10 أكتوبر 2010

تابيثا

أول مرةٍ صادفت فيها رفعت إسماعيل بطلاً كانت في أسطورة رأس ميدوسا، ولم يكن لقاء موفقاً. كنتُ قد استعرت الكتيب من مكتبة المدرسة ظناً مني بأنه كتابٌ يتحدث عن الأساطير الإغريقية، ولم يُعجبني منذ صفحاته الأولى بسبب استخفافه بالميثولوجيا الإغريقية التي شكلت الأساس الكلاسيكي لقراءاتي - بترجمات أمين سلامة ودريني خشبة وعبد الرحمن بدوي - وخلطه أسماء الآلهة اليونانية بالرومانية، ومن ثم موقف رفعت إسماعيل - الذي يعرف كل شيء عن أي شيء - المستفز .
منذ البداية، يرفض رفعت إسماعيل فكرة إيجاد رأسِ ميدوسا لأنها أسطورة ذات أساسٍ وثني، وهو لا يؤمن بالأوثان، لذلك تتحول القصة إلى مطاردةٍ بوليسية لكشف من يحاولون إحياء أسطورة الغرغونات. يتكرر هذا الموقف بعد عدة سنوات مع أسطورة صندوق بندورا، حيثُ المسألة بأكملها ملعوبٌ من لوسيفر. في المُقابل، يتقبل رفعت وجود المينوتور من دون أن يعلق بشيء على أصولِ الأسطورة (الوثنية)، فالمينوتور لعنة صبها بوسايدن على مينوس ملك كريت، وجاءت ولادته نتيجة لانحرافٍ مُرعب يتجنب الإشارة إليه تماماً. الأمرُ غريبٌ، فكل الأساطير اليونانية ذات منشأ وثني، وقبول المينوتور بوصفه ظاهرةً بيولوجية خارقة يقتضي قبول الغرغونات بوصفهن حالة فيزيائية خارقة، وقبول صندوق بندورا بوصفه صندوقاً سحرياً حيكت حوله الحكايات الوثنية. كان من الأفضل الخروجُ من هذه الورطة برمتها، إما بتجاهل الميثولوجيا الإغريقية جملةً وتفصيلاً - والاكتفاء بالفرايكولاياس، إذا كان لا بد من اليونان وإن طال السفر - أو بالخضوع لقواعدها - مع بعض التحويرات الضرورية لأي عملٍ فني. المشكلة أن تجاهل الحقبة الكلاسيكية Classical Antiquity غير ممكن، كما أنه من غير الممكن أن يتخلى رفعت عن الصفات التي تجعل منه رفعت إسماعيل. والحل الوحيد أمام القارئ لتجنب التشويه اللاحق بالميثولوجيا الإغريقية أن يكون عارفاً بها. (المعرفة بالميثولوجيا الإغريقية - والحقبة الكلاسيكية، عموماً- مفيدةٌ في كل الأحوال، إذ يستحيل على أيِ كاتبٍ التنمر على أي قارئ كلاسيكي، ولو كان ت. س. إليوت نفسه).
مع ذلك، كانت هُناك تابيثا، وهي وحدها من جعلت الكُتيب يستحق القراءة والتقدير. واحدٌ من المآخذ على سلسلة ما وراء الطبيعة الذي ذكرته تدوينة "شارب الوغد" كان موقفها العدائي من النساء، وفي محاولات المدافعين عن السلسلة لتفنيد هذا المأخذ، تكرر اسمُ ماغي ماكيلوب كثيراً. ما يتناساه الكثيرون في هذه الحمية أن ماغي ليست امرأة بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما صورة الحضارة الغربية (الرومانتيكية) في مُخيلة رفعت إسماعيل. إنها شقراء، أرستقراطية، عالمة، ابنة أستاذه، تُحِبُه ولن تتزوجه أبداً - لأن الشرق شرق، والغرب غرب، ولا يلتقيان أبداً. إنها تتحدث الإنكليزية، لكنها ليست إنكليزية بل إسكتلندية - لأن الإنكليز احتلوا مصر وإسكتلندا. كل هذه الصفات تتردد - بشكلٍ أو بآخر - في كتاباتِ الكتاب العرب الذين كتبوا عن الغرب منذ زمنٍ يسبق موسم الهجرة إلى الشمال، وسيظلون يكتبون كذلك حتى تزول الهوة الحضارية بين الشرق والغرب، ويكف الغرب عن كونه امرأة جميلة تتعلق ببطلٍ شرقي. هُناك من ذكر إيناس من آخر الليل والجاثوم، والواقع أنها لا تصلح، لأنها مسيرة لا مُخيرة، وعندما تُقرر بنفسها أن تبقى مع الرجل الذي تحبه، يظفر بها الجاثوم، ويمزقها حبيبها شر ممزق. (لتكون عبرة لكل من تسول لها نفسها الحديث إلى الرجال الغرباء في السينما).
لا أجد ما يثير الاهتمام في الحديث عن التوأم نجلاء وناهد، أو عن د. كاميليا، أو عن سهام وهويدا، أو حتى عن براكسا نجيب ورونيل السوداء والأم مارشا - وأعتقد أن من اقترح الثلاث الأخيرات يملك حساً بالدعابة. الشخصية الأنثوية الوحيدة التي يُمكن أن تُصنف (إيجابية) - في السلسلة - قد ظهرت مُبكراً جداً - أسطورة رأس ميدوسا - وقُتِلَت مُبكراً أيضاً - أسطورتها - بطريقةٍ بشعة. لا ضغائن هُنا، فعالم ما وراء الطبيعة لا يسع رفعت إسماعيل وتابيثا ماكغفرت معاً. تأخذ تابيثا زمام المُبادرة من رفعت في كُلِ المواقف تقريباً، فهي من تُراسله - وترسمه بطريقة ساخرة، وقبل أن يصفها هو بالشيطانة القبيحة، فإنها تصف نفسها بأنها شيطانة موهوبة، وتوقِع به في مآزق كلامية لم ينتبه إليها، وتأخذ دوره (التثقيفي) فتكون مصدراً لكثيرٍ من المعلوماتِ في الرواية. إنها - بالنسبة لرفعت - الكابوس الأسوأ، ولولا المسألة الما ورائية المُتعلقة بلوسيفر، لكانت العدو المثالي لرفعت إسماعيل، خصوصاً وأنها مؤلفة رعب، وهو يمقت كتاب الرعب.
هُناكَ لمسةٌ تراجيدية تتعلق بتابيثا، إنها - بشكلٍ ما - ليدي مكبث مُعاصِرة، تأخذ عهد الزواج بحرفيةٍ تامة: "في السراء والضراء، وفي الصحة والمرض، إلى أن يُفرقنا الموت". كلتا المرأتين تُحبُ زوجها، وتشاركه جرائمه الطموحة بدافع الحُب. كلتاهما تملكان خيارَ الانسحاب، لكنهما تختاران المواجهة عارفتين بالنتائج المأساوية لخياراتهما. تابيثا أكثر حيوية وبراعة وموهبة من ليدي مكبث، وفي وضعٍ أسوأ. لقد عاشت مُرفهة في إسكتلندا، ثم عرفت الفقر والجوع والتشرد مع زوجها اليوناني الذي لا يمتازُ بالأمانة أو البراعة العلمية. كان بإمكانها أن تحزم حقائبها وتعود إلى إسكتلندا، لكنها اختارت البقاء مع زوجها، واختارت مساعدته على النجاة من عواقب مخالفاته المتكررة للقانون.
فكرة إحياء أسطورة رأس ميدوسا تدلُ على قدرٍ من الجنون، لكن الجنون والموهبة متقاربان جداً. وقد كانت تابيثا موهوبة بما فيه الكفاية لتُحيي أسطورة عتيقة: تنحت تماثيل مُتقنة، تتنبأ بما سيحدث وتستعد له، وتضيف قليلاً من المرح فتنحت حتى الفئران. هُناك رعبٌ في القصة - لمن يُدركه، ومصدره العبقرية المتوهجة لتابيثا - التي تراسل هنري ماتيس، أحد رموز الوحوشية: العبقرية التي تقتضي شيئاً بدائياً، بربرياً، وهائلاً ولا تعرفُ الحدود الأخلاقية الضيقة. العبقرية التي تجعل من تابيثا ملكةٍ على مملكةٍ من الخمايرات. لذلك، يصعب أن يفهمها رفعت إسماعيل - الذي لم يكن في حياته عبقرياً، ولم يحلم في حياته بأن يحكم مملكة من الخمايرات. (بل إنه يتخصص في علم أمراض الدم لأنه المجال الطبي الوحيد الذي تقلد فيه الطبيعة الكُتب).
إن تابيثا لا تصلح حبيبة لرفعت، ولا تصلح تلميذة له، أو زوجة (باسلة) لأحد أصدقائه، أو فتاة يعطف عليها عطفاً أبوياً، لذلك فإنها لا تنتمي إلى عالم ما وراء الطبيعة إطلاقاً، بل إنها واحدةٌ من الشخصيات القلائل التي يُطلق عليها الرصاص لإنهاء مواجهته معها بطريقةٍ جذرية. وفي النهاية، فإن الرصاص لا يقتلها - لأنها لم تُصنع من العجينة الرومانتيكية التي صُنِع منها رفعت - وتنهض، وتتحدث إليه، وترد ببراعة، وتتقبل السجن ببساطة. لقد غامرت، وخسرت، وهي ممن يتقبلون الخسارة بروحٍ رياضية. لولا تدخل الشبح الفج - وغير المُبرر، إلا لعرض المزيد من رومانتيكيات رفعت إسماعيل - لاستمرت تابيثا في مغامراتها بعد الخروج من السجن، ولرُبما توصلت إلى جعل شعبٍ من البدائيين يعبدها - كما فعل كرتز - وحكمت مملكتها الفعلية من الخمايرات.
لو كان هُناك مجتمع معجبين ناضج بالعربية، فإنني أعتقد أن تابيثا ماكغفرت كانت لتكون من أكثر الشخصيات التي تُكتب عنها قصص fan ficton - مع د. لوسيفر، بطبيعة الحال. ورُبما كانت بعض الكتابات عن تابيثا لتصيرَ سلاسل قائمة بذاتها، أو على الأقل روايات لها استحقاقها الروائي الخاص بها - إذا صار عالم ما وراء الطبيعة مفتوحاً للمشاركة العامة كما هو عالم هوارد فيلبس لفكرافت. لكن، والحال كما هو الآن - فإن أكثر الُمعجبين ابتكاراً يستضيف حلقاتٍ على غرار برنامج بعد منتصف الليل. من يدري؟ فرُبما نرى المزيد من تابيثا غداً. في النهاية، التفاؤل واجبٌ أخلاقي، حتى في المملكة الرمادية العظيمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق