11 أبريل 2008

الحُبُ فِيْ زَمَنِ الكُولِيْرَا: جَمِيْلٌ، جَمِيْلٌ، جَمِيْل...!


حتى الآن، لم أشاهد فيلماً يفوق الحب في زمن الكوليرا جمالاً.
مُنذ فترةٍ وأنا أتسقط أخبار الفيلم ونُتفاً منه على مواقع مثل يوتيوب، وقاعدة بيانات الأفلام على الشبكة، وميتاكريتيك. على الموقع الأخير، كانت مُراجعات الفيلم متضاربة للغاية، فهناك من اعتبره فيلماً لا بأس به، وهناك من وصفه بأنه أسوأ تصوير لرواية أنتجته هوليوود على الإطلاق. دار الكثير من اللغط، خافيير باردم كان خياراً سيئاً. لا يُمكن أن يكون بنجامين برات هو خوفينال أوربينو. جيوفانا ميزوغيورنو أقبح من أن تكون فرمينا داثا. جون ليغوازامو ينفرد بكونه صاحب أسوأ أداء في التاريخ، بحيث أن مشاهدته يؤدي دوره ألمٌ محض. مايك نويل أفسد الفيلم تماماً وفقد السيطرة. رونالد هاروود كتب سيناريو سيئاً للغاية بحيث لا يُمكن أن تُحمد له حسنة واحدة حتى.
والنتيجة: كارثة سينمائية محققة!
مراجعات مُبشرة تجعل المرء يرغب في مشاهدة الفيلم، وتُناقض تماماً تريلر الفيلم الجميل، وأغنيتي شاكيرا الموجعتين. ثُم أُضيف إليها رأي قويٍ معادٍ للفيلم من صديقتي - وربما كان ذلك انتقاماً مني لإفسادي عليها كتاباً من قبل - يصف الفيلم بأنه تخريبٌ تامٌ لرواية بديعة، تخريبٌ يشوه صورة خوفينال أوربينو بطريقة بشعة لصالح فلورنتينو أريثا من ضمن ما يشوهه في الرواية.
كنتُ على وشك التخلي عن مشاهدة الفيلم بتأثير الآراء القوية المعادية له، غير أنني عزمتُ رأيي أخيراً على مشاهدته، فقد انتظرته زمناً طويلاً، منذ أن قرأت ذات ظهيرة في جريدة أن غابرييل غارسيا ماركيز باع أخيراً حقوق روايته الشهيرة الحب في زمن الكوليرا (El amor en los tiempos del cólera) ليتم إنتاجها للسينما، ومنذ أن قرأت ذات مساءٍ في موقعٍ على الشبكة أن مايك نويل هو المخرج، واسم نويل يبيع أي فيلمٍ لي، كما يبيع اسم ماركيز أي رواية لي.
بأية أعينٌ شاهد الفيلم من أنكروه كل فضيلة؟
يكاد الحُب في زمن الكوليرا يُنحي فيلم المريض الإنكليزي (The English Patient) عن مكانته باعتباره أفضل فيلمٍ مقتبسٍ عن رواية، ولا تُهم هنا حسابات الأوسكار، فمن المخجل أن يفوز فيلم لا مكان للمسنين (No Country for Old Men) بأوسكار أفضل فيلم بينما يخرج الحب في زمن الكوليرا خالي الوفاض حتى من جوائز أفضل أغنية، وموسيقى أصلية، وتصوير سينمائي، وإخراج فني، ومونتاج! وهي جوائز يستحقها خيراً من أي فيلمٍ رابحٍ هذا العام. يكادُ لأن اعتبارات أفضل وأقل أفضلية أمورٌ نسبية تختلف من شخصٍ لآخر، أما بالنسبة لي فقد نحاه تماماً لينفرد بكونه أروع تجسيد لرواية، وأكثر التجسيدات حياة.
الفيلم فيلمٌ، والرواية رواية. ولن يحل أي منهما محل الآخر.
مشاهدة الفيلم بمقاييس الرواية عملٌ عبثي، خير منه أن يكتفي المرء بالقراءة. وكذلك قراءة الرواية بمقاييس الفيلم عملٌ عبثي بشكلٍ مساوٍ. فما هي الغاية من تمثيل رواية بكل كلمةٍ فيها؟ ما هو الإبداع الذي يكمن في هذا التكرار المُخل؟ وكيف يمكن أن يكون الفيلم رواية؟ أو أن تكون الرواية فيلماً؟ والفيلم دراما، بينما الرواية سرد!
ليشاهد المرء الحُب في زمن الكوليرا، ينبغي عليه أن ينسى الرواية، ويستقبل الفيلم بدون آراء مسبقة. أن ينسى آراء النقاد المتعجرفين، ولجنة الأوسكار العمياء، والأصدقاء الحانقين. ليستمتع بجمال الفيلم الذي يظهر منذ أول بزوغٌ لزهرةٍ بألوانٍ كاريبية متوهجة، ولا ينتهي بلقطة نويل البانورامية للنهر الكبير الذي يشبه الحياة. البداية الباردة نسبياً، المتوترة والمفاجئة. الجمهور يكاد لا يعرف شيئاً. أحدهم مات، "سمكة كبيرة" كما يقول فلورنتينو أريثا. جنازة، ثم أريثا يظهر للأرملة المكلومة ليذكرها: "لقد انتظرت هذه اللحظة واحداً وخمسين عاماً، تسعة أشهر، وأربعة أيام." فتطرده. إخراج نويل هادئ، وصوره تأتي من زوايا جمالية لا تهدف إلى استعراض مهاراته في اختيار زوايا اللقطات الأجمل، بل تساهم في رواية القصة من وجهات نظر الكاميرا المتعددة. يعود الفيلم إلى صبا داثا وأريثا، والحب الذي يكنه أريثا لها منذ أول مرة يراها فيها عندما يذهب إلى بيتهم ليسلم تلغرافاً إلى أبيها لورينزو داثا تاجر البغال ذي الثروة مجهولة المصدر، لينسج حب الصبا بين الاثنين في زمنٍ تتناوشه الحرب الأهلية والكوليرا. وبتصوير حيٍ نابضٍ بالحركة يكاد يلغي حد الشاشة الفاصل بين المشاهد والفيلم.
لورينزو داثا الذي يُريد لابنته زوجاً أفضل يبعدها عن المراهق أريثا ليأخذها إلى منزل خؤولتها في واحدٍ من أجمل تتابعات الرحلات في الأفلام للعقدين الأخيرين. يبقى التواصل بينهما قائماً عن طريق التلغرافات، حتى يعود بها لورينزو بعد عامين. في السوق تلتقي بفلورنتينو أريثا وتدرك أنه شبحٌ لا رجل، فتقطع علاقتها به لحظتها دون رحمة، أو رجعة.
تتدخل الكوليرا من جديد لتأتي بالطبيب خوفينال أوربينو إلى منزل داثا ليفحص فرمينا التي يُشتبه في إصابتها بالكوليرا. يبقى الطبيب قريباً منها رغم أنها ترفضه، وبملاحقته اللصيقة لها يتوصل إلى الزواج منها أخيراً ليترك فلورنتينو أريثا حطاماً. يستجمع أريثا طاقته ويقرر أن يصبح رجلاً مهماً في المجتمع ليحصل عليها، سيحرز ثروة تفوق ثروة أوربينو، ومكانة عالية، وسيتزوج فرمينا بعد أن يموت زوجها، ولو اضطره الأمر أن ينتظرها لواحدٍ وخمسين عاماً. هذه هي العقدة الأساسية التي ينسجها الفيلم برقة وحذاقة طوال مدة عرضه، حيث يختفي الإحساس بالزمن، ويبقى الإحساس بقيمة الذكريات. الحب في زمن الكوليرا اقتباسٌ مخلص تماماً للأصل الروائي، لكنه لا يتخلى عن كونه فيلماً أبداً. فيلماً تتظافر فيه عناصر السيناريو، والإخراج، والتمثيل، والموسيقى المذهلة لأنتونيو بنتو لتخلد أعظم قصة حُبٌ رويت على الإطلاق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق