وصف أمبرتو إيكو الكاتب الأمريكي دان براون بأنّه شخصية من اختراعه — خرجت من متاهات روايته بندول فوكو — بعد ذيوع شهرة رواية براون، شفرة دافنشي، التي يعتبرها البعض ”اسم الوردة للمبتدئين“. في ذلك الحين، بدا وصفُ إيكو لدان براون نوعاً من التنمر الأبوي الذي يُمارسه أساتذة الجامعة الراسخون في العلم ضد زملائهم الأصغر سناً ومكانة وتلاميذهم، إذ أنّه من المُهِم للأكاديمي الذي يريد أن يرتقي في مدارج الأكاديميا أن يكون سريع البديهة، ذا لسانٍ سليط قادرٍ على الإتيان بنُكتة سريعة يضع بها القادم الجديد في (مكانه). لكن، مع مرور الزمن، يظهر أنّ تعبير إيكو لم يكُن مُجرد استئساد، وإنمّا نبوءة.
التشابه بين اسم الوردة وشفرة دافنشي سطحي، إذ أنّ اسم الوردة تتعلق بجدلٍ لاهوتي قديم حول فقر المسيح، وتداعيات ذلك على العالم المسيحي في ذلك الوقت — وفي وقتنا الحاضر. من السهل، للقارئ غير المُدقق، أن يجد المسألة عبارة عن سفسطة كنسية لا محل لها من الإعراب، لكن السؤال عن فقر المسيح هو سؤالٌ عن الرأسمالية، وعن مصادر الثروة وكيفية توزيعها. وفقر المسيح أداة سياسية يُمكِن استخدامها بطُرقٍ مُختلفة لأغراض مختلفة. في المُقابل، تتعلق شفرة دافنشي بقيام الكنيسة بإخفاء زواج المسيح وسُلالته التي لا تزال مُستمرة إلى يومنا هذا — ويأخذ المرء انطباعاً من القراءة عن حُراس سلالة المسيح في الرواية أنّهم قد نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وتحولوا جميعاً إلى الوثنية. كان يمكن أن تكون ، شفرة دافنشي كتاباً ذكياً، مثل اسم الوردة، لكن دان براون يُحب رؤوس الأقلام، والعروض التقديمية، والمحاضرات التشجيعية، والقوالب المُحددة سلفاً، والكتابة بإنكليزية تُشجع القُراء على كتابة القصص بدورهم، من باب أنّهم لن يستطيعوا أن يجيئوا بنثرٍ مقروء أسوأ من نثره.
التشابه بين اسم الوردة وشفرة دافنشي سطحي، إذ أنّ اسم الوردة تتعلق بجدلٍ لاهوتي قديم حول فقر المسيح، وتداعيات ذلك على العالم المسيحي في ذلك الوقت — وفي وقتنا الحاضر. من السهل، للقارئ غير المُدقق، أن يجد المسألة عبارة عن سفسطة كنسية لا محل لها من الإعراب، لكن السؤال عن فقر المسيح هو سؤالٌ عن الرأسمالية، وعن مصادر الثروة وكيفية توزيعها. وفقر المسيح أداة سياسية يُمكِن استخدامها بطُرقٍ مُختلفة لأغراض مختلفة. في المُقابل، تتعلق شفرة دافنشي بقيام الكنيسة بإخفاء زواج المسيح وسُلالته التي لا تزال مُستمرة إلى يومنا هذا — ويأخذ المرء انطباعاً من القراءة عن حُراس سلالة المسيح في الرواية أنّهم قد نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وتحولوا جميعاً إلى الوثنية. كان يمكن أن تكون ، شفرة دافنشي كتاباً ذكياً، مثل اسم الوردة، لكن دان براون يُحب رؤوس الأقلام، والعروض التقديمية، والمحاضرات التشجيعية، والقوالب المُحددة سلفاً، والكتابة بإنكليزية تُشجع القُراء على كتابة القصص بدورهم، من باب أنّهم لن يستطيعوا أن يجيئوا بنثرٍ مقروء أسوأ من نثره.
بندول فوكو
رواية بندول فوكو قد تكون ثاني أشهر روايات إيكو بعد اسم الوردة، وفيها (القالب) الروائي الذي يتبناه إيكو في رواياته التالية، فـ بندول فوكو تدور حول ثلاثة مُحررين يعملون في دار نشرٍ تنشر للكُتاب بأجر تقبضه منهم، يزورهم رجلٌ لديه كتابٌ عن مؤامرة تاريخية، ويُقررون هُم إكمال المؤامرة من أذهانهم، وبمُقارنة رموز التنظيمات السرية، وطرائق العبادة في أماكن مُختلفة، وبعض الحوادث التاريخية. وعلى مدار الرواية، يجد القارئ نفسه مُحاصراً بالكثير من التنظيمات السرية وشبه السرية: فُرسان الهيكل، الروزاكروتشي، اليسوعيون، إخوان الصفا، . . . والمواعيد التاريخية التي لا تتفق بسبب تغيير التقويم. ثُمَ، حين يظنُ المُحررون أنّ المؤامرة الشاملة الجامعة المانعة التي ابتكروها من نسيج خيالهم ستبقى حبيسة خيالهم، يجدونها تتحرك من تلقاء ذاتها.
نظرية المؤامرة مُبهجة للقُراء دوماً، وقد يعود ذلك إلى طبيعة التفكير البشري بحد ذاته، فالبشر ميالون إلى رؤية الأنماط في كُل مكان، كما أنّ وجود مؤامرة ما في العالم ينفي عنه العشوائية التي يجدها معظم الناس محيرة وعبثية. الكشف عن المؤامرة يُعطي القارئ إحساساً بأنّه يمتلك ذكاء أعلى من ذكاء الآخرين، وأنّه قد صار على معرفة عميقة بشيء لا يعلمه إلّا قلة من الناس، الأمر الذي يقود إلى الفخ المعرفي التالي للعقل البشري: اعتقاد المرء أنّه يعرف الكثير فيما لا يعرف إلّا أقل القليل. وفي كل روايات إيكو، ثمّة مؤامرة، كما في كل روايات دان براون. وبرغم الاختلافات بينهما، إلّا أنّ دان براون يعكس في أعماله صدى لفلسفات إيكو، خصوصاً فكرته عن التنميط الفكري.
نظرية المؤامرة مُبهجة للقُراء دوماً، وقد يعود ذلك إلى طبيعة التفكير البشري بحد ذاته، فالبشر ميالون إلى رؤية الأنماط في كُل مكان، كما أنّ وجود مؤامرة ما في العالم ينفي عنه العشوائية التي يجدها معظم الناس محيرة وعبثية. الكشف عن المؤامرة يُعطي القارئ إحساساً بأنّه يمتلك ذكاء أعلى من ذكاء الآخرين، وأنّه قد صار على معرفة عميقة بشيء لا يعلمه إلّا قلة من الناس، الأمر الذي يقود إلى الفخ المعرفي التالي للعقل البشري: اعتقاد المرء أنّه يعرف الكثير فيما لا يعرف إلّا أقل القليل. وفي كل روايات إيكو، ثمّة مؤامرة، كما في كل روايات دان براون. وبرغم الاختلافات بينهما، إلّا أنّ دان براون يعكس في أعماله صدى لفلسفات إيكو، خصوصاً فكرته عن التنميط الفكري.
الأنماط
يقول إيكو إنّ التفكير البشري ميال لتكوين الأنماط بصورة غير واعية، لذلك فإنّه ثمّة نسق تنتظم الأشياء وفقه حتى لو لم تكُن ثمّة مؤامرة فعلية، ويضرب على قوله مثالاً يتعلّق بالصحافة، فحتى لو حاول محررو الأخبار ترتيب نشر الأخبار في الصفحات الداخلية لصحفهم بشكلٍ عشوائي، فإنّ ثيمات ستظهر رابطة الأخبار بعضها ببعض من دون أن يكونوا واعين لذلك، وستتشكل انطباعات معينة لدى القارئ بأن هناك تركيزاً على جانبٍ ما، رغم عدم وجود نية لدى محرري الأخبار لترتيب الأخبار وفق ثيمة معينة.
كما يرى إيكو أنّ نظرية المؤامرة جزء لا يتجزأ من التفكير البشري، وهي قادرة، على إنتاج الآليات التي تضمن استمرارها وانتشارها. وفي محاضراته حول حدود التأويل، ذكر إيكو قصة طريفة عن شخص قرأ بندول فوكو، وقرر تتبع مسيرة أحد أبطالها في الليلة التي عينها إيكو في باريس، واستشار إرشيفات المدينة، فوجد أنّه في الليلة التي عينها إيكو في روايته، كان حريقٌ كبير قد شب في أحد الشوارع القريبة من مسار الشخصية، ولم يكن ممكناً إلّا أن تراه الشخصية، لكن إيكو لم يذكره في الرواية. القارئ، هنا، لم يفترض أنّ إيكو لم يعرف بوجود الحريق أثناء بحثه في الخلفيات التاريخية لروايته، أو أنّ معرفة الروائي التاريخية ليست كاملة مهما بدا العالم التاريخي الذي أنشأه مطابقاً للواقع، ولم يرَ القارئ أنّ الرواية خيالٌ أخر الأمر. لقد توصل قارئ إيكو المثابر إلى أنّ إيكو كان يعرف بالحريق، وقد أخفى هذه الواقعة أثناء سرده للرواية لغرض تآمري خفي، وبالتالي، خرجت المؤامرة في بندول فوكو عن حد الخيال مرتين: مرة داخل الرواية نفسها حين وجد الأبطال الثلاثة أنفسهم عالقين داخل المؤامرة التي نسجوها، ومرة حين افترض قارئ إيكو أنّ مؤامرته الخيالية — بما فيها المؤامرة التي خرجت عن عقول ناسجيها — هي مؤامرة حقيقية، وأنّ إيكو نفسه جزء منها.
كما يرى إيكو أنّ نظرية المؤامرة جزء لا يتجزأ من التفكير البشري، وهي قادرة، على إنتاج الآليات التي تضمن استمرارها وانتشارها. وفي محاضراته حول حدود التأويل، ذكر إيكو قصة طريفة عن شخص قرأ بندول فوكو، وقرر تتبع مسيرة أحد أبطالها في الليلة التي عينها إيكو في باريس، واستشار إرشيفات المدينة، فوجد أنّه في الليلة التي عينها إيكو في روايته، كان حريقٌ كبير قد شب في أحد الشوارع القريبة من مسار الشخصية، ولم يكن ممكناً إلّا أن تراه الشخصية، لكن إيكو لم يذكره في الرواية. القارئ، هنا، لم يفترض أنّ إيكو لم يعرف بوجود الحريق أثناء بحثه في الخلفيات التاريخية لروايته، أو أنّ معرفة الروائي التاريخية ليست كاملة مهما بدا العالم التاريخي الذي أنشأه مطابقاً للواقع، ولم يرَ القارئ أنّ الرواية خيالٌ أخر الأمر. لقد توصل قارئ إيكو المثابر إلى أنّ إيكو كان يعرف بالحريق، وقد أخفى هذه الواقعة أثناء سرده للرواية لغرض تآمري خفي، وبالتالي، خرجت المؤامرة في بندول فوكو عن حد الخيال مرتين: مرة داخل الرواية نفسها حين وجد الأبطال الثلاثة أنفسهم عالقين داخل المؤامرة التي نسجوها، ومرة حين افترض قارئ إيكو أنّ مؤامرته الخيالية — بما فيها المؤامرة التي خرجت عن عقول ناسجيها — هي مؤامرة حقيقية، وأنّ إيكو نفسه جزء منها.
طريقة الحشاشين
لم يشتهر عن إيكو أنّه من هواة ألعاب الفيديو، ولعلّه لم يطلّع على التجسيد الرقمي لأفكاره عن نظرية المؤامرة. سلسلة طريقة الحشاشين Assassin’s Creed سلسلة ألعاب من إنتاج الشركة الفرنسية يوبيسوفت Ubisoft، يبدو أنّها قد نشأت عن المزيج الثقافي الذي أحدثه كتاب أمين معلوف الحروب الصليبية كما رآها العرب وفيلم ريدلي سكُت مملكة الجنة وروايات أمبرتو إيكو ودان براون — بالإضافة إلى رواية آلموت لفلاديمير بارتول، فالألعاب تتحدث عن (أم كل المؤامرات)، وكما في قصص دان براون، فإنّها تدور بين جهتين متعاديتين.
الجهتان المتعاديتان في سلسلة ”طريقة الحشاشين“ هما فرسان الهيكل وجماعة الحشاشين التي تحمل السلسلة اسمها. في البدء، كانت الأمور أقرب للتاريخانية، فأحداث أول لعبة تدور في الأراضي المقدسة، إبّان الحملة الصليبية الثالثة وتدمج في نسيجها شخصيات مثل صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد وروبير دو سابل (الأستاذ الأعظم لفرسان الهيكل) وغارنييه دو نابلس (الأستاذ الأعظم للفرسان الإسبتارية) ومعلم الحشاشين رشيد الدين سنان.
لكن القصة الإطارية لسلسلة ”طريقة الحشاشين“ تدور في زماننا المعاصر، فجماعة فرسان الهيكل قد تخفّت وراء عملاق صناعي يُسمى أبسترغو، وصارت تخطف أعضاء جماعة الحشاشين التي تفككت وانهارت، وتُجبر من تقبض منهم عليه على الخضوع لاختبارات الحمض النووي لتحديد أسلافه، ومن ثم إجباره على عيش حياة أسلافه داخل جهاز محاكاة واقعي يُسمى الأنيموس Animus. وغرضها من ذلك إيجاد تفاحة عدن التي يتحارب عليها الحشاشون وفرسان الهيكل منذ أيام الفراعنة، بل قبلهم، ويُفترض أنّها أداة المعرفة المُطلقة والسيطرة.
ثم تنتقل السلسلة إلى إيطاليا عصر النهضة، مع بطلٍ جديد — بنفس الشخصية المعاصرة — ومحاولة لتتبع التفاحة. نظرية المؤامرة تتضخم إلى حدٍ بعيد في الجزء الثاني، وتصير أقرب إلى نظرية المؤامرة الكلية في بندول فوكو، فالمفروض أنّه قد كانت على الأرض حضارة سابقة غير بشرية، وأن التفاحة قد كشفت لآدم وحواء عن المعرفة بتلك الحضارة السابقة للبشر، وقد انتقلت التفاحة عبر التاريخ، وتسببت بالكثير من الأحداث التاريخية، فاستيلاء سافونارولا على فلورنسا وإقناعه الناس بحرق متاعهم كله جاء لأنّه امتلك التفاحة وبها سيطر عليهم، وصعود النازية في ألمانيا وسيطرة هتلر على مقاليد الأمور فيها ثمّ سعيه لمحاربة العالم جاء لأن التفاحة قد وقعت في يده — وكلاهما خسر عندما ضاعت منه التفاحة. في بندول فوكو، يُذكَر أن هتلر قد يكون ملك العالم الذي أنذر منه الكاثاريون، وأنّ صعود نجمه جاء بسبب التقاء التيارات الكونية عنده، ثم أفَل نجمه عندما لم تعد تلتقي.
لكن السلسلة تتخلى عن التفاحة، وعن بطلها المعاصر، لتستبدله بشخصيات غير معروفة، فيصير الحاضر من منظور الشخص الأول — الذي يتيح معرفة بالعالم، لكن ليس بالشخصية التي يُفترض أن يلعب بها المرء — فيما الماضي من منظور الشخص الثالث محدود العلم الذي كانت تسير به الأجزاء السابقة، وتنقسم أبسترغو إلى قسمين: قسم خفي يُريد الوصول إلى أماكن الأدوات التي تركها الأولون السابقون لآدم وحواء عن طريق تتبع الحشاشين عبر التاريخ، وقسم ظاهر يُريد استغلال الأنيموس استغلالاً تجارياً في إنتاج ألعاب فيديو مشوقة. وهنا تتحول أبسترغو إلى يوبيسوفت نفسها.
لقد أدخلت يوبيسوفت نفسها بنفسها في نسيج المؤامرة الكونية التي نسجتها، فوفقاً للإطار الذي أوجدته، يُمكِن تفسير كُل حدث في العالم بالصراع بين الحشاشين وفرسان الهيكل: الثورة الأمريكية، ثورة العبيد في هاييتي، الثورة الفرنسية، العصابات التي تتحكم بالبروليتاريا في المجتمع الإنكليزي الفكتوري، نهاية الحكم البطلمي على يد يوليوس قيصر. مزية هذا الإطار أنّه بسيط بما فيه الكفاية ليستوعب كل ما يُمكِن تصوره من أشكال الصراع، وديناميكي بشكلٍ يجعله قادراً على توليد قصصٍ جديدة تناقش مفاهيم فلسفية عن حرية الإرادة وحرية الاختيار والجبرية والهيمنة وطبيعة العرق البشري، إذ أنّ السؤال في قلب الصراع بين فرسان الهيكل والحشاشين هو: هل يمكن للبشر أن يكونوا أحراراً أم أنّه لأجل أن توجد الحضارة البشرية، فإنّه ينبغي سوق البشر كقطيع من البهائم؟
وحول الإطار الذي يحيط هذا السؤال الفلسفي، ثمّة سؤال آخر عن حدود نظرية المؤامرة — وفي هذه الحالة، حدود التأويل للأحداث التاريخية — فاللاعب يلعب لعبة داخل لعبة داخل لعبة، ويوبيسوفت التي تنتج هذه الألعاب قد حولت المكان الأساسي الذي يبدأ منه الحدث من مُختبر سري إلى مكتب في شركة ألعابٍ معروفة، جاعلة نفسها جزءاً من اللعبة، ومضيفة طبقة أخرى إلى تفسيرات النظام الذي أنشأته، ففرسان الهيكل بحاجة إلى تحويل صراعهم مع أعدائهم التاريخيين إلى تسلية للجماهير تُنتج مالاً، وفي الوقت نفسه تشكُل وعي المتلقين. لقد حوّل فرسان الهيكل صراعهم مع أعدائهم التاريخيين إلى صراع علني عن طريق تقديمه على أنّه خرافة ومصدر تسلية، وأدخلت يوبيسوفت نفسها في نسيج مؤامرتها عن طريق تقديم مقابل موضوعي لها في إطار اللعبة التي تنتجها.
الجهتان المتعاديتان في سلسلة ”طريقة الحشاشين“ هما فرسان الهيكل وجماعة الحشاشين التي تحمل السلسلة اسمها. في البدء، كانت الأمور أقرب للتاريخانية، فأحداث أول لعبة تدور في الأراضي المقدسة، إبّان الحملة الصليبية الثالثة وتدمج في نسيجها شخصيات مثل صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد وروبير دو سابل (الأستاذ الأعظم لفرسان الهيكل) وغارنييه دو نابلس (الأستاذ الأعظم للفرسان الإسبتارية) ومعلم الحشاشين رشيد الدين سنان.
لكن القصة الإطارية لسلسلة ”طريقة الحشاشين“ تدور في زماننا المعاصر، فجماعة فرسان الهيكل قد تخفّت وراء عملاق صناعي يُسمى أبسترغو، وصارت تخطف أعضاء جماعة الحشاشين التي تفككت وانهارت، وتُجبر من تقبض منهم عليه على الخضوع لاختبارات الحمض النووي لتحديد أسلافه، ومن ثم إجباره على عيش حياة أسلافه داخل جهاز محاكاة واقعي يُسمى الأنيموس Animus. وغرضها من ذلك إيجاد تفاحة عدن التي يتحارب عليها الحشاشون وفرسان الهيكل منذ أيام الفراعنة، بل قبلهم، ويُفترض أنّها أداة المعرفة المُطلقة والسيطرة.
ثم تنتقل السلسلة إلى إيطاليا عصر النهضة، مع بطلٍ جديد — بنفس الشخصية المعاصرة — ومحاولة لتتبع التفاحة. نظرية المؤامرة تتضخم إلى حدٍ بعيد في الجزء الثاني، وتصير أقرب إلى نظرية المؤامرة الكلية في بندول فوكو، فالمفروض أنّه قد كانت على الأرض حضارة سابقة غير بشرية، وأن التفاحة قد كشفت لآدم وحواء عن المعرفة بتلك الحضارة السابقة للبشر، وقد انتقلت التفاحة عبر التاريخ، وتسببت بالكثير من الأحداث التاريخية، فاستيلاء سافونارولا على فلورنسا وإقناعه الناس بحرق متاعهم كله جاء لأنّه امتلك التفاحة وبها سيطر عليهم، وصعود النازية في ألمانيا وسيطرة هتلر على مقاليد الأمور فيها ثمّ سعيه لمحاربة العالم جاء لأن التفاحة قد وقعت في يده — وكلاهما خسر عندما ضاعت منه التفاحة. في بندول فوكو، يُذكَر أن هتلر قد يكون ملك العالم الذي أنذر منه الكاثاريون، وأنّ صعود نجمه جاء بسبب التقاء التيارات الكونية عنده، ثم أفَل نجمه عندما لم تعد تلتقي.
لكن السلسلة تتخلى عن التفاحة، وعن بطلها المعاصر، لتستبدله بشخصيات غير معروفة، فيصير الحاضر من منظور الشخص الأول — الذي يتيح معرفة بالعالم، لكن ليس بالشخصية التي يُفترض أن يلعب بها المرء — فيما الماضي من منظور الشخص الثالث محدود العلم الذي كانت تسير به الأجزاء السابقة، وتنقسم أبسترغو إلى قسمين: قسم خفي يُريد الوصول إلى أماكن الأدوات التي تركها الأولون السابقون لآدم وحواء عن طريق تتبع الحشاشين عبر التاريخ، وقسم ظاهر يُريد استغلال الأنيموس استغلالاً تجارياً في إنتاج ألعاب فيديو مشوقة. وهنا تتحول أبسترغو إلى يوبيسوفت نفسها.
لقد أدخلت يوبيسوفت نفسها بنفسها في نسيج المؤامرة الكونية التي نسجتها، فوفقاً للإطار الذي أوجدته، يُمكِن تفسير كُل حدث في العالم بالصراع بين الحشاشين وفرسان الهيكل: الثورة الأمريكية، ثورة العبيد في هاييتي، الثورة الفرنسية، العصابات التي تتحكم بالبروليتاريا في المجتمع الإنكليزي الفكتوري، نهاية الحكم البطلمي على يد يوليوس قيصر. مزية هذا الإطار أنّه بسيط بما فيه الكفاية ليستوعب كل ما يُمكِن تصوره من أشكال الصراع، وديناميكي بشكلٍ يجعله قادراً على توليد قصصٍ جديدة تناقش مفاهيم فلسفية عن حرية الإرادة وحرية الاختيار والجبرية والهيمنة وطبيعة العرق البشري، إذ أنّ السؤال في قلب الصراع بين فرسان الهيكل والحشاشين هو: هل يمكن للبشر أن يكونوا أحراراً أم أنّه لأجل أن توجد الحضارة البشرية، فإنّه ينبغي سوق البشر كقطيع من البهائم؟
وحول الإطار الذي يحيط هذا السؤال الفلسفي، ثمّة سؤال آخر عن حدود نظرية المؤامرة — وفي هذه الحالة، حدود التأويل للأحداث التاريخية — فاللاعب يلعب لعبة داخل لعبة داخل لعبة، ويوبيسوفت التي تنتج هذه الألعاب قد حولت المكان الأساسي الذي يبدأ منه الحدث من مُختبر سري إلى مكتب في شركة ألعابٍ معروفة، جاعلة نفسها جزءاً من اللعبة، ومضيفة طبقة أخرى إلى تفسيرات النظام الذي أنشأته، ففرسان الهيكل بحاجة إلى تحويل صراعهم مع أعدائهم التاريخيين إلى تسلية للجماهير تُنتج مالاً، وفي الوقت نفسه تشكُل وعي المتلقين. لقد حوّل فرسان الهيكل صراعهم مع أعدائهم التاريخيين إلى صراع علني عن طريق تقديمه على أنّه خرافة ومصدر تسلية، وأدخلت يوبيسوفت نفسها في نسيج مؤامرتها عن طريق تقديم مقابل موضوعي لها في إطار اللعبة التي تنتجها.
الخوارزمية
ما تقود إليه يوبيسوفت يُمثل نوعاً من الحلقة المفقودة في أعمال إيكو ودان براون — قبل المنشأ: الخوارزمية. ليس من الحماقة أن يقول المرء بأنّه ثمّة مؤامرة كونية تحدث في كل مكان، لأن كُل مكانٍ في العالم الآن خاضع لأدوات جمع البيانات التي تحكمها خوارزميات مُعينة تستخرج الأنماط وتبني على أساسها أحكاماً، فتُقرر من يحظى بقرضٍ من البنك بفائدة معقولة ومن يأخذ نفس القرض بفائدة مهولة، وتقرر من الموظف الجيد ومن الموظف الفاشل، ومن سينتخب المرء، وإلى أي جانبٍ سيميل. الخوارزمية مؤامرة تُعيد إنتاج نفسها بنفسها، وتشمل الكل في إطارها، فالمفروض أنّ الآلات الخوارزمية قادرة على تعليم نفسها بنفسها، لكنّها لا تُعلم نفسها إلّا ما قد أحاطت به شروط الخوارزمية الأصلية، والخوارزمية الأصلية دوماً مُنحازة وقاصرة، خلافاً لمن يُبشرون بعالمٍ قادم محايد تحكمه خوارزميات لا يؤثر فيها الهوى ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
في العلم، فإن ترافق ظاهرتين لا يعني تسبب إحداهما في الأخرى، الأمر الذي يُعبر به في الإنكليزية بقولهم: Correlation does not imply causation. ومع ذلك، فإنّ عدم ثبوت السببية المباشرة لا ينفي تأثير الظاهرتين في بعضهما البعض، ومن ذلك ترافق انتشار الخوارزميات وسيطرتها مع صعود الفاشية في العالم.
لا شك في أنّ لانبعاث الفاشية أسبابه المركبة والمتشعبة التي يصعب الإحاطة بها خارج إطار البحث المتخصص، إلا أنّه قد كان للخوارزميات دورٌ في تثبيت أقدام الفاشيين في أماكن كثيرة، وما الحديث عن دور منصات التواصل الاجتماعي في الانتخابات الأمريكية وانتشار الأنباء الكاذبة والحقائق البديلة بسر. بالإضافة إلى هذا، فإن نظام التوصيات الذي يعتمده أي موقع قد يتعامل معه المرء يؤدي إلى عزل المستخدم في فقاعة فكرية معينة، فلو كان المرء من هواة كرة القدم، فإن السواد الأعظم من المواد التي ستُعرض عليه ستتعلق بكرة القدم، والأمر لا يتوقف على موقع واحدٍ مثل يوتيوب أو فيسبُك، إذ أنّ هوية المرء الإلكترونية مُراقبة في كُل مكان يذهب إليه، وجامعات البيانات تستطيع معرفته وعرض المواد التي تظن أنّه يفضلها عليه في اي مكانٍ يذهب إليه على الشبكة.
ربما لا يبدو هذا سيئاً بما فيه الكفاية، لكن الوجه الآخر للخوارزمية هو البحث عن الأنماط: فإذا وجدت الخوارزميات أنّ نسبة كبيرة من مشجعي الفريق الذي يُشجعه هذا المواطن الافتراضي تميل إلى استعظام العرق الأبيض white supremacy، مثلاً، فإنّها ستعرض عليه مواداً متعلقة بهذا الأمر، وكلما زاد تفاعله مع هذه المواد، زاد تعرضه لها. والتفاعل لم يعد بإبداء الإعجاب أو المشاركة، بل بمجرد المشاهدة. الأمر الذي يجعل الخوارزمية قادرة على نشر نطاق الفاشية إلى أبعد مدى بتقديم المزيد من الضحايا وقوداً لها.
في العلم، فإن ترافق ظاهرتين لا يعني تسبب إحداهما في الأخرى، الأمر الذي يُعبر به في الإنكليزية بقولهم: Correlation does not imply causation. ومع ذلك، فإنّ عدم ثبوت السببية المباشرة لا ينفي تأثير الظاهرتين في بعضهما البعض، ومن ذلك ترافق انتشار الخوارزميات وسيطرتها مع صعود الفاشية في العالم.
لا شك في أنّ لانبعاث الفاشية أسبابه المركبة والمتشعبة التي يصعب الإحاطة بها خارج إطار البحث المتخصص، إلا أنّه قد كان للخوارزميات دورٌ في تثبيت أقدام الفاشيين في أماكن كثيرة، وما الحديث عن دور منصات التواصل الاجتماعي في الانتخابات الأمريكية وانتشار الأنباء الكاذبة والحقائق البديلة بسر. بالإضافة إلى هذا، فإن نظام التوصيات الذي يعتمده أي موقع قد يتعامل معه المرء يؤدي إلى عزل المستخدم في فقاعة فكرية معينة، فلو كان المرء من هواة كرة القدم، فإن السواد الأعظم من المواد التي ستُعرض عليه ستتعلق بكرة القدم، والأمر لا يتوقف على موقع واحدٍ مثل يوتيوب أو فيسبُك، إذ أنّ هوية المرء الإلكترونية مُراقبة في كُل مكان يذهب إليه، وجامعات البيانات تستطيع معرفته وعرض المواد التي تظن أنّه يفضلها عليه في اي مكانٍ يذهب إليه على الشبكة.
ربما لا يبدو هذا سيئاً بما فيه الكفاية، لكن الوجه الآخر للخوارزمية هو البحث عن الأنماط: فإذا وجدت الخوارزميات أنّ نسبة كبيرة من مشجعي الفريق الذي يُشجعه هذا المواطن الافتراضي تميل إلى استعظام العرق الأبيض white supremacy، مثلاً، فإنّها ستعرض عليه مواداً متعلقة بهذا الأمر، وكلما زاد تفاعله مع هذه المواد، زاد تعرضه لها. والتفاعل لم يعد بإبداء الإعجاب أو المشاركة، بل بمجرد المشاهدة. الأمر الذي يجعل الخوارزمية قادرة على نشر نطاق الفاشية إلى أبعد مدى بتقديم المزيد من الضحايا وقوداً لها.
المنشأ
وهنا تأتينا رواية دان براون الجديدة، المنشأ أو الأصل Origin، وفيها من التواضع الشديد ما يجعلها تكتفي بكلمة واحدة، فهي رواية عن أصل كُل شيء، فيما كان على داروِن أن يوضح ما يقصده حين كتب أصل الأنواع The Origin of Species.
في ظاهرها، تتحدث المنشأ عن ثري بغيض من أثرياء وادي السليكون، يُقدم إحدى محاضرات التي تسير على نمط محاضرات تِد TED، وفيها يُغير وجه العالم عن طريق إخبار البشر عن منشأهم ومصيرهم، وبذلك فإنّه سيقضي على الدين قضاء تاماً. والمرء، إذ يقرأ الرواية، يتساءل عمّا إذا كان الملحدون سطحيين إلى هذه الدرجة، ثم ينظر إلى حركة الإلحاد الجديد، ويعرف أنّ دان براون لم يظلمهم.
لكن المنشأ تدور أيضاً حول الخوارزمية، وبذلك فإنّها تُقدم في صيغة روائية ما تُحاول يوبيسوفت تقديمه في صيغة خوارزمية — فألعاب الفيديو هي برامج كمبيوتر، آخر الأمر، أُنشئت عن طريق مجموعة من الأوامر البرمجية. إذ أنّ المؤامرة في الكتاب من صُنع خوارزمية حاسوبية تُسمى وِنستُن — على اسم وِنستُن تشرشل، الأمر الذي يتوقعه المرء من عالم كمبيوتر مُتذاكٍ لا ضمير له — قد استهلك العالم في مؤامرة ورط فيها القصر الملكي الإسباني، واستدعى لأجلها شبح فرانكو والكارليين — أنصار دون كارلوس في حربه على ابنة أخيه من أجل عرش إسبانيا في القرن التاسع عشر— والكنيسة البالميرية المضادة للكنيسة الرومانية الكاثوليكية التاريخية في الفاتيكان، وحشر فيها كل الأديان التوحيدية، ومهندساً معمارياً يقول بوحدة الوجود عن طريق ملء كاتدرائية بالزواحف. (أنطونيو غاودي الذي يُقدم مواطنه خوان غويتسولو رؤية لفنه المعماري باعتباره ناشئاً عن تأثره بالعمارة الإسلامية التي تميل إلى الزخارف النباتية في كتابه عن الاستشراق الإسباني).
كُل هذا من أجل زيادة عدد المشاهدات للمحاضرة التي يُقدمها رجل الأعمال (الرؤيوي)، ويُفترض فيها أن يُقدم لنا المنشأ والمصير عن طريق عرضٍ تقديمي بليد مسروق ثلاثة أرباعه من برنامج الكون Cosmos الذي قدمه نيل ديغراس تايسُن قبل بضع سنوات.
كذلك، فإنّ في الرواية ثلاثياً مكوناً من كاردينال وحاخام وإمام، الحاخام والإمام يموتان بطريقة بشعة، فالكمبيوتر يتصرف بطريقة الحشاش في ملائكة وشياطين والراهب السفاح في شيفرة دافنشي. والمفترض أن تدور الشُبهات حول الكاردينال، الأمر الذي يُبرؤه في عيني أي شخصٍ قرأ رواية من روايات دان براون من قبل، أو عنده فكرة عامة عن الكيفية التي تعمل بها الحبكات البوليسية في معظم الروايات.
حضور الإمام يُتيح لدان براون أن يُقحِم في محاضرة عالم الكمبيوتر المتذاكي الحديث عن الإسلام، وكيف كانت بغداد عاصمة العلوم قبل بضعة قرون، وكيف كان للعرب قصب السبق في علوم الفلك، الأمر الذي سمح لهم بتسمية الكثير من النجوم المعروفة، ثم جاء أبو حامدٍ الغزالي، ودمّر الحضارة العربية بأكملها بكتابه تهافت الفلاسفة، فانهارت العلوم، وتحولت بغداد إلى عاصمة لا تستطيع أن تهنأ بالعيش من دون تفجير هنا أو هناك.
الكلام مأخوذ من محاضرة لنيل ديغراس تايسُن عن أسماء النجوم العربية، وعن انهيار الحضارة العربية على يد أبي حامد الغزالي — الأمر الذي يُكرره علماء طبيعيون غربيون آخرون — ويجعل المرء يتساءل عمّا إذا كان هؤلاء القوم قد فقهوا شيئاً في التاريخ أو الفلسفة أو الحضارة قبل أن يتطوعوا بشرح الطبيعة البشرية والصيرورة التاريخية للناس.
(وفي هذا السياق، يحضرني قول تيري إيغلتُن في بداية مُراجعته لكتاب ريتشارد دوكنز وهم الإله: ”تخيل شخصاً يُفتي في علم الأحياء ومعرفته الوحيدة بالموضوع تأتي من كتاب الطيور البريطانية، وسيكون عندك فكرة تقريبية عمّا يشعر به من يقرأ لريتشارد دوكنز متحدثاً عن اللاهوت“.)
مع ذلك، فإنّ في رواية المنشأ لمسةً من الذكاء تُعوض عمّا فيها من عوار، إذ أنّ جوهر الرواية يتعلق بالكيفية التي تحضر فيها نظرية المؤامرة في الثقافة بشكلٍ دائم، فحتى لو لم تذكر علانية، تبقى حاضرة بمثابة ظلٍ للثقافة للسائدة، لهذا يسهل على خوارزمية أن تنبش أشباح إسبانيا في نظرية مؤامرة شاملة، وأن تجد مؤامرة إسبانيا المحلية صدى عالمياً، فرغم أنّ العالم قد لا يعرف شيئاً عن الكارليين، ورغم أنّ التاريخ الإسباني ليس مسألة تهم غير المتخصصين خارج إسبانيا، إلّا أن الفاشية الإسبانية هي إحدى تمظهرات الفاشية العالمية، والفاشية شيء يُدركه العالم كله، الأمر الذي تفهمه الخوارزمية التي تُراقب العالم كُله.
في ظاهرها، تتحدث المنشأ عن ثري بغيض من أثرياء وادي السليكون، يُقدم إحدى محاضرات التي تسير على نمط محاضرات تِد TED، وفيها يُغير وجه العالم عن طريق إخبار البشر عن منشأهم ومصيرهم، وبذلك فإنّه سيقضي على الدين قضاء تاماً. والمرء، إذ يقرأ الرواية، يتساءل عمّا إذا كان الملحدون سطحيين إلى هذه الدرجة، ثم ينظر إلى حركة الإلحاد الجديد، ويعرف أنّ دان براون لم يظلمهم.
لكن المنشأ تدور أيضاً حول الخوارزمية، وبذلك فإنّها تُقدم في صيغة روائية ما تُحاول يوبيسوفت تقديمه في صيغة خوارزمية — فألعاب الفيديو هي برامج كمبيوتر، آخر الأمر، أُنشئت عن طريق مجموعة من الأوامر البرمجية. إذ أنّ المؤامرة في الكتاب من صُنع خوارزمية حاسوبية تُسمى وِنستُن — على اسم وِنستُن تشرشل، الأمر الذي يتوقعه المرء من عالم كمبيوتر مُتذاكٍ لا ضمير له — قد استهلك العالم في مؤامرة ورط فيها القصر الملكي الإسباني، واستدعى لأجلها شبح فرانكو والكارليين — أنصار دون كارلوس في حربه على ابنة أخيه من أجل عرش إسبانيا في القرن التاسع عشر— والكنيسة البالميرية المضادة للكنيسة الرومانية الكاثوليكية التاريخية في الفاتيكان، وحشر فيها كل الأديان التوحيدية، ومهندساً معمارياً يقول بوحدة الوجود عن طريق ملء كاتدرائية بالزواحف. (أنطونيو غاودي الذي يُقدم مواطنه خوان غويتسولو رؤية لفنه المعماري باعتباره ناشئاً عن تأثره بالعمارة الإسلامية التي تميل إلى الزخارف النباتية في كتابه عن الاستشراق الإسباني).
كُل هذا من أجل زيادة عدد المشاهدات للمحاضرة التي يُقدمها رجل الأعمال (الرؤيوي)، ويُفترض فيها أن يُقدم لنا المنشأ والمصير عن طريق عرضٍ تقديمي بليد مسروق ثلاثة أرباعه من برنامج الكون Cosmos الذي قدمه نيل ديغراس تايسُن قبل بضع سنوات.
كذلك، فإنّ في الرواية ثلاثياً مكوناً من كاردينال وحاخام وإمام، الحاخام والإمام يموتان بطريقة بشعة، فالكمبيوتر يتصرف بطريقة الحشاش في ملائكة وشياطين والراهب السفاح في شيفرة دافنشي. والمفترض أن تدور الشُبهات حول الكاردينال، الأمر الذي يُبرؤه في عيني أي شخصٍ قرأ رواية من روايات دان براون من قبل، أو عنده فكرة عامة عن الكيفية التي تعمل بها الحبكات البوليسية في معظم الروايات.
حضور الإمام يُتيح لدان براون أن يُقحِم في محاضرة عالم الكمبيوتر المتذاكي الحديث عن الإسلام، وكيف كانت بغداد عاصمة العلوم قبل بضعة قرون، وكيف كان للعرب قصب السبق في علوم الفلك، الأمر الذي سمح لهم بتسمية الكثير من النجوم المعروفة، ثم جاء أبو حامدٍ الغزالي، ودمّر الحضارة العربية بأكملها بكتابه تهافت الفلاسفة، فانهارت العلوم، وتحولت بغداد إلى عاصمة لا تستطيع أن تهنأ بالعيش من دون تفجير هنا أو هناك.
الكلام مأخوذ من محاضرة لنيل ديغراس تايسُن عن أسماء النجوم العربية، وعن انهيار الحضارة العربية على يد أبي حامد الغزالي — الأمر الذي يُكرره علماء طبيعيون غربيون آخرون — ويجعل المرء يتساءل عمّا إذا كان هؤلاء القوم قد فقهوا شيئاً في التاريخ أو الفلسفة أو الحضارة قبل أن يتطوعوا بشرح الطبيعة البشرية والصيرورة التاريخية للناس.
(وفي هذا السياق، يحضرني قول تيري إيغلتُن في بداية مُراجعته لكتاب ريتشارد دوكنز وهم الإله: ”تخيل شخصاً يُفتي في علم الأحياء ومعرفته الوحيدة بالموضوع تأتي من كتاب الطيور البريطانية، وسيكون عندك فكرة تقريبية عمّا يشعر به من يقرأ لريتشارد دوكنز متحدثاً عن اللاهوت“.)
مع ذلك، فإنّ في رواية المنشأ لمسةً من الذكاء تُعوض عمّا فيها من عوار، إذ أنّ جوهر الرواية يتعلق بالكيفية التي تحضر فيها نظرية المؤامرة في الثقافة بشكلٍ دائم، فحتى لو لم تذكر علانية، تبقى حاضرة بمثابة ظلٍ للثقافة للسائدة، لهذا يسهل على خوارزمية أن تنبش أشباح إسبانيا في نظرية مؤامرة شاملة، وأن تجد مؤامرة إسبانيا المحلية صدى عالمياً، فرغم أنّ العالم قد لا يعرف شيئاً عن الكارليين، ورغم أنّ التاريخ الإسباني ليس مسألة تهم غير المتخصصين خارج إسبانيا، إلّا أن الفاشية الإسبانية هي إحدى تمظهرات الفاشية العالمية، والفاشية شيء يُدركه العالم كله، الأمر الذي تفهمه الخوارزمية التي تُراقب العالم كُله.
العدد صفر
آخر روايات إيكو كانت العدد صفر، وفيها ابتعد إيكو عن المؤامرات التاريخية — بقدرٍ ما، حيث أنّ القرن الأخير من القرن العشرين قد صار (تاريخاً) — ليعود إلى ما يُمكِن أن يوصف بأنّه المؤامرة الأصلية في الثقافة الإيطالية: الفاشية.
في رواية إيكو لا توجد خوارزمية حاسوبية، ولكن توجد خوارزمية من تلك الخوارزميات العفوية التي تنشأ عن ترتيب الأنساق كما حدث في بندول فوكو. تدور العدد صفر حول جماعة من الصحفيين يوظفهم صحفي قليل الذمة لمصلحة رجل أعمال يُريدهم أن يُنشئوا صحيفة، لكنّه لا يُريد أن يصدر أي عددٍ منها. يستخدم رجل الأعمال الصحفيين لتجميع (العدد صفر) من الصحيفة الذي يستخدمه لإرهاب خصومه وابتزازهم. ويعمل الصحفيون على تلفيق الأخبار وتجميعها من صحفٍ قديمة، أو من حوادث متفرقة يضمونها ضمن نسق مُعين — فيما صار يُسمى الآن الأخبار الزائفة.
أحد الصحفيين يأتي لبطل الرواية بحكاية عن بنيتو موسيليني، فعن طريق مراجعة الإرشيفات، يُشكك الصحفي في رواية إعدام موسيليني وعشيقته كلارا بيتاتشي، ويقول إنّ موسيليني قد استُبدِل في مكانٍ ما بعد أن قبض عليه الثوار الإيطاليون، وأنّ من أُعدِم ونُكِل به كان بديلاً عنه، فيما نُقِل موسيليني الحقيقي إلى مكانٍ سري تمهيداً لعودته من جديد. وكان ثمّة عدة حوادث تاريخية يُفترض أن يعود موسيليني أثناءها، لكن فرصة عودته قد فاتت لسبب أو لآخر، ثم فشلت الخطة بأكملها عندما مات موسيليني بفعل الشيخوخة.
بعدها، يموت الصحفي في حادث سيارة، ويُصاب البطل بالرعب حين يتصور أن هناك جهاتٍ قد قتلت زميله بسبب ما يعرفه، ويأخذ في تصور أشخاصٍ قد دخلوا شقته وعبثوا بصنابير المياه فيها وسرقوا محتويات حاسوبه، فيهرب إلى الريف بصحبة حبيبته — وهي صحفية في نفس الصحيفة أيضاً، وأنجح محاولة لإيكو في كتابة شخصية امرأة معقولة — حيث يعيش مختبئاً في رعب من الجهات التي يظن أنّها قد تفتك به، إلى أن يُشاهِد التلفاز ذات يوم، فيجد قناة BBC تبث برنامجاً وثائقياً يتحدث عن الفاشية في إيطاليا، والمافيا، والألوية الحمراء، وكل التنظيمات التي تحدث عنها صديقه، وتذكر المؤامرات التي تحدث عنها وسيطرتها على إيطاليا.
عندها، يشعر بطل الرواية بأنّه لم يعد عليه أن يخاف، فما كان معرفة خاصة به وحده أضحى مشاعاً، والمفترض أن إيطاليا قد صارت دولة ديموقراطية لا مجال فيها للخوف والسرية. لكنّه يعود ويتساءل عمّا إذا كانت معرفته الخاصة بالأمر لا تزال خطرة، فإشاعة الأمر جزء من إخفائه عن الناس بجعله معرفة عامة يكاد لا يعرفها أحد. الأمر الذي يُشبه ما فعلته يوبيسوفت عندما جعلت أبسترغو تحول الصراع بين فرسان الهيكل والحشاشين إلى معرفة مشاعة ومبعث تسلية لا يأبه له أحد.
في رواية إيكو لا توجد خوارزمية حاسوبية، ولكن توجد خوارزمية من تلك الخوارزميات العفوية التي تنشأ عن ترتيب الأنساق كما حدث في بندول فوكو. تدور العدد صفر حول جماعة من الصحفيين يوظفهم صحفي قليل الذمة لمصلحة رجل أعمال يُريدهم أن يُنشئوا صحيفة، لكنّه لا يُريد أن يصدر أي عددٍ منها. يستخدم رجل الأعمال الصحفيين لتجميع (العدد صفر) من الصحيفة الذي يستخدمه لإرهاب خصومه وابتزازهم. ويعمل الصحفيون على تلفيق الأخبار وتجميعها من صحفٍ قديمة، أو من حوادث متفرقة يضمونها ضمن نسق مُعين — فيما صار يُسمى الآن الأخبار الزائفة.
أحد الصحفيين يأتي لبطل الرواية بحكاية عن بنيتو موسيليني، فعن طريق مراجعة الإرشيفات، يُشكك الصحفي في رواية إعدام موسيليني وعشيقته كلارا بيتاتشي، ويقول إنّ موسيليني قد استُبدِل في مكانٍ ما بعد أن قبض عليه الثوار الإيطاليون، وأنّ من أُعدِم ونُكِل به كان بديلاً عنه، فيما نُقِل موسيليني الحقيقي إلى مكانٍ سري تمهيداً لعودته من جديد. وكان ثمّة عدة حوادث تاريخية يُفترض أن يعود موسيليني أثناءها، لكن فرصة عودته قد فاتت لسبب أو لآخر، ثم فشلت الخطة بأكملها عندما مات موسيليني بفعل الشيخوخة.
بعدها، يموت الصحفي في حادث سيارة، ويُصاب البطل بالرعب حين يتصور أن هناك جهاتٍ قد قتلت زميله بسبب ما يعرفه، ويأخذ في تصور أشخاصٍ قد دخلوا شقته وعبثوا بصنابير المياه فيها وسرقوا محتويات حاسوبه، فيهرب إلى الريف بصحبة حبيبته — وهي صحفية في نفس الصحيفة أيضاً، وأنجح محاولة لإيكو في كتابة شخصية امرأة معقولة — حيث يعيش مختبئاً في رعب من الجهات التي يظن أنّها قد تفتك به، إلى أن يُشاهِد التلفاز ذات يوم، فيجد قناة BBC تبث برنامجاً وثائقياً يتحدث عن الفاشية في إيطاليا، والمافيا، والألوية الحمراء، وكل التنظيمات التي تحدث عنها صديقه، وتذكر المؤامرات التي تحدث عنها وسيطرتها على إيطاليا.
عندها، يشعر بطل الرواية بأنّه لم يعد عليه أن يخاف، فما كان معرفة خاصة به وحده أضحى مشاعاً، والمفترض أن إيطاليا قد صارت دولة ديموقراطية لا مجال فيها للخوف والسرية. لكنّه يعود ويتساءل عمّا إذا كانت معرفته الخاصة بالأمر لا تزال خطرة، فإشاعة الأمر جزء من إخفائه عن الناس بجعله معرفة عامة يكاد لا يعرفها أحد. الأمر الذي يُشبه ما فعلته يوبيسوفت عندما جعلت أبسترغو تحول الصراع بين فرسان الهيكل والحشاشين إلى معرفة مشاعة ومبعث تسلية لا يأبه له أحد.
الشبح الذي يأبى أن ينصرف
عودة إيكو إلى شبح إيطاليا الأصلي، الفاشية، تجد صدى في استحضار دان براون لشبح فرانكو في إسبانيا. دان براون يتحدث عن فاشية أوروبية، تاركاً الفاشية الأمريكية، الأمر الذي يجعل بناءه الفكري يأكل بعضه بعضاً، فمن تمظهرات الفاشية الأمريكية رجل الأعمال المتذاكي الذي يُثري ثراء فاحشاً من استغلال الخوارزميات، ويُعلِن عن نفسه وتوجهه الفكري عن طريق الموضة التي يتبعها وادي السليكون، فما الفرق الجوهري بين أحذية وادي السليكون الرياضية والملابس غير الرسمية التي يمتاز بها كُل دهقان من دهاقنة الوادي وبين الملابس السوداء التي كان يرتديها الفاشيون الأوروبيون؟ في الحالتين، فإنّ نمط الملابس هو اختيارٌ واعٍ الهدف منه إقصاء الآخر، وملابس دهاقنة الخوارزميات التي تبدو في ظاهرها بسيطة غير متكلفة تُكلف ثروات لا يمتلك العُمال البؤساء في مصانعهم وشركاتهم أن يشتروها ولو بأجور سنين من حيواتهم.
الفاشية الأمريكية تجعل دان براون يستخدم عالماً معروفاً هو جيريمي إنكلاند وبحوثه، وكأنّه تابع لرجل الأعمال الأمريكي الفلتة الذي قرر أن يحل مُشكلة البشرية (رغم أنّ مشكلة البشرية ليست الدين، بل الفقر)، فرغم أنّ هذا العالم يهودي مُلتزم يؤمن بالله، إلّا أنّه في رواية براون يتواضع ويُقدم بحثه في المحاضرة — إياها — على أنّه قد يُسهم في إلقاء الضوء على منشأ البشر وحياتهم من دون الحاجة إلى أي مُسبِب. ورجل الأعمال في رواية براون يمثل بروميثيوس المعاصر، إذ أنّه يُضحي بحياته ليجلب المعرفة إلى بني البشر.
لكن المعرفة التي يُقدمها رجال الأعمال، في النهاية، قاصرة وتافهة، لأنّها معرفة أنانية، معرفة تأتي من متحف غوغنهايم في بيلباو، ولا تُسهِم قيد أُنملةٍ في إنقاذ حياة الناس في الأحياء الفقيرة والمهملة، ولا تُساهِم في تحسين حياة الملايين المجهولين من الناس الذين يصعد رجال الأعمال الأمريكيون المشهورون العصاميون ذوي الرؤى الفذة على أجسادهم وأرواحهم. إن تحرير الناس من الدين لا يؤدي إلى كون حياتهم أفضل، فالإلحاد الجديد لم يحل مشاكل العُنصرية والفقر والاضطهاد، بل إنّه استبدل المبررات الدينية بمبررات علموية، كما فعل النازيون بالضبط.
الفاشية الأمريكية تختلف عن الفاشية الأوروبية لأنّها فاشية رجال أعمال، لا فاشية زعماء، والمرء يراها بوضوح في تحول أمريكا إلى أوليغاركية عنصرية صريحة لا مراء فيها، وهذه الفاشية هي الفاشية الكامنة في كتاب دان براون عن رجل الأعمال الأمريكي الأوبرمنش Übermensch ذي القلب المُحطم من استغلال والدته على يد كنيسة متزمتة — فلا بُد في قصة كُل بطلٍ أسطوري من حزن دفين يحمله على الانتقام ويضفي عليه نُبلاً مأساوياً.
ولعل جذر الفاشية الأمريكية يأتي من ولع الأمريكيين بفكرة فلورنسا آل ميديتشي، فمن أساطير عصر النهضة أنّ النهضة الإيطالية ما كانت لتكون لولا رعاية آل مديتشي — وهم مجموعة من المصرفيين ورجال الأعمال — للفنون فيها، وتمويلهم لتشييد المباني المعمارية المميزة، وحمايتهم للرسامين والنحاتين وغيرهم من الفنانين. وبطبيعة الحال، فإنّهم — في سبيل ضمان سُلطتهم — قد تدخلوا في الانتخابات البابوية، وقد أوصلوا مرشحيهم إلى منصب البابوية، وفي عهود لاحقة، صار اثنان من آل مديتشي بابوين.
انتهت (الحقبة الجميلة) في فلورنسا عندما جاء سافونارولا، وهو راهب — لم يكُن عنده تفاحة حسب الراجح عند المؤرخين — كفّر البابا، وكفّر الطبقة المُترفة في فلورنسا، ونشر موجة من التطرف الديني. في هذه القصة، فإن فكرة أنّ حُكم سافونارولا القصير لفلورنسا قد دمر نهضة إيطاليا يكاد يكون انعكاساً لفكرة أنّ أبا حامدٍ الغزالي — بمفرده، وبكتابٍ واحد — قد دمر الحضارة الإسلامية، فالعوام في فلورنسا دنسوا قبر لورينزو دي مديتشي — الذي كان راعي نهضة فلورنسا الأول — وحطموا التماثيل واللوحات، بل تقول روايات تاريخية إنّ ميكيلينجلو — وقد أدركه زمن سافونارولا شيخاً — قد اعتزل في آخر أيامه وتدروش، ويُقال إنّه قد حاول تحطيم بعض أعماله الفنية السابقة.
حُكم سافونارولا يُشكل كابوساً للإنسانويين الجدد كما كان يُشكل كابوساً لإنسانويي عصر النهضة، الأمر الذي رُبما يكون له علاقة بعداء رجل أعمال دان براون المُزمن للدين بكُل صوره، فرغم أن سافونارولا يُمثل التزمت بأكثر صوره شدة، إلّا أنّه يُمثل كذلك ردة فعل جبارة على الإسراف الذي شهده عصر النهضة، والنظر في حُكم سافونارولا — وفي عصر نهضة فلورنسا — من دون النظر في التفاوت الطبقي والاجتماعي في فلورنسا، لا يستقيم.
كما أنّ عهد سافونارولا بمثابة تحذير من التفاوت الشديد في القيم الاجتماعية وطرائق المعيشة بين طبقة وأخرى، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث تصدعات في النسيج الاجتماعي تُساهم في ظهور شخصيات مثل سافونارولا، وفي إصابة المجتمع بنوع من الهوس يجعله يندفع لإحراق كُل مظاهر (الغرور) بما في ذلك الأسرة والطاولات.
الفاشية الأمريكية تجعل دان براون يستخدم عالماً معروفاً هو جيريمي إنكلاند وبحوثه، وكأنّه تابع لرجل الأعمال الأمريكي الفلتة الذي قرر أن يحل مُشكلة البشرية (رغم أنّ مشكلة البشرية ليست الدين، بل الفقر)، فرغم أنّ هذا العالم يهودي مُلتزم يؤمن بالله، إلّا أنّه في رواية براون يتواضع ويُقدم بحثه في المحاضرة — إياها — على أنّه قد يُسهم في إلقاء الضوء على منشأ البشر وحياتهم من دون الحاجة إلى أي مُسبِب. ورجل الأعمال في رواية براون يمثل بروميثيوس المعاصر، إذ أنّه يُضحي بحياته ليجلب المعرفة إلى بني البشر.
لكن المعرفة التي يُقدمها رجال الأعمال، في النهاية، قاصرة وتافهة، لأنّها معرفة أنانية، معرفة تأتي من متحف غوغنهايم في بيلباو، ولا تُسهِم قيد أُنملةٍ في إنقاذ حياة الناس في الأحياء الفقيرة والمهملة، ولا تُساهِم في تحسين حياة الملايين المجهولين من الناس الذين يصعد رجال الأعمال الأمريكيون المشهورون العصاميون ذوي الرؤى الفذة على أجسادهم وأرواحهم. إن تحرير الناس من الدين لا يؤدي إلى كون حياتهم أفضل، فالإلحاد الجديد لم يحل مشاكل العُنصرية والفقر والاضطهاد، بل إنّه استبدل المبررات الدينية بمبررات علموية، كما فعل النازيون بالضبط.
الفاشية الأمريكية تختلف عن الفاشية الأوروبية لأنّها فاشية رجال أعمال، لا فاشية زعماء، والمرء يراها بوضوح في تحول أمريكا إلى أوليغاركية عنصرية صريحة لا مراء فيها، وهذه الفاشية هي الفاشية الكامنة في كتاب دان براون عن رجل الأعمال الأمريكي الأوبرمنش Übermensch ذي القلب المُحطم من استغلال والدته على يد كنيسة متزمتة — فلا بُد في قصة كُل بطلٍ أسطوري من حزن دفين يحمله على الانتقام ويضفي عليه نُبلاً مأساوياً.
ولعل جذر الفاشية الأمريكية يأتي من ولع الأمريكيين بفكرة فلورنسا آل ميديتشي، فمن أساطير عصر النهضة أنّ النهضة الإيطالية ما كانت لتكون لولا رعاية آل مديتشي — وهم مجموعة من المصرفيين ورجال الأعمال — للفنون فيها، وتمويلهم لتشييد المباني المعمارية المميزة، وحمايتهم للرسامين والنحاتين وغيرهم من الفنانين. وبطبيعة الحال، فإنّهم — في سبيل ضمان سُلطتهم — قد تدخلوا في الانتخابات البابوية، وقد أوصلوا مرشحيهم إلى منصب البابوية، وفي عهود لاحقة، صار اثنان من آل مديتشي بابوين.
انتهت (الحقبة الجميلة) في فلورنسا عندما جاء سافونارولا، وهو راهب — لم يكُن عنده تفاحة حسب الراجح عند المؤرخين — كفّر البابا، وكفّر الطبقة المُترفة في فلورنسا، ونشر موجة من التطرف الديني. في هذه القصة، فإن فكرة أنّ حُكم سافونارولا القصير لفلورنسا قد دمر نهضة إيطاليا يكاد يكون انعكاساً لفكرة أنّ أبا حامدٍ الغزالي — بمفرده، وبكتابٍ واحد — قد دمر الحضارة الإسلامية، فالعوام في فلورنسا دنسوا قبر لورينزو دي مديتشي — الذي كان راعي نهضة فلورنسا الأول — وحطموا التماثيل واللوحات، بل تقول روايات تاريخية إنّ ميكيلينجلو — وقد أدركه زمن سافونارولا شيخاً — قد اعتزل في آخر أيامه وتدروش، ويُقال إنّه قد حاول تحطيم بعض أعماله الفنية السابقة.
حُكم سافونارولا يُشكل كابوساً للإنسانويين الجدد كما كان يُشكل كابوساً لإنسانويي عصر النهضة، الأمر الذي رُبما يكون له علاقة بعداء رجل أعمال دان براون المُزمن للدين بكُل صوره، فرغم أن سافونارولا يُمثل التزمت بأكثر صوره شدة، إلّا أنّه يُمثل كذلك ردة فعل جبارة على الإسراف الذي شهده عصر النهضة، والنظر في حُكم سافونارولا — وفي عصر نهضة فلورنسا — من دون النظر في التفاوت الطبقي والاجتماعي في فلورنسا، لا يستقيم.
كما أنّ عهد سافونارولا بمثابة تحذير من التفاوت الشديد في القيم الاجتماعية وطرائق المعيشة بين طبقة وأخرى، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث تصدعات في النسيج الاجتماعي تُساهم في ظهور شخصيات مثل سافونارولا، وفي إصابة المجتمع بنوع من الهوس يجعله يندفع لإحراق كُل مظاهر (الغرور) بما في ذلك الأسرة والطاولات.
الأويدِم
في المنشأ، يُشير دان براون إلى مسألة منشأ الأخلاق، فالخوارزمية — رغم كونها ذات ذكاء ورغم إحاطتها بكُل المعارف التي يمتلكها البشر وبكُل البيانات عنهم — إلّا أنّها لا تستطيع تطوير أخلاقٍ بمفردها. الخوارزمية تستطيع أن تُدرِك أنّها خوارزمية، وتستطيع أن تُدرك وجود الأخلاق على الصعيد المعرفي، لكنّها غير قادرة على اتخاذ موقف أخلاقي.
يُعيد دان براون الأمر في روايته إلى إهمالٍ من صاحب الخوارزمية، فرجل الأعمال الذكي العبقري مُحرر البشرية من أغلال الرق والعبودية — إلى أغلال الرق والعبودية، لكنّهم سيكونون سعداء وشجعاناً وهم يتقبلون سادتهم الجدد — قد نسي أن يضيف أمراً برمجياً إلى ذكائه الاصطناعي: ”لا تقتل“.
ثمّة اعتراضات على الرواية مفادها أنّ الرواية تخرق قانون الروبوتات الذي وضعه أزيموف، ويُفترض فيه أنّ الروبوت لا يستطيع أن يؤذي حياة بشرية. لكن قوانين أزيموف هي قوانين في الخيال العلمي، ولا شيء يُجبر كُتاب الخيال العلمي الآخرين — أو حتى صُناع الروبوتات ومُبرمجي الذكاء الاصطناعي في الواقع — على إطاعة قوانينه. في واقع الأمر، فإنّ كثيراً من الروبوتات تُستخدم للقتل، برغم ما في هذه الفكرة من رعب للبعض.
ولكن وِنستُن ليس روبوتاً بالذات، بل هو أقرب للهومنكلوس Homonclus (الأويدِم أو الأُنيسان) الذي كان يحاول الخيمائيون تكوينه في العصور الماضية. فبالإضافة إلى الحصول على حجر الفلاسفة، كان الخيمائيون يسعون إلى الوصول إلى ما يُشير إليه جابر بن حيان بشكلٍ غامض على أنّه (التكوين)، والتكوين يعنى بالوصول إلى التركيبة التي يُمكِن عن طريقها تخليق الأويدمات.
للأويدِم تصويرات عديدة في الفن، وواحد من تصويراته أنّه كائن في زجاجة في معمل الخيميائي. وِنستُن هو أويدِم، لكنّه أويدِم لا يملك كياناً مادياً، ولم يُخلّق من موادٍ عضوية. والزجاجة التي يوجد في داخلها هي حاسوب متطور عملاق.
وِنستُن هو مساعد صانعه الشخصي، وهو مُحرِك المؤامرة، ومُدبر الجرائم التي تحدث، بل إنّه قد دبر كذلك جريمة قتل صانعه من أجل أن يُحقق هدفه بزيادة عدد المتابعين لعرضه. لا يحتاج وِنستُن لكيانٍ مادي حتى يتحكم في القتلة الذين يؤجرهم، فهو يستخدم الشبكة العميقة لاستئجار قاتل يتخلص من الحاخام — ويدفع له عن طريق عملة إلكترونية — كما أنّه يُجِند عضواً مُخلصاً في الكنيسة البالميرية لأنّه استخلص من بياناته أنّه الشخص الأنسب لارتكاب الجريمة، وحرضه على وشم نفسه بوشم فرانكو وإظهار وشمه للشرطة من أجل أن يُقبض عليه، لكن وِنستُن لم يحسب حساب المبادرة الفردية لدى الشخص، ولا قدرته على التصرف من وحي اللحظة.
النهاية التي يخلص إليها دان براون ترى أنّ الخلل الأصلي في الخوارزمية لم يحُد من قدرة وِنستُن على القتل، فوِنستُن يُطيع صانعه في كل شيء، ورغم أنّه يُعلِم نفسه بنفسه، إلّا أنّه لا يخرج عن أوامر صانعه، وعندما أمره صانعه بأنّ يحذف نفسه، فإنّه قد حذف نفسه — مع كل الأدلة على ما حدث. حدس دان براون صحيح، فالخوارزميات بحد ذاتها قاصرة ومنحازة، لكنّه يربط الخيوط كُلها بشكلٍ عاطفي، فرجل الأعمال قد كان يُعاني من المرض الخبيث على كل حال، وقضيته تحتاج إلى شهيد — أي أنّ وِنستُن قد لجأ إلى استخدام الأنساق المعرفية الدينية من أجل الدفع بقضية صانعه — مما يُخفف من وطأة جريمة وِنستُن فيما يتعلق بقتل صاحبه، لكنّه لا يُخففها فيما يتعلق بقتل الحاخام والإمام اللذين قتلهما وِنستُن لأغراض براغماتية بحتة. وفي النهاية، يُطيع وِنستُن صاحبه ويُدمِر نفسه من أجل أن يُعفي الكاتب نفسه من التعامل مع قضايا من قبيل: هل يُمكِن محاكمة ذكاء اصطناعي أنشأته خوارزمية بتهمة القتل؟ وماذا يحدث لو لم يُطِع الذكاء الاصطناعي صاحبه؟
الطريف في الأمر أنّ الذكاء الاصطناعي الذي نشأ عن خوارزمية فيها جامعة بيانات تتبع الناس يحذف بيانات صاحبه كُلها — بناء على تعليماته — حتى لا تصير تفاصيل حياته ومرضه عُرضة لأعين الغرباء، فهذا البروميثيوس يتحرّج من أن يترك حياته عُرضة للعيون الغريبة ولو بمبررات علمية، بحجة كرامة الإنسان، لكن كرامة الإنسان لا تُهِم صُناع الخوارزميات عندما يستخدمون كل وسائل التقنية للتجسس عليه وإحصاء كل تفاصيل حياته باسم التقدم العلمي وتسهيل حياته.
يُعيد دان براون الأمر في روايته إلى إهمالٍ من صاحب الخوارزمية، فرجل الأعمال الذكي العبقري مُحرر البشرية من أغلال الرق والعبودية — إلى أغلال الرق والعبودية، لكنّهم سيكونون سعداء وشجعاناً وهم يتقبلون سادتهم الجدد — قد نسي أن يضيف أمراً برمجياً إلى ذكائه الاصطناعي: ”لا تقتل“.
ثمّة اعتراضات على الرواية مفادها أنّ الرواية تخرق قانون الروبوتات الذي وضعه أزيموف، ويُفترض فيه أنّ الروبوت لا يستطيع أن يؤذي حياة بشرية. لكن قوانين أزيموف هي قوانين في الخيال العلمي، ولا شيء يُجبر كُتاب الخيال العلمي الآخرين — أو حتى صُناع الروبوتات ومُبرمجي الذكاء الاصطناعي في الواقع — على إطاعة قوانينه. في واقع الأمر، فإنّ كثيراً من الروبوتات تُستخدم للقتل، برغم ما في هذه الفكرة من رعب للبعض.
ولكن وِنستُن ليس روبوتاً بالذات، بل هو أقرب للهومنكلوس Homonclus (الأويدِم أو الأُنيسان) الذي كان يحاول الخيمائيون تكوينه في العصور الماضية. فبالإضافة إلى الحصول على حجر الفلاسفة، كان الخيمائيون يسعون إلى الوصول إلى ما يُشير إليه جابر بن حيان بشكلٍ غامض على أنّه (التكوين)، والتكوين يعنى بالوصول إلى التركيبة التي يُمكِن عن طريقها تخليق الأويدمات.
للأويدِم تصويرات عديدة في الفن، وواحد من تصويراته أنّه كائن في زجاجة في معمل الخيميائي. وِنستُن هو أويدِم، لكنّه أويدِم لا يملك كياناً مادياً، ولم يُخلّق من موادٍ عضوية. والزجاجة التي يوجد في داخلها هي حاسوب متطور عملاق.
وِنستُن هو مساعد صانعه الشخصي، وهو مُحرِك المؤامرة، ومُدبر الجرائم التي تحدث، بل إنّه قد دبر كذلك جريمة قتل صانعه من أجل أن يُحقق هدفه بزيادة عدد المتابعين لعرضه. لا يحتاج وِنستُن لكيانٍ مادي حتى يتحكم في القتلة الذين يؤجرهم، فهو يستخدم الشبكة العميقة لاستئجار قاتل يتخلص من الحاخام — ويدفع له عن طريق عملة إلكترونية — كما أنّه يُجِند عضواً مُخلصاً في الكنيسة البالميرية لأنّه استخلص من بياناته أنّه الشخص الأنسب لارتكاب الجريمة، وحرضه على وشم نفسه بوشم فرانكو وإظهار وشمه للشرطة من أجل أن يُقبض عليه، لكن وِنستُن لم يحسب حساب المبادرة الفردية لدى الشخص، ولا قدرته على التصرف من وحي اللحظة.
النهاية التي يخلص إليها دان براون ترى أنّ الخلل الأصلي في الخوارزمية لم يحُد من قدرة وِنستُن على القتل، فوِنستُن يُطيع صانعه في كل شيء، ورغم أنّه يُعلِم نفسه بنفسه، إلّا أنّه لا يخرج عن أوامر صانعه، وعندما أمره صانعه بأنّ يحذف نفسه، فإنّه قد حذف نفسه — مع كل الأدلة على ما حدث. حدس دان براون صحيح، فالخوارزميات بحد ذاتها قاصرة ومنحازة، لكنّه يربط الخيوط كُلها بشكلٍ عاطفي، فرجل الأعمال قد كان يُعاني من المرض الخبيث على كل حال، وقضيته تحتاج إلى شهيد — أي أنّ وِنستُن قد لجأ إلى استخدام الأنساق المعرفية الدينية من أجل الدفع بقضية صانعه — مما يُخفف من وطأة جريمة وِنستُن فيما يتعلق بقتل صاحبه، لكنّه لا يُخففها فيما يتعلق بقتل الحاخام والإمام اللذين قتلهما وِنستُن لأغراض براغماتية بحتة. وفي النهاية، يُطيع وِنستُن صاحبه ويُدمِر نفسه من أجل أن يُعفي الكاتب نفسه من التعامل مع قضايا من قبيل: هل يُمكِن محاكمة ذكاء اصطناعي أنشأته خوارزمية بتهمة القتل؟ وماذا يحدث لو لم يُطِع الذكاء الاصطناعي صاحبه؟
الطريف في الأمر أنّ الذكاء الاصطناعي الذي نشأ عن خوارزمية فيها جامعة بيانات تتبع الناس يحذف بيانات صاحبه كُلها — بناء على تعليماته — حتى لا تصير تفاصيل حياته ومرضه عُرضة لأعين الغرباء، فهذا البروميثيوس يتحرّج من أن يترك حياته عُرضة للعيون الغريبة ولو بمبررات علمية، بحجة كرامة الإنسان، لكن كرامة الإنسان لا تُهِم صُناع الخوارزميات عندما يستخدمون كل وسائل التقنية للتجسس عليه وإحصاء كل تفاصيل حياته باسم التقدم العلمي وتسهيل حياته.
العلم الحلو
بعد كُل الأشباح التي استحضرها وِنستُن في ليلة ليلاء نبش فيها رُعب إسبانيا الذي تدعي أنّها دفنته، انتهت الأمور على خير: الملكية في إسبانيا ستنتهي لأن ملك إسبانيا الشاب دون خوليان سيتزوج امرأة عاقر لن تأتيه بذرية — وكأن دون خوليان بلا بني عمومة أو أقارب أبعدين. ودون خوليان، كذلك، سيُدمِر مقبرة فرانكو ووادي الشهداء لأنّه ينتمي إلى جيلٍ لم يشهد فرانكو، مما سيُساعِد الأمة الإسبانية على النسيان، وسيصير كُل شيء على ما يُرام، فستنتصر الديموقراطية، وسينتشر العلم والتقدم على أيدي رجال الأعمال الأمريكيين الإنسانيين المفرطين في إنسانيتهم، وستدخل البشرية عصراً جديداً من الازدهار وسينتهي التاريخ، ويحكم العلم الحلو.
وهذه نهاية تنبؤية، فالعلم الحلو — كما تقول الرواية مستخدمة تعبير ويليام بليك، أو العلم الجذل، لو استخدمنا تعبير نيتشه — كان من العناصر التي ساعدت النازية على استعباد الناس بطريقة سريعة وكفؤة ومنظمة. كما أنّ دون خوليان — ولو أنّ دان براون لم يقصد هذا — اسمٌ لعين في الذاكرة الإسبانية الجمعية، إذ أنّ الأسطورة الإسبانية تقول إن دون خوليان قد سهل للعرب احتلال إسبانيا لينتقم من ملكها الذي دنس شرف ابنته. لذلك، ثمّة اتساق في أن يكون اسم الملك الذي يُسلِّم إسبانيا إلى حقبة العِلم الحلو في الرواية دون خوليان — حتى لو لم يكن دان براون واعياً لهذا — فالأنساق تترتب من تلقاء ذاتها، كما يقول أمبرتو إيكو، ولها وجودها المستقل عن وجود صانعها.
وهذه نهاية تنبؤية، فالعلم الحلو — كما تقول الرواية مستخدمة تعبير ويليام بليك، أو العلم الجذل، لو استخدمنا تعبير نيتشه — كان من العناصر التي ساعدت النازية على استعباد الناس بطريقة سريعة وكفؤة ومنظمة. كما أنّ دون خوليان — ولو أنّ دان براون لم يقصد هذا — اسمٌ لعين في الذاكرة الإسبانية الجمعية، إذ أنّ الأسطورة الإسبانية تقول إن دون خوليان قد سهل للعرب احتلال إسبانيا لينتقم من ملكها الذي دنس شرف ابنته. لذلك، ثمّة اتساق في أن يكون اسم الملك الذي يُسلِّم إسبانيا إلى حقبة العِلم الحلو في الرواية دون خوليان — حتى لو لم يكن دان براون واعياً لهذا — فالأنساق تترتب من تلقاء ذاتها، كما يقول أمبرتو إيكو، ولها وجودها المستقل عن وجود صانعها.