ليس مُستغرباً أن يُصدر المخرج الأمريكي الشهير تِمْ بِرتُن مجموعةً شعرية في 1996 عن دار فيبر وفيبر الشهيرة - ناشرة مجموعات ت. س. إليوت الشعرية، ومن بينها: كتاب الجُرذ العجوز عن القطط العملية - عنوانها: موت صبي المحارة الحزين، ومضمونها قصائد ورسومات عن أطفالٍ منبوذين بسبب هيئتهم وأقدارهم المحزنة، فهُناك "الفتاة التي تحولت إلى سرير"، و"الفتى الروبوت"، و"دمية الفودو"، و"الصبي العصا الذي يحب الفتاة عود الكبريت"، و"الفتاة كثيرة العيون" من بين قصائد أخرى كلها حول أطفالٍ مشوهين أو غريبي الخلقة بشكلٍ يتعذر معه قبولهم في المجتمع، ويجعل المجموعة تقترب من الرعب أحياناً. رسومات بِرتُن الطفولية ذات الطابع المُميز تحول الرُعب في الكتاب إلى تصويرٍ مُبالغٍ فيه يتعذر معه أن يكون حقيقياً، لكنه يبقى مرعباً وغريباً ومُنتمياً إلى عالمٍ آخر.
في أعمال تِمْ بِرتُن جانبٌ مُظلم مُخيف يمتزج بالكوميديا أحياناً، لكنه يبقى مُظلماً ومُرعباً. موضوعه المُفضل المنبوذون يظهر في كل أفلامه، حتى في الفيلم الذي صنع شهرته: باتمان (1989). أثار فيلم باتمان - الذي أعقب فيلمين (برتنيين) هما مغامرة بي-وي الكُبرى، وعصير الخنفساء - جدلاً كبيراً لأجوائه المُظلمة التي تختلف تماماً عن أجواء سلسلة باتمان المفرحة في السبعينيات، وأغضب بعض من كانت لهم علاقة بالسلسلة الأصلية. إعادة بِرتُن لاختراع باتمان وفق مفهومه الخاص أثبت كونه مُربحاً، رغم أنه مُظلم، وسمح لبِرتُن بتقديم رؤيته الخاصة عن شخصية الجوكر المشوهة (جاك نيكلسن) وعن ظُلمة غوثام المُقبضة. ثم أعقبه فيلم عودة باتمان ليُقدم نموذجاً أوضح عن الطفل البرتني المنبوذ: البطريق (داني ديفيتو) - واحدة من قصائد موت صبي المحارة الحزين تحمل عنوان "جيمي، الصبي البطريق البشع". كانت أجواء الفيلم الثاني أكثر ظلمة وكآبة من الفيلم الأول بكثير، وقد غابت عنها سخرية الجوكر وحسه السوداوي بالفكاهة، لتُستبدل بحقد البطريق وتشوهه الذي يعكس تشوهاً في أعماق غوثام. بعدها، توقف برتن عن العمل في سلسلة باتمان، وتراجعت جودة أفلام باتمان اللاحقة إذ أنها حاولت الحفاظ على الخط البرتني من دون أن تُفلح في تقديم نمط شخصياته بطريقة مُقنعة. - قبل أن ينهض كريس نولان بالسلسلة من جديد مُعطياً إياها روحاً جديدة لم تتخلَ تماماً عن أطفال بِرتُن المنبوذين وإن استبدلت المناخ النفسي الهائل لتشوه الشخصيات بانفجار في الحركة. -
الشخصية الرئيسية في فيلم إدوارد سيزرهاندز واحدٌ من أطفال بِرتُن المفضلين (يلعب الدور جوني ديب، الممثل المفضل عند بِرتُن)، طفلٌ اخترعه مخترعٌ غريب الأطوار توفي قبل أن يُتم صياغة يدي إدوارد، ليبقى إدوارد بيدين كالمقصات. يعيش إدوارد في ضاحية هادئة لا تتقبله، لكن أفرادها يحاولون التعرف عليه بغرض الرياء الاجتماعي، ويستغله كُلٌ منهم لأغراضه الخاصة. يرى جوني ديب وفنسنت برايس أن إدوارد سيزرهاندز سيرة ذاتية لطفولة تِمْ بِرتُن في ضواحي كاليفورنيا الراقية، حيث لم ينسجم ولم ينتمِ لأنه كان مختلفاً.
يُقدم تِمْ بِرتُن في فيلمي إد وود والمريخ يُهاجم! آيةَ تقديرٍ ساخرة لأفلام الخيال العلمي الرخيصة التي كان يُشاهدها في طفولته، فيُحيي في الفيلم الأول المخرج إد وود الابن الذي وُصف مرةً بأنه "أسوأ مُخرج في العالم"، وفي الثاني صُناع أفلام الكوارث وتُراث الرُعب الأرضي من المخلوقات القادمة من المريخ لتهاجمنا. يأخذ فيلم المريخ يُهاجم! كثيراً من ثيمات حرب العوالم لهربرت ج. ويلز بطريقةٍ ساخرة، ويجمع مجموعة متنافرة من الشخصيات في حبكةٍ ساخرةٍ تنتهي نهاية هزلية.
بعد كوميديا مرعبة ومُقبضة في المريخ يهاجم! قدم بِرتُن فيلماً مُقبضاً آخر: سليبي هولو الذي يتبع أسلوب الرعب القوطي - بروحٍ برتنية - ويتحدث عن طفلٍ برتني آخر فقد رأسه فاندفع يحتز رؤوس الآخرين ليجد رأسه. تقديم بِرتُن لأسطورة سليبي هولو كان مرعباً إلى حدٍ جعل الكثيرين يحتجون على كمية العنف الزائدة فيه. مع ذلك، حظي الفيلم بثناء نقدي لا بأس به، وكان علامةً على خروج بِرتُن عن خطه السوداوي ونمطه في الإخراج المُعتمد بكثافة على الظلمة والظلال.
في 2000، قدم بِرتُن فيلم كوكب القردة الذي قلل مُعظم النقاد من شأنه بوصفه نسخة فشارٍ عن الفيلم الأصلي، وغضب عليه كثيرون من معجبي تِمْ بِرتُن لخروجه التام عن البرتنية إلى الحد الذي وُصف معه دور بِرتُن في الفيلم بأنه الدور الذي يؤديه عامل يومية مأجور. مع ذلك، حقق كوكب القردة نجاحاً مادياً كبيراً في شباك التذاكر الأمريكي.
عاد تِمْ بِرتُن لمُبالغاته الفنية الساخرة في التصوير والتشخيص مع فيلم السمكة الكبيرة في 2003، ورُشح فيلمه هذا لعدة جوائز غولدن غلوب من دون أن يفوز بواحدة - وهي عادة بِرتُن مع الأوسكار والغولدن غلوب.
في تشارلي ومصنع الشكولاتة عاد بِرتُن من جديد إلى عوالمه الفانتازية المُقبضة، متحدثاً عن طفلٍ منبوذ - ويلي وونكا - يحاول الانتقام من أطفالٍ منبوذين آخرين. أعجب الفيلم النقاد كثيراً، وكان بالإضافة إلى نجاحه النقدي نجاحاً كبيراً في شُباك التذاكر الأمريكي.
بعد أن أثبتت البِرتُنية أنها تربح كثيراً - باتمان، سليبي هولو، تشارلي ومصنع الشكولاتة، وإلى حدٍ ما كوكب القردة - أصبحت لبِرتُن دالةٌ على شركات الإنتاج، ونفوذ كبيرٌ في هوليوود يجعله واحداً من قلةٍ يُمكنهم أن يفعلوا ما يحلوا لهم في أفلامهم من دون أن يجرؤ أي مديرٍ تنفيذي في إستوديوهات هوليوود على اعتراض طريقهم. خياراتُ بِرتُن كانت مُكلفة إنتاجياً، وغريبة الأطوار فنياً، وغير مؤكدة النجاح جماهيرياً، لكن ثقل اسم بِرتُن سمح له بتقديم فيلمه المُتحرك العروس الجثة الذي كان أكثر كآبة وإفزاعاً من أن يتوجه لجمهور الأطفال. في العروس الجثة يعود بِرتُن إلى أطفاله المنبوذين وعوالمه التي لا يُمكن أن تتلاقى، وطريقته المميزة في الرسم والتحريك، وألعاب الظُلمة التي يُجيدها. وبه أثبت أن البرتنية تحظى بالرضا النقدي، وبالقبول الجماهيري العريض. طريقة بِرتُن في فيلم العروس الجُثة الذي صُور بأسلوب التحريك والتوقيف أثرت في أفلامٍ كثيرةٍ لاحقة أحدثها كورالين.
مشروع بِرتُن الأكثر طموحاً في سنواتٍ عديدة كان تقديمه لمسرحية ستيفن سوندايم الشهيرة سويني تود: حلاق شارع فليت الشيطان. وفيه تعاون مع شريكة حياته هيلينا بونام كارتر وصديقه جوني ديب من جديد ليُقدم أول فيلمٍ موسيقي له يتميز بأجواء بِرتُن المُقبضة، وطريقته في التلوين واختياراته في طرق التصوير، وشخصياته المنبوذة المشوهة نفسياً بشكلٍ يستحيل معه إصلاحها. كمية العُنف والدماء في الفيلم أثارت اعتراضات بعض النقاد الذين استغرب بعضهم عدم اعتراض الرقابة على كميات الذبح في الفيلم، وانزعج بعض المشاهدون من توالى مشاهد الذبح وتقطيع اللحم على خلفياتٍ موسيقية. مع ذلك، فإن فيلم سويني تود واحدٌ من العلامات البرتنية المهمة، ويمتاز بتقديمه لجماليات أسلوب الإخراج البرتني، والأجواء البرتنية التي تجمع عوالم لا يُمكن جمعها، وتُقدم الشرير والمشوه والمُريع كجُزء من الحياة التي تكتسي ظلالاً مُهيمنة كتعبير عن هيمنة الشر.
بعد فيلم سويني تود قرر بِرتُن الانضمام إلى روبرت زيميكس ومجموعة المخرجين الذين قرروا ركوب قطار التصوير الحاسوبي ثلاثي الأبعاد السريع مع فيلمه المُقبل أليس في بلاد العجائب. ليستعين بأحدث تقنيات هوليوود في إحياء رواية لويس كارول على الطريقة البرتنية.
في كُل مشاريع تِمْ بِرتُن أطفالٌ منبوذون مشوهون أرواحهم هشة وحضورهم مُسيطر، هُناك ظُلمةٌ مهيمنة على المشهد، ومزج ألوانٌ بطريقة تعبيرية خاصة تُميز أعمال بِرتُن عن سواها. قد يكون أطفال بِرتُن الفنان الذي لا يُمكنه أن ينسجم في مجتمعه أبداً، وقد يكونون تعبيراً عن عملاق الحضارة الذي داس على كُل الضعفاء في طريقه. أطفالُ برتن جانب الحياة الذي تخفيه الظلال ولا نراه غالباً.
سلمت وسلم يراعك على هذا المقال الجميل.
ردحذفقرأته مرّتين وتتبّعت الروابط جميعها ووجدتها مفيدة.
أصبح في حكم العادة أن يظهر علينا كلّ عشر سنوات مخرج سينمائي جديد كي يملأ الدنيا ويشغل الناس.
للأسف لم يتسنّ لي معرفة تيم بيرتون من قبل كما لم أشاهد أيا من أفلامه، وان كنت سمعت بالطبع عن فيلم كوكب القردة.
قرأت قصائده القصيرة التي تقود إليها الروابط فلم استوعب ما يرمي إليه أو ما يريد قوله بالضبط.
لكن واعتمادا على مضمون مقالك، يبدو أن الرجل جرّب حياة الحرمان والتشرّد وهو طفل. أو لعله عاش في بيئة كان يكثر فيها الأطفال المشرّدون والمنبوذون، فتأثر بما رأى وأصبح ذهنه منطبعا بتلك الرؤى المزعجة التي انعكست على مواضيع أفلامه.
الجدل المثار حوله وحول أفلامه يؤشّر إلى انه شخص مبدع في السينما، لكن أشعاره ذات صور مركّبة يصعب فهمها على الرغم من بساطة اللغة التي صيغت بها. وربّما تحتاج تلك القصائد لمحلل نفسي يستجلي ماضي الرجل ويحلل شخصيته لمحاولة فهمه بشكل أفضل.
في هذا العصر الذي نعيش فيه، أصبحت الصور المزعجة والأفكار المظلمة عنوانا للكثير من الأعمال الإبداعية التي تتمحور موضوعاتها حول أسئلة وقضايا الوجود وغربة الإنسان وشعوره بالضياع في هذا العالم الغريب والمخيف.
وقد يكون الأمر مثلما ذكرت تعبيرا عن تغوّل الحضارة المادية الحديثة التي داست على البراءة وجعلت من المتعذّر على الإنسان أن يشعر بالانسجام مع عالم صاغ قوانينه وشروطه الأقوياء واستحال الإنسان فيه إلى مجرّد ترس في آلة صمّاء يديرها المتلاعبون بالعقول والمصائر.
شكرا جزيلا لك مرّة أخرى على الموضوع الرائع. وبانتظار مقالك القادم تقبّل أجمل تحيّاتي وعاطر أمنياتي.
بروميثيوس
http://prom2000.blogspot.com
مرحباً بك بروميثيوس..
ردحذفسلمت على تعليقاتك التي تفتح دائماً مجالات جديدة للنقاش، ومقالاتك الباعثة على التفكير.
الحمد لله أنك وجدت في المقال وفي الروابط ما يُفيد.
ما تقوله صحيح، لا بُد أن يظهر بين حين وآخر مخرج جديد صاحب نزعة جديدة تجعله متفرداً بين زملائه يُصبح اسمه علامة على أعماله. المُميز في تِم بِرتُن اختلافه عن كل المخرجين الذين سبقوه من أصحاب النزعة الاجتماعية كوودي آلان وإنغمار برغمان، أو أصحاب النزعة الروائية كأنتوني منغيلا وفرانسيس فورد كوبولا. بِرتُن غرائبي بامتياز، وأعماله لا تنتمي إلى هذا العالم. إنه ببساطة يحكي قصصاً خيالية عن مخلوقات خيالية -مشروعه القادم فيلم مقتبس عن رواية [أليس في بلاد العجائب] للويس كارول.
بالنسبة لقصائده، أعتقد أنني قرأت في مكانٍٍ ما - لا أذكر أين بالتحديد - أنه وُلد وعاش طفولته في ضواحي كاليفورنيا الراقية الهادئة، لذا يكون احتمال معاناته الحرمان أو معاينته له غير مرتفع.
أما عن التحليل النفسي لماضي الرجل من أجل استجلاء معاني قصائده، فأعتقد أن لي موقفاً مختلفاً بعض الشيء هنا، إذ أنني لا أحبذ نهائياً تدخل علم النفس في الفن ليُحلل الأعمال الفنية باعتبارها عوارض اختلالات نفسية. أعتقد أن مدرسة علم النفس الحديث قد أساءت إلى الفن والفنانين بمحاولتها تحميل العمل الفني إسقاطات من ماضي المبدعين. علم النفس حول مجموعة من أعظم فناني العالم إلى مجانين مصابين بداء ثنائية القطبية - بعد وفاتهم - مثل فرجينيا وولف وإرنست همنغواي وفنسنت فان غوخ.
أعتقد أن إشارات برتُن قد تكون متعلقة أكثر بالخلل المُتأطر في الحياة ذاتها. رُبما كانت لها فلسفة أعمق تتعلق بفكرة الخير والشر. الشر غريبٌ ومقيت، لكن هل كل مختلف شر؟ ما هي فكرة الشر في الوجود؟
تأملاتك جديرة بالثناء، ولا أجد فيها إلا أفكاراً تولد أفكاراً جديدة.
أشكرك جزيلاً على حضورك الجميل دائماً. وأعتذر عن التأخر في التعليق كل هذا الوقت. ابريل!
تحياتي القلبية..