قصة فيلم مُنتصف الليل في حدائق الخير والشر (1997) بسيطة: مُحاكمة ريفي ثري بتهمة قتل عشيقه المُتبطل، لكن حبكة الفيلم مُركَبة: جو مدينة سافانا الحار؛ المخيف؛ المتربِص، ميراث الجنوب الأمريكي من العبودية والثراء الريفي، سحر الهودو الذي ينتشر في جورجيا، أجواء الريف المُنغِلِق حيث يقود الرجال كلاباً ميتة للنزهة، ويُقرر ريفي مجنون تسميم المدينة بإيحاء من ذباباته. هُناك صحفي قادمٌ من مدينة كوزموبوليتانية، ومغنية متحولة (أو متحول)، ساحرة هودو، الريفي الثري، والعشيق المُتبطل. ورغم أن الجميع يعرف كُل شيء، إلا أن الجميع يُصر على الإنكار: لا أحد شاذٌ في سافانا، لا أحد يُمارس الهودو في سافانا، الكلاب لا تموت في سافانا. هكذا، يصنع كلينت إيستوود واحداً من أفضل أفلامه - وأقلها شهرة.
يأخذ الفيلم - والكتاب الذي اقتُبِسَ عنه الفيلم - عنوانه من مفهومٍ في سحر الهودو يقتضي بأن مُنتصف الليل اللحظة الفاصلة بين الخير والشر: دقيقةٌ قبل مُنتصف للسحر الخيِّر، ودقيقةٌ بعده للسحر الشرير. مُنتصفُ الليل نفسه ليس خيراً ولا شراً، وفي الحديقةِ التي يُمارَسُ فيها السحر، يحضر الخير والشر. سر مقتل الصبي مجهول، أو تحاولُ المُحاكمة تغطيته. هُناك عاملٌ ميتافيزيقي يتعلق بالقضية، فغضب الصبي المقتول يلحق القاتل - أو من يعتقد الصبي أنه قاتله - بشكلٍ مُستمر، ويقتله آخر الأمر. الخيرُ والشرُ يحضران في كُلِ نواحي سافانا حضوراً كاملاً: الموتى ما زالوا أحياء، والأحياء موتى. لقد مسَ الشرُ الجميع، لكنَ الخيرَ لم ينعدِم.
في فيلم الشك (2008)، تمثل الأخت ألويشس بوفييه اليقين المُطلق. إنها متيقنة من الأب فلِن يستغلُ طفلاً أسود منبوذاً، وتسعى طوال الفيلم لإثبات جريمته وطرده. يُنكِر الأب فلِن التُهمة باستمرار، لا يعترف الولد بالعلاقة، تقع معلمة الولد في حيرةٍ كبيرة بين يقين مرشدتها ودفاع الأب فلِن عن نفسه، ترفض أم الولد المشاركة في محاولة تجريم الأب. جميعهم محكومون بالشك، لكن الأخت ألويشس متيقنة مما يجري. إنها لا تقتنع بدفاع الأم - الذي يفطرُ القلوب - عن حالةِ طفلها: ابنها مُختِلِف، وهي تعرف ذلك يقيناً. أبوه يُريد قتله، وزملاؤه السود سيقتلونه في المدرسة الإعدادية. قد يستغله الأب فلِن أو قد لايستغله، المُهِم أن ينجح الولد ويدخل جامعةً في مكان بعيدٍ، ويعيش إلى أن يكتشف الطب حلاً لحالته. لا أحدَ يُعاون الأخت ألويشس، لكنها لا تقنط. ستفضح الكاذب وستخرجه. آخر الأمر، تتخلص من الأب فلِن، لكن نفيه يتضمن ترقيةً إلى مكانٍ يُمكن أن يُسبب فيه ضرراً أكبر. في النهاية، ترتجف الأخت ألويشس في فناء الكنيسة: هل كان الأب فلِن بريئاً وعادته لأنه يتناول السُكر ويطيل أظافره ويستخدم كلماتٍ مسيئة في العرف الكاثوليكي؟ هل كان الأب فلِن مُذنباً حقاً وتسببت هي في مزيدٍ من الأذى لمزيدٍ من الأطفال؟ ما هو مصيرُ الولد الصغير؟ تحطم يقينُ الأخت ألويشس إلى الأبد، لأنه: "في السعي لكشف الشر، يبتعد المرء عن طريق الله."
يقينُ الأخت ألويشس ليسَ خيراً، وشكها ليس كذلك أيضاً. إنها شخصية (خيّرة)، لكن سعيها لفضح الشر يقودها إلى الجانب الآخر. في النهاية، تمرُ بلحظة تنوير، ولحظة تنويرها تحملُ دمارها النهائي والمُطلق: إنها اللحظة التي ترى فيها الوحش في الداخل، والشرَ الذي يكمنُ في الطبيعة الإنسانية. لحظة تنوير الأخت ألويشس لحظةُ النهاية، بينما في فيلم ديزني الشهير أحدب نوتردام (1996)، يُحارِبُ القاضي كلود فرولو لحظات تنويره الشخصية، رافضاً رؤية الوحش في الداخل. يبدأ فرولو من منطلقاتٍ شبيهةٍ بمنطلقات الأخت ألويشس: التوقُ لتخليص العالم من الخطيئة والرذيلة. خطيئتهما المُشتركة الخطيئةُ اللوسيفرية القديمة: الغرور. كلاهما لا يستطيع أن يرى الشر في داخله، وكلاهما يعتقد أنه قريبٌ من الله بما يكفي لئلا يمسه الشر. تقول كلمات أغنية "أجراس نوتردام" هذا بوضوح حين تصف القاضي كلود فرولو:
حتى من دون ثقل الهودو الميتافيزيقي، وثقل فكرةِ الخطيئة الديني، يحضر الشر بوصفه شيئاً أصيلاً وخارقاً في النماذج التي تُمثِل الثورة الصناعية (كرتز من قلب الظلام)، وأشرار الخيال العلمي (دارث فيدر من حروب النجوم)، وأشرار الفانتازيا (لورد فولدمورت من سلسلة هاري بوتر). إن كرتز نموذجٌ غير ديني، يدعو إلى "إبادة الهمج" بشكلٍ علمي منهجي. وبوصفه عبقرياً، فإن عبقريته تقتضي تحقيق شيء "أصيلٍ، خارق، وبربري". يستسلمُ كرتز للشرِ في الأدغال، ويجعلُ من نفسه إلهاً للبدائيين بالدم والنار. وتأتي لحظة تنويره النهائية بصرخته الشهيرة: "الرعب! الرعب!" إنه يُدرك - على حافةِ الموت - البعد الميتافيزيقي للشر الذي يتمكن منه، ويرى نفسه في الأدغال أخيراً. لقد أدركَ تماماً ثقل الشر الساحق، وزالت عن عينيه الغشاوة.
رغم أن دارث فيدر شخصية درامية أقل عُمقاً بكثير من شخصية كرتز، إلا أنه ينطلق من ذات مُنطلقاتِه: القدرة الفائقة والطموح. كلاهما يتبع سلطةً أكبر (الشركة الأم بالنسبة لكرتز، والإمبراطور بالباتِن بالنسبة لدارث فيدر)، وكلاهما يملكُ قدراتٍ لا تملكها هذه السُلطات. حكايةُ جنون دارث فيدر وتحوله من جيداي إلى سِث مزيجٌ من الغيرةُ والطموح الزائد. إنه كتلةُ عواطف مشتعلة تتحول إلى نصف آلةٍ نتيجة لانفجاراتها العاطفية. التشويه الجسدي الذي يلحقُ أناكِن سكايووكر يحوله إلى دارث فيدر المشوه نفسياً. وخلافاً لغيره، فإنه لا يسقط في الهوة المُحترقة، أو يُدرك الرُعب. إن خلاصه يتم على يدِ ابنه الذي كان عدواً له منذ زمنٍ طويل. في النهاية، يخلع قناعه لأنه يُدرك أن عليه مواجهة العالم بوجهه المُشوه، وروحه المشوهه. إنه يُقرُ بحقيقةِ نفسه في النهاية، وفي هذا خلاصه.
يصلُ التشويه الروحي في سلسلة هاري بوتر بُعداً جديداً، فلورد فولدمورت يُمزقُ روحه إلى أجزاءٍ عامداً لأنه يُريد الخلود. مثل دارث فيدر، فإنه يبدأ باسمٍ آخر وشخصية مُختلفة، ثم يمرُ بطورِ التشويه الجسدي والنفسي ويُغيرُ اسمه، لكن التشابه بين الشخصيتين ينتهي هُنا. ينشأ توم مارفولو ريدل في ملجأ أيتام، ويكتشف أنه يملكُ قوةً خاصة، لكن من دون توجيه أو إرشاد. إن الأفاعي تهمسُ له بأشياءٍ في الليل - أمرٌ مرعبٌ لطفلٍ - وتزيدُ من ميولهِ الأباثية. إنه لا يأبه بمن حوله، ويعرف أن من حوله لا يأبهون به، لكنه يُريدُ أن يعيش أبدَ الدهر، ويُريدُ من العالم أن ينظر إليه باحترامٍ وتوقير. دوافعُ لورد فولدمورت مُعقدةٌ، إذ يمتزجُ فيه جنون العظمة برُهابِ الموت وانعدام الإحساس بمن حوله. جنونُ العظمة ورُهاب الموتِ يدفعانه لأن يتخلص من إنسانيته - كما فعل كرتز - وحسه الكليل يحرمه منها. لورد فولدمورت لا يعبرُ باتجاهِ الشرِ لأن الخير والشر لا يعنيان له شيئاً. واحدةٌ من العبارات المُقتبسة عنه كثيراً - حتى تحولت إلى كليشيه: "لا يوجد خيرٌ أو شر، هُناك فقط القوة، ومن يخشون امتلاكها." تحولاتُ لورد فولدمورت ليست عفوية مثل تحولات دارث فيدر، بل مُخططاً لها، إذ بدأ بتبني اسم لورد فولدمورت في مُراهقته، وفي تلك السن ارتكب أولى جرائمه ليُمزق روحه عامداً. إن فكرةَ القتل وتمزيق الروح المُرعبة لم تجعل شعرةً في رأسه تهتز، لأنه لا يُؤمن بمفاهيم الخير والشر التي يؤمن بها الآخرون. حتى فاوستس يخاف حين يوقع العقد مع مفستوفِلِس، ويتراجع فرولو عن غيه خوفاً على روحه، لكن فولدمورت لا يهتمُ بها إلا بقدر ما تكفل له عدم الموت الذي يراه مرادفاً للفناء. ورغمَ أنه لا يؤمن بالخير والشر، إلا أنه يؤمن بالخرافات المتعلقة بالرقم سبعة وبالنبوءات وبتأسيس هوغوورتس، وإيمانه الشديد بالخرافات يقتله. تحولُ لورد فولدمورت إلى شيء غولاني يأتي تدريجياً ومتعمداً: إنه يُرافق "أسوأ أنواع السحرة، ويخضع لتجارب شريرة" لوقتٍ طويل. وتحوله ليس شيئاً سرياً، وإنما علنياً، ويجري لزمن - بحيث أنه كان من المُمكن إيقافه لولا تقاعس دمبلدور. وفي ذلك، يتشابه فولدمورت مع مالاخ (الرمز المفقود) الذي يُقدم جسده قُرباناً للمعرفة المُطلقة.
لا يحظى لورد فولدمورت بلحظةِ تنويرٍ نهائية، لأن الموتَ يقهره من دون أن يمرَ بلحظةِ إدراك. لكن منفاه الإجباري لثلاثة عشر عاماً قد يكون نوعاً من التنوير الذي يقوده إلى صعودٍ ثانٍ أكثر وحشيةً وعدوانية: إنه يبقى لثلاثة عشر عاماً إرادة محضة، لا يعرف ما يكون، لكنه يعي العالم من حوله. لقد قهر الموت، وقهر العالم بأكمله عندما استعاد جسده وأفسد مخططات ألباس دمبلدور. في عودته، لم يكن فولدمورت متسامحاً مع أكلة الموت - أتباعه - لأنه أدرك أنهم استغلوه. لقد ركب أنقياء الدم العربة مع لورد فولدمورت لأنه كان قوياً، ويكره غير السحرة، ويُحقق لهم فكرتهم العنصرية عن النقاء العرقي، غير أنه لم يكن نقياً عرقياً - بشكلٍ شخصي - وعندما سقط، أنكره أكلة الموت جميعاً - عدا أربعة فحسب. لذلك، عاد مُبغضاً لهم جميعاً، يؤنبهم بشدة، ويستولي على قصر مالفوي رغماً عن إرادته. انتقامه الوحشي من لوسيس مالفوي يجعله يضم ابنه المُراهِق إلى أكلة الموت، ويكلفه بمهمة قتل دمبلدور التي لا يستطيع القيام بها أفضلُ السحرة. رغم أن جماعة أكلة الموت كانت جماعة سرية منذ البداية، أي أن الخروج عنها يعني الموت، إلا أنها تحولت في عهد فولدمورت الثاني إلى جماعةٍ علنية الانضمام إليها إجباري، ولا يعني الحصانة من غضب فولدمورت، ورغبته في إذلال أكلة الموت قبل غيرهم.
في عالم الأرض الوسطى الذي يُنشئه ج. ر. ر. تولكن، تدعو مصائر الأشرار للرعب والشفقة: النازكُل التسعة الذين تعفنوا وهم أحياء لقرون ومن ثم تحولوا إلى أشباه أشباح، سميغول الهوبيت الذي تحول إلى الوحش غولوم، سارومان الساحر الذي سلك طريق الشر. إن الشرَ قويٌ، مُطلق، عتيق، وكامنٍ في الأعماق في أساطير تولكِن. إنه ينالُ حتى أكثر الكيانات قداسة في المؤسطرة: الجن. وحضوره عن طريق العين التي لا تنام أكثر من حضورٍ ميتافيزيقي، إنه ثقلٌ يسحق الوجود بأكمله، ويجدد نفسه كلما انطفأت شعلته. الشرُ مُتمركزٌ في موردُر، ومنها يخرجُ إلى العالم، لكن جارة موردُر المباشرة المدينة البيضاء غوندُر، أول مُدن البشر، أو آخرها. إنها المكانُ الذي يواجه شرَ موردُر، والمكانُ الذي يمسهُ الشر من حينٍ لآخر. إنها دوراتٌ متعاقبة، يحلُ فيها الشر بوصفه أمراً قدرياً لا فكاك منه، ينالُ كُلَ الأعراق، ولا ينجو منه أحد.
يأخذ الفيلم - والكتاب الذي اقتُبِسَ عنه الفيلم - عنوانه من مفهومٍ في سحر الهودو يقتضي بأن مُنتصف الليل اللحظة الفاصلة بين الخير والشر: دقيقةٌ قبل مُنتصف للسحر الخيِّر، ودقيقةٌ بعده للسحر الشرير. مُنتصفُ الليل نفسه ليس خيراً ولا شراً، وفي الحديقةِ التي يُمارَسُ فيها السحر، يحضر الخير والشر. سر مقتل الصبي مجهول، أو تحاولُ المُحاكمة تغطيته. هُناك عاملٌ ميتافيزيقي يتعلق بالقضية، فغضب الصبي المقتول يلحق القاتل - أو من يعتقد الصبي أنه قاتله - بشكلٍ مُستمر، ويقتله آخر الأمر. الخيرُ والشرُ يحضران في كُلِ نواحي سافانا حضوراً كاملاً: الموتى ما زالوا أحياء، والأحياء موتى. لقد مسَ الشرُ الجميع، لكنَ الخيرَ لم ينعدِم.
في فيلم الشك (2008)، تمثل الأخت ألويشس بوفييه اليقين المُطلق. إنها متيقنة من الأب فلِن يستغلُ طفلاً أسود منبوذاً، وتسعى طوال الفيلم لإثبات جريمته وطرده. يُنكِر الأب فلِن التُهمة باستمرار، لا يعترف الولد بالعلاقة، تقع معلمة الولد في حيرةٍ كبيرة بين يقين مرشدتها ودفاع الأب فلِن عن نفسه، ترفض أم الولد المشاركة في محاولة تجريم الأب. جميعهم محكومون بالشك، لكن الأخت ألويشس متيقنة مما يجري. إنها لا تقتنع بدفاع الأم - الذي يفطرُ القلوب - عن حالةِ طفلها: ابنها مُختِلِف، وهي تعرف ذلك يقيناً. أبوه يُريد قتله، وزملاؤه السود سيقتلونه في المدرسة الإعدادية. قد يستغله الأب فلِن أو قد لايستغله، المُهِم أن ينجح الولد ويدخل جامعةً في مكان بعيدٍ، ويعيش إلى أن يكتشف الطب حلاً لحالته. لا أحدَ يُعاون الأخت ألويشس، لكنها لا تقنط. ستفضح الكاذب وستخرجه. آخر الأمر، تتخلص من الأب فلِن، لكن نفيه يتضمن ترقيةً إلى مكانٍ يُمكن أن يُسبب فيه ضرراً أكبر. في النهاية، ترتجف الأخت ألويشس في فناء الكنيسة: هل كان الأب فلِن بريئاً وعادته لأنه يتناول السُكر ويطيل أظافره ويستخدم كلماتٍ مسيئة في العرف الكاثوليكي؟ هل كان الأب فلِن مُذنباً حقاً وتسببت هي في مزيدٍ من الأذى لمزيدٍ من الأطفال؟ ما هو مصيرُ الولد الصغير؟ تحطم يقينُ الأخت ألويشس إلى الأبد، لأنه: "في السعي لكشف الشر، يبتعد المرء عن طريق الله."
يقينُ الأخت ألويشس ليسَ خيراً، وشكها ليس كذلك أيضاً. إنها شخصية (خيّرة)، لكن سعيها لفضح الشر يقودها إلى الجانب الآخر. في النهاية، تمرُ بلحظة تنوير، ولحظة تنويرها تحملُ دمارها النهائي والمُطلق: إنها اللحظة التي ترى فيها الوحش في الداخل، والشرَ الذي يكمنُ في الطبيعة الإنسانية. لحظة تنوير الأخت ألويشس لحظةُ النهاية، بينما في فيلم ديزني الشهير أحدب نوتردام (1996)، يُحارِبُ القاضي كلود فرولو لحظات تنويره الشخصية، رافضاً رؤية الوحش في الداخل. يبدأ فرولو من منطلقاتٍ شبيهةٍ بمنطلقات الأخت ألويشس: التوقُ لتخليص العالم من الخطيئة والرذيلة. خطيئتهما المُشتركة الخطيئةُ اللوسيفرية القديمة: الغرور. كلاهما لا يستطيع أن يرى الشر في داخله، وكلاهما يعتقد أنه قريبٌ من الله بما يكفي لئلا يمسه الشر. تقول كلمات أغنية "أجراس نوتردام" هذا بوضوح حين تصف القاضي كلود فرولو:
"كل ما أراده القاضي فرولوبينما تمتلك الأختُ ألويشس فضيلةَ الإقرار بالذنب، يُنكِر القاضي فرولو الذنب. إنه يرفض أن يعتبر مطاردته العنيفة للغجر عملاً شريراً لأنهم "وثنيون"، ويُعذِب قائد الحرس السابق لأنه "متهاون"، ويقتل أم كوازيمودو لأنها "هربت". وفي المشهدِ الأيقوني الذي يُدافع فيه عن نفسه أمام محكمة الرب، فإنه يُنكِرُ الذنب. يعترفُ رُهبان نوتردام بالخطيئة، بينما يُنكرها معارضاً إياهم - والصلاة الكاثوليكية التي ينتمي إليها:
تطهيرُ العالم من الخطيئة والرذيلة،
كان يرى الفساد في كُل مكانٍ،
إلا في نفسه."
"ليس خطأيمع أنه قبل ذلك، يعترف بأنه قريبٌ من الخطيئة، ويرى نيران الجحيم تُحيطه من كُلِ جانب. عندما تُحاصره الظلال وتتمكن منه، يُطلق القاضي فرولو سراح الوحش في داخلهِ تماماً، ليُحرق باريس، ويُعذب بالجملة، ويحاول قتل كوازيمودو وإزميرالدا. تصيرُ حالتُه قريبة من حالة فاوستس الذي يرى أن "جزاء الخطيئة الموت، ومن يقولُ إنه ليس خاطئاً، إنما يخادع نفسه." يستسلم فاوستس للخطيئة ويسلم روحه للشيطان، بينما يعكسُ فرولو خطيئته على إزميرالدا ويُقرر إعدامها صارخاً: "وجزاء من لا يُطيع الموت"، ومُردداً: "وهو سيضربُ الأشرار، ويرميهم في الهوةِ المُحترقة." إنه يرى نفسه يدَ الرب. الطريقان المتعاكسان الذين ذهب فيهما فاوستس وفرولو قادا إلى هلاكهما هلاكاً تاماً ونهائياً.
خطيئتي
لستُ الملوم
خطيئتي
إنها الغجرية التي رمتني باللهب
خطيئتي العُظمى
ليس خطأي
خطيئتي
إذا كان الرب قد قرر
خطيئتي
أن الشيطان أقوى من الإنسان
خطيئتي العُظمى"
حتى من دون ثقل الهودو الميتافيزيقي، وثقل فكرةِ الخطيئة الديني، يحضر الشر بوصفه شيئاً أصيلاً وخارقاً في النماذج التي تُمثِل الثورة الصناعية (كرتز من قلب الظلام)، وأشرار الخيال العلمي (دارث فيدر من حروب النجوم)، وأشرار الفانتازيا (لورد فولدمورت من سلسلة هاري بوتر). إن كرتز نموذجٌ غير ديني، يدعو إلى "إبادة الهمج" بشكلٍ علمي منهجي. وبوصفه عبقرياً، فإن عبقريته تقتضي تحقيق شيء "أصيلٍ، خارق، وبربري". يستسلمُ كرتز للشرِ في الأدغال، ويجعلُ من نفسه إلهاً للبدائيين بالدم والنار. وتأتي لحظة تنويره النهائية بصرخته الشهيرة: "الرعب! الرعب!" إنه يُدرك - على حافةِ الموت - البعد الميتافيزيقي للشر الذي يتمكن منه، ويرى نفسه في الأدغال أخيراً. لقد أدركَ تماماً ثقل الشر الساحق، وزالت عن عينيه الغشاوة.
رغم أن دارث فيدر شخصية درامية أقل عُمقاً بكثير من شخصية كرتز، إلا أنه ينطلق من ذات مُنطلقاتِه: القدرة الفائقة والطموح. كلاهما يتبع سلطةً أكبر (الشركة الأم بالنسبة لكرتز، والإمبراطور بالباتِن بالنسبة لدارث فيدر)، وكلاهما يملكُ قدراتٍ لا تملكها هذه السُلطات. حكايةُ جنون دارث فيدر وتحوله من جيداي إلى سِث مزيجٌ من الغيرةُ والطموح الزائد. إنه كتلةُ عواطف مشتعلة تتحول إلى نصف آلةٍ نتيجة لانفجاراتها العاطفية. التشويه الجسدي الذي يلحقُ أناكِن سكايووكر يحوله إلى دارث فيدر المشوه نفسياً. وخلافاً لغيره، فإنه لا يسقط في الهوة المُحترقة، أو يُدرك الرُعب. إن خلاصه يتم على يدِ ابنه الذي كان عدواً له منذ زمنٍ طويل. في النهاية، يخلع قناعه لأنه يُدرك أن عليه مواجهة العالم بوجهه المُشوه، وروحه المشوهه. إنه يُقرُ بحقيقةِ نفسه في النهاية، وفي هذا خلاصه.
يصلُ التشويه الروحي في سلسلة هاري بوتر بُعداً جديداً، فلورد فولدمورت يُمزقُ روحه إلى أجزاءٍ عامداً لأنه يُريد الخلود. مثل دارث فيدر، فإنه يبدأ باسمٍ آخر وشخصية مُختلفة، ثم يمرُ بطورِ التشويه الجسدي والنفسي ويُغيرُ اسمه، لكن التشابه بين الشخصيتين ينتهي هُنا. ينشأ توم مارفولو ريدل في ملجأ أيتام، ويكتشف أنه يملكُ قوةً خاصة، لكن من دون توجيه أو إرشاد. إن الأفاعي تهمسُ له بأشياءٍ في الليل - أمرٌ مرعبٌ لطفلٍ - وتزيدُ من ميولهِ الأباثية. إنه لا يأبه بمن حوله، ويعرف أن من حوله لا يأبهون به، لكنه يُريدُ أن يعيش أبدَ الدهر، ويُريدُ من العالم أن ينظر إليه باحترامٍ وتوقير. دوافعُ لورد فولدمورت مُعقدةٌ، إذ يمتزجُ فيه جنون العظمة برُهابِ الموت وانعدام الإحساس بمن حوله. جنونُ العظمة ورُهاب الموتِ يدفعانه لأن يتخلص من إنسانيته - كما فعل كرتز - وحسه الكليل يحرمه منها. لورد فولدمورت لا يعبرُ باتجاهِ الشرِ لأن الخير والشر لا يعنيان له شيئاً. واحدةٌ من العبارات المُقتبسة عنه كثيراً - حتى تحولت إلى كليشيه: "لا يوجد خيرٌ أو شر، هُناك فقط القوة، ومن يخشون امتلاكها." تحولاتُ لورد فولدمورت ليست عفوية مثل تحولات دارث فيدر، بل مُخططاً لها، إذ بدأ بتبني اسم لورد فولدمورت في مُراهقته، وفي تلك السن ارتكب أولى جرائمه ليُمزق روحه عامداً. إن فكرةَ القتل وتمزيق الروح المُرعبة لم تجعل شعرةً في رأسه تهتز، لأنه لا يُؤمن بمفاهيم الخير والشر التي يؤمن بها الآخرون. حتى فاوستس يخاف حين يوقع العقد مع مفستوفِلِس، ويتراجع فرولو عن غيه خوفاً على روحه، لكن فولدمورت لا يهتمُ بها إلا بقدر ما تكفل له عدم الموت الذي يراه مرادفاً للفناء. ورغمَ أنه لا يؤمن بالخير والشر، إلا أنه يؤمن بالخرافات المتعلقة بالرقم سبعة وبالنبوءات وبتأسيس هوغوورتس، وإيمانه الشديد بالخرافات يقتله. تحولُ لورد فولدمورت إلى شيء غولاني يأتي تدريجياً ومتعمداً: إنه يُرافق "أسوأ أنواع السحرة، ويخضع لتجارب شريرة" لوقتٍ طويل. وتحوله ليس شيئاً سرياً، وإنما علنياً، ويجري لزمن - بحيث أنه كان من المُمكن إيقافه لولا تقاعس دمبلدور. وفي ذلك، يتشابه فولدمورت مع مالاخ (الرمز المفقود) الذي يُقدم جسده قُرباناً للمعرفة المُطلقة.
لا يحظى لورد فولدمورت بلحظةِ تنويرٍ نهائية، لأن الموتَ يقهره من دون أن يمرَ بلحظةِ إدراك. لكن منفاه الإجباري لثلاثة عشر عاماً قد يكون نوعاً من التنوير الذي يقوده إلى صعودٍ ثانٍ أكثر وحشيةً وعدوانية: إنه يبقى لثلاثة عشر عاماً إرادة محضة، لا يعرف ما يكون، لكنه يعي العالم من حوله. لقد قهر الموت، وقهر العالم بأكمله عندما استعاد جسده وأفسد مخططات ألباس دمبلدور. في عودته، لم يكن فولدمورت متسامحاً مع أكلة الموت - أتباعه - لأنه أدرك أنهم استغلوه. لقد ركب أنقياء الدم العربة مع لورد فولدمورت لأنه كان قوياً، ويكره غير السحرة، ويُحقق لهم فكرتهم العنصرية عن النقاء العرقي، غير أنه لم يكن نقياً عرقياً - بشكلٍ شخصي - وعندما سقط، أنكره أكلة الموت جميعاً - عدا أربعة فحسب. لذلك، عاد مُبغضاً لهم جميعاً، يؤنبهم بشدة، ويستولي على قصر مالفوي رغماً عن إرادته. انتقامه الوحشي من لوسيس مالفوي يجعله يضم ابنه المُراهِق إلى أكلة الموت، ويكلفه بمهمة قتل دمبلدور التي لا يستطيع القيام بها أفضلُ السحرة. رغم أن جماعة أكلة الموت كانت جماعة سرية منذ البداية، أي أن الخروج عنها يعني الموت، إلا أنها تحولت في عهد فولدمورت الثاني إلى جماعةٍ علنية الانضمام إليها إجباري، ولا يعني الحصانة من غضب فولدمورت، ورغبته في إذلال أكلة الموت قبل غيرهم.
في عالم الأرض الوسطى الذي يُنشئه ج. ر. ر. تولكن، تدعو مصائر الأشرار للرعب والشفقة: النازكُل التسعة الذين تعفنوا وهم أحياء لقرون ومن ثم تحولوا إلى أشباه أشباح، سميغول الهوبيت الذي تحول إلى الوحش غولوم، سارومان الساحر الذي سلك طريق الشر. إن الشرَ قويٌ، مُطلق، عتيق، وكامنٍ في الأعماق في أساطير تولكِن. إنه ينالُ حتى أكثر الكيانات قداسة في المؤسطرة: الجن. وحضوره عن طريق العين التي لا تنام أكثر من حضورٍ ميتافيزيقي، إنه ثقلٌ يسحق الوجود بأكمله، ويجدد نفسه كلما انطفأت شعلته. الشرُ مُتمركزٌ في موردُر، ومنها يخرجُ إلى العالم، لكن جارة موردُر المباشرة المدينة البيضاء غوندُر، أول مُدن البشر، أو آخرها. إنها المكانُ الذي يواجه شرَ موردُر، والمكانُ الذي يمسهُ الشر من حينٍ لآخر. إنها دوراتٌ متعاقبة، يحلُ فيها الشر بوصفه أمراً قدرياً لا فكاك منه، ينالُ كُلَ الأعراق، ولا ينجو منه أحد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق