19 يناير 2009

كلٌ شيطان!

شكا أبو الطيب المتنبي:
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه
أني بما أنا شاكٍ منه محسود
وعادت إلّي شكواه ذات تأملٌ في حال نظامنا التعليمي. يقولون دوماً إن النظام التعليمي العربي في الحضيض، وإن جامعتنا - وكليتنا، ومستعمرتنا على وجه الخصوص - تقبع في ذيل سلم التعليم العالمي، فنحن لا ندرس شيئاً ذا بالٍ، ولا يُمكن أن نفيد أو نستفيد. قد يكون هذا القول واقعاً، لكنه أكثر تشاؤماً مما أحتمل. بعض من يقولون إن التعليم متدهور يحاولون وقف تدهوره، ورفعه إلى مستويات مقبولة، فيعتمدون على ما يسمونه (المنهج الأمريكي) في التدريس والتعامل مع الطُلاب، وأساس هذا المنهج إطلاق منافسة قاطعة للرقاب بين الطلاب تجعلهم يكرهون أحشاء بعضهم البعض - كما في التعبير الإنكليزي -، وتمحو كُل أثرٍ لهويتهم الفردية. آثار هذا التعليم واضحة في بعض دكاترة المستعمرة ممن يتكلمون في نفس المواضيع، ويستخدمون نفس المفردات المعجمية، ويناقشون نفس الثيمات، ولديهم إطارٌ محدود من الأفكار يطبقونه على كُل موضوع يعترض طريقهم، فإذا خرج النقاش عما تدربوا عليه تاهوا، وإذا حُدِثوا بأمرٍ لم يُصادفوه في مناهجهم صُعقوا كأنما وُجِه إليهم الكلام باللاتينية.
بعد عدة سنين من الوقوع في شرك هذا النظام الاستعبادي، أستطيع أن أقول إن الرأسمالية لا تُناسبني، فالرأسمالية تفعل ما تتهم الشيوعية بفعله، أي أنها تحول الناس إلى قطعان مسلوبة الإرادة. وفوق هذا فإنها منافقة تقول ما لا تفعل، ولصة تسرق قوت يومي وروحي، وتحاول دون هوادة تحويلي إلى خروفٍ آخر في القطيع. فوق هذا كُله، فإنها عبارة عن منافسة محمومة مسعورة للحصول على أكثر ما يمكن من أقل الأشياء قيمة في الحياة.
المنافسة أمرٌ خطير، فمن يُنافس للحصول على أعلى الدرجات تُصبح حياته مُعلقة بالحصول على النسبة الأعلى، وحين يحصل سواه عليها، فإن هذا يعني هزيمته ودماره. الأمر ذاته ينطبق على من يتنافس مع الآخرين في كل ناحية من نواحي الحياة: لا بُد من أن يظهر شخصٌ ما يمكنه أن يفوز بالمنافسة بسهولة من دون أن يبذل مجهوداً، لا لحظٍ أو وساطةٍ، بل لخصلة فيه قد يكرهها بينما يحسده عليها آخرون كما في بيت المتنبي الشاكي.
واحدٌ من الأمثلة المخيفة عن خطر المنافسة يُمكن أن يوجد في قصة الشيطان والعابد، فالعابد خسر إذ تنافس في العبادة مع الشيطان الذي غلبه من دون تعب، فلو أن العابد قنع بما يستطيعه، ولم يُحاول أن يُنافس الشيطان، لما كانت عاقبة أمره غير محمودة. لقد غلبه الشيطان فيما يُجيده أكثر، وبذلك حطم روحه وهزمه فصار مسلوب الإرادة. في القصة تنكر الشيطان في هيئة رجلٍ مسن - والشيطان يتنكر دائماً في القصص - غير أن تنكره هُنا يُشير إلى أن الشيطان ليس بالضرورة المخلوق الذي طُرِدَ من الجِنة، بل إنه قد يكون كل امرئ. فكما لكلٍ شيطانه، فإن كُلاً شيطانٌ لغيره، يملك ما لا يملكه سواه، ويتوق إلى ما يملكه سواه.

هناك تعليقان (2):

  1. أحسنت يا صديقي كثيرا في تصوير واقع حال التعليم الجامعي عندنا.
    أحيانا يخيّل إلي أن مستوى التعليم في الجامعة قبل عشر سنوات أفضل مما هو عليه الآن بمراحل.
    قبل فترة زرت الجامعة التي درست فيها ولاحظت أن مبانيها ومرافقها تطورت كثيرا، لكن من واقع ما اسمعه والمسه فان مستوى الخريجين اليوم أصبح في الحضيض والسبب نوعية المناهج وأساليب التدريس وحتى نوعية الأساتذة أنفسهم. أكثر هؤلاء الأساتذة تخرجوا من جامعات الغرب ومع ذلك فان لغتهم الانجليزية قاصرة وثقافة بعضهم بلا مبالغة تكاد تكون صفرا.
    التعليم هو أساس كل نهضة وتطور. وواقع التعليم، خاصة الجامعي، في العالم العربي بمنتهى البؤس. وأول الطريق نحو الإصلاح والتغيير هو انتشال التعليم من براثن الجمود والتقليد والمعالجات العشوائية. لكن كيف يتسنى ذلك؟ ذلك هو السؤال.
    مع خالص مودتي وتقديري لك.

    بروميثيوس

    ردحذف
  2. بروميثيوس..
    أشاطرك الشعور نفسه، فمستوى التعليم قد انخفض فعلاً وإن كانت الجامعات قد توسعت عمرانياً - رغم أنني أرى عمارة المباني الجديدة قبيحة مقارنة بالمباني القديمة -. دور الجامعة كمؤسسة لصقل المثقفين والمفكرين قد تراجع، وتحولت إلى امتدادٍ مبالغ فيه للمدرسة الابتدائية. جزء من المشكلة - كما ذكرت - يكمن في نوعية الأساتذة الذين تخرجوا من جامعات الغرب بلغة قاصرة وثقافة تقترب من الحضيض. (ويحضرني في هذا السياق ما يُصر مسجل الكُلية على إخبارنا به كُلما سولت لأحدنا نفسه (الآثمة) تقديم تظلمٍ بحق أستاذٍ يعتقد أنه ظلمه: "الدولة صرفت مبالغ طائلة لتعليم هؤلاء وتأتون أنتم لتقدموا تظلماتٍ ضدهم! لا يمكن!" )
    يزيد من رداءة واقع التعليم انخفاض الروح المعنوية لدى الطلاب، وإصرار الأساتذة والمناهج على تدمير أي بوادر للرغبة الصادقة في التعليم والتعلم. حتى أن الطفرات التي تظهر أحياناً مثل الأساتذة الذين يُصممون مناهج مختلفة تهدف إلى رفع سوية طلابهم الثقافية تُوءدُ بسرعة.
    أعتقد أن جزءاً من الحل يكمن في أن يحاول المرء اكتساب المعرفة العلمية اللازمة وتطوير ثقافته وملكاته الفكرية عن طريق مصادر تعليمية أخرى - الكتب والوسائط الإعلامية المختلفة، مثلاً - ومن ثم محاولة استثمار هذه الثقافة في تقديم تعليمٍ نوعي لمن يُحالفه الحظ ويتمكن من أن يُصبح أستاذاً جامعياً. مجموع المحاولات الفردية في هذا السياق سيُنتج تطوراً على المستوى الجمعي.
    إذا قُمع هذا التوجه بشدة، يبقى لنا أن ننتظر حتى يموت جميع الآخذين بخناق الجامعات حالياً، فبعض الأنظمة تبقى حتى يموت آخر مؤيديها، عندها تموت بدورها وتفسح المجال لنظامٍ جديد أفضل.

    شكري الجزيل لك، وخالص تقديري ومودتي.

    ردحذف