي نظر مختلفتين، هما وجهة نظر براوني وما حدث حقاً، وفي معظم الفيلم تتداخل وجهتا النظر، فلا يعود مُمكناً التفريق بينما حدث حقاً، وبين ما تعتقد براوني أنه قد حدث، بالإضافة إلى تداخل مشاهد الحرب العالمية خصوصاً موقعة دنكرك حيث يبدو أن العالم كُله قد تداخل بحيث صار مُتعذراً معرفة ما حدث حقاً، أو لماذا حدث.
تُرافق أحداث الفيلم موسيقى داريو مارينيلي – الحائز على جائزة أوسكار أفضل موسيقى أصلية (2008) – لتزيد من عُمق الفيلم، فمارينيلي يوظف صوت الآلة الكاتبة الذي يُشكل خلفية أحداث الفيلم المفصلية ويُحوله إلى موسيقى سريعة خاطفة متوترة، كأنها ضربات القدر تكتب حيوات الشخصيات. بعيداً عن الآلة الكاتبة التي تكتب القدر، تُرافق موسيقى مارينيلي المعنونة "مرثاة دنكرك" مشاهد وصول جنود الحلفاء إلى دنكرك، وتُضيف إلى الشعور الحلمي الذي يحيط بها. مشاهد الجنود في دنكرك مرثاة لعبثية الحرب وعدم يقينية الحياة في ظلها. ومع تقدم أحداث الفيلم، يتضح الدور الهام الذي تلعبه مقطوعات داريو مارينيلي في الأحداث كأداة فيلمية تُستخدم لتحقيق الأثر الدرامي المطلوب، كالحوار والحدث والصورة.
تصوير شيموس مكغارفي يدخل ضمن نسيج الفيلم ليُكمل بقية عناصره الفنية، فالكاميرا عنصرٌ فيلمي رئيسي تُشارك في إظهار اختلاط الحقائق وتشوش وجهات النظر. تقف الكاميرا أحياناً موقفاً مُحايداً لتُشاهد من بعيد، لكنها في طريقة تقديمها للمشهد تأخذ دوماً موقع الرائي، ويتحول موقع الرائي إلى موقع المُتهِم في المشهد الذي تكشف فيه براوني الحقيقة بشأن المُعتدي الحقيقي على ابنة عمها، إذ تفاجئها الكاميرا كمن قُبض عليه يرتكب ذنباً.
الكفارة التي أمضت براوني تالس حياتها تدفعها، شبيهة بكفارة أوروبا تجاه الحرب العالمية الثانية التي أعادت تشكيل الشخصية الأوروبية من جديد. ومحاولتها تلطيف الوقائع التي عاشتها لتجعل الذكرى أكثر قابلية للاحتمال شبيهٌ بمحاولات إعادة رواية تاريخ الحرب بطريقة تستبعد عبثيتها وهمجيتها في محاولة لحمل ما تبقى من الضمير الإنساني على السُبات.
الكفارة (2007) – جو رايت (إخراج) – كريستوفر همبتون (سيناريو) – داريو مارينيلي (موسيقى) – تمثيل: سيرشيه رونن (براوني في سن الثالثة عشرة)، كيرا نايتلي (سيسليا) ، جيمس مكفوي (روبي) – يونيفرسال (إنتاج)
تدوينة سابقة عن فيلم الكفارة.
تسلم يا عزيزي على هذا العرض الشيّق والممتع. شوّقتني لمشاهدة هذين الفيلمين. بالطبع سمعت عنهما من قبل لكن للأسف لم احظ بمشاهدتهما على الشاشة.
ردحذفالجميل في الفيلمين أنهما يتحدّثان عن الحرب ليس من خلال المنظور الإيديولوجي والدعائي كما جرت العادة في الماضي وإنما من منظور إنساني وأخلاقي. وهذا بحد ذاته أمر جيّد ويحسب لمخرجيهما ولمن أنتجوهما.
أظن أن واضع موسيقى المريض الانجليزي هو اللبناني غابرييل يارد إن لم أكن مخطئا. لكن شهرة داريو مارينيلي تفوق تلك التي ليارد خاصة بعد أن ألف موسيقى فيلم الكبرياء والهوى المأخوذ عن رواية جين اوستن.
جمال هذه التدوينة وانجذابي لموضوعك الأكثر من رائع دفعني لاختيار جزء من موسيقى المريض الانجليزي ووضعه في مدوّنتي. وأتمنى أن أحظى بمشاهدة الفيلمين قريبا.
مع خالص مودّتي وتقديري لك.
وبانتظار الموضوع القادم.
بروميثيوس
مرحباً بك بروميثيوس، وكل عامٍ وأنت بخير..
ردحذفأشكر لك إشاراتك الشيقة، وأتفق معك في جمال تناول الفيلمين للحرب من منظورٍ إنساني وأخلاقي.
كما أشكر لك أن ذكرتني بموسيقى غابرييل يارد التي سهوت عن ذكرها، وفعلاً، موسيقى يارد عذبة وزادت الفيلم عُمقاً، بالذات في الصحراء العربية. لكن سرَ بقاء اسم مارينيلي في ذهني أكثر ليس شهرته، وإنما الطريقة التي حول بها ضربات الآلة الكاتبة إلى موسيقى تصويرية بديعة أضافت عمقاً إلى الفيلم وأبعاداً جديدة رُبما ما كانت لتكون لولاها. إضافة إلى ذلك، فإن الشريط الصوتي للمريض الإنكليزي مليء بالتوزيعات الموسيقية من الأغاني الإنكليزية والأمريكية التي كانت رائجة في تلك الفترة، والتي يحفظها المريض الإنكليزي، كما أنها نوعٌ من الوصلات في الفيلم بين الوضع الحاضر للمريض الإنكليزي، وبين ما حدث من قبل.
أتمنى أن تحظى بمشاهدة الفيلمين قريباً، واستمعت إلى المقطوعة التي اخترتها في مدونتك حينها. وكانت اختياراً جميلاً كعادتك.
اعتذاري الصادق عن الغياب الطويل.
وتحياتي القلبية..