تنسب مدرسة القراءة الفاحصة للنص نفسها إلى الشاعر الإنكليزي والناقد ت. س. إليوت، لكنّه يتبرأ منها بشدة، واصفاً إياها بأنها مدرسة "عصر الليمون". قد يكون إليوت مُحقاً في قوله - وإلى هذا أميل - غير أن هذا لا ينفي أن مدرسة القراءة الفاحصة لا تزال حية في تقاليد النقد الأدبي اليوم. ولعل أفضل وصفٍ لتقليد عصر الليمون هذا ما قاله زميلٌ لي في أحد الفصول الأدبية: "لو أن إحدى شخصيات فرجينيا وولف قد تناولت بيغل بالجبنة القشدية على الإفطار، لكُتِبَت أوراقٌ بحثية في تحليل هذه الحادثة وتفنيدها وشرحها". حظي الزميل بتأييد الأستاذ، وبتأييد بقية الزملاء، وكُنت وحدي من اعترض، إذ لا أميلُ كثيراً إلى عصر الليمون.
يترقب الكثيرون صدور فيلم قيامة فارس الظلام (٢٠١٢) بشغفٍ كبير مُنذ أُعلِنَ عنه، وبعد إصدار تريلر الفيلم، ارتفعت أعداد المنتظرين صدورَ الفيلم في صالات السينما كثيراً. ولأنني منهم، فقد يكون انتظار صدور الفيلم مناسبة لا تتكرر لممارسة بعض عصر الليمون مختلطاً بقليل من الرجم بالغيب.
لستُ من جمهور المخرج البريطاني كريستوفر نولن - الذي يجتذب طائفة أشياعٍ واسعة حوله - وهذا لا يعني إنكار براعته الحرفية الشديدة، وكونه مُخرج رؤى عظيماً من الطراز الذي تبني عليه هوليوود مجدها. فيلم فارس الظلام (٢٠٠٨) كان فيلماً شديد الفخامة، جعل سلسلة تِم بِرتُن الأصلية تشحُب مقابله. (كان فيلم باتمان (١٩٨٩) قد اتُهِم بأنّه فيلم ظلامي يخون السلسلة التلفازية الأصلية، وهو كذلك بالفعل، غير أن ظلامية نولّن تختلف عن ظلامية بِرتُن في ذلك الفيلم). فارس الظلام السببُ الأولُ في أنني أنتظر قيامة فارس الظلام، أمّا السبب الثاني لهذا فهو تريلر الفيلم الذي سيقع عليه الجزء الأكبر من عصر الليمون:
يُفتَتح الفيلم بأصواتِ هُتافٍ من ملعب كُرة قدمٍ أمريكية، في مُباراةٍ هامة - وأغلب الظن أنها مُباراة السوبر بول - وطفلٌ - أبيض - يُنشد النشيد الوطني الأمريكي بصوتٍ عذب، ثم يتراجع الصوت إلى الخلفية، ويبقى خلفية مُعظم التريلر. ثمة توتر وترقب. مشاهد لقصر بروس وين الهادئ، ومايكل كين يقول: "أنت غالٍ علّي كما كُنت على أمك وأبيك. أقسمت لهما أن أحميّك، ولم أفعل." كريستيان بيل ينظر إليه مشدوهاً، كأنّه يُعاني من نوبة اكتئابٍ عميق. (من شاهدوا فارس الظلام يعرفون لِمَ قد يكون بروس وين مكتئباً). يعود صوت الطفل إلى المقدمة مع مشهدٍ لغوثام (المدينة التي تُقابل نيويورك في الأدبيات الأمريكية): "حين خبا الشفق لآخر مرة". الناس مُحتشدة، ثم غاري أولدمان، وهناك تعليقات: "إنّه بطل". "إنّه بطل حرب، والآن وقت سِلم." كريستيان بيل يدخل إلى حفلة، وسؤال: "هل تظن أن هذا سيستمر؟" ثم آن هاثاواي مُقنّعَة تضمه، وتقول له: "ثمة عاصفة في الطريق يا سيد وين." هناك مشاهد جريمة، توتر، بين (مايكل هاردي) يدخل الكادر، ثم آن هاثاواي تتهيأ: "ينبغي أن تحتمي ورفاقك خلف البوابات". ويُرافق ذلك تفجير، وغاري أولدمان يختبئ وراء جدارٍٍ يُجاور باباً. ثم مشاهد دمارٍ منزلي مختلفة، بعدها تعود آن هاثاواي: "لأنك ستتعجب كيف أمكنّك أن تعيش بهذه الفخامة وتترك الفُتات لبقيتنا."
ثم يكشف الفيلم قناعه كاملاً، المساجين يخرجون بملابس الإعدام، مسلحين. مشاهد دمار. تدخل الجيش. معارك. ملعب كرة القدم الأمريكية من جديد. سجن غوثام بسلالمه المثيرة للاهتمام. "إلى أين المآل؟" يأتي الجواب: "انهض". ثم مشهد التفجير الشهير، حين يهوي الملعب كله في حفرة، ولاعبٌ - أسود - يجري والهاوية وراءه. بين يظهر: "عندما تصير غوثام رماداً، سآذن لك بأن تموت."
مشهد من حياة بروس وين الساكنة، حبيبته تظهر، آن هاثاواي في محطة قطار، تبدو وكأنها إحدى سيدات الفيلم نوار. ثم الجيش، معارك، دبابات، أسلحة متطورة، بئر سحيق. لقد قامت قيامة غوثام، وسقطت عماراتها الشاهقة، والتهمتها كرة لهب بيضاء.
كريستوفر نولن مُخرج بريطاني، لكنّه يفهم العقلية اليمينية الأمريكية جيداً، ويُخاطبها دون غيرها في هذا التريلر - وفي الفيلم، غالباً، كما فعل في فيلم فارس الظلام: يبدأ التريلر بشيء عزيز على الأمريكان، النشيد الوطني وكرة القدم الأمريكية، ثم ينتقل إلى عرض حياة البطل الأمريكي الذي دخل في حالة موات إليوتية - إن جاز التعبير - مُنذ فارس الظلام، وافتدى غوثام بنفسه. الوقت سِلم، لكن اليمين المُتطرِف لا يُحِب السِلم. إنّه يُعيد اجترار هرمجدون بلا نهاية.
وهنا، يأتي التهديد المُرعِب لكُل يميني في العالم: اضربهم حيث يؤلمهم، في جيوبهم. الخطر الشيوعي. آن هاثاوي تُهدد الرأسمالي الأمريكي بأن العاصفة قادمة، المد الشيوعي قادم، والسِلم مُجرَد خُدعة. يعقُب ذلك رُعب كُل اليمينيين - رغم حُبهم للحرب: الانفلات الأمني، خروج المساجين، تدمير معلب كرة القدم الأمريكية، الحرب في ديارهم.
يترافق مع هذا خطابٌ ديني. يكاد التريلر يُشبه الأرض اليباب - قصيدة إليوت - إذ أنّه يدور بين جُمعة الصلب وأحد القيامة. لقد صلبت غوثام بطلها، واعتقدت أنها افتدت نفسها من الخطيئة، لكن غوثام ستدفع الثمن، حتى يقوم فارس الظلام، وتقوم قيامة غوثام.
كُنت أعتقد أن هذا إفراطٌ في تحليل النص، حتى ظهر تيزر شريط صوت الفيلم - من وضع هانز زيمر، كالعادة - وعضد هذه القراءة لتريلر الفيلم - التي يُفترض أن تجري على الفيلم نفسه حين يظهر.
عناوين المقطوعات: "أتمانُع في أن أقتطع لي نصيباً؟"، "جيش الأنفاق"، "لماذا نسقط؟"، "الموت بالمنفى"، "تخيّل النار"، "شرٌ لا بُد منه"، "قُم!"، "مولودٌ في الظُلمة"، "قيامة النار"، "لا شيء هناك"، "يأس"، "سيجدك الخوف"، "العاصفة قادمة"، "على جليدٍ هش"، "حساب غوثام".
"حساب غوثام" ما حسَم الأمر، فكلمة "حساب" كلمة ذات حملٍ ديني ثقيل، ولا تدع مجالاً للشك في أن غوثام ستقف للحساب جزاء ما فرطت في حق بطلها باتمان. هناك اليأس والخوف الذين يُصاحبان الأدبيات الإسخاتولوجية. ثمة جيش تحت الأرض يتأهب للفتك بالأحياء، ثمة نار، وشرٌ لا بد منه، وكثيرون طواهم الموت حتى خلت الأرض، والجليد الهش يفصل بين البشر وبين الهاوية تحته. لقد قامت قيامة غوثام بلا شك.
يلزمُ مُشاهدة الفيلم لمعرفة ما إذا كان - بالفعل - عبارة عن هذيان إسخاتولوجي مرتبط بفوبيا الشيوعية التي يُعانيها اليمين، لكنني لا أتوقع له إلا أن يكون كذلك - من هُنا يأتي عدم ميلي لنولن. فارِس الظلام كان - بالفعل - مانيفستو فاشياً، وما بعد هذا إلا هرمجدون الأمريكية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق