كنت أقرأ اسم ستيف جوبز لماماً في كتابات فلاسفة التقليلية Minimalism، إذ أنهم يقتبسون منه بين حينٍ وآخر. ورغم اهتمامي بمُنتجاتِ شركة آبل، وبثقافتها، إلا أن رئيسها التنفيذي كان دوماً شخصيةً ثانوية بالنسبة لي. كان يُخيَلُ إلّي - عندما أقرأ اسمه عند فلاسفة التقليلية - أن هذا الاسم مألوف، لكنني أعجز عن نسبه إلى مهنةٍ محددة. هل هذا الجوبز فيلسوف؟ ناشط ثقافي؟ الاحتمالات لا نهائية. المهم أنه شخصٌ انتقائي كاره للبشر.
ذات يومٍ، تعثرت بمقالةٍ - لا أذكر كيف وصلت إليها - جذبت انتباهي بعبارةٍ افتتاحية مُخيفة عن ستيف جوبز. (لن أعيد اقتباسها، لأنها قاسية جداً ولا إنسانية). قررتُ قراءة المقال لأعرف من هذا الستيف جوبز، وما الذي فعله حتى استنزل عليه لعنة الكاتب بهذا الشكل الذي يُجمد الدم في العروق. وصلتُ إلى نهاية المقال - الذي يُشبه وثيقة إعدام - ولم أعثر على إجابةٍ شافيةٍ لأسئلتي، لكنني اكتشفت معلوماتٍ لم أكن أعرفها من قبل. اتضح لي - من المقال - أن هذا الستيف مزيجٌ من كراكن وتنين وهيدرا، له تسعة رؤوس، ينفثُ اللهب من منخريه، يتغذى على الأطفال الصغار - نفت تعليقات القراء ذلك، مشيرةً إلى أنه يعتاش على دماء العذارى فحسب، ويخدمه دارث فيدر والإمبراطور بالبتَين ولورد فولدمورت وسورون ومورغوث والنازكُل التسعة مجتمعين غير قادرين على النظرِ في عينيه لفرط شره. انتهت المقالة نهايةً درامية لا تقلُ قوةً عن افتتاحيتها، ومفادها أن ستيف سينتهي في مصحٍ عقلي.
لم تكن التعليقات أقل عدائية من المقالة، إذ ناقشت بحقه أحكاماً تتراوح بين خوزقته وإلقائه لأسماك القرش. أرعبني الأمر، فنقاش مصيرُ إنسانٍ حي بهذه الطريقة اللا إنسانية أمرٌ يصطدم مباشرة مع موروثي الحضاري، والتزامي الأخلاقي تجاه الإنسانية. بدل أن يتحقق هدف كاتبُ المقال الأصلي - أن أكره ستيف جوبز كما يكره الأتقياء الشيطان، وأتحول إلى الطائفة الغوغلية - فإنني صرتُ من المهتمين بستيف، وفقدتُ آخر خيطٍ يربطني بالغوغلية. إذا كان الرجلُ قادراً على توليد كُل هذه الكم من الكراهية ضده والعنف اللفظي من دون أن يكون مُجرم حربٍ أو قاتل أطفال، فإنه ليس أقلَ من فنان.
اكتشفتُ بعدها أن ستيف جوبز أكثر تأثيراً في عالم التقنية من بيل غيتس نفسه - مع أن ثروته عُشر ثروة غيتس، وأنه العدو الأوحد لمجتمع المصادر المفتوحة، مايكروسوفت، غوغل، نوكيا، وسوني إريكسُن. كذلك، تعرفتُ على تأثيره على النزعات الاستهلاكية اليوم، بوصفه الأب الروحي لمجتمع الآي بود التي تظهر في مسلسل آل سمبسون بوصفها المُستعبِد المُستقبلي للجنس البشري. وتذكرتُ أنه ظهر في حلقة "مايبودات ومقشات" في مسلسل آل سمبسون - الحلقة التي عرضت شخصياتٍ مسلمة بوصفها المُحرِك الرئيسي للحبكة لأول مرة في تاريخ المسلسل - في هيئة الكيان المُسيطر على عالم مابل من مقره تحت الماء. رغم أن "مايبودات ومقشات" ليست من كلاسيكيات آل سمبسون، إلا أنها لم تخلُ من أفضل ما يُميز المسلسل: النقد الاجتماعي الحاد لظاهرة آبل، وشخوصها، وعبادة البطل المرتبطة بستيف جوبز فيها، وميولها القمعية. آخر الأمر، تضطر ليسا سمبسون للعمل عند آبل لتدفع ديونها الهائلة للشركة في وظيفة يعرضها عليها ستيف نفسه، وبعد أن تتحمس وتوافق، تكتشف أنها وقعت عقداً شيطانياً آخر مع الشركة، إذ أن وظيفتها تصير الوقوف في ركن الشارع مرتدية زي آي بود، لتردد من دون انقطاع شعار آبل (الرسمي): "فكر بشكلٍ مختلف! فكر بشكلٍ مختلف!".
يوجد أكثر من ثلاثين كتاباً تتحدث عن ستيف جوبز في موقع أمازون، بين سيرة شخصية غير رسمية له، وبين تأريخ لشركة آبل، وتحليل لقراراته في مسيرته بوصفه المدير التنفيذي لشركةِ آبل. واحدُ من هذه الكتب، iCon، أحنق ستيف للغاية حتى أنه منع منشورات دار وايلي بأكملها من الظهور في متجر iTunes، وبالتالي من الوصول إلى أجهزة الآي بود والآي فون والآي باد. قرارُ ستيف الديكتاتوري جلب له أعداء كثيرين أحنقهم أن يقوم بمراقبة متجر الكتب، كأن رقابة الحكومات القمعية لا تكفي. وشبهه البعضُ بالصين، قائلين إنه مساعد الرئيس الصيني هو جِنتاو. فيما بعد، تراجع ستيف عن قراره، لكن متجر iTunes بقي مُعادياً لكل أشكال السخرية والهجاء السياسي والاجتماعي بمنعه كل التطبيقات ذات "الروح اللئيمة" التي تبطن "نية الإيذاء وجرح المشاعِر". بهذه الطريقة، تمكن ستيف من منع مُعظِمِ المحتوى الذي يسخر منه من الوصول إلى iTunes - وإن لم يتمكن من منعه على يوتيوب والمواقع المستقلة على الشبكة - مفوتاً على زبائن المتجر فرصة الاستمتاع بفنِ هجاء ستيف جوبز.
غير أنه يُلهِم طوائف الماك، ومن يعتقدون أنه تجسدٌ خوارقي، فإن ستيف يُلهِمُ العديد من الكُتاب والمُبرمجين والرسامين والمُصممين ليسخروا منه، ومن الكلمات التي يُكررها في عروضه الرسمية ("جنوني"، "سحري"، "ثوري"، و"مذهِل")، ومن ردوده عن طريق البريد الإلكتروني على بعض من يراسلونه، ومن ثيابه التي لا يُغيرها، ومن هوسِه بالمُنتجات التقليلية، ومن بغضه للأزرار، ومن مزاجيته، ومن سلاطة لسانه. بعضُ المحتوى الساخر عن ستيف جارحٌ حقاً - أكثر من المقالة التي جذبت انتباهي إليه - إذ يستخدم معاناته مع سرطان البنكرياس واختلال التوازن الهرموني واقترابه من الموت للسخرية، ويتطلب الضحك عليه قدراً كبيراً من الأباثية أو السادية.
في 2006، بدأ دان ليونز مدونة بعنوان المفكرة السرية لستيف جوبز، ووقعها باسم "ستيف جوبز المزيف". ولعامٍ بقيت هويته سراً يُحيِرُ المهتمين بالتقنية، إلى أن كُشِفَت في 2007. بعدها بعامٍ أصدر روايةً باسم "ستيف جوبز المزيف" عن أزمةِ حصة الأسهم الممنوحة لستيف جوبز بسعرٍ تفضيلي - عن طريق التلاعب بتواريخ منحها - يجعله يُهرِبُ عشرين مليون دولارٍ بعيداً عن عيون الضرائب. تعرضت آبل لسلسلةٍ من التحقيقات الحكومية بسبب الأزمة - خصوصاً وأن مسؤولين تنفيذيين آخرين في الشركة تورطوا فيها، واستقال بعضهم - ورفع مجموعة من حملة الأسهم في الشركة دعوى قضائية جماعية ضد جوبز ومجلس الشركة التنفيذي تُطالبهم بسبعة مليارات دولارٍ تعويضاً عن الضرر الذي أصاب سمعة الشركة وتسبب في انخفاض قيمة أسهمها. في النهاية، لم يستقِل جوبز، ولم يحصل على الأسهم، ولم توجه إليه أي تُهمِ إجرامية حيثُ برأه التحقيق الحكومي مثبتاً أنه لم يكن على علمٍ بالتلاعب في حسابات آبل المالية والمعاملة التفضيلية التي حصل عليها التنفيذيون، وكذلك فعل التحقيق الداخلي الذي أجرته آبل، غير أن وسائل الإعلام بقيت تنظر إليه بوصفه محتالاً كبيراً.
أضافت أزمةُ الأسهم - التي قد يكون بريئاً منها - إلى سمعةِ ستيف السيئة أصلاً بوصفه أبخل المدراء التنفيذيين في عالم التقنية. إذ أنه أغلق قسم الأعمال الخيرية في آبل عندما عاد ليتولى قيادة الشركة بدعوى تخفيض النفقات حيث أن الشركة لم تكن تربح شيئاً يُذكر في ذلك الوقت، لكنه لم يعاود افتتاح القسم عندما عادت الشركة للربح. كذلك، فإنه لا يتبرع شخصياً لأي جهة خيرية، ولا يستثمر في أي مشاريعٍ تهدفُ إلى تحسين أوضاعِ الطبقاتِ المحرومة - كما يفعل بِل غيتس، مثلاً. ولا يُقدم في آبل أي مُنتجاتٍ معقولة الأسعار، مما جعله يشتهر بلقب "كاره الفقراء".
مهد دان ليونز الطريق للكثير من الساخرين الذين ينالون من ستيف بطرقٍ مُختلفة، سواء كان هدفاً عشوائياً لهم، أم هدفاً مُستمراً. مع كم هائلٍ من الفيديوهات الساخرة في موقع يوتيوب، ومجموعةٍ من الحسابات المُزيفة على موقع تويتر، وبعض العروض المُخصصة له. واحدٌ من أشهر حساباتِ ستيف المزيفة على تويتر الحسابُ المعروف باسم @ceostevejobs. يتحدث مُشغِلُ الحساب - المجهول حتى الآن - بجدية حول مواضيع عديدة، ويسخر من سياسات آبل وما يدور في عالم التقنية بشكلٍ هادئ حتى أن البعض يعتقدُ أنه حسابُ ستيف جوبز الحقيقي نفسه، لكنه يرفض تأكيده على موقع تويتر ليتمكن من قولِ ما يحلو له من دون مُحاسبة. خدعت هذه النظرية صحيفة الديلي ميل التي نشرت تقريراً بناء على واحدٍ من تحديثات الحساب.
واحدٌ من أطرف العروض التي تدور حول ستيف جوبز برنامج The Steve Jobs Show الذي يُقدمه ستيف نفسه في هيئة دمية، ويتحدث بوضوحٍ من خلاله عن آرائه في التقنية، وفي الانتقادات الموجهة إلى شركة آبل، ويجيب فيه عن أسئلة الجمهور. مُقدمةُ البرنامج طويلة، وتظهرُ فيها كلماتُ مديحٍ لستيف على خلفية نظام Mac OS X، وموسيقى "غزوة الفالكيري" الشهيرة. بعد المقدمة، يظهر ستيف فوراً ويتحدث في موضوعه مباشرة. البرنامج واحدٌ من أفضل العروض الساخرة على الإطلاق، خصوصاً في حلقاتٍ مثل "زبائننا الكرام الأعزاء" و"أناس أكرههم، أناسٌ أحبهم".
مع كُلِ محاكاةٍ ساخرةٍ جديدة، يكسب ستيف جوبز أرضاً جديدة، إذ أن صورته تترسخ بوصفه أهمَ أقطابِ التقنية اليوم وأكثرهم نفوذاً. إن الجمهورُ الذي ينجذبُ إليه أكبرُ بكثيرٍ من الجمهور الذي ينجذب إلى بِل غيتس وستيف بالمر ولاري إليسون وإريك شميدت، ويضمُ أناساً من خارج الجمهورٍ التقني. كذلك، فإن المستوى الفكري المُرتفع لكثيرٍ من الأعمال التي تسخرُ منه يجذب إليه جمهوراً من مستوى فكريٍ مرتفع، ويجعله أيقونة للثقافتين النخبوية والشعبية. بهذه الطريقة، يصيرُ قادراً على أن يُحدد اتجاه التقنية (اتجاهه للهواتف المحمولة ألهم غوغل وفيسبوك)، ويفرض مقاييسه الجمالية عليها (التقليلية، والمونوكرومية).
تأثيرُ ستيف يتجاوز التأثير الثقافي والتقني إلى التأثير الاقتصادي، إذ أن انتعاشَ أسهم آبل وقيمتها السوقية مُرتبطٌ بشخصه ارتباطاً تاماً، فالأنباء عن تدهور حالته الصحية تؤدي إلى تدهور قيمة آبل السوقية، والنبأ غير المؤكد الذي نُشِرَ عن إصابته بسكتةٍ قلبية ونقله إلى المُستشفى بشكلٍ عاجل تسبب في هبوط أسهم آبل بشكلٍ غير مسبوق. في المُقابل، لم تُسبب أزمة هوائي iPhone 4 مشكلةً حقيقية في أسهم آبل، رغم أنها كان يُمكن أن تخاطر بسمعةِ شركةٍ أخرى. حتى أن البعض يعتقد أن الاستثمار في آبل ليس استثماراً في الشركة بقدر ما هو استثمارٌ في شخص ستيف جوبز، قُطب الشركة الأوحد، أعلى المدراء التنفيذيين أجراً في العالم، والمدير التنفيذي الوحيد الذي لا يجرؤ مجلس إدارة شركته على طرده.
جزء كبيرٌ من تأثير شخصية ستيف يعود إلى حقيقة أن أي خبرٍ عنه قابلٌ للتصديق - مهما كان غريباً - لذلك شاع مؤخراً خبرٌ كذبته آبل عن منعه من الصعود على متن طائرته الخاصة في اليابان حاملاً سلاح نجوم الننجا، ورغم التكذيب فإنه قد وجد طريقه إلى التصوير ثلاثي الأبعاد، وفسره البعض تفسيراً منطقياً.
التأثير الثقافي والاقتصادي لستيف جوبز يجعله على درجةٍ من الأهمية توازي أهمية فلاسفة ما بعد الحداثة. في الواقع، بحكم أنه من كبار منظري التقليلية، فإنه يُمكن أن يُعد ضمن الفلاسفة، وبسبب ميوله الكارهة للبشر، فإن نيتشه قد يكون مصدرَ إلهامٍ محتملاً له. وعلى كل حالٍ، فإن الوقتَ لا يزال مُبكراً - بعض الشيء - لوضع ستيف جوبز في مكانه المُستحق من التأثير الثقافي في القرن الحادي والعشرين.
ستيف جوبز ومشكلة هوائي الآي فون - يوتيوب
أغنية هوائي الآيفون - يوتيوب
ستيف وبِل معاً - يوتيوب
حقائق حول ستيف جوبز - موقع يُقدم مجموعة من (الحقائق) التي وضعها الجمهور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق